- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
التكافل الاجتماعي جزءٌ من نِظام الإسلام في حلّ المشكلة الماليّة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ عوْدة إلى الموضوع المتسلسل الذي بدأناه قبل بضعة أسابيع إنّه كسْب المال وإنفاق المال ، انطلاقًا من أنّ تِسعة أعشار المعاصي من كسب المال وإنفاقه ، وانطلاقًا من أنّ السؤال الأكبر والأهم يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام :
(( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ؟))
موضوع اليوم أيّها الأخوة ، جزءٌ من نِظام الإسلام في حلّ المشكلة الماليّة إنَّه التكافل الاجتماعي ، إنّ التكافل الاجتماعي مَلحوظٌ في وضوحٍ شديد من خلال الآيات الكريمة، ومن خلال الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فكما أنّ الإسلام من خلال القرآن والسنّة أعطانا فلسفة للكون ، وفلسفة للحياة ، وفلسفة لِوُجود الإنسان على هذه الأرض، أعطانا نَظرةً شُموليَّةً لِحَقيقة الكون ، ولِحَقيقة الحياة ، ولِحَقيقة الإنسان ، الإسلام فَضْلاً عن ذلك أعطانا نِظامًا محْكمًا من لَدُن حكيمٍ خبير ، في حلّ المشكلات العديدة للمجتمع الإسلامي ، ومن أبرز هذه المشكلات مشكلاته الماليّة .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ الإسلام أوْجبَ على الموسرين الإنفاق على أقربائهم المعسرين ، هذا ملخّص الملخّص ، انطلاقًا من مبدأ التكافل الاجتماعي ، وانطلاقًا من أنّ هذا المجتمع هو في حقيقته مجموعة أُسَر فإذا كفِلَتْ كلّ أُسرة - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة - أفرادها فقد عاش المجتمع في بحبوحة ، وفي سعةٍ ، وفي مودَّةٍ ، وقد نجا من الحِقْد ، وقد نجا من الحسد ، وقد نجا من الشحّ .
الصدقة تطهّر الغني من الشحّ و الفقير من الحقد :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألم تقرؤوا قوله تعالى :
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
ماذا يعني ربّنا سبحانه وتعالى في قوله : تطهِّرُهم ؟ إنّها تُطَهِّرُ مال الغنيّ من حُقوق الغير المتعلّقة به ، إنّها تطهّر الغني من الشحّ ، إنّها تطهّر الفقير من الحقد ، وماذا يعني قوله تعالى : وتزكِّيهم ؟ إنَّها تزكِّي المال نفسهُ ، بِمَعنى تُنَمِّيه نماءً وفْق القواعد التي وضعها الله عز وجل لأنّك إذا أعْطَيْت الفقير أعْطَيتهُ قوّةً يشتري بها ، وعاد نفْعُها عليك ، وتُزكِّيه بِطَريقةٍ من العناية الإلهيّة المباشرة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : " ما تلف مالٌ في برّ أو بحر إلا بِحبْس الزكاة " ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا حُرموا القطر من السماء ، وهذه حقيقة صارخةٌ لكلّ المسلمين .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حينما قال الله عز وجل :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾
تُزَكِّي نفْس الغنيّ ، فيرى أنّ له عملاً عظيمًا حيث ساهَمَ في تَخفيف الآلام عن الفقراء والمساكين ، تُنمِّي الفقير ، تُشْعرهُ أنَّه غالٍ على مجتمعه ، وأنَّ مجتمعهُ مَعْنِيّ به ، وأنّ حاجاته يجبُ أن يلتزم بها المجتمع .
إلزام الموسرين بالإنفاق على أقربائهم المعسرين :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مِحْوَرُ هذه الخُطبة أنّ الإسلام أوْجبَ على الموسرين الإنفاق على أقربائهم المعسرين ، انطلاقًا من مبدأ التكافل الاجتماعي الذي نلْحَظُه بِشَكلٍ صارخٍ في الكتاب والسنّة ، ما الأدلّة على ذلك ؟ قال تعالى :
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾
هذا دليل صارخ ، آيةٌ ثانية ، يقول تعالى :
﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
الآية الأولى في سورة الإسراء ، والآية الثانية في سورة الروم ، وآتِ ذا القربى حقّه، فآت ذا القربى حقّه ؛ آيتان ، ما هو حقّ ذي القربى ؟
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ حقّ ذي القربى لا أن تزورهُ ، زيارتهُ واجبة ، ولا أن تبشّ له وَجْهك ، وبشاشة الوَجه واجبة ، ولا أن تصِلَهُ في المناسبات ، فصِلَتُهُ في المناسبات واجبة ، ولكن ماذا أراد الله سبحانه وتعالى من قوله وآت ذا القربى حقّه ؟ العلماء قالوا : حينما قال الله عز وجل :
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾
ما هو حقّ المسكين وابن السبيل ؟ حقّهم في مواساتهم بالمال ، فلمّا عطف الله ذوي القربى على المساكين وأبناء السبيل ، فمعنى ذلك أنّ عَطف ذوي القربى على المساكين ، وعلى أبناء السبيل ، يقتضي العطْف في الحُقوق ، إذاً يجبُ أن تنفق عليهم من مالك ، هذا فهْمٌ دقيق لقوله تعالى :
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾
حقّ المسكين ، وابن السبيل أن تُواسيه بِمَالك ، ابن السّبيل مَقطوع في الطريق يحتاج إلى المال ، والمسكين الذي عَجَز عن العمل ، يحتاجُ إلى أن تُواسِيَهُ بالمال ، فإذا جاء قبلهما آت ذا القربى ، فَمِنْ حقّ ذوي القربى أن تنفق عليهم لا أن تزورهم ، وأن تسأل عن صحّتهم ، وأن تبَشَّ لهم ، لا ! هذا مطلوبٌ وواجبٌ ، ولكنّ الحقّ الذي قالهُ الله في هذه الآية يَعني أن تنفق عليهم ، انطلاقًا من مبدأ التكافل الاجتماعي .
دليل آخر يا أيها الأخوة ، قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾
يأْمُر بالعدل ، ويأمر بالإحسان ، ويأمرُ أن تُعْطِيَ ذوي القربى ، وحينما جاءتْ كلمة : وإيتاء ذي القربى مع الإحسان ، ففُهِمَ أنّ حقّ ذوي القربى ليس في المواساة الكلاميّة ، وليس في العلاقات الاجتماعيّة ، بل في إنفاق المال من الموسرين على المعسرين ، هذا الذي آتاهُ الله مالاً عليه حُقوق كثيرة وفي الدرجة الأولى حقوق على أقربائك ؛ الذين هم أقربُ الناس إليك ، والذين يلوذون بك ، والذي يعلمُ أحوالهم قبل غيره ، وأكثر من غيره . بعض العلماء يقول حينما قال الله عز وجل :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾
أليسَ إيتاء ذوي القربى من الإحسان ؟ فلماذا خُصَّتْ بِكَلِمَتين ؟ قال بعض العلماء : إنَّما خصّ الله ذوي القربى لأنّ حقوقهم آكَدُ ، مع أنّ ذوي القربى مشمولون بقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾
قال : لأنّ حقوق ذي القربى آكَدُ وأوْجَبُ .
تقوى الله و وجوب صلة الرحم :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله عز وجل :
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
ما معنى هذه الآية ؟ اتَّقوا الله ؛ اِجعلوا بينكم وبين عقابه وقايَة ، اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية بالطاعات و الخيرات و الإنفاق و الإحسان ، اتَّق عقابهُ بطاعته ، اتّق تقتيرهُ عليك بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ، اتّق غضبهُ بالبحث عمّا يرضيه ، هذا معنى قول تعالى: اتقوا الله ، فما معنى قوله تعالى : والأرحام ؟ هل معناها اتقوا الأرحام ؟! ما معنى اتقوا الأرحام ؟ أن تبتعِدَ عنها ، أن تقطعها ، أن تهملها ؟ لا ، أجْمَعَ علماء التفسير على أنّ قوله تعالى :
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾
أيْ اتّقوا قطيعة الأرحام ، اتقوا الأرحام أن تقطعوها .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من هم الأرحام ؟ سؤال دقيق ، قد يذهبُ بكم الظنّ إلى أنّ الأرحام هم الأقرباء من طرف الأمّ ، من طرف الرّحم الذي أنجبك ، لا ! أجمع العلماء على أنّ الأرحام حيثما وردَتْ في القرآن الكريم ، وفي السنّة المطهّرة إنَّما تعني كلّ الأقارب ، من طرف الأمّ ، ومن طرف الأب ، بل إنّها تزيدُ على ذلك من طرف المصاهرة ، مطلق الأقارب، قال بعض المفسّرين : اتّقوا الله أن تعصوه ، واتّقوا الأرحام أن تقطعوها ، لذلك الحُكْم الشَّرْعي الذي لا خلاف فيه هو أنّ صلة الرّحم واجبةٌ ، وأنّ قطيعة الرّحِم عملٌ محرّم في الدِّين ، أو حرامٌ في الدِّين .
صِلَة الرّحِم واجبٌ ديني :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يا ترى صلةُ الرّحِم عملٌ مندوب ؟ عملٌ مباح ؟ عملٌ مشروع ؟ عملٌ مستحسن ؟ عملٌ مرغوبٌ فيه ؟ عملٌ طيّب ؟ عمل طَوْعِيّ ؟ كلّ هذا غير صحيح ، إنّ صِلَة الرّحِم واجبٌ ديني ، ومن أين جاء الواجب أيّها الأخوة ؟ من قوله تعالى :
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾
الحقّ لا يكون تفضّلاً ، إيتاء الحقّ لا يكون تفضُّلاً ، ولا إحسانًا ، ولا تَطَوُّعًا ، ولا مبادرةً ، إيتاء الحقّ ؛ من لوازم إيتاء الحقّ أن يكون واجبًا ، فإنّه يجب عليك أن تصِلَ رحمك، ولكن أيّها الأخوة المؤمن حكيم ، يجبُ أن يصلَ رحمهُ من دون أن يعْصِيَ ربّه ، إذا كان في صِلَة الرّحِم معْصِيَة لله عز وجل فيجبُ أن تصِلها بطريقة لا تعصي الله فيها ، إذا كان هناك اختِلاط ، وإذا كان هناك تفلُّت من قواعد الدِّين ، وإذا كان هناك اسْتهزاءٌ بِدِين الرّجل ، دَعْ خيرًا عليه الشرّ يربو ، ودرءُ المفاسد أولى من جلب المنافع ، وهي قاعدةٌ أُصوليّة ، أما يجبُ على المؤمن أن يصِل رحمه بالبِرّ والإحسان والإنفاق من دون معصية الله ، فهذا الذي بِدَعوى أنّه يصل رحمهُ يقعُ في معصيَة ربّه ، هذا إنسانٌ بعيدٌ عن جوْهر الدِّين ، وبعيدٌ عن حقيقة التشريع .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الدليل الأوّل هو أنّ كلمة حقّ لا تقترنُ في القرآن إلا مع الواجب ، صلةُ الأرحام حقّ لهم ، وواجبٌ عليك ، والدليل الآخر هو أنّ الله عز وجل في الآيتين الأولييْن ، بدأ الآيتين بِفِعْل أمْرٍ ، قال : وآتِ ، فآتِ ، إذًا أن تنفقَ على ذوي الرَّحِم ، أن ينفق الموسِرُ على أقربائه المعسرين ، هذا واجبٌ شرعيّ لا منّة له فيه ، ولا تفضّل له فيه ، إنَّما هو من حقّ هؤلاء في رقبة هذا الذي أكرمهُ الله بِسَعَة الرّزق .
حق المسلم على المسلم والجار على الجار :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ مرّةً ثانيَة أُؤكِّدُ عليكم أنّ بعض الأخوة المؤمنين يفهمون صلة الرّحم زيارةٌ فقط ، سلامٌ فقط ، مودَّةٌ فقط ، هذه كلّها مطلوبة ، وهذه كلّها واردة ، ولكنّ إيتاء حقّ ذوي القربى بالمعنى الدقيق يعني أن تنفق عليهم ، أنت مأمورٌ أن تسلّم على المسلمين ، وعلى غير المسلمين ، مأمورٌ أن تلقاهم بِوَجهٍ طلق ، مأمور ألا توقِعَ فيهم الأذى، فهناك حُقوق المسلم على المسلم ، وهناك حُقوق الجار على الجار ، ولو كان غير مسلم ، الجار له حقّ على المسلم كائنًا من كان ، إذا استعانَ بك أعَنْتَهُ ، وإذا اسْتنصَرك نصَرْتَهُ ، وإن اسْتقرضَكَ أقْرضْتَهُ ، وإن أصابهُ خيرٌ هنَّأتهُ ، وإن أصابتْهُ مصيبةٌ عزَّيْتَهُ ، ولا تستطِل عليه بالبناء فتحْجبَ عنه الريح إلا بإذنه ، وإذا اشْتريْت فاكهةً فأهْدِ له منها ، فإن لمْ تفْعل فأدْخِلها سِرًّا، ولا يخرج بها ولدك لِيَغيظ بها ولده ، ولا تؤْذِهِ بِقُتار قدْرك إلا أن تغرف له منها ، هذا حقّ الجار على جاره ، حقّ الجار على جاره كائنًا من كان ، فإذا كان جارك مسلمًا كان له حقّان ؛ حقّ الجوار ، وحقّ الإسلام ، فإذا كان جاركَ مسلمًا قريبًا ، ترتَّبتْ عليك ثلاثة حُقوق : حقّه كجار ، وحقّه كمُسلِم ، وحقّه كقريبٍ ، قال تعالى :
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾
أحاديث صحيحة عن وُجوب الإنفاق على الأقارب بِشَكلٍ عام :
يا أيها الأخوة الكرام ، النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام :
((ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ))
وروى الإمام الترمذي عن بهز بن حكيم قال : حدّثني أبي عن جدّي قال :
((يا رسول الله مَنْ أَبُرُّ - أي على من أتصدّق ؟ ومن أساعد ؟ - قال : أمّك، قال ثمّ من : قال أباك ، قال ثمّ من ؟ قال : الأقرب فالأقرب ))
وعن المقداد قال : قال رسول الله عليه الصلاة والسلام :
((إن الله تعالى يوصيكم بأمهاتكم ثلاثا ، إن الله تعالى يوصيكم بآبائكم مرتين ، إن الله تعالى يوصيكم بالأقرب فالأقرب ))
وهذه الأحاديث الصحيحة التي قالها النبي عليه الصلاة والسلام دليل على وُجوب الإنفاق على الأقارب بِشَكلٍ عام ، ولا سيما من يلوذ بك بِشَكلٍ خاصّ .
الأقارب الذين يجبُ أن ننفق عليهم :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من هم الأقارب الذين يجبُ أن تنفق عليهم ؟ هذا موضوع أدلى به العلماء بدِلائهم ، بعضهم قال : الوالد والوالدة ، الوالد على ابنه ، والولد على أبيه ، هذا في الدّرجة الأولى ، وبعضهم قال : الأصول مهما علَوا ، والفروع مهما نزلوا ، على الأُصول أن ينفقوا على الفروع ، وعلى الفروع أن ينفقوا على الأصول ، وبعضهم قال : الأرحام المحارم ، والمحارم في القرآن هم الذين لا يجوز الزواج بهنّ على التأبيد ، وبعضهم قال : إنفاق الغني الموسِر على أقربائه المعسرين مِمّن بينهم توارث ، إما علاقات الإرْث ، وإما علاقات التحريم ، و إما علاقات الأصول والفروع ، وفي الدرجة الأولى علاقة الأبوّة بالبنوّة ، وعلاقة البنوّة بالأبوّة ، ماذا قال الله عز وجل ؟ قال الله عز وجل :
﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾
إذًا هناك أمْرٌ إلهي أن تنفق على ابنك الذي في بطن أمّه عن طريق الإنفاق على الأمّ ، ثمّ أن تعطِيَ المرضعة الأجْر ، لأنّه ابنك ، وفي قوله تعالى :
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
هذا أيها الأخوة دليل قطعيّ في القرآن الكريم على وُجوب نفقة الوالد على ولده، إذا كان في وضْعٍ ، في بطن أُمّه ، أو إذا كان خارج بطْن أمّه ، والعلماء وسَّعوا دائرة النّفقة حتى سنّ البلوغ ، وهناك علماء أوْجبوا أن تنفق على ولدك ، ولو تجاوَزَ سِنّ البُلوغ لأنّك إذا كنت موسرًا لا يعقلُ أن نكلّف أحدًا غيرك بالإنفاق عليه ؛ لأنّك أقربُ الناس إليك ، إنّه جزءٌ منك.
توْصِيَة مغلّظة من الله عز وجل للأبناء بالإحسان إلى آبائهم :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر هو أنّ إنفاق الابن على أبيه من باب أولى لقوله تعالى :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾
قال تعالى :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾
قال تعالى :
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً﴾
ثلاث آيات فيها توْصِيَة مغلّظة من الله عز وجل للأبناء بالإحسان إلى آبائهم ، ماذا قال بعض العلماء ؟ إنَّ من أحسن الإحسان أن تنفق عليهم ما دامت وصيّة الله عز وجل للابن أن يحسن إلى أبيه ، إنّه من أحسن الإحسان أن تنفق على أبيك وأمّك .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
((يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك ))
لذلك يُعدُّ عُقوق الوالدين من أكبر الكبائر ، ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة ، ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يغفر له ، هذا من أكبر الكبائر ، وهل عدم الإنفاق عليهما مع القدرة على الإنفاق إلا كبيرة جدًا ، ابن موسر وأبوه معسِر ، بل إنّ العلماء الأجِلاء قالوا : إذا كان الأب صحيح الجسْم - دقّقوا في هذا الحكْم الشرعي - إذا كان الأب صحيح الجسْم ، وبإمكانه أن يعمل ليأكل ، لكنّ هذا العمل يحطّ من مكانته الاجتماعيّة ، لا يليق به ، والابن موسِر ، عليه أن يمنعه ُمن العمل ، وعليه أن ينفق عليه إكرامًا له ، وتوقيرًا لِسِنِّه ، وحِفاظًا على كرامته ، وصَونًا لسُمْعته ، إذا كان هناك عمل فيه إهانة ، متقدّم في السنّ لكنّه قويّ الجسم ، والعمل الذي يعمل فيه ربّما جلبَ له بعض الضّغط الاجتماعي ، ربّما وضعه في محلّ لينقل بضاعةً ، هذا العمل لا يليق بالأب في هذه السنّ ، الحُكم الشرعي أنّ على الابن الموسر أن ينفق على أبيه ، وأن يمنعهُ من عملٍ لا يتناسبُ مع سنّهِ ، ولا مع كرامته ، ولا مع مكانته .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ أنت ومالك لأبيك ، إذا كان مالكَ لأبيك فمن باب تعظيم حقّ الأب على ابنه - كما قال علماء الفقه - إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول : أنت ومالُكَ لأبيك ، فلأنْ تنْفق جزءًا من مالك على أبيك من باب أولى .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لهذا الموضوع تَتِمّة نتابعهُ إن شاء الله تعالى في خطبةٍ قادمة .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا ، فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
البيضة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ سخّر الله الكون للإنسان تسخير تعريف ، وتسخير تكريم، فحينما يختصّ الإنسان بالانتفاع بما في الكون ، ينتفع بالشّمس ، ينتفعُ بالقمر ، ينتفع بالهواء النقيّ ويستنشقُه ، ينتفع بالماء العذب يشربُه ، ينتفعُ بالطعام يأكله ، ينتفع بالأهل يأنسُ بهم ، ينتفع بالأولاد فيسْتعينُ بهم ، إذا كان اقتصار علاقتك بالكون علاقة انتفاع ، فأنت عطَّلْت هدفهُ الأكْبر ، الكون حينما سخَّره الله لهذا الإنسان سخَّرهُ تسخير تعريف ، الهدف الأكبر ، والمهمّة الكبرى لهذا الكون أن تتعرّف إلى الله تعالى من خلاله ، أن يكون هذا الكون نافذةً لك تعرفُ الله من خلاله ، أما إذا انتفعْت به فقط تعاملْت مع ما خلقهُ الله لك تعاملَ انتفاع لا تعامُل تعلّم ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى الهلال قال : "هلال خير ورشد" هو خيرٌ يعرّفنا بالمواقيت ، ورشَدٌ يرشدنا إلى الله عز وجل ، وقِسْ على الهلال كلّ شيء ، كلّ شيءٍ تتعاملُ معه يجبُ أن يكون نافذةً إلى الله عز وجل ، يجبُ أن يكون وسيلة إيضاحٍ لك لِتَعرف الله عز وجل ، فإذا عطَّلْت هذا الهدف واستعملْت هذا الشيء كي تنتفع به فقد أخذْت الهدف الأدنى ، وعطَّلْت الهدف الأكبر ، هل منكم واحدٌ في كلّ هذا المسجد لا يتناوَلُ البيض ؟ إنَّه غذاءٌ رئيسي، وأنت تأكل هذا الشيء الذي خلقه الله هل فكَّرْت فيه ؟ هل تصدّق أنَّ في هذه البيضة التي تأكلها ستّة عشر معدنًا من المعادن النادرة ؟ كلّها مودعة في هذه البيضة ، وثمانية معادن مصهورة ، معدن الكلور ، ومعدن الفلور ، وكبريت اليود ، والكالسيوم ، والفوسفور ، والصوديوم، والمغنزيوم ، والبوتاسيوم ، والفحم ؛ هذه بعض المعادن المصهورة ، وفي البيضة الواحدة سِتَّة عشر معدنًا نادرًا .
هل تصدّق أنّ في هذه البيضة أنزيمات مضادّة للجراثيم ، هذا السائل الصفار والبياض ، أوْدَعَ الله فيه أنزيمًا مُضادًا للجراثيم ، لذلك فسادُ البيض يأتي في وقتٍ متأخّر ، لولا هذا الأنزيم لما بقيَ البيض صالحًا للطعام أكثر من ساعات ، يبقى أيّامًا وأسابيع ، ويصلحُ للأكْل ، لولا أنّ الله سبحانه وتعالى أوْدَعَ فيه هذه المواد المُضادّة للتفسّح ، والفساد لما انتفعنا منه ، هل تصدّقون أيّها الأخوة أنّ في البيضة الواحدة مئتي نوع من البروتينات أوْدعها الله في بياض البيضة ، وأنّ أربعة عشر نوعًا من الفيتامينات قد خلقها الله في البيضة ، وأنّ في هذه البيضة ما يزيد عن مئة و خمسين ميلي غرامًا من المواد السكريّة ، وأنّ في قشرته من الكالسيوم الذي يستهلكُه الصوص لبناء عظامه ، القشرة لها هدفان ، وهذا من إعجاز الخالق ، إنَّها قشرة ، وإنّها مواد أوّليّة لبناء عِظام الصوص الذي يتخلّق من البيضة ، وأنّ في البيضة دُهونًا خفيفة الكثافة لا تؤذي الإنسان ، وأنّ دُخول الجراثيم إلى البيضة أمْرٌ شبْهُ مستحيل ، ففي قشرتها مسام، ولها قشرة رقيقة تمنعُ عنها دُخول الجراثيم ، وأنّ توافق البيضة مع جسم الإنسان توافقًا عجيبًا .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما كلّ الحقائق عن البيْض تُقال على المنبر ، هذا منبر إرشادُ ونُصْح لا منبر علميّ ، ولكنْ أسوقُ لكم بعض الحقائق ، فإذا أكلَ أحدنا بيضةً لا ينبغي أن يأكلَها وهكذا ، هكذا قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾
الأنعام تأكل وكفى ، أما أنت فإنسانٌ ؛ من خلق هذه البيضة ؟ من جعلها بهذا الحجم ؟ من جعل لها هذه القشرة السهلة الكسْر ؟ من جعل هذا الشكل البيْضوي وهو من أمْتَنِ الأشكال ؟ القوى في الشكل البيضوي تتضافر ، لو أنّ البيضة مكعّبة الشكل لما وصلت إليك ، لو أنّها كرة لتدَحْرجت إلى مسافات كبيرة ، ولكن الشّكل البيضَوي يمنعُ التَّدَحْرج إلا إلى مسافات قليلة ، من جعلها بهذا الحجْم ؟ وهذا القوام ؟ وهذه القِشرة ؟ وهذا الغشاء ؟ وهذه الفيتامينات و البروتينات و المعادن النادرة و المعادن الشهيرة وهذا السكّر وهذا الدُّهْن ، إنَّ البيضة غِذاءٌ كامِلٌ لأنّها تنسجُ دجاجةً كاملة ، الدجاجة فيها عِظام ، وفيها عضلات ، وفيها أورِدَةٌ وشرايين ، وفيها ريشٌ ، وفيها من كلّ شيء، قال تعالى :
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً﴾
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الكون بابٌ واسع ، وباب عريض ، وباب سريعٌ إلى الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .