- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
استقرار الحياة الزوجية أحد عوامل صلاح الأولاد :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في البيت المسلم ، وانطلاقاً من أن الأسرة لبنة المجتمع الأولى ، فإذا صلحت صلح المجتمع ، وإذا فسدت فسد المجتمع ، وانطلاقاً من أن شقاء الزوجين يَنْبُع من شقاء أبنائهما ، لذلك كانت تربية الأولاد في الإسلام تحتل المكانة الأولى في التوجيهات الدينية .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يشقى المرء بشقاء أولاده ويسعد بسعادتهم ، فلذلك يجب أن نُعنى بهذا الجانب من الإسلام .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الخطبة السابقة كان موضوعها ، بل في القسم الأخير أن حسن اختيار الزوجة أحد عوامل استقرار الحياة الزوجية ، وأن قيام كل من الزوجين بواجبه تجاه الآخر أحد عوامل استقرار الحياة الزوجية ، واستقرار الحياة الزوجية أحد عوامل صلاح الأولاد ، فالطفل والولد من شأنه أن ينفر من بيتٍ مشحونٍ بالخصومات ، والمنافسات ، مشحونٍ بالكآبة ، مشحونٍ بالمُهاترات .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ولكن واقع المسلمين يُنْبِئ بأن هناك جهلاً فاضحاً في موضوع الطلاق ، الزوج ما إن يستفز لأدنى سبب حتى يحلف بالطلاق ، فإذا امرأته مشَرَّدة ، وإذا أولاده مشردون .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
ما لم نتَّبع الهدى الذي جاء به القرآن فلن تستقيم حياتنا .
المراحل التي يجب على الزوج أن يسلكها قبل أن يطلق زوجته :
1 ـ الوعظ و التبيين و التوضيح :
ماذا يقول الله سبحانه وتعالى فيما إذا نشِبَ خلافٌ بين الزوجين ؟ فيما إذا بدا للزوج أن زوجته بدأت تنحرف عن الصراط المستقيم ؟ ماذا يفعل الزوج لو أرادت زوجته أن تعصيه جهاراً ؟ ربنا سبحانه وتعالى يجيب عن هذا السؤال ، يقول الله عز وجل :
﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾
انحرافهن ، خروجَهن عن طاعة الزوج .
﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾
لابد من أن تعظها ، لابد من أن تبيِّن لها ، لابد من أن توضِّح لها ، لابد مِن أن تُذَكِّرها ، أما أن تطلقها من دون وعظٍ ، من دون إرشادٍ ، من دون توضيحٍ ، من دون بيانٍ ، من دون أن تبين لها حُكْم الله في هذا الموضوع فهذا من عوامل الجهل .
﴿ فَعِظُوهُنَّ﴾
ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
وهذه مؤمنة ؛ ذَكِّرها بأمر الله عز وجل ، ذكرها بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام، ذكِّرها بواجبها تجاه الزوج ، ذكِّرها بواجبها تجاه الأولاد ، ذكِّرها بما ينبغي أن تعمل ، عندئذٍ حاسبها ، لا تحاسبها حساباً عنيفاً قبل أن تعظها ، وقبل أن تذكِّرها ، وقبل أن توجهها . .
﴿ فَعِظُوهُنَّ﴾
هذا أمر الله عز وجل ، هذا توجيه القرآن الكريم :
﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ﴾
2 ـ الهجران في البيت :
المرحلة الثانية من المُعالجة الهِجران وهي في البيت ، لا أن ترسلها إلى بيت أهلها ، إذا أرسلتها إلى بيت أهلها ، فإن أدنى مشكلةٍ تنقلِب إلى أكبر مشكلة ، إن أطرافاً كثيرين يدْخُلون على الخَط ، ويباعدون بين الزوجين ، لذلك آيات القرآن الكريم فيها إعجازٌ في نظمها ، فإذا قرأت الآية في سياقها لها معنى ، وإذا أخرجتها من سياقها لها معنى ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾
مهما تكن القضية كبيرةً تصغر وتصغر إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها . .
﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾
أي عندكم . .
﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾
في حالاتٍ نادرةٍ بيّنها الفقهاء ، ولا مجال لذكرها من على المِنبر . .
﴿أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾
ليَذْكُر الزوج أن الله سبحانه وتعالى أقدر عليه مِنه على زوجته ، يجب أن يخاف الزوج رَبَّه ، يجب أن يتقي الله في الضعيفين ؛ المرأة واليتيم ، يجب أن يشعر أن الله قادر عليه.
﴿فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾
النبي عليه الصلاة والسلام رأى أحد أصحابه يضرب غلامه ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((اعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ))
ويا أيها الزوج إن الله أقدر عليك منك على زوجتك . .
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾
3 ـ الضرب في حالات نادرة :
المرحلة الثالثـة : عظوهن أولاً ، اهجروهُن ثانياً ، والضرب في حالاتٍ نادرة جداً لها تفصيلاتٌ كثيرة .
4 ـ توكيل حكم من أهلها و حكم من أهله :
والرابعة :
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه المراحل لا بد من أن يسلكها الزوج قبل أن يطلِّق ، وإلا شرد أولاده ، وشقي أولاده ، وشقي هو بشقائهم ، قد يسأل سائل : وما علاقة الطلاق في موضوع الخطبة ؟ علاقة الطلاق إنه أحد أبواب تشرد الأولاد وضياعهم ، وإذا ضاع الأولاد شقي الأب وشقيت الأم .
يا أيها الأخوة المؤمنين ؛ حتى لو أن الزوج طَلَّق ، لا بد من أن يطلق طلاقاً سُنِّياً لا أن يطلق طلاقاً بِدْعيّاً ، يجب أن يطلِّقها طلقةً واحدة وتبقى في البيت ، هذه المشكلة التي من أجلها طلقها لابد من أن تصغر مع مرور الأيام ، وله أن يراجعها من دون قيدٍ أو شرط، فإذا مضت العِدَّة ولم يراجعها ، مَلَكَت نفسها ، وله أن يعيد عقد القران عقداً جديداً ، ويتم الأمر هكذا مرتين ، وفي الثالثة تبينُ عنه بينونة كبرى .
تطليق المرأة سبب تشرُّد الأولاد وضياعهم :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ آيةٌ جعلتها فيما مضى موضوعاً لخطبةٍ بأكملها .
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
لكن هذه الآية جاءت في سورة الطلاق ، معناها السياقي : من يتق الله في تطليق زوجته ، يجعل الله له مخرجاً في العودة إليها وإرجاعها إليه ، ومن يطلق طلاقاً بِدْعِيَّاً يصبح المخرج إلى العودة إليها مسدوداً .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما أردت من هذا الموضوع ، ومن هذه المعالجة السريعة إلا أن أبين لكم أن تطليق المرأة أبغض الحلال إلى الله ؛ لأنه سببٌ لتشرُّد الأولاد وضياعهم ، وبضياع الأولاد يشقى الأب وتشقى الأم .
رعاية الطفل و توجيهه :
سببٌ آخر يا أيها الأخوة في انحراف الصغار : النبي عليه الصلاة والسلام بيّن في أحاديث كثيرة أن الطفل يجب أن ترعاه ، وقد قال في بعض الأحاديث :
((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدَّق بصاعٍ))
الطفل كما تعلمون مفطورٌ على طاقةٍ يجب أن تُفَجَّر ، هذه الطاقات التي أودعها الله فيه إن لم تفجَّر في طريقٍ مشروع ، وفي أجواء نظيفة ، وفي أساليب صحيحة ، لابد من أن تفجر في بيئةٍ قذرة ، وفي أجواء سيئة ، وفي طريقٍ منحرف ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع))
فالصلاة بما فيها من حركات ، وما فيها من قراءات ، وما فيها من ذهابٍ وعودةٍ من المسجد وإليه ، وما فيها من تنظيم للوقت ؛ إنها تملأ فراغ الصغير .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ وسيدنا عمر رضي الله عنه قال :
(( علّموا أولادكم الرماية ، والسباحة ، ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً ))
أيْ أن هذه الطاقة يجب أن تفجَّر في الطريق الصحيح . والإمام الطبراني يروي في كتابه الكبير أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( كل شيءٍ ليس من ذكر الله فهــو لهوٌ و سهوٌ إلا أربع خصال : مشي الرجل بين الغَرَضين - الهدفين - في الرمي ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، وتعلمه السباحة ))
كأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يوجهنا إلى أن هذا الطفل طاقة لابد من أن توجَّه توجيهاً صحيحاً ، ونحن على مشارف الصيف ، وفي الصيف فراغٌ كبير .
فيا أيها الأب الكريم ، يا أيها الزوج ، يا أيها المسلم ، يا أيها المؤمن ، لابد من أن تملأ فراغ أولادك ، إن لم تملأه بالخير مُلئ بالشر . النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة وجلداً))
إذاً القوة البدنية مطلوبةٌ في الإسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ ، واسْتَعِنْ باللَّهِ ولا تَعْجِزَنَّ ، وإنْ أصابــَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ : لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا ، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ ، فإنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ))
أسباب انحراف الشباب و الأطفال :
1 ـ الفراغ :
أيها الأخوة الأكارم ؛ من بديهيات التربية ، من مسلمات التربية أن الفراغ خطرٌ، ولا سيما على الشباب ، ولا سيما على الشابّات ، ولا سيما على إنسان في مقتبل الحياة ، ولا سيما على طفلٍ لم يقو إيمانه بعد ، فلابد من أن تملأ هذا الفراغ وإلا يكون الانحراف ، وفي الانحراف شقاءٌ للأبوين .
2 ـ الخلطة الفاسدة و رفقاء السوء :
شيءٌ آخر في أسباب انحراف الأطفال أيها الأخوة المؤمنون : الخُلطة الفاسدة ورفقاء السوء ، ولا أعتقد أن شيئاً أخطر على أولادك من رفقاء السوء - هذا الكلام ينصرف إلى الصغار وإلى الكبار ، إلى كل إنسان - يقول الله عز وجل :
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾
ما قولكم أن رفيقاً واحداً من رُفقاء السوء قد يصل بالإنسان إلى جهنَّم ؟ إلى جهنم وإلى الأبد . .
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً﴾
الحكمة من تقديم الله تعالى شياطين الإنس على شياطين الجن :
لماذا ربنا سبحانه وتعالى في قوله تعالى قدَّم شياطين الإنس على شياطين الجِن؟ هذا تقديم أهمية ، تقديم خُطورة ، تقديم أَوْلَوِيَّة ، إن شياطين الإنسان أخطر على الإنسان من شياطين الجن ، وما شياطين الإنس إلا رُفقاء السوء ، يأخذونك خطوةً فخطوة ، مرحلةً فمرحلة ، كلمةً فكلمة ، من معصيةٍ إلى أكبر منها ، من انحرافٍ إلى أخطر منه ، من مجلسٍ فيه معصيةٌ إلى مجلسٍ فيه معاصٍ ، من فكرةٍ ضالة إلى أفكارٍ ضالة ، من عقيدةٍ زائغة إلى عقيدةٍ منحرفة ، الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾
لذلك ربنا سبحانه وتعالى يأمرك أيها المؤمن :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
تكفي هذه الآية ، الأمور في حياة هذا الرفيق السوء غير منضبطة . .
﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
ليس هناك انضباطٌ في أخلاقه ، ولا في كلامه ، وليس هناك انضباطٌ عند زوجته وأولاده ، ولا في عمله ، ولا في تعامله ، إن أمره كما قال الله عز وجل :
﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي يقول :
((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))
إنك على دينه شئت أم أبَيْت ، مسموحٌ لك في علاقات العمل أن تحدِّث إنساناً أو أن تكلِّمه ، أما أن تنشئ علاقاتٍ حميمة لإنسانٍ بعيد عن الله عز وجل ، بعيدٍ عن ذِكْرِ الله ، بعيدٍ عن قيَم الإسلام ، بعيد عن التذكير بالآخرة ، من هنا قال ابن عطاء الله السكندري : " لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ، ولا يدلك على الله مقاله " ، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
وهناك آية أخرى :
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾
كأن الله بريء منه ، برئَت منه ذمَّة الله .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما ، يقول :
((مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كمثل حامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك و إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرقك ثيابك أو تجد منه ريحاً منتنة))
قل لي من تصاحب أقل لك من أنت ، الصاحب كما يقول بعض الصوفيين : ساحب ، الصاحب ساحب ، ومن جالس جانس ، لذلك ما من شيءٍ أخطر على أولادك من رُفقاء السوء . النبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديثٍ ثالث في هذا الموضوع :
((المرء مع من أحب وله ما اكتسب ))
قل لي من تحب أقل لك من أنت ، المؤمن يحب المؤمنين :
(( المؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ مُتَوَادُّونَ، وَإِنِ افْتَرَقَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاذِلُونَ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ))
أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً :
((إياك وقرين السوء فإنك به تُعْرف))
الأشياء التي تجرح العدالة :
وتعلمون أن من الأشياء التي تجرح العدالة صحبة الأراذل ، الإنسان له صفتان؛ الضبط والعدالة ، الضبط صفةٌ عقلية ، والعدالة صفة خُلُقِيَّة ، فإذا جُرِحَت عدالته بطلَت شهادته، أي يجرد الإنسان من حقوقه ، مما يجرح العدالة صحبة الأراذل ، مما يجرح العدالة التنزّه في الطرقات ، الحديث عن النساء ، تطفيفٌ بتمرة ، أكل لقمةٍ من حرام ، مما يجرح العدالة التبول في الطريق ، المشي حافياً ، مما يجرح العدالة من علا صياحه في البيت حتى سمعه من في الطريق . أشياء كثيرة تجرح العدالة ، الحديث عن النساء يجرح العدالة ، مما يجرح العدالة صحبة الأراذل ، مما يجرح العدالة التنزُّه في الطُرقات ، أن تقود برذوناً ، أي بغلاً ، أن تطلق لفرسك العِنان ، أن تسرع في قيادة مركبتك ، هذا كلّه مما يجرح العدالة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من أسباب انحراف الصغار الخلطة الفاسدة وقُرَناء السوء .
3 ـ سوء معاملة الوالدين :
شيءٌ آخر : إن سوء معاملة الأبوين ؛ فالطفل إذا عومل معاملة قاسية ، وأُدِّبَ بالضرب الشديد ، والتوبيخ القارع ، والتحقير ، والازدراء ، والتشهير ، والسخرية فإنه ينحرف ، إنه يحقِد على والديه ، فالقسوةَ التي ليست في مكانها الصحيح إنها إساءةٌ بالغة إلى الطفل .
الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه :
النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( الراحمون يرحمهم الله...))
((الراحمون يرحمهم الرحمن))
((..ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ))
النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((رحم الله والداً أعان ولده على بره))
أي عامله معاملةً لطيفة ؛ جذب قلبه إليه ، أكرمه ، لان له ، عنَّفه بطريقةٍ معقولة ، بل علَّمه فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف))
يقول عليه الصلاة والسلام :
((إذا أراد الله بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرِفق))
((إن الرفـق لو كان خَلْقَاً لما رأى الناس خلقاً أحسن منه ، وإن العنف لو كان خلقاً لما رأى الناس خلقـاً أقبح منه ، إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه ، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه))
إن الله رفيقٌ يحب كل رفيق ، إن الله يُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
الإمام البخاري يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله :
((إن الله يحب الرفق في الأمر كله))
كاد الحليم أن يكون نبياً ، الحلم سيِّدُ الأخلاق ، الله سبحانه وتعالى يخاطب النبي يقول له :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾
فأهلك وأولادك أجدر الناس أن تخاطبهم بالحُسنى ، إن الله عز وجل :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾
هذا الموضوع إن لم يسعه العدل يسعه الإحسان ، هذه القضية إن لم يسعها العدل يسعها الإحسان .
وصف المتقين :
شيءٌ آخر : ربنا سبحانه وتعالى يصف المتقين يقول :
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
قد يغلي الإنسان ، قد يتأجَّج ، قد يشعر أن بركاناً يغلي في جوفه .
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾
هذه مرتبة :
﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾
هذه مرتبة أرقى ، والمرتبة الثالثة :
﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سوء معاملة الوالدين سببٌ في انحراف الأطفال ، وقرناء السوء سببٌ آخر ، والخصام والشقاق والطلاق سببٌ أوّل في انحراف الأولاد .
4 ـ الإساءة إلى الولد و عدم إعانته على برّ والديه :
بقي شيءٌ آخر هو أن سيدنا عمر - رضي الله عن عمر- جاءه رجلٌ يشكو عقوق ولده ، فماذا فعل سيدنا عمر ؟ أحضر الولد ، وأنَّبه على عقوقه لأبيه ونسيانه لحقوقه ، فقال الوَلَد : يا أمير المؤمنين أليس للولد حقٌ على أبيه ؟ قال : بلى . قال : فما هي هذه الحقوق يا أمير المؤمنين ؟ فقال سيدنا عمر : إنه على الأب أن يحسن انتقاء أمه - هذا أول حق - وأن يحسن اسمه ، وأن يعلمه الكتاب - أي القرآن - فقال الولد : يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجيةٌ كانت لمجوسي ، وقد سمَّاني جعلاً - أي خنفساء - ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً . فالتفت عمر إلى الرجل وعنفه قائلاً : يا هذا لقد جئتني تشكو عقوق ابنك ، وقد عققته قبل أن يَعُقَّك ، وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليك .
معاوية بن أبي سفيان غضب مرةً على ابنه يزيد ، فأرسل إلى الأحنف بن قيس يسأله عن رأيه في البنين ؟ والأحنف بن قيس من التابعين الذي إذا علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه ، كان إذا غضب غضب لغضبته مئة ألف سيف ، لا يسألونه فيما غضب ، كان من كبار التابعين قال الأحنف : " يا أمير المؤمنين هم ثمار قلوبنا - تذكروا هذا القول : هم -الأولاد - ثمار قلوبنا - وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرضٌ ذليلة ، وسماءٌ ظليلة ، فإن طلبوا فأعطهم ، وإن غضبوا فأرضهم ، فإنهم يمنحونَك ودَّهم ، ويحبونك جُهدهم - أي إذا أثمرت معاملة الأب لأولاده محبةً في قلوبهم له ، وخدمةً في عضلاتهم له ، فقد نجح في تربيته إياهم- ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك ويتمنّوا وفاتك " .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في البيت المسلم ، لأن البيت المسلم هو عماد المجتمع المسلم ، الأسرة لبنةٌ أولى في المجتمع إذا صلحت صلح المجتمع ، وإذا فسدت فسد المجتمع .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .