وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة النمل - تفسير الآيات 73 - 75 الكون مسخر للإنسان. مراتب الشكر - علم الله شامل.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الخامس عشر من سورة النمل.


الكون كلّهُ مُسخَّر للإنسان:


 وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: 

﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ(73)﴾

[  سورة النمل ]

 هذه الآية تُذَكِّرنا بآية أخرى، وهي قوله تعالى: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)﴾

[  سورة النساء ]

 كلمة إنْ شكرتم وآمنتم تُثير التَّساؤل؛ لماذا إن شكَرْتم وآمنتم من كلّ صِفات المؤمنين؟ لماذا يتوقّف العذاب إن شكرتم وآمنتم؟ الجواب؛ لأنَّ هذا الكون كلّه؛ وكلمة كلُّه أحْدَث رقم أنَّ هناك مليون ملْيون مجرَّة بِكُلّ مجرّة تقريباً مليون ملْيون نَجم، أبْعد رقم وصلنا له ستَّة عشر ألف مليون سنة ضَوئيّة، المجموعة الشَّمسيّة كلّها نقطة في درْب التَّبانة والأرض نقطة إلى جانب الشمس، وبعض النُّجوم يتَّسع للأرض والشَّمس مع المسافة بينهما أقول لكم: الكون كلّهُ مُسخَّر لهذا الإنسان لماذا؟ هذا السؤال الدقيق في قوله تعالى:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[  سورة القيامة ]

 ألا توجد هناك مَسْؤوليَّة؟ ألا يوجد هناك حِساب؟ ألا توجد هناك تَبِعة أو عِقاب؟ ألا يوجد دَفْع ثمنٍ؟ هكذا تفعل ما تشاء، وتأكل ما تشاء، وتكسب من مال الناس ما تشاء، وتنفق ما تشاء، وتنظر إلى من تشاء، وتسْتمتِع بِمَن تشاء.


هذا الكون العظيم سخَّرهُ الله تعالى للإنسان تسخير تعريفٍ بِذاته وتسْخير تكريم:


 هكذا قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ؟ 

 وقال تعالى:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 الكون كلّه مسخَّر لهذا الإنسان وسيحاسب، أضرب مثلاً: جامعةٌ فيها أبْنِيَةٌ ومنشآت ومُدَرَجَات ومخابِر وحدائق ودورٌ للسَّكَن وأساتذة، يعني جامعة كلفتها ألوف الملايين وفيها طلاَب يتقاضَون رواتب، والسَّكَن مجاني، والطعام جيّد، والمحاضرات، ووسائل الإيضاح، والأجهزة، والمخابر، كلّ هذا من دون امْتِحان؟! يكفي أن يأتي الطالب إلى هذه الجامعة، ويأخذ درجة عليا من دون امتحان!! الدوام كيفي يا تُرى؟ التعامل كيفي مع الأجهزة؟ ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

هذا الكون العظيم المُسخَّر لهذا الإنسان سخَّرهُ الله له تَسْخيرين؛ تسخير تعريفٍ بِذاته، وتسْخير تكريم، ماذا ينبغي أن يكون ردّ الفِعل؟ إذا أكرمك أحدهم ودعاك لإفطار في رمضان، أقلّ كلمة تقول له: شُكراً! فإذا الإنسان تلقَّى معروفاً من إنسان، فالله عز وجل منَحَكَ الوُجود، أحياناً أرى كتاباً مطبوعاً بالثَّلاثينات أو العِشرينات يخطر بِبَالي خاطر، أنَ هذا الكتاب حينما ألَّفَهُ المؤلّف، وصفَّ حروفه الطابع، وحينما طُبِعَ، ماذا كنت أنا؟ لم أكن شيئاً إطلاقاً.


موضوع الشُّكر موضوع أساسي في حياة الإنسان:


 قال تعالى: 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

[  سورة الإنسان ]

 نحن جميعاً، في سنة ألف وتسعمئة لم يكن مِنَّا أحد على قيد الحياة، لم يكن لنا وُجود إطلاقاً، فهذا الإله العظيم الذي منَحَكَ نِعمة الوُجود، لم تكن شيئاً مذكوراً، وأوْجَدَكَ بِأحْسن قِوام، قال تعالى: 

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)﴾

[  سورة التين ]

 ثمانمئة ألف لون أخضر مدرَّجة في عَينِكَ البشريّة، والعين تُفرِّق بين درجتين، والله تعالى جعَلَ لك سمعاً، وجعل لك ذاكرة صَوْتِيَّة، وجعَلَ لك بصراً تدرك الألوان وتُدرك الحجوم؛ طول وعرض وعمق، بالعين الواحدة تدرك السطوح، بالعينين تدرك الحجوك، الشيء بِحَجمه الحقيقي، فالتَّحميض فَوْري! ترى مباشرة، قال تعالى: 

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)﴾

[  سورة البلد ]

 منَحَكَ نِعمة الوجود، ونعمة الإمداد، فالرِّئتان تحتاجان إلى الهواء وهو موجود، ومتوازن، ومنَحَك الماء والطعام والشراب والمأوى، أكرمك بالأم والأب، فَوُجودك سببه هذا الأب وهذه الأم، وهذا العطف الشديد الذي جَعَلَهُ الله في قلْبَيْهِما، فلذلك موضوع الشُّكر موضوع أساسي في حياة الإنسان، من هو الكافر؟ هو الذي ردّ على هذه النِّعم بالجُحود، وردّ عليها بالمَعْصِيَة. 


الإنسان أمام مُهِمَّتين مهمّة المعرفة و مهمة الشكر:


 قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ بالدَّرجة الأولى أنت أمام مُهِمَّتين، مهمّة أن تعْرف، ومهمة أن تشكر فإذا صحا الإنسان يوم القيامة، والناس نِيام إذا ماتوا انْتبَهُوا، حينما تنقطعُ شهوات الدنيا التي تخدّر الإنسان؛ اليوم عنده سهرة، وغداً اجْتِماع، واليوم أُمْسِيَة لطيفة، واليوم عنده حفلة تعارف، اليوم عنده رحلة ووليمة، فهذه الشَّهوات مُخدِّرات، أما حينما يدخل الإنسان في قبره تصْحو نفسُه، فإذا عايَنَ الفضل الإلهي ورأى جحوده وكفرانه، ورأى معاصيه، ورأى أنَّه آذى عباد الله، عندئِذٍ يصيبه من الألم ما لا يعلمُه إلا الله، فالإنسان عليه أن يعرف قبل فوات الأوان، قلتُ مرَّة كلمةً في محاضرة: طوبى لِمَن عرف الله قبل فوات الأوان، أما عند الموت فَفِرْعون قد عرف الله قال: 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[   سورة يونس  ]

وأيّ كافر، قال تعالى:

﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾

[  سورة ق ]

 القضية سهلة، ما تعرفهُ عند الموت لا بدّ من أن تعرفهُ، ولكنّ البُطولة أن تعرف هذا الآن وأنت مُعافى، وأنت صحيح، وأنت شحيح، أنت تأمل الغنى وتخْشى الفقْر، مسْتمتعٌ بِقُوتك وسمعك وبصرك وبِشَبابك، هذا هو وقت المعرفة. 


الإنسان له فِطرة عالِيَة فإذا كشَفَ بعد فوات الأوان أنَّهُ جحود وكفور يتألَّم ألماً شديداً:


 أحياناً الإنسان بعد الخمسين والسَّبعين يصبحُ مُحِبّاً للجوامع والمساجد، طبعاً هذا السن مناسب، ولكن البطل والذي له عند الله عز وجل مكانة كبيرة، وأنت صحيح شحيح، وأنت معافى، وأنت غنيّ، ومتفرِّغ، وشاب، من هنا قيل: ريح الجنَّة في الشباب.

 ثمّ هناك نقطة مهمة جداً، وهي أنَّ الإنسان لمَّا يتعرّف إلى الله في سِنّ متأخِّرة تكون حياته ترتَّبَت على ترتيب غير طاعة الله تعالى، يُعاني مشكلاتٍ مع زوجته، مع أولاده، من حرفتِهِ، من عملهِ، لأن كله ترتب ترتيباً على خلاف الأصول، أما إذا عرف الله عز وجل في وقت مبكِّر، وهو شاب سيكون زواجهُ إسلامياً وعملهُ صحيحاً، وعلاقاته كلّها صحيحة، فلذلك الذي يقوله الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ منَحَكَ نِعمة الإيجاد، ومنَحَك نعمة الإمداد، هو رب العالمين، ومنحَكَ نِعمة الإرشاد، فالكون يُعَرِّفك به، وكذا العقل والفِطرة، والأنبياء يُعَرِّفونك، والكتب تُعَرِّفُك، والدعاة يُعرِّفونك، والحوادث تُعرِّفُك، والإلهامات تعرِّفك والرؤى تُعَرِّفُك، أنت مُحاصَر أيْنما ذَهَبْت لله آيةٌ تدلّ على أنَّهُ واحِدُ، فإذا عرفْت أنَّ الله هو الحقيقة الأولى والأخيرة في الكون يجب أن تتعامل معه تعامل الطاعة والعبادة فهذا الفضْل، والحقيقة أن الإنسان له فِطرة عالِيَة، إذا كشَفَ بعد فوات الأوان أنَّهُ جحود وكفور، وردَّ على إحسان الله بالإساءة لِعِباده، وأنَّهُ ردَّ على هذا الكون العظيم بإنكار آياته، وأنَهُ ردَّ على إمداد الله بفضله الجزيل بالإساءة إلى خلقه، إذا كشَفَ لؤْمَهُ وجحودهُ وكفرانه، يتألَّم ألماً شديداً.  


على الإنسان أن لا يعيش لحظته فقط بل يجب أن يعيش للمستقبل:


 وردَ في بعض الأحاديث:

((  إنَّ العار ليلْزَمُ المرءَ يوم القيامة حتى يقول يا ربّ لإرْسالكَ بي إلى النار أيسرُ عليَّ مِمَّا ألقى، وإنَّه ليَعْلمُ ما فيها مِن شِدَّة العذاب  ))

[ الهيثمي في مجمع الزوائد بسند ضعيف ]

 هي ساعة صَعبةٌ جدّاً، والإنسان عليه أن لا يعيش لحظته فقط، فالذي يعيش لحظتهُ إنسان غبيّ، يجب أن تعيش للمستقبل، ماذا ينتظرني؟ مهما عشتَ، فالأنبياء ماتوا، والملوك ماتوا، والأطِبَّاء ماتوا، والعظماء ماتوا، والأغنياء ماتوا، والأقوياء ماتوا، ماذا ينتظرني؟ هل تنتظرون إلا غِنًى مُطْغِياً؛ هذا الغِنى من دون عِلم وبالٌ على الإنسان. وعِزَّتي وجلالي إن لمْ ترضَ بما قسَمْتُهُ لك فلأُسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالكَ منها إلا ما قسمْتُهُ لك ولا أُبالي وكنت عندي مذموماً.

 الغِنى المطغي مُخيف، مالٌ وفير، والعلم غير موجود، شَهَواتٌ يقظة، وفِتَن يقظة، ومال وفير تفعلُ به ما تشاء، فهذا الغني مُطْغٍ، فإذا الإنسان وُفِّق بعَملهِ التِّجاري، وما حصَّل علماً دينياً يطْغى! لذا العِلْم حارس، قال له: يا بنيّ، العِلْمٌ يحرسُك، وأنت تحرس المال، فبالعِلم تَجْلب المال، وبالجهل تُبدِّدُهُ، وبالجهل تأكل مالاً حراماً، فتستحق العقلب الإلهي ويتبدد كل مالك، وبالجهل تعتدي على أعراض الآخرين فَيُعْتَدَى على عِرْضك وتنشأ مشكلة كبيرة، ويمكن أن يكون هناك جريمة أو طلاق أو تشريد أولاد، بسبب الجهل، فأحياناً يقول لك أحدهم: ضاق خلقي! حتى يحضر درس العلم، فيستفيد ويشعر أنه ممتع! القضيَّة أخطر من ذلك، ليست قضية قبول الدرس أو عدم قبوله، وإنَما القضيّة مصيريّة وأساسية في حياة الإنسان، فأنت أمام أمرين إما أن تكون عالماً، وإذا علمْتَ تنجو من عذاب الدنيا والآخرة، وإما غير عالم فلا بدّ من أن تغلط، مثلاً السيارة تسير إذا لم تكن يدك على المِقْود، وعينك مُفتَّحَة، فلا بدّ من حادث مليون بالمئة!!

 أنت إنسانٌ متحرِّك، ولسْتَ إنساناً ساكناً، ما الذي يُحَرِّكك؟ الشَّهوات، إذا كنت جَوعان فلا بدّ أن تأكل، ومن أجل أن تأكل تحتاج إلى مال، وهناك جوع من نوْعٍ ثانٍ للمرأة، فإمّا أن يكون الزَّواج طريقاً مَشْروعاً، وإما أن يكون الزّنى، ولا حلّ ثالث، إما الكسب الشريف النظيف، وإما كسب منحرِف، تجد سرقات، ومن هو السارق؟ الذي يريد المال ولكن من طريق غير مشروع، ومن هو الزاني؟ إنسانٌ يلبِّي رغبة نفْسهِ من طريقٍ غير مَشْروع، فَبِالعِلْم تُلَبَّى هذه الحاجات من طريق مشروع، وبالجهل تُلَبَّى من طريق غير مشروع، وبالطريق المشروع هناك نماء، وأمْنٌ، وصيانة، ورقيّ، وبالطريق غير المشروع هناك فضائح، وتدمير، وهلاك، وعقاب، ومشكلات كبيرة جداً، حينما تعرفُ أنَّ هذا الإله العظيم سخَرَ لك هذا الكون، معنى ذلك أنَّ هناك مهمَّة كبيرةً مَنُوطةٌ بك، ومعرفة هذه المهمّة قبل طعامك وشرابك وقبل حاجاتك الأساسيَّة، ويجب أن تعرف لماذا أنت هنا؟


فضل الله على الإنسان يتجلى في كل عضو من أعضائه:


 قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ له فضْل الوجود وفضل الربوبيّة وفضل الألوهية، خلقَكَ في أحسن تقويم، وأجهزة تامَّة، وعقل، وإدراك، وتصور، ومحاكمة، وذاكرة، وإحساس، وأعصاب حِسّ، وأعصاب حركة، ومنعكَس شرطي، وجهاز دوران، وجهاز هضْم، وجهاز فرز فضلات، وجهاز تعرّق، وعضلات مُخطَّطة، وعضلات ملْساء، عضلات من نوعٍ ثالث، فالقلب وحدهُ نوع من العضلات، طبيبُ قلبٍ من ألْمَع أطِبَّاء القلب قال لي كلمة من يومين: والله علماء الأرض، لو اسْتمرّوا في البحث عن عجائب القلب إلى يوم القيامة لا ينتهون، فقد دُعينا إلى مؤتمر أربعة آلاف وخمسمئة محاضرة، هذه المحاضرات كلّها فيما هو جديد في أمراض القلب، دسَّاماته اخْتِصاص، وعضلته اخْتِصاص، وترويتُه اخْتِصاص، وكهرباؤه اخْتِصاص، اختصاص قائم بذاته، أعطاك الله قلباً يعمل ليل نهار من دون كلل ولا ملل ولا مراجعة، ومن دون استراحة، منذ أن تدبّ الحياة في هذا الجنين وحتى يحين الحين، ويضخ لك ثمانية أمتار مكعَبة من الدَم في اليوم!! ويضخّ بالحياة ما يملأ أكبر ناطحة سحاب في العالم! والشريان التاجي له دسَّام يُغلق بإحكام ويفتح بِطَلاقة، وأنت لا تدري، وجعل الشرايين كلّها كالقلوب، يقول لك شريان مرِن، لمَّا تأتي ضغطة قلب يتجاوَب معها ولمَّا يتجاوب يرجِع الضّغط بِمُرونته ويمشى الدَّم، ويصير كلّ شريان قلباً آخر، وأنت لا تدري! في جسمك مئة وخمسون كيلو متر من الأوعيّة الدَّموية والأوردة والشرايين والشّعريات وأنت لا تدري، وبِكُلّ ميلي متر مكعّب خمس ملايين كريّة حمراء، اثنان ونصف مليون كريّة تموت في كلّ ثانية، واثنان ونصف مليون كريّة تولد في كلّ ثانيَة وأنت لا تدري، وعندك جِهاز المناعة الذي هو شُغل العالم الشاغل، عندك كريَّات بيضاء لها مراكز وقواعد عَسْكريّة، يدخل جرثوم؛ هناك نوع من الكريات يفْحص الجرثوم ما نوعه؟ هذا مستطلِع ويأتي بالمعلومات، وهناك نوع ثانٍ يُصنِّع المصول في العقد اللَّمْفاوِيَة، وهناك نوعٌ ثالث يُحارب، الكريات الحمراء قسم اسْتِطلاع، وقسم تصنيع، وقسم حرب، مرض الإيْدز ما هو؟ تعطُّل هذا الجِهاز، ففي الدم كريات حمراء وكريات بيضاء، وهناك صفائح دَمَوِيَّة للتَّرميم.  

أتَحْســبُ أنَّكَ جُرْمٌ صغير  وفيك انْطَوَى العالم الأكبر

*** 


خلق الله للإنسان ليس عبثاً:


 أنا أعرف أن هناك ثلاثمئة ألف شعرة بالرّأس، البارحة كنت أقرأ فتبين أن هناك مليون شعرة بالجسم كلّه! لكلّ شَعرة وريد، وشريان، وغُدَّة صبغِيَّة، وغدّة دَهْنِيَّة، وعضلة، وعصب، أحياناً تقول: وقف شعر بدني! من الذي وقَّفَهُ لك؟ هناك عضلات، عضلة، وعصب، ووريد، وشريان، وغدَة دهنيّة، وغدَّة صبغيّة، مليون شعرة موجودة في جسمك، وأنت لا تدري، فأَنْ يعيش الإنسان هملاً على هامش الحياة؛ أكلْنا، وشرِبْنا، وسَهِرنا، وقعدنا، ولعبنا النرد، وشاهدنا الفيلم الفلاني، وأكلنا مالاً حراماً، وحصلنا أموالاً بأسلوب ذكي!! ما هذه الحياة؟ حياة فوضى كلها، لذلك قال الله عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾

 وقال تعالى: 

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 وقال أيضاً: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ أنا أقول لكم: والله إذا كشَف الإنسان فضل الله عليه ولُؤمهُ يتمنَّى لو تُسوَّى به الأرض، ويتمنَّى لو يُسْحق، أهذا هو موقف الإنسان؟ هذا الذي يؤذي الناس، والله تعالى أنعمَ عليه بالسَّمع، والبصر، والعقل، والعضلات، وهو يؤذي الناس هذا يجب أن ينْسحِقَ سحقاً حينما يعرف الحقيقة، فالناس نِيام إذا ماتوا انتبهوا، والبطل من يُعِدّ لهذه اللَّحظة التي تُراجعُ فيها الحِسابات.


الله تعالى له فَضْل على الناس وفضلهُ عليهم بأنَّهُ منَحَهم فرْصةًً للتَّوبة وفرصةً للتَّفَكُّر:


 العلماء قالوا: من معاني هذه الآية أيضاً أنْ يمْهلَ الإنسان، ويعطيهِ فرْصةً، تجد إنساناً كافراً لا يصلي، ومؤْذياً، ويتحدَى الإله أحياناً، ومع ذلك يأكل ويشرب، وتجد قلبهُ ينبض، وكذا حركاته وعضلاته، الله عز وجل له فَضْل على الناس، وفضلهُ على الناس بأنَّهُ منَحَهم فرْصةً؛ فرصةً للتَّوبة، وفرصةً للتَّفَكُّر، والله عز وجل يمهل ولا يهمل.

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ ما هو الشُّكر؟ الشُّكر في أدقّ التعريفات أنَّك إن عرفْت أنَّ هذه النِّعمة من الله فهذا أحد أنواع الشُّكر، كأن تجد نفسكَ في صِحَّة طيبة، هذه الصِّحَة ليست صدفةً؛ السكر مضبوط، وكذا البول والأوريك، الكولسترول، الشحوم في الدم، تحلِّل تجد كلّ شيء طبيعيّاً، أما إن ارتفع الكولسترول حدثت مشكلة، إذا ارتفع الأوريك حدثت مشكلة، وكذا السكر، فأنت إن عرفْتَ أنَّ هذه النِّعمة من الله عز وجل، فهذا أحد أنواع الشُّكر، ولو أنَّك دخلْتَ بيْتَكَ، وقد مكَّنَكَ الله من شراء هذا البيت، فقد يكون البيت أجرةً، ولكن لك مأوى ومعك مفتاح البيت، ولديك سرير، وحمام لتستحم، ومطبخ، وزوجة وأولاد، إذا عرفْت أنَ هذه النِّعَم من الله فهذا أحد أنواع الشُّكر، هذا الحد الأدنى لِمُجرّد أن تعرف أنَّ هذه النِعمة من الله فهذا لَوْنٌ من ألوان الشُّكر، فالواحد لا يغفل عن هذا! إذا أكلتَ أكلةً طيّبة وقلت: الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فقد شكرت، إذْ هناك من يأكل بالسيروم وكلّ ليلة بِعَشرة آلاف! أو كل ليلة بألف ليرة، وهناك من هو مَمنوع من الطَعام ولا يُسْمَحُ له إلا بأكل أطعمةً محدودة جداً كالخضر المسلوقة، وكلها دون ملح، أنت تأكل مع ملح، وأكلات تحبها ومسرور، هذه نِعمة أيضاً، إذا كانت لك زوْجة صحيحة، هناك زوجة يكون لديها أمراض عضال فيدفع زوجها كل ما يملك لعلاجها، زوجة صحتها طيبة، وعندك أولاد بِصحّة طيّبة، إذا دخلْت إلى البيت، وقلت الحمد لله على هذه النِّعمة، الله تعالى قال:  

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)﴾

[  سورة إبراهيم ]

 إن وجدَكَ شكوراً يزيدُك من فضْله، وقال تعالى: 

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(11)﴾

[  سورة الرعد ]


يجب أن تؤمن وأن تشكر وأوَّل درجة بالشكر أنْ تعرفَ أنَّ هذه النِّعمة من الله:


 إذا كنت في بَحْبوحة، ونِعْمة، وراحَة بال، وسلامة نفْس، بصحة طيبة، وبِوفاق زوجي، وعلاقة طيّبة مع الأولاد، وكلّهم أبرار، فهذا من نِعَم الله الكبرى، وهذه يجب أن تشْكرها، وأن تكون ملء سَمْعِكَ وبصرك لأنّ الله تعالى قال: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)﴾

[  سورة النساء ]

 يجب أن تشكر، ولن تشكر إلا إذا آمنْتَ، يجب أن تؤمن وأن تشكر، فأوَل درجة يكفي أن تعْزو هذه النِّعمة إلى الله تعالى، هذه ليست بذكائك، ماذا قال قارون؟ قال تعالى: 

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ(78)﴾

[  سورة القصص ]

 تجد أحدهم يقول: لو لم أكن على درجة لما أخذت هذا البيت، لو لم أدرس لما صرتُ بهذه المرتبة الاجتماعيّة! وهذا عرقٌ بذلْتُهُ في عمري!! كلّ هذا الكلام شِرْك، وكلّه كلام جَهل، الله عز وجل منَحَكَ نِعمة الصِّحة، وأعطاك عَقلاً ترْتَزِقُ منه، لو كان هناك خلل، لكان في مشفى الأمراض العقلية؟! ومن الذي يُدخلهُ؟ أولاده أو زوجته!! وبواسطة، هو الذي عمَّرَ البيت، وهو الذي رتَّبهُ، هو الذي صممه، ثم يدخله أولاده إلى مشفى الأمراض العقلية، هذا إذا صار هناك خلل بالعقل، والدعاء الشريف: ومتِّعْنا اللهمّ بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا، وعقولنا ما أحْييْتنا واجْعلهُ الوارث مِنَّا، لكنّ الله تعالى كريم، إذا أطاعه الإنسان في الصِّغر حفظه في الشيخوخة. 


الدّرجة الثانية أن تذكر الله وأن تحمده والحمْد شُعور داخلي بالامْتِنان من الله عز وجل:


 قال له: يا بنيّ، حَفِظناها في الصِّغَر فحَفِظها الله لنا في الكِبَر، ومن تعلَّم القرآن متَّعَهُ الله بِعَقله فلا يخرف، والمؤمن ما أحلاه! كلّما كبرَ بالسِّن كلَما ازْداد تألُّقاً، صار نجماً، ولا يعيد القصة مليون مرة، ويصبح يتدخل بكل شيء، لا، لأنه يقرأ القرآن، من تعلَّم القرآن متَّعَهُ الله بِعَقله حتى يموت، لا يخرج من بؤرة الاهتمام للهامش، وإنَما يبقى في الاهتمام، هناك من يتقدّم به السنّ، يَمَلّ منه أهله فيَهْربون منه ويضعوه في غرفة ثانيَة! وهناك من وُجوده مصدر سعادة الناس، ويتمنون أن يجلسوا معه، فهذا الذي حفظ نفسه لمّا كان شابّاً ما زنى، وما شرب الخمر، وما أكل المال الحرام، وغضّ بصرهُ عن النّساء، وحرَّر دخله، ولزم المساجد، وحضر مجالس العلم، وصلى، وصام، وزكَى، وذكر الله عز وجل، وخدم الناس، ودعا إلى الله، وأمر بالمعروف، هذا الجُهد الذي في الشباب هو في الشَيْخوخة وقار وعَقل، ومكانة اجْتِماعية، وشُعور بالسَّعادة، فأحدنا الطرق كلّها مفتوحة أمامه، ولا أحد أفضل من غيره، وفضل الله واسع ويسعُنا جميعاً، لا يسع الحاضرين فقط، يسعُ الأرض كلها، ويسعُ كلّ إنسان على وجه الأرض.

 الدرجة الثانية أن تشعر هذا الشُّعور بالامتِنان، هذا الحمد، فأوّل درجة أن تعرف أنّ هذه النِّعمة من الله، والثانية أن تشعر، وأن تُخاطب الله، يا ربّ لك الحمد والشكر على ما أنعمْتَ وفضَّلْت، دائماً المؤمن يلْهَج بالشُّكر حتى في المصيبة، وإذا أحبّ الله عبدهُ ابتلاه، فإن صبَرَ اجتباه، وإن شكر اقْتناه، ثلاثة أطفال يمشون بالطريق، أحدهم سبّ الدِّين أو كلّهم سبّوا الدِّين، فإن كان أحد الرجال أباً لأحد هؤلاء الثلاثة ينطلق حتى يربيه من محبته له، أما الثاني فلا، فلما ربنا عز وجل يؤدِّب الإنسان من محض محبّة، ومحض اهْتِمام، ومعناه أنه مطموع بالإنسان، وفيه خير، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبَرَ اجتباه، وإن شكر اقْتناه، فالحالة الثانيَة هي حالة الحمْد، والحمْد شُعور داخلي بالامْتِنان من الله عز وجل:  

هم الأحبة إن جـاروا وإن عدلـوا   فليس لي عنهم معْدلُ وإن عدلوا

والله وإن فتَتوا في حبّهـم كـبدي   باقٍ عـلى حبّهم راضٍ بما فعلوا

*** 


علامة الإيمان أن تحب الله لا في الرخاء فقط بل في الشدّة أيضاً:


 علامة الإيمان أن تحب الله لا في الرخاء بل في الشدّة، أحدهم كان يطوف على الكعبة وهو يقول: هل أنت راضٍ عني يا رب؟ فكان يطوف وراءه الإمام الشافعي فقال له: يا هذا، وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟! فقال: من أنت يرحمك الله؟ كيف أرضى عنه وأنا أتمنَى رضاه؟ فقال: يا هذا، إذا كان سُرورك بالنقمة كَسُرورك بالنِّعمة فقد رضيت عن الله، فإيمانك ليس على الرخاء، والصحَّة الطيّبة، والدَّخْل الكبير، وكلّ الأمور بخير، بالمصيبة الإيمان، يا ربّ لك الحمد، حديث:

((  عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. ))

[  أخرجه مسلم في مسنده عن صهيب  ]

 المؤمن أمره عجيب ودائماً يتلقّى الأمور من الله عز وجل على رِضى، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾

[  سورة البقرة ]


الدرجة الثالثة أن تعمل وأن تكون في خدمة عباد الله:


 المرحلة الثالثة بالشكر: أوَّل درجة من الشكر أن تعرف أنَّ هذه النِعمة من الله، والدرجة الثانيَة ذِكْر، قال: يا ربّ كيف أشكرك؟ قال: يا موسى إنَّك إن ذكَرتني شكَرتني، وإذا ما نسيتني كَفَرْتني، يتَّبع عبد الله ويترك الله؛ وهذا هو الشّرك، أما المؤمن لا ينسى الله. الأولى معرفة، والثانية شكر.

 أما الدرجة الثالثة فهي عمل، لقوله تعالى: 

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾

[ سورة سبأ ]

 نسأل الله أن يجعلنا مع الأقليّة الشاكرية لا مع الأكثريّة الكافرة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ على وضعك الحالي والدَّخل القليل، هذا هو الفضل، والله تعالى يكشف الغِطاء، فوالله الذي لا إله إلا هو حينما يُكْشف الغِطاء، حينما يُظهر الله لك ما ساقهُ لك في الدنيا من متاعب، وضيق مادّي، ومرض مخيف، وزوجة مُتْعِبة، وأولاد متعِبين، وجار سوء، وضياع أحياناً وخوف، وقلق، وحزن، خلل أصاب الجسم، لمَّا يبيّن الله لك لماذا ساق لك هذه المتاعب ويريك في الآخرة لماذا ساقها لك يجب أن تذوب أنت المؤمن أو أيّ إنسان أن يذوب مِثل الشَمعة محبّة لله عز وجل، أما سيّدنا عليّ فقد قال: والله لو كُشِف الغِطاء ما ازْدَدْتُ يقيناً، لأنَّه قبل كَشْف الغِطاء موقِن برحمة الله وحِكمته وعدالته وعَطْفِهِ ورأْفتِهِ. 


الإنسان بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله:


 لمَّا تقرأ قوله تعالى: 

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾

[  سورة ص ]

 النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قضى شيئاً قال: 

((  الحمد لله الذي أذاقني لذته، و أبقى فيّ قوته، و أذهب عني أذاه. ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 هذا علم، هذا الطَعام أذاقك الله لذَّته وما أكلته عن طريق السيروم! والتُّفاحة عضضْتها وتلذذت بِنُكهتها، أذاقك لذَتها، وأبقى فيك قوَّتها، فيه حيل وقوة، فقد أكل طعاماً دسماً، والثالثة: "وأْذهب عني أذاه"، فلا عمليّة جِراحيّة، ولا حصر بول بالمثانة، الطُّرق كلّها سالكة، أذاقك لذته، وأبقى فيك قوته، وأذهب عنك أذاه، هكذا علَمنا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته قال: الحمد لله الذي آواني وكم ممَّن لا مأوى له، اِذْهب إلى شرق آسيا، أجيال من الابن إلى الجد ينامون على الطّرقات، أما أنت فتسْكُن في البيت، ومعك مِفتاح بيت، لك سرير وهناك حمَّام ومطبخ، فنعمة المأوى لا يستهان بها، فالدِّرجة الثانية في الشكر أن ترى هذه النِعَمَ،و أن تشكرها.

 والدرجة الثالثة أن تكون في خِدمة عِباده، يرى أن الناس كلها عيال الله عز وجل، لا يوجد لديك تفرقة أبداً، فمستواك أرقى من ذلك، هذا إنسان عبد لله عز وجل، يجب أن تخدمه، يجب أن تسرّ أخاك وأن لا تُخيفهُ، لا تقْبلْ عملاً فيه تَخويفٌ للناس. 

(( لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّعَ مسلماً ))

[ سنن أبي داوود بسند صحيح ]

ولا تُحمِّر وَجهَ إنسان وتُخْجِلُهُ وتحاصره وتُضايِقه، وقد ورد:

(( الإنسان بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله ))

[ الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف وقال: غريب جداً ]

هذا الله خلقه فلا تخفه، ولا تبْتزّ ماله، ولا تعطه بِضاعة مَغْشوشة وتأخذ مبلغاً غالياً، ثمّ يقول لك: هذه شطارة!! أهكذا المؤمن؟ هذا أخوك بالإنسانية، تعب لاقتناء قرشاً تبيعُه شيئاً مغشوشاً، فإذا الإنسان ارْتقى إلى مستوى ثالث أصبحَ في خِدمة الخَلق، والخلق كلّهم عِيال الله، ولا يستطيعُ أن يؤذي إنساناً، ولا يغشّ إنساناً، يكفي أن تعطيه بضاعة من مستوى أدنى من طلبه، وتأخذ منه السعر على طلبه فقد غششته، وهناك غشّ بالوزن وغشّ بالنَّوع، وغشّ بالتاريخ، ينتهي المفعول! مثلاً وجد عنده بعض الأدوية انتهى مفعولها فيحك مكان التاريخ ويصرّف الأدوية، هكذا المؤمن! ليس هذا الإيمان، فأوَّل درجة بالشكر أنْ تعرفَ أنَّ هذه النِّعمة من الله، وليْسَتْ من ذكائك، ولا من جهدك والدّرجة الثانية أن تذكر، والدرجة الثالثة أن تعمل، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ هنيئاً لِمَن بلغَ الدرجة الثالثة، وشَعَر أنَّهُ خادمٌ للخلق أحياناً، فالخلق كلهم الله يحبهم، إذا أ{دت أن تتقرب من إنسان ممكن أن يكون ذلك عن طريق ابنه، والابن غالٍ على الاب، أحياناً تعطي ابنَ صديقك سكَّرة فيقول لك أبوهُ شكراً، أنت ما أعطَيْتها الأب، فلِمَ قال: شكراً؟ لأنَّه يعتبر هذا له، وكذا الحال إذا خَدَمْتَ عبداً مِن عِباده فهي لله عز وجل.


الإيمان نصفان بالسَّراء شكر وبالضَّراء صَبر وهذه مرتبة عالِيَة بالإيمان:


 قال تعالى:

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾

[  سورة البقرة ]

(( يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟   ))

[  أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]

 هذا هو الشكر، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ اِعمل جاهداً أن تكون شاكراً، والإيمان نصفان؛ نصف صبر، ونصف شكرٌ، بالسَّراء شكر، وبالضَّراء صَبر، وهذه مرتبة عالِيَة بالإيمان، أنت بلغْت درجة بحيث ترى أنَّ الله بيَدِهِ كلّ شيء، وأنّه لا يقعُ شيءٌ إلا بأمْر الله، والله اختار هذا الشيء الصَّعب فما عليّ إلا الصَّبر، وإن أعطاني فعليّ الشكر، فأنت بين الشُّكر وبين الصَبر، فالصبر صار نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر، فالواحد إذا أدَى صوم رمضان، ففي هذا الشَّهر تقريباً كلّ الناس صائمون، ولكن فرْق بين الصِيام كما أراد الله عز وجل، صيام كامل، الذي فيه الاستقامة التامّة، وغضّ بصر تامّ، وعدم سماع المُلْهِيات، ولسان صدوق، وتتقصَّى لكلّ أوامر الله عز وجل، وصلاة بإتقان والتراويح عشرون ركعة، لماذا تُصلّي ثماني ركعات فقط؟ 

((  َعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ  ))

[  الترمذي وأبو داود عن العرباض بن سارية ]

سيدنا عمر رضي الله عنه صلّى بأصحاب النبي التراويح عشرين ركعة! فهذه سنّة لا بدّ أن تُطبّق.  


على المؤمن أن يكون له عمل يبتغي به وجْه الله عز وجل:


 أحياناً يقضي الإنسان خمس ساعات بكلام لا معنى لهِ، ومن أجل الصلاة يقول لك: ثماني ركعات! خمس ساعات كلام كله غيبة ونميمة وكلام فاضي، من أجل أن تسْتمع إلى كتاب الله عز وجل يتلى عليك! أعلى درجة من درجات الثَواب أن تقرأ أو أن تستمع إلى كتاب الله في صلاة وأنت واقف، وأنت في مسجد، هذه هي التراويح، وإذا أُتيح لك أن تسمع القرآن كلّه في التراويح فهذا هو قيام الليل، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ أوّل درجة بالشكر المعرفة، والثانية الذِكر، والثالثة العمل، وإنّك إن ذكرتني شَكَرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني، الثالثة: قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ماذا قدَمت أنت؟ لدينا سؤال دقيق، قال تعالى: 

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(106)﴾

[  سورة التوبة ]

 سَلْ نفْسكَ هذا السؤال: ما العمل الذي أعْدَدْتُه كي ألقى الله به؟ ماذا فعلتَ من أجل الله؟ وماذا أعْطيت؟ وماذا منَعْت؟ وأيّ وقْتٍ بذَلْتَهُ في سبيل الله؟ وأيّ جهْدٍ بذلْتَهُ في سبيل الله؟ وأيّ خِبرةٍ قدَّمتها في سبيل الله؟ أيّ عِلْمٍ علَّمْتَهُ في سبيل الله؟ هل أمرْت بالمعروف ونهَيْت عن المنكر؟ هل رعَيت الأيتام والأرامل؟ هل كنت أباً مِثاليّاً؟ هل كنت زوْجاً مِثالِيّاً؟ ماذا فعلْت كي تلقى الله بهذا العمل؟ سؤال خطير، يمكن أن تأكل وتشْرب، تأكل كما يأكل العامّة من دون أجر! وهذا بحكم العادة، ولكنّ الأصل أن يكون لك عمل مركز تبتغي به وجْه الله عز وجل. 


كلما رجحَ عقلَكَ قلَّ كلامك:


 قال تعالى:  

﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ(73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(74)﴾

[  سورة النمل ]

 هناك شعور ورغبة في أن يمْدَحَك الناس وهذا معروف، وأحياناً يعمل الواحد عملاً صالحاً، ويكون إخلاصه ضعيفاً لله عز وجل، فهو إن دعا إلى وليمة أَلَحَّ؛ هل أعجبكم الطَّعام؟ من أجل أن يثنوا على هذه المبالغ الكبيرة المدفوعة في هذا الطعام، أما إذا كان الإطعام لله عز وجل فالأمر قد اخْتلَفَ، قال تعالى: 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً(9)﴾

[  سورة الإنسان ]

 كلما رجحَ عقلَكَ قلَّ كلامك، والله تعالى اطَّلَعَ على قلبك، وعرفَ إخلاصَكَ، وعرفَ محبَّتَكَ، فالإنسان عند الله تعالى مَكْشوف ويستطيع بِذكائه أن يتكلّم كلاماً مقبولاً، يقول لصديقات زوجته: تعالين واجلسن هنا فهو أكثر دفئاً، هن محرمات عليك وأنت لا تخشَ عليهن البرد، بل هناك محاولة منك للتعرف عليهن، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ 


الإنسان له أن يقول ما يشاء ولكنّ الله يكشِف حقيقته:


 لماذا زرْتَ فلاناً؟ لأنّك تعلم أنّ عنده اختلاط، قد تُحرج بِزَوْجته، اشتقت له، هل اشتقت له بالذات؟ أم هناك شيء آخر؟﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فالله عز وجل يعلم بالضَّبط أن رغبتك منحرفة وغير صحيحة، فالإنسان له أن يقول ما يشاء، ولكنّ الله يكشِفه على حقيقته، وهذه الآية محيفة، وتقْسمُ الظَهر، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ هذا عامل أتيت به وتقول له: أريد مشاركتك في المستقبل، فهل صحيح أنك تريد مشاركته أم عملية ترغيب ليعمل عندك؟ فهو مسكين صدقك وتفانى بالعمل، ولما كبر وجدت أنه ليس من مصلحتك مشاركته فضيقت عليه الخناق، هذا يكشفه الله من أوّل الوقت، يجب أن تعرف أن الله عز وجل يعرف أدق نواياك، فالشيء الذي لا يعلمه أحد يعلمه الله عز وجل، ويعلمُ ما يخفى عنك أيضاً، فالإنسان إذا تزوَّجَ، وإذا شارك، يشتغل مع شريكه ويقول الحمد لله هناك تفاهم، ويتعلم المصلحة منه ثمّ يقول له: انتهى ما بيننا!! ويصبح المحلّ كلّه باسمه سلفاً، لماذا باسمك؟ لانه لا فرق بيننا، هل فعلاً لأنه لا فرق أم يخفي نية أخرى؟ ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ في علاقته مع النّساء، وبِعَلاقته التِّجاريّة، وبِحَركاته، وسكَناته، أحياناً يستطيع أن يظهر الإنسان بِمَظهر أخلاقي وراقٍ، أما الحقيقة فالله يعرفها، ولا تستطيع أن تخدع الله.

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[ سورة النساء ]

أيّ شيءٍ غاب عنك الله سبحانه وتعالى يعلمه و هو مسجل في كتاب مبين:

 قال تعالى: 

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)﴾

[  سورة البقرة ]

 هذه الآية تكفي وحدها ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ "إنَّ" للتوكيد،﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ﴾ وكذا "اللام" هي للتوكيد، ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فالطبيب قد يقول للمريض وله مكانته وموثوق: تعال بعد شهر راجعني، فهل المريض يحتاج للمجيء أم فقط من أجل أن يبقى على صلة؟ فعندما يأتي سيدفع معاينة، الله يعلم، وكذا المحامي والمدرّس، "هناك أمل أن ينجح ابني؟ يقول المدرس: لا يوجد أما أبداً، فلماذا تقوم بالتدريس؟ من أجل أن يعطي دروساً خاصة باسعار مرتفعة،  إذاً هذه المِهَن منْ تَدريسٍ ومحاماة وطب وهندسة، تقول للتاجر: اختر لي أحسن بضاعة، فإذا به ينتقي لك أبْشع لون، أهكذا الدِّين والأمانة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ فالداخل معروف والظاهر معروف.

 قال تعالى:

﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(75)﴾

[ سورة النمل ]

 أيّ شيءٍ غاب عنك، حادثة وموقف، فالله سبحانه وتعالى يعلمها وفي كتاب مبين. 


كلّ إنسان يستطيع أن يخْدم أخاه من خلال عمله وحِرفتِه:


 آياتنا اليوم ثلاث، قال تعالى:  

﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ إذا الإنسان بدأ بطريق الشكر، وكلّ نِعمة يتمتَّع بها يجب أن يعرفها أنَها من الله عز وجل، ثمّ عليه أن يشكر الله تعالى عليها، ثم عليه أن يردّ عليها بِخِدمة الخلق، وكلّ إنسان يستطيع أن يخدم إخوانه من خلال عمله المهني، وكان السلف الصالح يفتحُ المحل التِجاري ويقول: نَوَيْتُ خِدمة المسلمين، إذا بِعْتَ الناس بضاعة جيدة، وبِسِعر معتدل، وكنت لطيفاً معهم، وما أرْهقْتهم فهذه خِدمة، لذا كلّ إنسان يستطيع أن يخْدم أخاه من خلال عمله وحِرفتِه؛ حتى إن كنت موظفاً فأتاك شخص من بلد بعيد، المعاملة تحت يدك، لمَ تؤجله للغد؟ هذا يعني انه سينام في الفندق لليوم التالي، اخدمه فيها، كَطَبيب، كمهندس، كمحامي، كمدرّس، كموظّف، كتاجر:  

((  التَّاجِرُ الأمينُ الصَّدُوقُ: مع النَّبيِّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداء. ))

[  أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري  ]

يقول النبي الكريم في بعض الأحاديث الشريفة:

((  إن أطيب الكسب كسب التجار؛ الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا.  ))

[  الجامع الصغير عن معاذ بسند ضعيف  ]

 لا أن يكون الكذب مع التنفس، مع كل نَفَس كذبة، يقول لك: بديني أنصحك، باع دينه بعرض من الدنيا قليل، (الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا) علّق شخصاً وأخذ منه عربون، وعلّق عشرة غيره، ولا ينهي على العيد إلا عملين ويقول لك لا يوجد مواد، يختلق كذبة يتستر بها، 

(وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا) هناك تجار كبار إذا رأَوا تاجراً شابّاً اشْترى صفْقة أخافوه ويوهمونه أن هذه الصفقة غير جيدة ولن تباع أبداً حتى يبيعها دون ربح. 

(وإذا باعوا لم يُطْروا) يقول لك: هذه أحْسن شيء بالعالم وهي سيّئة!! 

(وإذا كان لهم لم يُعَسِّروا، وإذا كان عليهم لم يمْطِلوا) ، فلا إمطال ولا تعسير، ولا ذمّ ولا مدح، ولا كذب ولا إخلاف وعد، وما أقلهم طبعاً، والآية الأخيرة: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ .

والحمد لله رب العالمين.

اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده نفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور