وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0736 - الذنوب2 ، أخطار الذنوب - فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم، رسول الله سيِّد الخلق والبشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

خطار الذنوب :

1 ـ الذنوب تقصِّر العمر و تمحق البركة :

 أيها الأخوة الكرام... بدأت في سلسلة خُطَبٍ عن أخطار المعاصي والذنوب، ووعدتكم أن أتابع هذا الموضوع في خطبةٍ قادمة، وهأنذا أفعل ما وعدتكم به.
 أيها الأخوة الكرام... المعاصي تُقَصِّر العمر، وتَمْحَق البركة، كما أن البرَّ يزيد في العمر، ويجلب البركة، ولكن حول هذه الكلمة بحثٌ طويل. عمر الإنسان أيها الأخوة لا يزيد ولا ينقص، في نص الكتاب والسُنَّة، ولكن قيمة العمر لا بمدته الزمنية، بل بمضمونه الأخلاقي، بل بمضمونه من العمل الصالح، فالعمل الصالح يزيد في مضمون العُمُر، يزيد في غِنى العمر، يزيد في جَدْوى العمر، ألم يقسم الله عزَّ وجل بعمر النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة الحجر:72]

 ولو أردنا توضيح ذلك لما وجدّتُ مثلاً أوضح من أن محلاً تجارياً يفتح الساعة الثامنة، ويغلق الساعة الثامنة مساءً، ويبيع بمئة ألف ليرة، فلو باع في الوقت نفسه بمليون، كأنّه فتح عشرة أيام، ما دام مبيعه الاعتيادي بمئة ألف كل يوم، لو جاءه بيعٌ في يومٍ واحد يزيد عن مليون، كأنه افتتح المحل لعشرة أيام قادمة. فزيادة العمر زيادة العمل الصالح، وهناك بعض العلماء له توجيهٌ طيّب لمعنى زيادة العمر: العمر الحقيقي عمر الإنابة إلى الله، عمر معرفة الله، عمر خدمة الخلق، عمر طَلب العلم، عمر تعليم العِلم، فهذا العمر الذي يقضيه صاحبه في أشياء لا تمتُّ إلى الآخرة بصلة عمرٌ ضائع، كما أن المحل التجاري الوقت المثمر له هو وقت البيع والشراء، أما وقت إصلاح الأعطال، وقت الترتيب، وقت حل المُشكلات، فهذا وقتٌ غير مثمر.
 فيا أيها الأخوة الكرام... كما أن الأعمال الصالحة تزيد في العُمُر، بمعنى أنها تزيد في مضمونه، تزيد في قوّته، تزيد في مردوده في الآخرة، كذلك المعاصي والذنوب تقصِّر العمر، وتمحق البركة منه، أيْ أنه عمرٌ مديد بلا عملٍ صالح، بل بآثامٍ ومعاصٍ يحاسب عنها الإنسان حساباً عسيراً.
 أيها الأخوة الكرام... العبد إذا أعرض عن الله عزَّ وجل، واشتغل بالمعاصي، ضاعت أيام حياته الحقيقية، التي يندم عليها أشدَّ الندم فيقول وهو على شفير القبر:

﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[ سورة الفجر: 24]

 وحقيقة الحياة؛ حياة القلب، وعمر الإنسان ليس فترته الزمنية بين ولادته ومماته، بل الفترة التي قضاها في معرفة الله والعمل الصالح من أجل الآخرة، بهذا المعنى أيها الأخوة فالمعاصي والذنوب تقصِّر العمر، وتمحق البركة منه، ويصبح عُمُراً فارغاً من المضمون، فارغاً من العمل الصالح، فارغاً من معرفة الله، فارغاً من عملٍ ينفع بعد انتهاء العمر.

2 ـ المعاصي تولّد المعاصي :

 الحقيقة الثانية أيها الأخوة هي: أن المعاصي تولِّد المعاصي..

فلا تَرُم بالمعاصي كثر شهوتها  إنَّ الطعام يـقوّي شهوة النَهِمِ
* * *

 كل معصيةٍ تجرُّ إلى أختها، وكل انحرافٍ يجر إلى انحرافٍ أكبر، فالمعاصي - كما قال بعض العلماء - تزرع أمثالها، ويوَلِّد بعضها بعضاً حتى يعزَّ على العبد مفارقتها، والخروج منها. كما قال بعض السلف: إن عقوبة السيئة سيئةٌ بعدها، وإن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها.
 يا أيها الأخوة الكرام... العبد إذا عمل حسنةً، قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضاً، فإذا عملها، قالت الثالثة: كذلك، وهلمَّ جَرًّا، عندئذٍ يتضاعف الربح، وتتزايد الحسنات.
 وقد قال بعض العلماء المعاصرين: إن طبيعة الإنسان طبيعةٌ ديناميكية - أي حركية - فكل شيءٍ يبدأ به يَجُرُّه إلى أمثاله، فالسيئة تجرُّ إلى سيئة أكبر، والحسنة تجرُّ إلى حسنةٍ أكبر، هذا المعنى ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكلٍ رائع عندما سأله أبو ذرٍ رضي الله عنه:

((يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: إيمانٌ بالله، قال: مع الإيمان عمل يا رسول الله؟ قال: يعطي مما أعطاه الله، قال: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيراً لا يجد ما يعطي، قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: يا رسول الله أرأيت إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا أن ينهى عن المنكر، قال: يعين الأخرق، قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان أخرقَ لا يستطيع أن يفعل شيئاً؟ قال: يُعين مظلوماً، قال: أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً، قال: أما تريد أن تترك لصاحبك من خير، ليمسكْ أذاه عن الناس، قلت: يا رسول الله أو إن فعل هذا دخل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما من مسلمٍ يفعل خَصْلَةً من هذه الخصال، إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة))

[كنز العمال عن أبي ذر]

 هذا المعنى الدقيق أن كل حسنةٍ تجر إلى أختها، وكل طاعةٍ تدفعك إلى طاعةٍ أكبر، وكل عملٍ صالحٍ يَحْفِزك إلى عملٍ صالحٍ أكبر. وبالمقابل كل سيئةٍ تجر إلى سيئةٍ أكبر، وهذا ما قاله الشعراء:

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فلقاءٌ
***

 إذا تساهلت في البدايات وصلت إلى النهايات، كأن الشهوة صخرةٌ متمَكِّنةٌ في قمة جبل، فإذا دفعتها، لا تستقر إلا في قعر الوادي، الإنسان يحاسب أحياناً لا على النهايات بل على البدايات، لذلك قال تعالى:

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾

[ سورة البقرة: 187]

 ينبغي أن تدع بينك وبين حدود الله هامش أمان، فإذا تساهلت في هذا الهامش، جذبتك هذه الشهوات، ووقعت في المُنْكَرات، ووقعت في شر العمل.
 هذا المعنى دقيق جداً أيها الأخوة: يجب أن تبقي بينك وبين المعاصي هامش أمان، وكأن المعاصي نهرٌ عميق، مخيف، له شاطئِ زلقٌ مائل؛ هذه الشبهات، وله شاطئٌ جافٌ مستوٍ؛ هذه منطقة الأمان، فلابدَّ من أن تدع الشاطئ المائل الزَلِق، وأن تمشي على الشاطئ المستوي الجاف..

﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾

[ سورة البقرة: 187]

 أرأيت إلى تيارٍ عالي الشدة، ماذا يُكْتَب أمامه؟ يكتب " ممنوع الاقتراب من التيَّار " ولا يكتب " ممنوع مَسِّ التيار "، لأن التيار له منطقة جذب، وكذلك الشهوات أيها الأخوة.
 فالفكرة الثانية أن كل معصيةٍ فعلها الإنسان تدفعه إلى معصيةٍ أكبر حتى يهلك دون أن يشعر. بل إن الشيطان - كما قلت لكم سابقاً - على شيءٍ من الذكاء، يطلب منك صغيرةً، فإذا قبلت معه، دعاك إلى أكبر منها، وهكذا إلى أن تقع في أكبر المعاصي وأنت لا تشعر.
ال الد الدع الدع

3 ـ ارتكاب المعاصي يُضعف إرادة الخَيْر :

 أيها الأخوة الكرام.... الخطر الثالث من ارتكاب المعصية: أن الذي يرتكب المعصية تضعف عنده إرادة الخَيْر، فمن أخوَف أخطار المعصية أنها تُضْعِف إرادة التوبة، الإنسان حينما يفعل معصية، يتمنَّى أن يتوب، فإذا فعلها ثانيةً، تضعف إرادة التوبة، فإذا فعلها ثالثةً، يشتدُّ ضعف رغبته في التوبة، فإذا استمرأها وثبت عليها، أورثه ذلك نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقى الله عزَّ وجل، لذلك قال تعالى:

﴿ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾

[ سورة النساء: 17]

 أي يتوبُ عَقب الذنب مباشرةً، لأنه لو طال عليه الأمد، قسا قلبه، وبَعُدَ عن التوبة بعد الأرض عن السماء.

4 ـ المعصية إذا استمرَّت ألفها صاحبها وأصبحت عادةً له :

 أيها الأخوة الكرام... الخطر الرابع هو أن الإنسان حينما يفعل المعصية يألفها، بعد حين ينسلخ من القلب استقباحها، تصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له على هذه المعصية، ولا كلامهم فيه، وهذا واضحٌ جداً عند أرباب الفسوق، وهذا ما يسمى " بالتَهَتُّك "، أي أن يفتخر بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملتُ كذا وكذا.
 وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرةِ أن يستر الله العبد ثم يصبح فيفضح نفسه ويقول: يا فلان عملت اليوم كذا وكذا، فيكشف ستر الله عز َّو جل عنه ))

[ مجمع الزوائد عن أبي قتادة ]

 أيها الأخوة الكرام... المعصية إذا استمرَّت ألفها صاحبها، وأصبحت عادةً له، وبعدئذٍ يضعف استقباحها، بل يحدِّث الناس بها، بل يفتخر بها، وهذا محورٌ أساسيٌ في الخطبة، أن الإنسان متحرِّك، دائماً تنقله البدايات إلى النهايات.
 ثم إن المعاصي مواريث، فكل معصيةٍ ميراث أمةٍ أهلكها الله عزَّ وجل، فاللواط مثلاً ميراثٌ عن قوم لوط، وأخذ الحق الزائد ميراثٌ عن قوم شُعَيْب، وقد أهلكهم الله عزَّ وجل، والعلوّ في الأرض بالفساد ميراثٌ عن قوم فرعون، والتكبُّر والتجبُّر ميراث قوم هود، فالعاصي لابسٌ دائماً ثياب بعض الأمم الهالكة. وقد روى عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد عن مالك بن دينار قال: " أوحى الله إلى نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك ألا يدخلوا مداخل أعدائي، ولا يلبسوا ملابس أعدائي، ولا يركبوا مراكب أعدائي، ولا يطعموا مطاعم أعدائي، فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي ".
 أي يجب أن تتمايز، يجب أن تبتعد عن أماكن المعاصي والفجور، يجب أن تبتعد عن أنماط حياة أهل الفجور..

((من هوي الكفرة حُشِرَ معهم ولا ينفعه عمله شيئاً ))

[الجامع الصغير عن جابر ]

 و من أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله عزَّ وجل ، أما أن نصلي وأن نصوم وحياتنا اليومية على النَمَط الغربي، واحتفالاتنا على النمط الغربي، وأفراحنا على النمط الغربي، وأتراحنا على النمط الغربي، وعلاقاتنا وزواج أبنائنا وبناتنا على النمط الغربيّ، فالإسلام منهجٌ كامل، الإسلام منهجٌ يزيد على خمسمئة ألف بَنْد، لا يكفي أن تصلي، وأن تصوم، وأن تحج بيت الله الحرام، وأن تفعل فيما سوى ذلك ما يحلو لك على نمط الغرب، ليس هذا هو الإسلام، المسلم صارخ لا في عباداته بل في معاملاته، في احتفالاته، في أفراحه، في أتراحه، في كسبه للمال، في تجارته، في بيعه وشرائه.
 أيها الأخوة الكرام... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( .... وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري. ومن تشبه بقوم فهو منهم))

[ أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]

5 ـ العاصي هينٌ على الله :

 الخطر الخامس أن العاصي هينٌ على الله، وقد حَدَّثتكم في الأسبوع الماضي عن كلمةٍ جامعةٍ مانعة تقول: " هان أمر الله عليهم فهانوا على الله ".
 قال الحسن البصري: هانوا عليه، ولو عَزّوا عليه لعصمهم، إذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال تعالى:

﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾

[ سورة الحج: 18]

 إذا هان العبد على الله تطاول عليه أقرب الناس إليه، وإذا عزَّ العبد على الله عزَّ وجل كان عند الله عزيزاً، فخدمه أعداؤه.
 وقال بعضهم: العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون على الله ويصغر، وهذا من علامات الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم في عين الله عزَّ وجل، وكلما عظم عند العبد صغر عند الله عزَّ وجل. وقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال:

((الْمُؤْمِنُ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ مِثْلَ ذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَذَبَّ عَنْهُ ))

[التوبة لابن عساكررعن الحارث بن سويد ]

 إذا عظم الذنب عندك صغر عند الله، وإذا صَغُرَ الذنب عندك كَبُرَ عند الله.
 أيها الأخوة الكرام... وفضلاً عن ذلك فإن الذنوب لها شؤم، ومن أدق المعاني: أنها شؤمٌ على غير صاحبها، كأن يرتكب أحد ذنبًا، وحوله ثلاثة، الأول ذكر ذنبه للناس؛ وقع في الغيبة، والثاني عيَّره بهذا الذنب، فابتلاه الله به، والثالث إن رضي به شاركه في الإثم، فصاحب الذنب هالك، لكن من حول صاحب الذنب إن ذكرته للناس فقد اغتبته، وإن رضيت به فقد شاركته في الإثم، وإن عيَّرته شامتاً ابتُليت به، " فالذنب شؤمٌ على غير صاحبه ". قال مجاهد: " إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدَّت السَنَة وأُمْسِكَ المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم ". إذاً الذنب شؤمٌ على غير فاعله من بني البشر، ومن غير البشر.

6 ـ المعصية تورث الذّل :

 أيها الأخوة الكرام... والمعصية تورث الذُل، فإن العِزَّ كلَّه في طاعة الله عزَّ وجل، والذل كله في معصيته تعالى..

((سبحانك إنه لا يذل من واليت ولا يعزُّ من عاديت ))

[ الدر المنثور عن الحسن بن علي ]

اجعل لربك كـل عـزك يســـتقر ويثبــت  فإذا اعتززت بمن يموت فــإن عـزَّك ميـتُ
* * *

 قال تعالى:

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً﴾

[ سورة فاطر: 10 ]

 أي فليطلبها بطاعة الله، فإنّه لا يجدها إلا بطاعة الله، ومن دعاء بعض السلف: " اللهمَّ أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك " وقد رأت أمَةٌ في قصر مَلِك مصر يوسف عليه السلام يوم كان عبداً نزيل السجن، ثم رأته في موكبه يوم صار عزيز مصر، فقالت: " سبحان من جعل الملوك عبيداً بمعصيته، وجعل العبيد ملوكاً بطاعته " وقال الحسن البَصْرِيّ في لغة عصره: " إن هؤلاء الفجار وإن طَقْطَقَت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه "

رأيت الذنوب تميت القلوب  وقـد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب  وخيرٌ لنفسـك عصيانها
* * *

 أي عصيان النفس.

7 ـ المعاصي تفسد العقل :

 أيها الأخوة الكرام... المعاصي تفسد العقل، ذلك لأن للعقل نوراً والمعصية تطفئ نور العقل، وإذا طُفئ نوره ضعف ونقص، ما عصى الله أحدٌ إلا بغياب عقله، وهذا ظاهر، لو حضره عقله لحجزه عن المعصية، وهو في قبضة الله تعالى، أو تَحت قهره، أو مطلعٌ عليه، وفي داره، وعلى بساطه، وملائكته شهودٌ عليه، ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف ما يحصِّله من السرور واللذَّة، فهل يُقْدِمُ على الاستهانة بهذا كله رجلٌ ذو عقلٍ سليم؟ ما عصى إنسانٌ ربَّه إلا بغياب عقله. والعقل أيها الأخوة الكرام الصريح قبل أن يدنَّس في التبرير، وفي تغطية الانحراف، العقل في أصله يَحْجُز الإنسان عن معصية الله إذا كان مؤمناً بالله. لذلك قالوا: ما كل ذكيٍ بعاقل، فالذي تفوق في اختصاصه يُعَدُّ ذكياً ولا يعد عاقلاً إلا إذا عرف الله، وأطاعه، وعمل للدار الآخرة.

8 ـ الذنوب تطبع على القلب فيكون صاحبها من الغافلين :

 ثم إن الذنوب تطبع على القلب، إن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها فكان من الغافلين، قال تعالى:

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 14]

 قال: الرَّين هو الذنب بعد الذنب، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب. وقال غيره: لمَّا كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم، وأصل هذا القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصيرَ راناً، ثم يغلِب حتى يصير طبعاً، وقفلاً، وختماً، فيصير القلب في غشاوةٍ وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهُدى والبصيرة انعكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه، ويسوقه إلى حيث أراد.

9 ـ الذنوب تدخل العبد تحت لعنة النبي عليه الصلاة والسلام :

 أيها الأخوة الكرام... ولو لم يكن للذنوب إلا أنها تُدْخِل صاحبها تحت لعنة رسول الله لكفى ذلك، الذنوب تدخل العبد تحت لعنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه في الأحاديث الصحيحة لعن على المعاصي..

(( لعن الواشمة والمستوشمة، والواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمِّصة، والواشرة والمستوشرة ))

 و

((لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده ))

 و

((لعن المحلل والمحلل له، ولعن السارق، ولعن شارب الخمر، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه ـ وقد يضاف إليها ـ والمعلن عنها ))

 و

((لعن من غَيَّر منار الأرض ))

 وهي أعلامها وحدودها، و

(( لعن من لعن والديه ))

 و

((لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً يرميه بسهمٍ ))

 واللهِ سمعتُ أن رجلاً ذو مكانةٍ كبيرة، كان في جلسةٍ وحوله بعضُ من يلوذ به، فأثنى أحدهم على والده - وكان عالماً كبيراً - فقال: ماذا قدَّم والدي للأمة؟ بدأ يحتقر والده، ويُسَفِّه رأيه، فقال أحدهم: لقد قدَّمك لهذه الأمة، ألا يكفه ذلك؟ فهناك من يلعن والديه دون أن يدري، من يسفِّه تديُّن والده، من يسفّه ورع والده، من يسفه اتصال والده بالله عزَّ وجل، من يسفه بعد والده عن الباطل، هناك من يفعل ذلك، فلعن الله من لعن والديه..

((لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً يرميه بسهم، ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، ولعن من ذبح لغير الله، ولعن من حدث حدثاً، أو أوى محدثاً، ولعن المصوّرين، ولعن من عمِل عمَلَ قوم لوط، ولعن من سب أباه وأمه، ولعن من كمه أعمى - أضله عن الطريق - بل إن ترك السلام على الأعمى خيانة - إن تركت السلام عليه فقد خنت هذا الأعمى، فكيف إذا أضللته، ودللته على شيءٍ مهلك ؟ - ولعن من أتى بهيمةً، ولعن من وَسَمَ دابةً في وجهها، ولعن من ضار مسلماً أو مكر به، ولعن زوّار القبور المتخذين عليها المساجد والسُرج، ولعن من أفسد امرأةً على زوجها ))

[الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء ]

 يكفي أن تدخل إلى بيت أختك دون أن تشعر، فتذم زوجها أمامها، أو تسفه عطاءه: ماذا قدم لكِ على العيد؟ أية امرأةٍ أو أي رجلٍ إذا أفسد العلاقة بين المرأة وزوجها فقد لعنه الله عزَّ وجل. و :

((لعن من أفسد امرأة على زوجها، أو مملوكاً على سيده- إنسان يعمل في مكان، جاء ندٌ له وأفسده على سيده، هذا من عمل الشياطين - ولعن من أتى امرأةً في دبرها، ولعن امرأةً باتت هاجرةً لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، ولعن من انتسب إلى غير أبيه - ألا يكفي لمرتكبي المعاصي أنهم دخلوا تحت لعنة رسول الله ؟ - ولعن من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنه، ولعن من سبَّ أصحاب رسول الله ))

[الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء ]

 ويكفي هذا العاصي أن الله عزَّ وجل في بعض الآيات يلعنه، فلعن الله في كتابه العزيز من أفسد في الأرض، وقطع رحمه، وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولعن من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة. وقد ورد في الأثر أن قذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة، ولعن من جعل سبيل الكافرين أهدى من سبيل المؤمنين - الإنسان قد لا يشعر بما يقول، يعظِّم أرباب الكفر والفجور، ويُضَعِّف موقف المؤمنين - ولعن من جعل سبيل الكافرين أهدى من سبيل المؤمنين. و :

((لعن النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي يلبس لبسة المرأة، والمرأة التي تلبس لبسة الرجل - أليس هؤلاء كثراً ؟ - ولعن الراشي والمرتشي والرائش بينهما ))

[الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء ]

 ولعن على أشياء كثيرة، فلو لم يكن في فعل ذلك إلا أن يدخل تحت لعنة الله ولعنة رسوله لكفى.

10 ـ العاصي يُحْرَم من دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام :

 ثم إن الذي يرتكب المعاصي والآثام يُحْرَم من دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام، فالله عزَّ وجل يقول:

﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

[ سورة غافر : 7-9]

 هذا دُعاء الملائكة للمؤمنين، فمن عصى الله خرج من هذا الدعاء.
 أيها الأخوة الكرام... للموضوع بقية. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير قوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان :

 أيها الأخوة الكرام... يقول الله عزَّ وجل:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾

[ سورة آل عمران : 190]

 وقد ورد عن الإمام عليٍّ كرَّم الله وجهه: " أن في القرآن آيات لمَّا تفسَّر بعد " فالقرآن معجزةٌ مستمرة، وقد أحجم النبي عليه الصلاة والسلام ـ لعلَّ هذا اجتهاد منه، أو لعله بتوجيهٍ من الله عزَّ وجل ـ عن شرح أكثر الآيات الكونية في القرآن الكريم، ذلك أنه لو شرحها شرحاً مقتضباً مبسَّطاً لأنكر عليه من سيأتي بعده، ولو شرحها شرحاً مفصَّلاً لأنكر عليه من حوله، تُرِكَتْ لتطوّر الحياة وتطور العِلم. آيةٌ قرآنيةٌ في سورة الرحمن هي:

﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾

[ سورة الرحمن : 37]

 هي في تفسير ابن كثير: " كانت وردة كالدهان " أي تذوب كما يذوب الدَرْدَرِيّ والفضَّة، وتتلوَّن كما تتلون الأصباغ التي يُدهن بها، فتارةً حمراء، وتارة صفراء، وزرقاء، وخضراء.
 وفي قولٍ آخر: " وردةً كالدهان" قال: هو الأديم الأحمر. وهناك قول عن ابن عباس: (كانت وردةً كالدهان) كالفرس الوَرْد.
 وقال الحسن البصري: تكون ألواناً. وقال مجاهد: " كالدهان أو كألوان الدهان "، هذا في تفسير ابن كثير.
 وأما في تفسير القرطبي: صارت في صفاء الدهن ولمعانه، وكانت حمراء، في قول سعيد بن جبير وقتادة، في حُمْرَة الورد وجريان الدهن، وقيل: الدهان الجلد الأحمر الصرف، أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حَرِّ النار.
 أيها الأخوة الكرام... هذا كلام الله عزَّ وجل بين أيدينا، هو منهجنا، ودستورنا، وحبل الله المَتين، من عمل به سَعِدَ ونجا، ومن تركه شقي وهلك.

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها مَعاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خَير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تُهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين. اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور