وضع داكن
19-03-2024
Logo
الخطبة : 0999 - السعادة و العمل - السعادة و العادة - السعادة و القناعة - نعمة الفوضى في ارتياد المساجد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

– 1 – السعادة واللذة


أيها الإخوة الكرام، في الخطبة قبل الماضية بدأت موضوعاً يتعلق بالسعادة، و بينت وقتها أن اللذة شيء، وأن السعادة شيء آخر.
اللذة لا تأتي إلا من أسباب خارجية و لا تتوفر جميعها في كل الأوقات، تحتاج إلى وقت و إلى مال و إلى صحة، وقد يفتقد الإنسان أحدها في كل مرحلة من مراحل حياته، واللذة تعقبها كآبة، وقد تفضي بصاحبها إلى جهنم، وبئس المصير، إن كانت فيما حرم الله عز وجل، بينما السعادة تنبع من داخل الإنسان و تتنامى، اللذة تتناقص السعادة تتنامى، وقد تتصل نعم الدنيا بنعم الآخرة، السعادة تحتاج إلى اتصال بالله عز وجل، وأريد أن أبين لكم أن بيتاً فيه كل الأدوات الكهربائية من دون استثناء لكن التيار مقطوع كل هذه الأجهزة لا قيمة لها، فإذا جاء التيار الكهربائي كان لكل جهاز عمله ونفعه وروعته.
إذا عرف الإنسان الله، واتصل به كان للزواج معنى، للعمل معنى، للصحة معنى، ولوقت الفراغ معنى، وللوسامة معنى، وللفصاحة معنى، وكل الحظوظ التي يهبها الله للإنسان لها معنى كبير، و هي أداة فعالة لبلوغ الجنة.
أيها الإخوة الكرام، تحدثت في خطبة سابقة عن السعادة والعبادة، وعن السعادة والذكر، وعن السعادة والصلاة، وعن السعادة والإيمان، وعن السعادة والرضا، أما اليوم فالحديث عن السعادة و العمل.

– 2 – السعادة والعمل

1 - العمل عبادة بالنية الحسنة

هذا العمل الذي ترتزق منه، والذي يشغل معظم وقتك، تعيش في عملك ما يزيد على ثماني ساعات كل يوم، هذا العمل يمكن أن يكون عبادة إذا كان في الأصل مشروعاً، و سلكت به الطرق المشروعة، و ابتغيت به كفاية نفسك وأهلك، وخدمة المسلمين، وما شغلك عن فريضة، ولا عن واجب، ولا عن طلب علم، انقلب عملك إلى عبادة، لذلك عادات المؤمن عبادات، وعبادات المنافق سيئات.أيها الإخوة الكرام، اسعد في عملك لتحقيق مراقبة الله عز وجل، هيئ لله جواباً عن كل عمل، أو عن كل موقف، أو عن كل تصرف، أو عن كلمة، أو عن صفقة، أو عن كل وصف للبضاعة، هيئ لله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية جواباً كي يكون عملك جزءاً من عبادتك. 

2 – العمل تواصلٌ يومي وشبكة علاقات إيمانية

أيها الإخوة الكرام، العمل فرصة كبيرة لبناء الجسور مع إخوانك الكرام، في العمل تواصل يومي يمكن أن تقيم شبكة علاقات إيمانية أخوية رائعة من خلال عملك إذا أتقنته، نصحت به المسلمين، كان السعر معتدلاً، كنت في خدمتهم، تواضعت لهم، لبيت حاجاتهم، انقلب عملك إلى عبادة، و أن تقنع بالعمل الذي تعيش منه و ترضى به.

3 – العمل طريق إلى الجنة

وهناك قاعدة، دققوا فيها: الإنسان الذي يتأفف من عمله لا يصلح لأي عمل آخر، كل عمل فيه سلبيات، و فيه إيجابيات، فالمتشائم يرى سلبيات العمل، فيتنقل من عمل إلى عمل إلى عمل فلا يفلح، أما المؤمن، فيرى أن هذا العمل أقامه الله به، وهيأه الله له.

4 – العمل إحسان إلى الخلق

ويمكن من خلال هذا العمل أن يصل إلى الجنة، إذاً يتقنه، ويحسن إلى خلق الله عز وجل فيغدو عمله عبادة، فأن تقنع بهذا العمل، وأن ترضى به، وأن يكون هذا العمل وفق مرضاة الله: 

(( إن روح القدس نفثت في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب )) 

[ابن ماجه عن جابر]

التحذير من حرفة وعمل مؤذية للخَلق

إياك أن تمتهن مهنة، أو أن تحترف حرفة تبنى على مضرة الناس، أو على إلقاء الرعب في قلوب الناس، أو على ابتزاز أموالهم، أو على مصالحهم الدنيوية، أو على كرامتهم، إياك، عبدي الخير بيدي، والشر بيدي، فطوبى لمن قدرت على يديه الخير، والويل لمن قدرت على يديه الشر.
ولا تنسَ أيها الأخ الكريم أن ألصق شيء بك عملك، فإذا كان وفق منهج الله سعدت به، وإذا كان في العمل معصية، وفيه إيذاء للمسلمين، أو امتهان لكرامتهم، أو ابتزاز لأموالهم، أو إلقاء للرعب في قلوبهم فهذا العمل عدّ من المصائب الكبرى التي تنزل بالإنسان.

نظرة تفاؤل إلى الحياة

أيها الإخوة الكرام، تَفَهّم تفاصيل عملك، اندمج فيه، حقق النتائج التي تريدها تشعر بالنجاح، والنجاح يقودك إلى نجاح، انظر إلى الحياة نظرة متفائلة إيجابية، إياك والتشاؤم، إياك وكثرة الملل، وكثرة الشكوى، استثمر النجاح القليل الذي تناله، احرص على المزيد منه، وحينما تواجهك مشكلة أو إخفاق فاعتقد جازماً أن الإخفاق طريق النجاح، وأنه خطوة أولى نحو النجاح، وأنها خبرة مؤلمة تعينك على النجاح، لا تحزن، ولا تعد الإخفاق لازماً وحتمياً ومستمراً، لأنّ الذين وصلوا إلى أعلى درجات العلم كانوا في التعليم الثانوي قد حققوا درجات قليلة، فانقلبوا إلى أكبر علماء في الفيزياء، والله عز وجل يقول: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

[ سورة الرعد: 11]

ابدأ من نفسك، من نفسك تنبع السعادة، إذاً من هو البطل ؟ الذي يجعل حرفته وظيفته طبه قضاءه تجارته معمله قطعةً من الجنة إذا كان وفق منهج الله وبنى حياته على العدل والإحسان والاستقامة والصدق وعامل الناس معاملة طيبة هو في عمله في عبادة.
إذاً يمكن أن يحقق عملك لك سعادة قد تغيب عن ذهنك، كلمة عمل عند معظم الناس عبء دوام طويل علاقات سيئة، من هم أعلى منك لا يتفهمونك، اسأل الله عز وجل أن يكون عملك مصدر سعادتك.

 

– 3 – السعادة والمعاملة الحسنة


أيها الإخوة، السعادة والتعامل، الإحسان إلى الناس من أعظم أسباب السعادة، لهذا وصف الله عز وجل نبيه الكريم بأن قال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم ]

و وهناك أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام وكلها صحيحة في البخاري أو في مسلم أو فيهما معاً:
عَنْ عَائِشَةَ رَحِمَهَا اللَّهُ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ))

[ أبو داود، أحمد ]

(( وإن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً ))

[الأحاديث الصحيحة]

أيها الإخوة الكرام، يستطيع الذي يتحلى بالخلق الحسن مع من حوله أن يبلغ أعلى درجات العبادة.
أيها الإخوة الكرام، ما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء إلا أعطاه،

(( حتى سأله رجل أعطاه غنماً بين جبلين، وسأله رجل فأعطاه مئة من الإبل، وقال صلى الله عليه وسلم: ثم لا تجدوني بخيلاً ))

[ مشكاة المصابيح عن جبير بن مطعم]

الآن غيّر عملك، التعامل مع الناس، مع الجيران، مع من حولك، مع من دونك، مع من فوقك، التعامل يمكن أن يكون أحد أكبر مصادر سعادتك.

تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
***

كان عليه الصلاة والسلام جواداً بوقته، وجواداً بعلمه، وجواداً بماله، وحينما تخفف من آلام الآخرين، وأن تدعو لهم، وأن لا تزدري، وأن لا تحتقر أحداً، وألا تسخر من أحد، حينما تكون طلق الوجه، حينما يكون وجهك باشاً وبريئاً وصادقاً، عندئذ يمكن أن تكون سعيداً، إذا أردت أن تكون أسعد الناس فأسعد الناس، إن أردت أن تسعد فأسعد الناس، اخرج من ذاتك لخدمة الخلق، لتخفيف آلام الناس، لحمل همومهم، لمعاونتهم، للإصغاء لهم.
أيها الإخوة الكرام، خذ العفو و ائمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، أعطِ من حرمك، اعفُ عمن ظلمك، صل من قطعك، ابذل يداك، وكف أذاك، وتعاهد من وصلته بمعروف الأمس بمعروف اليوم.

 

مَن هو أسْعَدُ البَشر ؟

أيها الإخوة الكرام، من هو أسعد البشر ؟ الذي يقدر ما عند الآخرين، هناك إنسان لا يحتمل أن يكون أحد أفضل منه، دائماً يحطم من حوله، يكتشف عللاً خفية ليست حقيقية، يقلل من قيمتهم، يطعن بنواياهم، أنت حينما تقدر من حولك، وتعرف قيمة من حولك، وترعى من حولك تكون أسعد من حولك.
أيها الإخوة الكرام، أنت حينما تفرح بأخ مؤمن تزوج، أو لأخ مؤمن نال شهادة عليا، أو لأخ مؤمن حقق عملاً ناجحاً فأنت أفضل منه، ولو لم تنل هذه الفضائل، لأنك أكدت إيمانك، بينما المنافق قال تعالى: 

﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ﴾

[ سورة آل عمران ]

فعلامة إيمانك أنك تفرح لإخوانك بما آتاهم الله من فضل.

 

– 4– السعادة والقناعة

أيها الإخوة الكرام، الآن السعادة والقناعة:
إنّ الإنسان مطبوع على حب الدنيا، ولكن يجب أن يعلم علم اليقين أن السعيد ليس الذي نال كل شيء، ليس الذي نال كل ما يتمنى، ليست البطولة أن تنال كل ما تتمنى، ولكن البطولة أن تقف موقفاً كاملاً من الذي قدره الله لك، البطولة أن تقف موقفاً كاملاً من الذي قدره الله لك، وساقه إليك، وليست البطولة أن تنال كل شيء.
أيها الإخوة الكرام، الحرمان قد يكون طريق العطاء، لأنه ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء، قال تعالى:

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 216]

أيها الإخوة الكرام، علمنا النبي عليه الصلاة والسلام أسرار السعادة في الدنيا:
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))

معنى الأمن هنا أمن الإيمان، العقيدة سليمة، والحركة صحيحة، والحرام حرام عندك والحلال حلال، فأنت آمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة.
والمقولة التي أرددها كثيراً: سأل ملك وزيره: مَن الملك ؟ قال: أنت، قال: لا، الملك رجل لا نعرفه، ولا يعرفنا، له بيت يأويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه، إن عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه، لذلك:

((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))

عمر بن عبد العزيز رحمه الله عز وجل كان أميراً على المدينة، فأُمّر، فاشتري له ثوب خز بألف دينار، ولما جيء به إليه وضع يده عليه، وقال: ما أخشنه، ولما ولي الخلافة اشتري له ثوب بستة دراهم، ولما وضع يده عليه قال: ما ألينه وأنعمه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لقد اشتريت لك بالمدينة ثوباً بألف دينار، وقلت: ما أخشنه، واليوم بستة دراهم تقول: ما ألينه، قال عمر: والله ما أظن رجلاً يؤمن بالله واليوم الآخر يشتري ثوباً بألف دينار.
أيها الإخوة الكرام، من أراد السعادة الحقيقية فقد تكون في بيت متواضع، وفي بيت مستأجر، وفي بيت شمسه قليلة، وبدخل محدود، وببعض الأمراض في جسمه، لكنه اتصل بالله، فنزل على قلبه السكينة، والسكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، لا تبحث عن السعادة بالمال، ولا بالصولجان، ولكن ابحث عنها بمرضاة الله عز وجل، قال تعالى: 

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

[ سورة الرعد ]

أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً
***

– 5– السعادة والصحة

أيها الإخوة الكرام، والله مرة قلت لبعض الإخوة: إن ملكاً أصيب بمرض عضال، ووافته المنية، الفكرة افتراضية، لو عرض عليه أن يغدو ضارب آلة كاتبة في قصره أو موظفا بسيطا، وأن تعود له صحته، والله ما تردد ثانية، فإذا تمتع أحدكم بصحته، بقوته، بسمعه، ببصره فهو في أعلى مرتبة في الحياة الدنيا، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ))

[البخاري عن ابن عباس]

أعرف رجلا أرباحه فلكية يوم كانت العملة الصعبة بأقل مبلغ، بثلاث ليرات، كانت أرباحه بالملايين، كشر عن وجهه، وقال: الحياة لا تعاش هنا، لا أرباح كافية، فلما جاءه مرض صعب قال لي: يكفي الإنسان ألف ليرة في الشهر على أن يمتعه الله بصحته، هذا الذي يتمتع بصحته، قلبه يعمل بانتظام، بضغط دمه، بكليتيه، بكبده، بدماغه، لو أكل أخشن الطعام فهو أسعد الناس، وحينما يأتي مرض عضال يجعل حياة الإنسان جحيماً، لذلك ما من دعاء أكثر منه النبي عليه الصلاة والسلام:

((اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي ))

[أبو داود عن ابن عمر]

اعرف ماذا عندك، ولا تنظر إلى ما ينقصك، وعلامة ذكائك وتوفيقك وعقلك الكبير وسعادتك أن تعرف ما منحك الله إياه، منحك الصحة، أنت لست ملاحقاً، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها، لست متهماً، ليس هناك فضيحة في بيتك، لك بيت وأولاد وزوجة، لك سمعة طيبة، كل هذه نعم لا يعرفها إلا من فقدها، لذلك قال تعالى: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾

[ سورة البقرة: 247]

وقد قال عليه الصلاة والسلام:

((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف وفي كل خير ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

الأخذ بأسباب وقوانين صحة الجسم

أيها الإخوة الكرام، إنّ الإنسان إذا وهبه الله الصحة فليتجمل، وليعتنِ بصحته، وليعتنِ بأجهزته، وليعلم أن جزءاً من عبادته أن تحترم القوانين التي تحكم جسمك، جزء من عبادتك لله أن تحترم القوانين التي قننها الله عز وجل، وهي جزء من حياتك، أما هذا الذي لا يعبأ بتعليمات الأطباء، ويسخر منها، ويقول: كُل وتوكل على الله، سمّ ولا تخشَ شيئاً، هذا كلام لا ينطوي على علم إطلاقاً، خذ بأسباب الصحة.
أيها الإخوة الكرام، لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يساوي نفسه مع بقية أصحابه قال: أنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، ولما جاء دوره بالمشي وتوسلا صاحباه أن يبقى راكباً، قال: ما أنتما بأقوى مني على السير.
كان عليه الصلاة والسلام ذا صحة قوية، ولياقة جسمية عالية، وكان يرى كما علمنا أن هذا الجسم له عليك حق، أن تعتني به، إنه قوام حياتك، ووعاء عملك، وزادك إلى الله، والعناية بالجسم لا تطيل العمر، لكنها تجعل هذا العمر كله أن تعيشه حياة نشيطة.

 

– 6 – السعادة والعادة

أيها الإخوة الكرام، السعادة والعادة، للسعادة عادات هي قوامها وسندها، ولكن ثمة عادات تطغى على الإنسان وتحرفه عن السعادة، فينبغي أن نتعود عادات تتنامى مع الأيام، لتكون قوام سعادتنا.

عادات ينبغي الأخذ بها

1 - علم صناعة القادة

بالمناسبة حقيقة أقولها لكم: هناك علم الآن علم اسمه علم صناعة القادة، الأمة فرضاً مليار و ثلاثمئة مليون، لو زاد العدد إلى مليار وخمسمئة مليون، وهي في جهل وضعف وتفرق، كل هذه الملايين المملينة لا قيمة لها، لكن قد يأتي قادة عظماء كما جاء صلاح الدين الأيوبي، وكما جاء القادة الإسلاميون الكبار، وقد حققوا قفزات نوعية لأمتهم، هؤلاء القادة متى يصنعون ؟ من السنة الأولى حتى السابعة، هذا يعني أن ابنك ماذا تتمنى أن يكون، بأية عقلية، بأي مبدأ، بأي عادات، بأي قيم حتى في شؤون صحته، ونظافته، وترتيب ملابسه، وعاداته بأخلاقه، هذا كله يتكون في السنوات السبع الأولى، لذلك من أهمل أولاده في هذه السنوات الخطيرة يصعب عليه جداً أن يلقنه شيئاً جديداً بعد هذه السنين. 

2 - عوِّدْ نفسَك التميُّز

أيها الإخوة الكرام، شيء آخر، عود نفسك التميز، وأقول لكم هذه الكلمة: إن لم نتفوق في دنيانا الآن فلا يحترم ديننا، الآن قيمة الإنسان تفوقه في عمله، فإن تفوقنا يحترم هذا الدين العظيم، أما إذا تخلفنا، وأهملنا، وقصرنا، ولم نتقن أعمالنا، وكنا عبئاً على من حولنا، واستوردنا كل شيء، هؤلاء الأقوياء والأذكياء والأغنياء لا يحترمون هؤلاء المسلمين المقصرين، لذلك من أفضل العادات أن تتعود التميز، كن أباً مثالياً، كوني زوجة مثالية، كن مدرساً ناجحاً، كن مهندساً بارعاً، كن طبيباً حاذقاً، التفوق يعطي راحة نفسية كبيرة جداً، وقد قال الله عز وجل: 

﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾

[ سورة الأنبياء: 90]

﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾

[ سورة الواقعة]

(( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))

[الجامع الصغير عن عائشة]

إذاً: العادات الأساسية: كن متميزاً في بيتك، وفي عملك، وفي مواعيدك، وفي لغتك، وفي إتقان جهدك.

3 - حدِّد الأهداف

حدد الأهداف، أؤكد لكم أن ثلاثة بالمئة فقط يعرفون أهدافهم، وما لم يكن لك هدف بعيد بالتعبير المعاصر استراتيجي، وتختار له الوسائل الفعالة فأنت رقم لا معنى له في خطة عدوك، لذلك حدد الأهداف 

4 - ترتيب الأولويات

شيء آخر، رتب الأولويات في حياتك، أولويات اكتبها، اجعل هذه في المقدمة، اعمل في الأهم، وأخر المهم، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ﴾

[ سورة النساء: 103]

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

[ سورة الأنفال: 60]

يقول عمر رضي الله عنه: << إن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل >>.
التميز الأولويات التركيز، قال تعالى:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[ سورة المؤمنون]

عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا ))

[ أبو داود، أحمد ]

5 - إدارة الوقت

أيها الإخوة الكرام، إدارة الوقت، الوقت هو أنت هو أثمن شيء تملكه، هو رأسمالك الوحيد، الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، ولن تجد في العالم كله لا قيمة للوقت عند أمة كالأمم المتخلفة، كالدول النامية، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

[ سورة العصر] 

6 - جهاد النفس والهوى:

من العادات التي تجعلك متفوقاً جهاد النفس والهوى يقول بعض السلف الصالح: تكلفت قيام الليل عشرين سنة ثم استمتعت بقيام الليل عشرين سنة أخرى. قال تعالى: 

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾

[ سورة العنكبوت: 69]

7 - البراعة في العلاقات الاجتماعية

أيها الإخوة الكرام، من العادات الراقية البراعة في العلاقات الاجتماعية، يمكن أن يكون كل من حولك صديقاً لك، يمكن أن تصنع من الأعداء أصدقاء، وكان النبي بارعاً في هذا، صنع من أعدائه الألداء أصدقاء، جاءكم عكرمة مسلماً، من هو أبوه ؟ فرعون عصر النبوة.

(( جاءكم عكرمة مسلماً، فإياكم أن تسبوا أباه، فإن سبّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت ))

[ورد في الأثر]

يا عمير، ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال: جئت أفدي ابني، قال: وهذه السيف التي على عاتقك ؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ فقال e: ألم تقل لصفوان كذا و كذا ؟ فوقف، وقال: أشهد أنك رسول الله.
كان عليه الصلاة و السلام بارعاً في تحويل الأعداء إلى أصدقاء، و هناك أناس بارعون جداً في تحويل الأصدقاء إلى أعداء، لذلك العلاقة الإيجابية مع الناس هذه من سمات الإنسان المتفوق.
لذلك أحبّ الآخرين، تبسم لهم، وسع صدرك و قلبك لهمومهم و آلامهم: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 159]

يا من كانت الرحمة مهجته و العدل شريعته و الحب فطرته و السمو حرفته و مشكلات الناس عبادته، إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي، الراحمون يرحمهم الله: 

﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران ]

8 – كن إيجابيًّا

العادة التالية: كن إيجابياً.
الآن هناك حالة أصابت العالم الإسلامي، وما أبشعها من حالة، سماها بعضهم جلد الذات، حيثما جلس المسلمون يتحدثون عن ضعفهم، وعن تخلفهم، وعن جهلهم، لا يوجد ولا ميزة ؟ وازن بين الإيجابيات والسلبيات، والله حينما غادرت أستراليا ودعني رئيس الجالية، وبكى، وقال لي: أبلغ إخوتنا في الشام أن مزابل الشام خير من جنات أستراليا، قلت: و لمَ ؟ قال: لأنك في الشام وأنت مغمض العينين ابنك مسلم، أما نحن هنا، ونحن في أعلى درجات اليقظة احتمال أن يأتي الابن ملحداً بالمئة خمسون، وأن يأتي على أذنه حلقة، وتعني شيئاً سيئاً جداً بالمئة خمسون، على أذنه اليمنى تعني شيئاً سيئاً، وعلى أذنه اليسرى شيئاً أسوأ، وعلى الأذنين معاً أسوأ و أسوأ بالمئة خمسون.
هناك تماسك أسري، هناك بقية رحمة، بقية مروءة، هناك بقية أدب، هناك طلب علم، هناك مساجد مفتوحة، وسوف ترون في الخطبة الثانية نعمة لا يعلمها إلا من فقدها.
أيها الإخوة الكرام، العادة التي ينبغي أن تكون هي جهاد النفس، و بعدها التفكير الإيجابي، حاول أن تكون إيجابياً، لا أن تكون سلبياً، حاول أن تنظر إلى مزايا الناس، لا إلى أخطائهم، إلى مزايا حرفتك، لا إلى مساوئها، الإنسان المتفائل مؤمن، و المتفائل ذكي، و الذكاء هو التكيف، فحاول أن تتكيف مع بيتك، و مع زوجتك، و مع أولادك، و مع عملك، ومع القدر الذي نزل بك.
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نعمة الفوضى في ارتياد المساجد !!!!!!!!!!!!!!

أيها الإخوة الكرام، خبرة شخصية، ما من يوم عرفت قيمة وجود دولة أية دولة، ولو لم تكن كما ينبغي إلا بعد سقوط بغداد، عرفنا قيمة وجود دولة في أمة، و ما من يوم عرفت قيمة الفوضى في ارتياد المساجد إلا بعد أن اطلعت على هذا الخبر:
بلد عربي إفريقي شعبه مسلم، أعلن وزير داخليته أن على كل مواطن يرغب أن يصلي أن يتقدم بطلب إلى وزارة الداخلية، وليختار مسجداً واحداً، إما قريباً من عمله، أو من بيته، وإذا كان هذا المسجد لا تقام فيه صلاة الجمعة،فعليه أن يقدم طلباً آخر لاختيار مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، وعلى كل مواطن يتعين عليه أن يحصل على بطاقة مغناطيسية لكل مصل، وأن يودعها عند أقرب قسم شرطة، أو حرس وطني، وستحمل البطاقة صورته، وعنوانه واسم المسجد الذي ينوي الصلاة فيه، ويتعين على كل مصل وجوباً اختيار أقرب مسجد لمكان إقامته، أو مركز عمله، أما إذا كان المسجد المختار غير جامع فيجب عليه بالتقدم بطلب آخر للصلاة الجمعة في مسجد جامع، ويجب على أئمة المساجد أن يتأكدوا من أن جميع المصلين داخل قاعة الصلاة حاملين لبطاقاتهم كما يتعين على كل إمام طرد كل مصل لا يحمل بطاقة اسم مسجد آخر.
أنت عينت مسجداً يجب ألا تدخل مسجداً آخر، ويجب التذكير أن البطاقة شخصية، ولا يجوز إعادتها، ويمنع التنازل عنها للغير، أما إذا قرر صاحب البطاقة ترك الصلاة فإنه مطالب بتسليم بطاقته لأقرب مركز شرطة، وتصريح بأنه ترك الصلاة، وأكد هذا الوزير أن لكل مصل الحق أن يرتاد لأجل أداء الصلوات الخمس مسجداً واحداً فقط، ما عدا الرخص الخاصة المسلمة في الحالات الاستثنائية، فإذا كان المسجد لا تقام فيه صلاة الجمعة يمكنه الحصول على بطاقة خاصة لصلاة الجمعة، ويمكن للسياح المسلمين أن يطلبوا بطاقة مصل عند نقاط الحدود، وبطاقة السائح المصلي هذه تكون صالحة لكل المساجد، على أن يتم تزويد كل المساجد بآلات مغناطيسية لتسجيل الحضور، توضع البطاقة في آلة أنه دخل وصلى حفاظاً على أداء الصلوات طبعاً.
إذ يتعين على كل مصل تسجيل حضوره عند الدخول إلى المسجد، وعند خروجه منه، والله ما تمنيت أن يديم الله علينا نعمة الفوضى في ارتياد المساجد إلا بعد قراءة هذا الخبر، نحن في نعمة كبيرة جداً.
أيها الإخوة الكرام، نحن في نعمة لا تقدر بثمن، نختار مسجداً لنصلي فيه، تختار خطيباً، تختار مكاناً، لذلك نسأل الله عز وجل أن يحفظ لنا نعمة هذا البلد، نحن في نعم كبيرة، وأتمنى أن يكون هذا الإجراء داخلياً، ويؤلمني أشد الألم أن يكون بتوجيه من بلاد بعيدة.

الدعاء

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور