- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الاولى
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم... لا زلنا في البيت المسلم، والإسلام أولى جُلّ عنايته للبيت المسلم، لأن البيت خليّة المجتمع، فإذا صلح صلحَ المجتمع.
شقاء الأب بشقاء الابن:
ويا أيها الإخوة المؤمنون... ما من شيءٍ يُشقي الآباء كانحراف الأولاد، وانحراف الأولاد ظاهرةٌ تعاظمت في الزمن الأخير.
أيها الإخوة الأكارم... لو ملكت أكبر الثروات، ولو حققت أقصى الغايات، ولو ارتفعت إلى أعلى المَقامات، ولم يكن أولادك كما تريد، فربما شقيت بشقائهم، فلذلك الإسلام حرص حرصاً لا حدود له على صيانة البيت المسلم من الانحراف، ما الوسائل التي اتخذها ؟ وما الأهداف التي رسمها ؟ وما الاحتياطات التي أخذ بها ؟
أسباب انحراف الأولاد:
بادئ ذي بدء، لو سألت العلماء عن أسباب الانحراف، لكانت كلمتهم مُجْمِعَةً على أن خروج الطفل من البيت، واقترانه بقُرناء السوء سببٌ كبيرٌ جداً للانحراف، ولكن السؤال الآن لِمَ يخرج الطفل من البيت؟ لِمَ لا يكون البيت سَكَناً له ؟ لِمَ لا يجد الطفل في بيته مأوىً له ؟ لِمَ يخرج منه حيث الفساد والانحراف وحيث التحلل والشذوذ ؟
يا أيها الإخوة الأكارم... انحراف الأولاد ظاهرةٌ معقدةٌ أشد التعقيد، وحينما نُرجعها إلى أسبابها، إنما نفعل ذلك تبسيطاً للبحث، وتيسيراً للدراسة.
السبب الأول: خروج الطفل من البيت:
أول سببٍ لخروج الطفل من البيت: إذا لم يجد الطفل في البيت ما يكفيه من طعامٍ ومن كساء، لذلك حينما يسعى الأب لكسب رزقٍ حلال يكفي أهله، فهذا أحد أنواع العبادة، إنك أيها الأب الكريم لست مسؤولاً عن نفسك وحدك بعد أن تزوَّجت، ولكنك مسؤولٌ عن هؤلاء الصغار الذين أَوْكَلَ الله إليك تربيتهم
الأب الكسول الذي لا يعمل، الأب الذي لا يحب عمله، الأب الذي يؤْثر الراحة على بذل الجهد ليس أبًا حقيقيا، في السنة النبوية المطهرة أحاديث كثيرة سمعتموها، وتسمعونها دائماً، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأله بعض أصحابه عن شابٍ خرج من بيته يسعى لرزق عياله، فتمنى أصحابُه لو أن هذا السعي كان في سبيل الله، النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( ومن أدراكم أنه في سبيل الله ؟ من بات كالاً في طلب الحلال بات مغفوراً له ))
من خرج ليسعى على أطفالٍ صغار وزوجةٍ فإنما يسعى في سبيل الله، الإسلام قدَّس العمل، لأن العمل طريقٌ إلى كسب الرزق الشريف، وكسب الرزق الشريف وسيلةٌ لحماية الابن من الشذوذ والانحراف.
قد يقول أحدكم: فمال بال أولاد الأغنياء ينحرفون ؟ هناك انحرافٌ آخر بسببٍ آخر، ولكن ربما عُزِيَ انحراف الطفل إلى خروجه من البيت، والتجائه إلى رفقاء السوء، وما خرج من البيت إلا حينما فقد ما يشتهيه، وفقد ما يطمح إليه، فإذا سعى الأب عن طريق الكسب المشروع وعن طريق العمل الصادق، لتأمين حاجات أولاده الأساسية، فقد سعى في سبيل الله.
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله ))
النبي عليه الصلاة والسلام نفى عن هذا الإنسان أن يكون منتمياً إلى هذا الدين العظيم،
(( ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله ))
وكلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
(( درهمٌ تنفقه في سبيل الله، ودرهمٌ تنفقه على مسكين، ودرهمٌ على فقير، ودرهمٌ تنفقه على أهلك، الدرهم الذي تنفقه على أهلك أفضل هذه الدراهم كلها ))
لماذا ؟ لأن أهلك ليس لهم إلا سواك، ليس لهم إلا أنت، فإذا ضيعتهم، وأهملتهم ألجأتهم إلى غيرك، ومع غيرك الانحراف والشذوذ.
السبب الثاني: منع الأغنياء للزكاة:
فيا أيها الإخوة المؤمنون... الآن يأتي دور الأغنياء، هؤلاء الذين إذا قصَّروا في دفع زكاة أموالهم، فجهد الفقراء، وحينما جهد الفقراء انحرف أبناؤهم، لو أن الله سبحانه وتعالى أطلع هذا الغنيّ الذي يمنع زكاة ماله، أطلعه على النتائج الخطيرة التي تترتّب على حبس زكاة ماله، وكيف أن الفقير خرج ابنه من البيت، والتجأ إلى جهاتٍ أخرى، وكيف أن ابنه انحرف، وكان الانحراف سبباً لشقاء هذه الأسرة، وكان شقاء هذا الأسرة يتلافى فيما لو دفع الغني زكاة ماله، فاطمأن بها الفقير وربى أولاده، لأراه الله سبحانه وتعالى الآثار الخطيرة التي تترتب على عمله.
أيها الإخوة المؤمنون... يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ﴾
أي من الآثار البعيدة المترتبة على تقصير الإنسان في دفع زكاة ماله، الإمام عليٌ كرم الله وجه يقول: << قوام الدين والدنيا أربعة رجال ؛ عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، إذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله ـ هنا موطن الشاهد ـ باع الفقير آخرته بدنيا غيره >>، أي باع نفسه للشيطان، من أجل تأمين حاجاته، ففي أموال الأغنياء حقٌ معلوم للسائل والمحروم.
أيها الإخوة المؤمنون... سيدنا عمر رضي الله عن عمر، حينما سأل والياً وقال له:
ـ ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟
ـ فقال هذا الوالي: أقطع يده، عندئذٍ ماذا قال عمر لهذا الوالي ؟
ـ إذاً فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورَتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإذا وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلِقَت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
الرجل الراشد المؤمن قد يصبر، قد يصبر، وهو يعلم أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، ولكن الطفل الصغير لا يصبر، كلكم يذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قُدِّمَت له فاكهةٌ أول مرة لم يكن يأكلها، بل يُقَبِّلها ويعطيها أصغر طفلٍ في المجلس، لماذا ؟ لأن الطفل لم يبلغ بعدُ مرتبة القيَم التي تحجزه عن الحرام.
فالأب الذي لا يعمل ويصبر على الجوع والفقر، لا يجب أن يقيس ابنه عليه، الابن قد لا يصبر، لذلك سيدنا عمر كان يقول: << إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني >>.
العمل له أهدافٌ بعيدة، حينما تعمل، وحينما تتقن عملك، وحينما تكسب رزقاً حلالاً، عندئذٍ قد تكفي أهلك، فإذا كفيتهم أمكنك أن تُرشدهم، وأن توجِّهَهُم، لذلك يعد خروج الطفل من البيت والتجاؤه إلى رفقاء السوء، بحثاً عن شيءٍ أو آخر، أول سبب من أسباب انحراف الأولاد.
أيها الإخوة المؤمنون... ألا تذكرون أن سيدنا عمر حينما رأى عبد الرحمن بن عوف وقال له: تعالَ نحرس هذه القافلة ـ قافلة جاءت من أقاصي البلاد وأقامت في أطراف المدينة ـ فلما توجه سيدنا عمر إلى هذه القافلة رأى طفلاً يبكي فقال لأمه:
ـ أرضعيه، بكى مرةً ثانية، فقال: أرضعيه، بكى مرةً ثالثة: فتوجه إليها غاضباً، وقال: يا أمة السوء أرضعيه.
ـ فقالت: دعك عنا يا رجل، وما شأنك بنا إنني أفطمه.
ـ قال: ولِمَ تفطمينه.
ـ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفِطام.
تروي السيرة: أن هذا الخليفة العظيم صاح صيحةً تقطع لها نياط قلبه قال: ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين ؟ وتوجه في صلاة الفجر ليصلي بأصحابه، فقال أصحابه: والله ما فهمنا ما قرأ من شدة بكائه، وكان يقول: << يا رب، هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟ >>.
حينما يجوع الطفل الصغير قد ينحرف، وحينما ينحرف يفسد المجتمع بأكمله .
فيا أيها الإخوة الأكارم... كما قال الفقهاء: حينما تخرج من بيتك لتؤدي عملاً ترتزق منه، إذا نَوَيت بهذا العمل أن تكفي نفسك، وزوجتك، وأولادك، وأن تكفَّها عن الحرام، وحينما تنوي بهذا العمل أن تخدم المسلمين في قضاء حاجاتهم، وحينما يكون أصل العمل شريفاً، وحينما تمارس هذا العمل وفق الشريعة الإسلامية ؛ من دون غشٍ، ولا تدليسٍ، ولا كذبٍ، ولا رباً، هذا العمل الذي ترتزق منه ينقلب إلى عبادة، ويمكن أن تلقى الله به يوم القيامة.
الأعمال الصالحة يا أيها الإخوة لا تعدُّ ولا تحصى، من أبرزها عملك الذي ترتزق منه، فاحرَص على أن يكون شريفاً، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إِنَّ رُوح القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي، وقال: إِنَّ نَفْساً لن تموت حتى تَسْتَوْفيَ رِزْقَها، فاتَّقُوا الله، وأَجْمِلُوا في الطلَب ))
لا ترضَ بمهنةٍ فيها معصيةٌ لله، لا ترضَ بالاتجار ببضاعةٍ لا ترضي الله، لا ترضَ بالتعامل في بيعك وشرائك بطريقة فيها معصية لله عز وجل، لأن:
(( رُوحَ القـُدُسِ نَفـَثَ في رُوعي، وقال: إِنَّ نَفْساً لن تموت حتى تَسْتَوْفيَ رِزْقَها، فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطلَبِ))
ابحث عن حرفةٍ شريفة، ابحث عن عملٍ طيب نظيف، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ما جهد الفقراء إلا بما ضيع الأغنياء ))
السبب الثالث: الخصومة في البيت:
أيها الإخوة الأكارم... شيءٌ آخر: يخرج الطفل من البيت إن لم يجد في البيت الطعام الذي يُشْبِعُه، أو الكساء الذي يكسوه، وقد يخرج من البيت أيضاً إذا كان في البيت الخصام، والمشاحنة والبغضاء بين الأب والأم، البيت المَشحون بالبغضاء، البيت المشحون بالعَداوة، البيت المشحون بالمُشاحنة، هذا بيتٌ ليس جواً يسكُن إليه الطفل، لو سألت الأطفال الصغار الذين يرون في آبائهم وأمّهاتهم أعداء، هؤلاء الصغار ينفرون من البيت، ويلتجئون إلى جوٍ مريح، وقد يأتي رفقاء السوء يوفرون لهم هذا الجو المريح، ولكن ينحرفون بهم إلى أسفل سافلين، فالبغضاء والشحناء ليست من صفات البيوت المسلمة.
طرق العلاج والوقاية الشحناء والبغضاء في السنة:
1 – اختيار الزوجة ذات الدين:
فيا أيها الإخوة المؤمنون... النبي عليه الصلاة والسلام كيف عالج هذا الموضوع ؛ الشحناء والبغضاء ؟ عالجه علاجاً وقائياً قبل أن تتزوَّج، فاظفر بذات الدين تربت يداك، من تزوج المرأة لجمالها أذله الله، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً، فاظفر، ما أروع هذه العبارة: فاظفر، أي إذا تزوجت امرأةً صالحةً فقد ظفرت بشيءٍ ثمين، لم يقل لك: فاختر، أو عليك، بل فاظفر، إن وفقت إلى زوجةٍ صالحة، فقد ظفرت بجوهرةٍ ثمينة، إن كنت قد أحسنت الاختيار من قَبْلُ، قطفت ثماره في بيتك المسلم، أما إذا رَغِبْتَ الجمال وحده، أو السمعة وحدها، أو النسب وحده، أو المال وحده، صار البيت مكاناً للنزاع والشقاء، وحينما يُشْحَنُ البيت بالنزاع والشقاق خرج الطفل منه إلى رفقاء السوء.
السبب الرابع لانحراف الأولاد: الطلاق:
أيها الإخوة المؤمنون... شيءٌ آخر، النبي عليه الصلاة والسلام كيف وقانا من هذه المنازعات التي تفضي إلى الطلاق ؟ وإذا حدَّثتكم عن الطلاق وما يجر من ويلاتٍ على الصغار، وكيف أن هذا الطفل الذي طُلِّقَت أمه، أو افترقت أمه عن أبيه يدمِّر، عندئذٍ يعد الزوج للمليون ـ كما يقولون ـ قبل أن يفكر بالطلاق.
روى البزار والطبراني أن نسوةً اجتمعن مرةً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسلن إحداهن إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتقول له: يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك ـ أنا مندوبةٌ عن النساء ـ هذا الجهاد الذي كتبه على الرجال، فإن يصيبوا يثابوا، وإن يقتلوا كانوا أحياءَ عند ربهم يرزقون، ونحن مَعاشر النساء نقوم عليهم ـ نعتني بهم، نطبخ لهم طعامهم، نقضي لهم حوائجهم، نربي لهم أولادهم، إذا قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون، وإذا انتصروا نالوا الأجر والثواب ـ ونحن مالنا ؟ ـ ما دورنا ؟ ما محلنا ؟ ـ فأجابها عليه الصلاة والسلام إجابةً بليغة، لو تعرف المرأة عمق هذه الإجابة، وأبعاد هذه الإجابة ما قعدت عن خدمة زوجها وأولادها، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أبلغي من لقيتِ من الناس أن طاعة المرأة للزوج، واعترافها بحقه يعدل ذلك ـ الجهاد في سبيل الله ـ وقليل منكن من تفعل ذلك ))
فالمرأة إذا قامت بحق زوجها حق القيام، فهي كالمُجاهدة في سبيل الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( وذروة سنامه الجهاد ))
أي أعلـى درجة في البذل هو الجهاد، وبذل النفس كما يقولون أقصى غاية الجود، ذروة الإسلام هو الجهاد، وأن تقوم المرأة بحق زوجها وأولادها فقد جاهدت في سبيل الله.
والقصة التي ذكرتها كثيرا، أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما ترويه كتب الحديث قال:
(( أول من يمسك بحلق الجنة أنا، فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت: مـن هذه يا جبريل ؟ قال: هي امرأةٌ مات زوجها، وترك لها أولاداً، فأبت الزواج من أجلهم ))
(( أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة ))
2 – توفير الزوجة الجو المريح في البيت:
أيما امرأة قعدت على بيت أولادها ؛ رعتهم حق الرعاية، وفَّرت لهم حاجاتهم، وفَّرت لهم الجوَّ المريح، الجوَّ المناسب، جعلت بيتها سكناً لأولادها ولزوجها، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
فالمرأة التي تطمح أن تكون عند الله في أعلى مقام، يجب أن توفِّر لزوجها وأولادها السَكَنَ الذي ورد في الآية الكريمة، والذي هو عِلَّة الزواج، لماذا أمرنا الله بالزواج ؟ ليكون الزواج سكناً لنا، وليكون منطلقاً للأعمال الصالحة.
أيها الإخوة المؤمنون... لو أن المرأة أدَّت هذا الحق لما كان النزاع والخصام في البيت.
3 – حفظ المرأة زوجها في ماله ونفسها:
حقٌ آخر، على المرأة أن تحفظ الزوج في ماله ونفسها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ ))
إذا حفظت المرأة زوجها بماله ونفسها فقـد أدَّت ما عليها، إذاً قطـع دابر الشقاق، والخصومات، والعداوة والبغضاء، وسد طريق الطلاق.
4 – عدم امتناعها عن زوجها:
شيءٌ آخر من واجبات المرأة التي تسد طريق الطلاق الذي يدمِّر الأسرة والذي يشتت الأطفال، عدم امتناعها عن زوجها، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح ))
كي يبقى طموحه في البيت.
5 – إنفاق الزوج المعتدل:
شيءٌ آخر، أما الزوج فعليه أن ينفق من ماله الحلال على أهله وعلى أولاده، سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يقول: << حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي >>.
قال الله عز وجل:
﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
بالوضع المُعْتَدِل من دون إسرافٍ ولا تبذير، من دون أن تَبْسُط يدك، ومن دون أن تردّها مغلولةً إلى عنقك.
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)﴾
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) ﴾
هذا من واجبات الزوج، من أجل أن يسُدَّ طريق المُشاحنة والبغضاء وطريق الطلاق، فكم من طلاقٍ، وكم من مُخالعةٍ أساسها بُخل الزوج.
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
6 – استشارة الزوجة:
شيءٌ آخر، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( آمروا النساء في بناتهن ))
فالزوج الذي لا يعبأ بزوجته، ولا يقيم لها وزناً، ولا يطلعها على شيء، إنه يجعلها إنساناً ليس شريكاً لحياة الزوج، هذا الأمر يؤدّي إلى الشقاق، ففي موضوع البنات قال عليه الصلاة والسلام:
(( آمروا النساء في بناتهن ))
فاستشارة الزوجة يرفع من قيمتها ومن مكانتها، وتشعر بأهميتها عند زوجها.
7 – غض الطرف عن الهفوات:
يا أيها الإخوة الأكارم... شيءٌ آخر، غَضّ النظر عن هفوات الزوجة، هذا الزوج الذي يحاسب زوجته عن كل غلطٍ مهما دَق ليس زوجاً ناجحاً، لأنـه لم يجد هذه المرأة الكاملة، سيقضي حياته في العيب ـ كما يقولون ـ في الأخذ والرد، في المعاتبة، في الشطط، يصبح البيت مشحوناً بالبغضاء.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ))
يجب أن تغض الطرف عن تسعة أغلاط لتحاسب عن الغلط العاشر، يجب أن تكون في البيت واحداً من أهل البيت، أما أن تُنَصِّبَ نفسك للمحاسبة الدقيقة، فهذا مما يُتعب الحياة الزوجية.
8 – المعاشرة بالمعروف:
أيها الإخوة المؤمنون... بقي شيءٌ آخر من أجل أن نتلافى المشاحنة والبغضاء، وأن نتلافى الأسباب التي تؤدي إلى الطلاق قال تعالى:
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾
الآن غير الطعام والشراب، غير أداء الحقوق، يجب أن تكون في البيت مَقْبولاً، يجب أن تكون مُحَبَّباً، يجب أن يفتقدك أهلك، يجب أن يكون وجودك في البيت مُسْعِداً، هذا يحتاج إلى خبرةٍ، وإلى خُلُقٍ عالٍ، وإلى وداعةٍ، وإلى لطفٍ، وإلى نفسيةٍ رضيةٍ، لذلك قال تعالى:
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( خيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي ))
الحديث الآخر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا ))
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، كان مؤْنساً، كان يسابق زوجته السيدة عائشة، يسابقها، هو في هذا المقام العظيم، هو سيد الخلق، الرسول الأول، إمام الرُسُل، قائد الأمة، وفي البيت كان يسابق زوجته عائشة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَتْ:
(( فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ))
أي تعادل، هذه نفسية النبي في البيت، تقول له:
ـ كيف حبك لي ؟
ـ يقول لها: كعقدة الحبل.
ـ تقول له من حين لآخر: كيف العقدة ؟
ـ يقول: على حالها.
جوٌ من المَرح البريء، من المداعبة اللطيفة، بسَّاماً ضحَّاكاً مؤْنِساً، حتى إن سيدنا عمر كان يقول: << ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالطفل، أي في الإنس والسهولة، فإذا كان مع القوم كان رجلاً >>، أيْ الرجولة خارج البيت، لا كما يفعل معظم الرجال ؛ كل رجولتهم، وقوتهم، وعنفهم في البيت، فإذا خرج من البيت صار طفلاً وديعاً، ليس هذا هو المطلوب العكس هو المطلوب، أن تكون في البيت وديعاً مؤْنساً.
9 – مساعدة الزوج زوجتَه:
شيءٌ آخر يَلفت النظر، السيدة عائشة سُئلت: ماذا كان يفعل الرسول في البيت ؟ سؤال غريب...
فقالت: كان يقيم على خدمته ؛ كان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويعجن عجينه، وكان في مهنة أهله.
هذا كان النبي، لذلك إذا صلح البيت صلح المجتمع، إذا كان الود والمحبة بين الزوجين، وبين الزوجين وأولادهما كان هذا البيت قطعةٌ من الجنة ؛ ولو كان بيتاً صغيراً، ولو كان أثاثه خَشِناً، ولو كان الطعام يسيراً، الإنسان يحيا بالود، أكثر مما يحيا بالطعام والشراب، كم من بيتٍ فخمٍ واسعة أرجاؤه، نفيسةٍ أثاثاته، ومع ذلك هذا البيت مشحونٌ بالبغضاء والخصومات لأن الزوجين ما أقاما فيه حقَّ الله، إذا أطاع الزوج والزوجة ربَّهما، تولى ربهما عنهما التوفيق بينهما، فإذا بُني هذا الزواج على معصية، تولى الشيطان التفريق بين الزوجين.
أيها الإخوة الأكارم... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
والحمد لله رب العالمين
* * *
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُقِ العظيم، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
إصلاح ذات البين:
أيها الإخوة المؤمنون... تطبيقاً لموضوع هذه الخطبة: على كلٍ منا أن يحرص على إصلاح ذات البين، على أن تكون العلاقة الزوجية وعلاقته بأولاده في أعلى مستوى، وهذا يحتاج إلى مُراجعةٍ للسُنَّة، أيْ أنك حينما تنفذ أمر الله عز وجل، أو تنفذ أمر النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بالبيت، ما تفعل أكثر من الذي يطبق تعليمات الصانع في آلةٍ غالية جداً، فأنت تلك الآلة الغالية، والأهل تلك الآلة الغالية، والأولاد تلك الآلة الغالية، فطبِّق تعليمات الصانع تقطف الثمار، وتؤتي أكلها مرتين.
الدعاء
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك.
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا.
اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا بها جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبْلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم هَب لنا من أزواجنا وذرِّياتنا قرَّة أعين، واجعلنا للمتقين إماما.
اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك مولانا رب العالمين.
اللهم استر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، واقبل توبتنا، وفكَّ أسرنا، وأحسن خلاصنا، وبلِّغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، مولانا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء مولانا رب العالمين.
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.