وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0148 - ذكرى المولد - محبة النبي صلى الله عليه وسلم2 - دودة القزّ.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا برُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإيمان جسدٌ روحه المحبّة :

أيها الأخوة الأكارم، لازلنا نعيشُ ذِكرى ميلاد سيّد الخلق، وحبيب الحقّ سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم، في الخطبة السابقة تحدَّثتُ عن بعض الآيات التي تحثّ على المحبّة، وكأنِّي بيَّنتُ أنّ الإنسان عقلٌ وقلبٌ، فبِعَقلِهِ يؤمن، وبقلبه يحبّ الإيمان بلا محبة كالجسد بلا روح
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ألا لا إيمان لمن لا محبّة له، ألا لا إيمان لمن لا محبّة له، ألا لا إيمان لمن لا محبّة له، أي أنّ الإيمان بلا محبّة جسدٌ بلا روح، الإيمان جسدٌ روحه المحبّة فَمَنْ لم يخفق قلبه بِحُبّ رسول الله عليه الصلاة والسلام فليبْحث عن أمراضها وتقصيراتها، فليبحث عن الحجُب الكثيفة التي تحول بينه وبين الإقبال على الله تعالى، لأنّ حبّ النبي عليه الصلاة والسلام ليس كَحُبّ أيّ إنسانٍ آخر، إنّ حبّ النبي هو عين حبّ الله عز وجل، لأنّه بابه، ولأنّ الباب يُبتغى لِمَن أراد الدخول، والله ورسوله أحق أن يرضوه.
أيها الأخوة الأكارم، كلمة المحبّة وردَت في كتاب الله كثيرًا، ولكنّ المحبّة في كتاب الله تعني اقتفاء أثر النبي عليه الصلاة والسلام، أما المحبّة التي تخلو من اتّباع سنّته فهي دعوة. فلان يدَّعي أنّه يحبّ النبي وليس في عمله شيء يثبتُ ذلك، الإيمان ما وقرَ في القلب، وصدّقه العمل.

التخلق بأخلاق النبي و اتباعه :

أيها الأخوة المؤمنون، النبي عليه الصلاة والسلام نموذجٌ للكمال الإنساني وقد أمرنا الله جلّ وعلا أن نتَّبِعَ رسول الله، وأن نتخلَّق بأخلاقه، لأنّ هذا الكمال الإنساني ضِمن استطاعتنا، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يكلّف نفسًا إلا وُسعها، إنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، الكمال الإنساني من وُسْع النّفس البشريّة، لذلك لأنّ هذا الكمال الإنساني الذي أمرنا به من وُسْعنا، كانت المؤاخذة، وكان الحساب، فالنبي عليه الصلاة والسلام المؤمن انسان متواضع اتصل بالله تعالى فعرف حجمه
كان جمّ التواضع، فالمتكبّر ليس من أتباع هذا النبي الكريم، وافرَ الأدَب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرفُ بكُلّه إلى محدّثه، صغيرًا كان أو كبيرًا، هذه الأخلاق لا تكون تكلُّفًا، إنّها طبيعةٌ في نفسه الشريفة فإذا أقبلْت على الله تعالى، إذا اتَّصلْت بالله عرفْت حجمك الصغير فكان التواضع، إذا انقطع الإنسان عن الله عز وجل رأى نفسهُ كبيرًا، وهو في عين الناس صغيرًا، فإذا أقبلَ على الله عز وجل، رأى نفسه صغيرًا، وهو في عين الناس كبيرًا، كان من أدعيته صلى الله عليه وسلّم: "اللّهم أرِني بِعَين نفسي صغيرًا، وبأعْيُن الناس كبيرًا"، المنقطعون عن الله تعالى عكسُ هذه الصّفة، في أعْيُن أنفسهم كبراء، وفي أعْيُن الناس صغراء، فكان عليه الصلاة والسلام جمّ التواضع، لا يأنف أن يسلّم الفقير، والمسكين، تسْتوقفهُ امرأة في الطريق، فيقفُ معها طويلاً يكلّمها في حاجتها، حتى ظنّ عديّ بن حاتم، وكان إلى جانبه، قال: والله ما هذا بأمْر ملِك، هذا ليس ملِكًا، كان جمّ التواضع، كان يُصلّي فأطال السّجود تعجَّبَ أصحابه، أأصابهُ مكروه وهو في السجود؟! فلمّا رفع سألوه ما الذي حملكَ على أن تطيل السجود يا رسول الله؟ فقال: ارتحلني الحسَنُ- أيْ جعلهُ كالراحلة وهو يسجدُ- فكَرِهْتُ أم أُعجّلهُ، كان جمّ التواضع، وافِرَ الأدَب، ما رُئِيَ مادًّا رِجْليْه قطّ، وما عابَ طعامًا قطّ، وما أنِفَ من دعوة مسكين قطّ، قال: "والله لو دُعِيتُ إلى كُراعٍ لأجبْتُ"، طعامٌ بسيط، دعاهُ صحابيّ، وأطعمهُ خبزًا وخلاًّ، فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخلّ"، هكذا كان نبيّكم أيّها الأخوة، كان جمّ التواضع، وافرَ الأدَب، يبدأ الناس بالسلام، هو يبدؤهم، وينصرف بكلّه إلى محدّثه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ويكون آخر من يسحبُ يده إذا صافحَ، وإذا تصدّق وضع الصّدقة بيده في يد المسكين، ما كان يرمي المال للمسكين، هذا الذي يرمي المال للفقير ليس متخلِّقًا بأخلاق النبي الكريم، يضعُ يدهُ في يد المسكين تواضعًا لله عز وجل، وإذا جلسَ جلس حيثُ ينتهي به المجلس، ولا يتخطّى الرّقاب علينا أن نقتدي بنبينا الكريم فقد كان جم التواضع وافر الأدب
مرَّةً حجّ هارون الرشيد، وطلبَ مِمَّن كان معه أن يزوره العالم الفلاني، فقال العالم، قولوا له: يا هارون إنّ العلم يؤتى ولا يأتي، قال: صدَقَ، نحن نأتيه، قال: فإذا جاءني فقولوا له: لا أسمحُ له أن يتخطّى رقاب الناس، فليجْلس حيثُ ينتهي به المجلس، فلمّا ذهب هارون إليه، أجلسوه على كرسيّ، فقال هذا العالم: من تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر وضَعه، فقال: خُذوا عنّي هذا الكرسي، النبي عليه الصلاة والسلام سيّد الخلق، وحبيب الحقّ، كان يجلسُ حيث ينتهي به المجلس، ولم يكن يأنفُ العمل لقضاء حاجته، أي أن يحملَ أحدنا حاجاته بيدِه من السوق، هذه وِسامُ فخْرٍ، العار أن تعصي الله عز وجل، أما أن تحمِلَ الخضار بيدَيك لإطعام عيالك، هذا وِسام شرفٍ لك، أن تنظّف فناء دارك بيدَيك، هو وسام شرفٍ لك، ما كان عليه الصلاة والسلام يأنفُ العمل لقضاء حاجته أو حاجة صاحبٍ أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحملُ بضاعته، ويقول: "أنا أولى بِحَملها"، صاحب الحاجة أولى بِحَمل حاجته، وقال عليه الصلاة والسلام: "بريء من الكبر من حمَلَ حاجته بيدِه"، وكان يُجيبُ دعوة الحرّ والعبد، عبدٌ كان يصيحُ، وهو في سوق البيع، من أراد أن يشترينِي فلا يمْنعني من الصلاة خلف رسول الله، فلمَّا مرضَ هذا العبدُ توجَّه النبي على رِفْعة شأنه لِزِيارة هذا العبد، وكان يُجيبُ دعوة الحرّ، والعبد، والأمة، والمسكين، ويقبلُ عُذْر المعتذر، هذا الذي لا يقبلُ العذر ليس مسلمًا، من جاءهُ أخوك متنصِّلاً- أيْ معتذرًا- فليقبل منه محِقًّا كان أو مبطلاً، الْتَمس لأخيك عُذرًا، ولو سبعين مرّة، فكيف إذا جاءك هو معتذرًا، لو لم يعتذر لك ينبغي أن تلتمسُ له عُذرًا، ولو سبعين مرَّة فكيف إذا جاءك هو معتذرًا؟ فاقْبلْ منه ولو كان كاذبًا.
صاحب الحاجة أولى بحملها
وكان يرفو ثوبهُ، ويخصف نعلهُ، ويخدمُ نفسه، ويعقلُ بعيره، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، سيّدنا أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين، كان يركبُ ناقته، فإذا به ينزلُ من عليها، لماذا نزل؟ ليأخذ زمامها، فقال أصحابه: يا خليفة رسول الله نَكفيك ذلك؟ قال: أمرني حبيبي ألا أسأل الناس شيئًا، أيْ إذا كنت قادرًا على أن تؤدِّيَ حاجتك بيدك فافعل، أما إذا كنتَ مسافرًا، ورجوْتَ أخاك أن يجلب لك الدواء لابنك، هذا ممكن، أما إذا كنت مقيمًا فينبغي أن تفعل هذا بيدك، وهذا هو الأدب، والنبي عليه الصلاة والسلام يسأل الناس عمّا في الناس، فكان يعنيهِ أمْر الناس، تعنيه حاجاتهم، وأمورهم، ومعيشتهم، وأوضاعهم، وكان يُحسّن الحسَن، ويُصوّبُه، ويقبّح القبيح، ويوهّمهُ، لا يقصّر عن حقّ، ولا يجاوزهُ إلى باطل، يعرف بالضّبط حقوق الزوجة، حقوق الزوجة ثابتة، وحقوق الأم ثابتة، أما هناك أشخاصٌ يتجاوزون الحقوق لِيُرضوا أُمّهاتهم، أو يتجاوزون حقوق الأمّ لِيُرضوا زوجاتهم، كان عمله يوزنُ بميزانٍ دقيق، لا يقصّر عن حقّ، ولا يجاوزهُ، قد تقصّر عن إرضاء والدك، وقد تجاوزُ إرضاء الوالدة فتظلم زوجتك، لا هذا ولا ذاك، لا يقصّر عن حقّ، ولا يجاوزهُ إلى باطل، يعطي كلّ جلسائه من نظراته، ومن ابتساماته، ومن اهتمامه، - ومن علامات البعد عن الله عز وجل إذا جلس مجلسًا يهتمّ بواحدٍ، قد يكون مهمًّا، قد يكون غنيًّا، فإذا كان في المجلس أغنياء وفقراء توجَّه إلى الغنيّ بِكُلّ اهتمامه، وبكُلّ ابتسامته، ونسيَ الباقين- كان عليه الصلاة والسلام يُعطي كلّ جلسائه من نظراته، ومن اهتمامه، ولا يحبّ، ولا يحسب جليسه أنَّ أحدًا أكرم عليه منه، هذه بُطولة، وهذه عبقريّة، أنْ يظنّ كلّ من معك أنّه أقربُ الناس إليك، من سأله حاجة لم يردّه إلا بها، أو ما يسرّه من القول؛ مجلسهُ مجلسُ علمٍ، وحلْمٍ، وحياءٍ، وصبرٍ، وأمانة، ليس في مجلسه مزاحٌ رخيص، ليس في مجلسه حديثٌ عن الدنيا، ليس في مجلسه تنافسٌ في ذكر مباهج الدنيا، مجلسهُ مجلسُ علمٍ، وحياءٍ، وصبر، وأمانة، لا ترفع عنده الأصوات، أصحابُه متواضعون، يوقّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذوي الحاجة، يحفظون الغريب، كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهْل الخلق، ليِّن الجانب، ليس بفَظٍّ، ولا غليظ، ولا صخّابٍ، ولا فحّاشٍ، ولا عيَّابٍ، ولا مزَّاحٍ، يتغافلُ عمّا لا يشتهي، الشيء الذي لا يحبّه يتغافلُ عنه، بينما صغار الناس ينتقدونه، ويحقّرونه، ما هذا الطعام؟ ومن باعك إيّاه؟ كيف اشتريتهُ؟ يتغافل عمّا لا يعنيه، الشيء الذي لا يحبّه يتغافلُ عنه، وهذا من خلقه الكريم، ولا يخيّبُ فيه مؤمّلهُ، فواحدٌ وضع كلّ أمله فيه أيُخيِّبُ ظنّه؟ قد يقول صاحبُ محلّ تجاري لِصانعه: سوف أجعلك شريكًا لي في المستقبل، يقول هذه الكلمة من باب المزاح، أو من باب الوعد الفارغ، هذا الصانع يصدّق، فيدخلُ في أحلامٍ، وآمالٍ، فإذا آن أوان أن يدخل معه شريكًا لفظهُ، وأبعدهُ، ووبَّخَهُ، هذا طبع اللّؤماء، لا يخيّبُ أمل أحدٍ فيه، فما دام الرجل قد وضع أمله فيك فلا تُخَيِّبهُ إن كنت مؤمنًا، أو إيّاك أن تعِدَهُ وعدًا لا تستطيع أن تفِيَ به، قد ترفَّع عن ثلاث؛ الإكثار في كلّ شيء، الإكثار في الكلام، والإكثار في الطعام، والإكثار في الضّحك، والإكثار في المباحات، لا في المباحات، ولا في الطعام، ولا في الشراب، ولا في الكلام، ولا في الضّحك، ولا في المزاح إن كنت مؤمناً لا تخيب رجل وضع أمله فيك
كان معتدلاً صلى الله عليه وسلّم، قد ترفّع عن ثلاث؛ الإكثار، والمِراء - وهي المشاحنة- ولا يخشى الشّحناء فإنّها ليْسَت من شأني، ولا من طبيعتي، وما لا يعنيه، ومن حُسن إسلام المرء تركهُ ما لا يعنيه، هذا الأمْر لا يعنيك، لِمَ أنت حشَريّ؟ لمَ تدسَّ أنفك في موضوع لا يعنيك؟ وكان لا يذمّ أحدًا، ولا يعيِّرُه، ولا يطلبُ عورته، ولا يتكلَّم إلا فيما يُرتجى ثوابهُ، إذا تكلّم أطرق جلسائه، وكأنّ على رؤوسهم الطّير، وإذا سكت تكلّموا، لم يكونوا يقاطعونه، فإذا سكتَ وأذِنَ لهم تكلّموا، لا يتنازعون عندهم، إن تكلّم أنصتوا حتّى يفرغ، يضحكُ ممّا يضحك أصحابه جبْرًا لخاطرهم، لئلاّ يُخْجِلهم، ويربكهم، لئلاّ يجعلهم دونه، يضحك ممّا يضحك منه أصحابه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون، ويصبرُ على الغريب، وعلى جفوته، قد يأتي غريب له سؤال قاسٍ، وملاحظة قاسية، تصرّف شائن، كان يصبر عليه ويقول: "إذا رأيتم طالبَ حاجةٍ فأجيبوه"، ولا يقطعُ على أحدٍ حديثه أبدًا حتى يجوزهُ، وكان سكوته على أربع حالات؛ الحلم، والحذر، والتقدير، وكان لا يغضبهُ شيء ولا يستفزّه، لا يغضبهُ شيء كالجبل الأشمّ، راسخٌ كالجبل، بينما المعرضون عن الله عز وجل يقيمون الدنيا في البيت، ويقعدونها لأتفه سبب، كان لا يغضبهُ شيء ولا يستفزّه، خدَمَهُ أنسُ ابن مالك عشر سنين إلى أن توفّاه الله تعالى، فقال أنس بن مالك: ما قال لشيءٍ فعلته لمَ فعلته؟ ولا لشيءٍ لم أفعلهُ لمَ لمْ أفعلهُ؟ وما عابَ طعامًا قطّ كان إذا اشتهاه أكله، وإن لم يشْتهِهِ تركه المؤمن الحق يشكر الله في السراء والضراء
وكان يقول في السرّاء: الحمد لله المنعم المتفضّل، وفي الضّراء: الحمد لله على كلّ حال، هذه هي سنّته في السرّاء: الحمد لله المنعم المتفضّل، وفي الضّراء: الحمد لله على كلّ حال، هذا نبيُّكم عليه الصلاة والسلام، كان يذكرُ الله في كلّ أحيانه، في الشدّة والرّخاء، وهو في أوْجِ نجاحه التجاري، هناك أُناسٌ إذا نجحوا في التجارة، وباعوا أصنافهم بأرباحٍ طائلة، أخذهم الكِبْر، فصاروا يسخرون من الناس، يذكرُ الله في كلّ أحيانه، في ظفره، ونجاحه، وضعفه، ومرضه، وصحوه، وغناه، وفقره، يا محمّد أَتُحِبّ أن تكون نبيًّا ملكًا أم نبيًّا عبدًا؟ قال: بل نبيًّا عبدًا، أجوع يومًا فأذكرهُ، وأشبعُ يومًا فأشكرهُ.
وكان يسلّم على العبيد والصّبيان، وكان يمازحُ الصغير، ويلاعب الوليد، كان يمشي على ركبتيه ويديه، ويضع الحسن والحسين على ظهره، ويقول: "نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما"، يلاعب الصغير، من كان له صبيّ فليتصاب له قيمة الإنسان في أخلاقه
الذي يضربُ الصبيّ الصغير دون الخامسة، هذا ليس مؤمنًا، هذا لا يفهم، وهذه قسْوَة قلب، لاعِبْ ولدَكَ سبعًا، وأدِّبْهُ سبعًا، وراقبهُ سبعًا، ثمّ اتْرُك حبله على غاربه، من سنة لسبع سنوات ملاعبة ومؤانسة ومودّة، ومن السنة السابعة للرابعة عشرة تربية ومحاسبة، ومن السنة الرابعة عشرة إلى الواحد والعشرين مراقبة، لأنّه صار مراهقاً، وبعدها يصيرُ ندًّا لك كان يمازح الصغير، يا عُمَير ما فعلَ النُّغَير؟ طائر اسمه النغير، وكان يمازحُ الصغير، ويلاعب الوليد، ولا يقول إلا حقًّاً، وكان رؤوفًا رحيمًا ليِّنًا هيِّنًا شفيقًا رفيقًا لطيفًا، قال تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

ما قيمة المال أيّها الأخوة مع الفظاظة والقسوة واللّؤم؟ قيمة الإنسان في أخلاقه، كلّ شيءٍ يزول ويبقى الخلق الحسن، روى الحسن عن أبي الحسن عن جدّ الحسن أنّ: "أحسن الحسن الخُلُق الحسن".

النبي الكريم نموذج للكمال الإنساني :

أيها الأخوة الأكارم، هذا الكلام عن سيّدنا رسول الله ذو شُجون، ولمْ ينتهِ في جلسةٍ أو جلستَين، إنّه نموذجٌ للكمال الإنساني، إنّه قدوةٌ لنا، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

من رضي بِقَضاء الله جرى عليه وكان له فيه أجر :

يا أيها الأخوة الأكارم، قيل لسيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: إنّ أبا ذرّ يقول: المؤمن يتكل على حسن اختيار الله له
"الفقر أحبّ إليّ من الغنى، والسُّقم - المرض - أحبّ إليّ من الصحّة، فقال سيّدنا عليّ رضي الله عنه: رحِمَ الله أبا ذرّ، أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله له لمْ يتمنّ أن يكون في غير الحالة التي اختارها الله له"، وُلِدْت في هذا الزمان فالحمد لله، ومن أبَوَين فقيرين الحمد لله، ومن أبوين غنِيَّين الحمد لله، من أسرة راقية الحمد لله، ومن أبٍ جاهل الحمد لله، كانتْ الصحّة ليسَت على ما يرام الحمد لله، هناك قصور في الكبد الحمد لله، أيّة حالة من ولادتك، ومن نشأتك، ومن بيئتك، ومن ظروفك، ووراثتك، ومن محيطك، ووضْعِكَ المالي، ومن أصحاب الدَّخل المحدود؛ الحمد لله رب العالمين، ومن أصحاب الدَّخْل غير المحدود الحمد لله رب العالمين، زوجتي جيّدة الحمد لله، سيّئة هذا حُسن اختيار الله لي، لعلّي أرقى بها فأدخل الجنّة من اتَّكَل على حُسن اختيار الله له لمْ يتمنّ أن يكون في غير الحالة التي اختارها الله له.
وقال هذا الإمام الكريم سيّدنا عليّ رضي الله عنه: "من رضي بِقَضاء الله جرى عليه وكان له فيه أجر، ومن لمْ يرض بِقضاء الله عليه جرى عليه وقد أحبط الله عمله"، فلابدّ من أن يجريَ قضاء الله تعالى كلمة لو تفتح عمل الشيطان
مثلاً حينما يلتهب السِنّ لابدّ من قلعه، فإذا قبلْتَ حقنة التخدير المؤلمة حين دخولها اللثّة، إن قبِلْتها قبِلْتها، وإن لم تقبلْها فلابدّ من أن تدخل، هذا الألَمُ لابدّ منه، لأنّ هناك معالجة، وهناك حالات لابدّ من أن يتألّم الإنسان، فإن رضي بهذا الألَم كان له أجر، وإن لم يرض به كان عليه الوزر.
سيّدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لأن يعضّ أحدكم على جمرة حتى تُطفأ خيرٌ له من أن يقول لأمْرٍ قضاه الله: ليْتَ هذا لمْ يكن، ولكنّ المؤمن عليه أن يقول: قدّر الله وما شاء فعل، فإنّ كلمة لو تفتحُ عمل الشيطان".
أيها الأخوة المؤمنون، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

دودة القز :

أيها الأخوة المؤمنون، ربنا سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾

[ سورة الذاريات: 20]

دودة القزّ يُسمّيها العلماء ملكة الأنسجة بلا منازع، إنّ هذه الدودة يا إخوة الإيمان لعابها إذا لامسَ الهواء تجمَّد فصارَ خيطًا حريريًّاً، هذا اللّعاب مطليّ بِمَادّة بروتينيّة، يُعطيهِ لمعانًا لؤلؤيًّا، يعطي الخيط لمعاناً لؤلؤيّاً، وهذه الفراشة تستطيع أن تنسجَ ستّ بوصات في الدقيقة الواحدة، وطول خيطها ثلاثمئة متر مستمرّ، وكلّ ثلاثمئة وستّين شرنقة تساوي قميصًا حريريًّا واحدًا، فكَمْ وزْنُ هذا الحرير؟ شيءٌ حتّى الآن لمْ يستطع الإنسان أن يقلّد خيطَ الدودة، ثلاثمئة وستّون ضرب ثلاثمئة وستّين يساوون قميصًا لا يعادل وزنه مئة غرام، هذه الشَّرْنقة أيّها الأخوة عدُّوا خمساً وعشرين ألف شرنقة تساوي رطلاً من الحرير، فعشرة آلاف شرنقة يساوون كيلو حرير واحد، ووزنهُ خفيف، وهو أمتنُ من الفولاذ، بِمَعنى لو أمكن أن يسحب الفولاذ بقُطر خيط الحرير لكان خيط الحرير أمْتن من الفولاذ، جميلٌ، وبرّاقٌ، ومتين، وخفيف، وهذا من صُنع الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة النمل: 88 ]

دودة القز ملكة الأنسجة بلا منازع
هناك فراشٌ يصنع الحرير الذّهبي، إن شئتَ حريرًا فضِيًّاً، لؤلؤيّاً تمامًا، وإن شئْت حريرًا ذهبيًّا كالذهب تمامًا، لون طبيعي، لا يتأثّر بالشمس، ولا يحتاج إلى تثبيت، لونٌ ثابتٌ كالذّهب، ولونٌ ثابتٌ كاللّؤلؤ، وكلّ خمسة وعشرين ألف شرْنقة تساوي رطلاً واحدًا، أيّ كلّ عشرة آلاف شرنقة تعدل كيلواً واحداً، فالقميص يحتاج إلى ثلاثمئة وستين شرنقة، والشّرنقة فيها ثلاثمئة متر، ما هذا الحرير؟ لُعابُ دودة القزّ، إذا لامسَ الهواء صارَ خيطًا حريريًا، صُنْعُ مَن؟ وتقديرُ مَن؟ ترتيبُ مَن؟ بينما العنكبوت تنسجُ خيوطًا بعضها متين جافّ، لبِناء البيت، والبعض الآخر ليّن لزِج لاصطياد الحشرات، والتي تنسجُ البيت هي الأنثى، قال تعالى: العنكبوت تعتمد على أحدث معطيات الهندسة في بناء منزلها

 

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾

 

[ سورة العنكبوت : 41]

يُبنى بيتُ العنكبوت على أحدث معطيات الهندسة، يُبنى على شكل أشعّة الشمس، مركزٌ وخطوط شُعاعيّة، وخطوط دائريّة، الخطوط الدائريّة تحافظ على المسافة بين الأشعّة، والشّعاعيّة تنطلق من المركز، وتثبّت في أطراف الجدار، هذا هو البيت؛ من خيوطٍ متينة جافّة، وهناك خيوطٌ أخرى بمثابة الشّباك، تنسجها العنكبوت لزِجة، تهتز فتعرفُ أنّ الشبكة قد صادَتْ، تأتي العنكبوت فتجرحُ الحشرة، تبثّ فيها السمّ، ومع السمّ مادّة مذيبة تصبحُ أحشاؤها كلّها سائلةً، تمتصّ هذا السائل، تأكل عصيرًا فقط، قال تعالى:

﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة النمل: 88 ]

التفكر في خلق السموات و الأرض :

أيها الأخوة الأكارم، هذه الآيات التي بثّها الله في الأرض من أجل أن نعرفه، من أجل أن نعرف عظمته، علمهُ، ورحمته، خبرته، قدرته، غناه، أسماء الله الحسنى كلّها يمكن أن نستشفّها من خلق السموات والأرض، قال تعالى:

﴿ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾

[ سورة فاطر: 28 ]

آيات الله عز وجل بين أيدينا لنتفكر بها ونعرف الله تعالى
قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

يتفكّرون هو فعل مضارع يفيدُ الاستمرار، هو واقفٌ، وجالسٌ، وقاعدٌ، وفي عمله، وبيته، ومع أصحابه، وهو يعمل عملاً، وهو يستمتع متعةً، قال تعالى:

﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

..
أيها الأخوة الأكارم، فكّروا فيما حولكم، وفكّروا في خلقكم، وفي أنفسكم، وفي أولادكم، وفي حاجاتكم، وفي هذا الصوف من أين جاء؟ خيطُ الصوف يبقى في أعلى مستوى، خيطٌ مفرّغ، ذو طولٍ محدّد، والخيوط الصّناعيّة اليوم تقلّد خيط الصوف في طوله، بإمكان الآلات الحديثة أن تصنع خيطًا مستمرًّاً، ولكنّ الخيط المثالي هو الخيط الذي بطول خيط الصوف، فإذا نُسِجَ وحُبِكَ كان فيه مرونة، هذه المرونة تُريح الذي يرتدي هذه الثياب.
أيها الأخوة الأكارم، آيات الله عز وجل بين أيدينا، وفي بيوتنا، وفي أعمالنا، وفيما حولنا، في السماء والأرض، وفي الطول والعرض، في كلّ شيء، وفي كلّ شيءٍ له آية تدل على أنّه واحدُ، هذا الفكر لا ينبغي أن تعطّله، ولا أن تسخّره لأهدافٍ بسيطة، صغيرة، ساذجة، سخيفة، إنّه خلقَ ليُعرف الله به، شرِّفْه بِمَعرفة الله، ولا تدنِّسه بالكيد للناس.

الدعاء :

اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيْت، وتولَّنا فيمن تولّيْت، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور