- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (027)سورة النمل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة النمل.
بيْنَ يدي سورة النمل:
هذه السورة فيها تِبْيَانٌ لأمر التوحيد ولأمر الآخرة، وفيها مجموعةٌ من القِصَص؛ قصَّة سيدنا موسى، وسيدنا داود، وسيدنا سُليمان، وسيدنا لوط، وسيدنا صالح، في هذه السورة خاصَّةٌ خصوصيَّة هي: أن ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يبيِّن لنا أن عَلِيَّةَ القوم، وأولي الأمر معنيون بالهدى، وأنه يمكن أن تُتَّخذَ قوتهم في سبيل هداية الخلق، هذا في الحديث عن سيدنا سليمان.
على كلٍ فيها توحيدٌ، وفيها بشارةٌ، وفيها إنذارٌ، وفيها حديثٌ عن يوم القيامة، وفيها ذكرٌ لقصص مجموعة من الأنبياء منهم سيدنا موسى، وسيدنا داود، وسيدنا سُليمان، وسيدنا لوط، وسيدنا صالح، وفي مطلع هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(1)﴾
معاني الحروف المقطعة: طس:
هذه الحروف التي تُفْتَتَحُ بها السوَرُ عادةً..
﴿ الم(1) ﴾
﴿
﴿ كهيعص(1)﴾
﴿ طسم(1)﴾
﴿ حم(1)﴾
هذه الحروف سبق الحديث عنها في دروسٍ سابقة.
المعنى الأول:
بعضهم قال: "الله أعلم بمراده"، لقول الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ
المعنى الثاني:
وبعضهم قال:
﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)﴾
المادَّة الأوليَّة لهذا القرآن هذه الحروف، حروف الهجاء نعرفها جميعاً، وهي بين أيدينا جميعاً، وبإمكان كلٍ منَّا أن يصوغ منها الكلمات، َفلأنَّ هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل فهو معجز، ومن تعاريف القرآن الموجزة أنه الكلام المعجز، أي يَعجز البشر عن صياغة مثله، ولو سورة منه، لأن فيه إعجازاً بلاغيَّاً، وفيه إعجازٌ لغوي، فيه إعجازٌ تشريعي، فيه إعجازٌ علمي، فيه إعجازٌ تاريخي، فيه إعجازٌ غَيْبي، فالحديث عن إعجاز القرآن لا ينتهي، لكنَّه يُجْمَع بقولنا:
إذاً كأن الله سبحانه وتعالى يبيِّنُ أنَّ هذا القرآن المعجز الذي هو كلام الله عزَّ وجل من هذه الحروف، فإن كان بالإمكان أن تأتوا بمثله أو بسورةٍ من مثله فافعلوا، هذا المعنى الثاني.
المعنى الثالث:
المعنى الثالث لهذه الحروف: أنها أوائل أسماء الله عزَّ وجل.
المعنى الرابع:
والمعنى الرابع: أنها أوائل أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، ويُرَجِّحُ هذا التوجُّه الأخير أن السُّور التي تبدأ بهذه الحروف تأتي في أغلب الأحيان بعدها حروف الخطاب.
﴿طس تِلْكَ﴾ فكأنَّ الله سبحانه وتعالى يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بأسمائه التي تميَّز بها، فمن أسمائه أنه طاهر، طاهر القلب، من أسمائه أنه سليم من كل عيب، فإذا شئنا أن نوجِّه هذه الحروف على أنها أوائل أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، يؤكِّد ذلك أنه قد جاء حرف الخطاب بعدها، هذا وجه، ودائماً وأبداً القرآن الكريم حمَّال أوجه، ودائماً وأبداً القرآن الكريم ليس مِلْكَ أحدٍ، ودائماً وأبداً كما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه: "في القرآن آياتٌ لمَّا تُفَسَّر بَعْدُ".
إذاً: إمّا أن نقول:
تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ
1 – دلالة اسم الإشارة:
2 – معنى الآية:
﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ
﴿
فإذا أشار الله عزَّ وجل إلى عُلوِّ شأن القرآن، وإلى بعد مراميه عن طريق اللام، تلك، أشار ثانيةً إلى أن هذه المقاطع التي تنتهي عندها الكلمات هي آيات، هي علامات، هي دلائل، هي إشارات إلى عظمة الله عزَّ وجل في كل سورةٍ، في كل آيةٍ، في كل كلمةٍ، في كل حرفٍ، في كل حركةٍ، ولو أن الإنسان أمضى حياته كلَّها في البحث في عظمة هذا القرآن وما تعنيه آياته، وما تَنِمُّ عنه دلالاتُه لأمضى عمره كله، ولم يُحِط به علماً، لأن القرآن كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن القرآنَ غِنًى لا فقرَ بعدَهُ ولا غِنًى دونَهُ . ))
وبعض الآيات الكريمة تؤكِّد هذا:
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109)﴾
3 – تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ
أمّا أن يُذْكَر في هذه الآية القرآن والكتاب:
تعريف القرآن:
فالقرآن كما قلت قبل قليل: هو الكلام المعجز، فلا يمكن لبشرٍ أن يأتي بمثله، ولا بسورةٍ منه، هناك تعريفٌ أكثر شمولاً وأكثر دقَّةً، القرآن الكريم كلام الله المُنزَّل على النبي محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم، المَكتوب في المصاحف، فأي شيءٍ آخر ليس في هذه المصاحف فليس قُرآناً، المنقولُ بالتواتر، والتواتر كما تعلمون: إذا نقل كلاماً جمعٌ غفيرٌ ثقاة عدول عن جمعٍ غفيرٍ ثقاة عدول من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومنا هذا، نقول: هذا كلام متواتر، إذاً: القرآن فيه صفة النقل الشَّفَهِي، وفيه صفة النقل الكتابي.
معنى قرآن وكتاب:
هو قرآن من قرأَ يقرأ قرآناً وقراءةً، وهو كتاب من كَتَبَ بمعنى جَمَعَ يَكْتُبُ كتابةً وكتاباً، فالكتاب هو الجَمْع، كيف أن الكتابة تجمع الحروف في كلمات، وتجمع الكلمات في جُمَلْ، والجُمَلْ في عبارات، والعبارات في موضوعات، إذاً القرآن ثابتٌ شفهيَّاً وكتابياً، ففي قوله تعالى:
4 – وَكِتَابٍ مُبِينٍ
أما كلمة مُبِين تعني أنه واضح، هذا القرآن لبني البشر، فمن يدَّعي أن القرآن بحرٌ إذا غُصْتَ فيه غرقت، ويقول: وما لنا وما للقرآن دعونا من تفسيره، هذا شيء فوق طاقتنا، فوق مستوانا، هذا كلام إلى حدٍ ما مقبول، أما أن يحملك هذا الكلام على ترك القرآن، وإلى جعله في مَنْأى عن فهمه، فهذا لم يُرِدْهُ القرآن الكريم لقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
الله سبحانه وتعالى يدعونا إلى تدبُّره، يدعونا إلى فهمه، يدعونا إلى التأمُّل فيه.
﴿
ما الذي يعرِّفنا قدر النبي عليه الصلاة والسلام؟ هو هذا الكتاب الذي جاء به، فأن نجلس في مجلسٍ عام، ونقرأ هذا القرآن، ونفهم مراميه وأبعاده، ونفهم دقائقه ومبهمه، وتفسير آياته وأحكامه الشرعيَّة، وآيات العقائد، وآيات اليوم الآخر، فهذا من صلب مهمَّة الإنسان في الحياة.
لذلك القرآن هو نفسهُ الكتاب، الكتاب لأنه مكتوب، والقرآن لأنه متلوّ، والقرآن كما قلت قبل قليل: مصدر قرأَ يقرأُ قراءةً وقرآناً.
شيءٌ آخر، القرآن إذاً مبين، هناك آياتٌ متشابهات، لكن الله سبحانه وتعالى جعل معظم آياته محكمات، ففي القرآن الكريم:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
هذه آيةٌ محكمة واضحة.
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
لو أنك قرأت القرآن تجد معظم آياته محكمة واضحة، وبعضها يحتاج إلى مُفَسِّر، بعضها يحتاج إلى أن تسأل عنها، وربنا سبحانه وتعالى أمرك بهذا، قال:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ
فمعظم الآيات محكمة، والمحكم واضح لا يحتاج إلى تأويل ولا إلى تفسير، فهذا الذي يُعْرِضُ عن فهم القرآن بحجَّة أنه كلام الخالق، ومن غاص فيه فقد غرق، هذا الكلام إلى حدٍ ما مقبول؛ أمّا أن يحملك هذا الكلام على هجر القرآن وعلى ترك فهمه فهذا كلامٌ باطل، لأنه كتابٌ مبين، ومعنى مبين أي واضح.
﴿ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
هذا الكلام واضح.
﴿ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2)﴾
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين
1 – لابد للإنسان من نورٍ يمشي به، وهو الهدى:
الإنسان مخلوق في الدنيا، لكنَّ الإنسان رُكِّبَت فيه الشهوات، مُنِحَ نعمة العقل، فيه نوازع، فيه حاجات جسديَّة، فيه حاجات نفسيَّة، فيه حاجات اجتماعيَّة، فيه صراعات، فيه مبادئ، فيه حاجات، فيه مُثُل، فيه شهوات، فيه قِوى ضاغطة، فيه قِوى جاذبة، فيه أشياء كثيرة، فإذا عاش الإنسان من دون نورٍ يَهتدي به، من دون منهجٍ يسيرُ عليه، من دون كتابٍ يهتدي بهديه فقد ضلَّ سواء السبيل، فالله سبحانه وتعالى خلق الكون، ونوَّره بالقرآن، ومن أسماء القرآن أنه نور تستنير به، من أسماء القرآن أنه فرقان يفرِّق بين الحقِّ والباطل، من أسماء القرآن أنه الكتاب الذي فيه المنهج، من أسماء القرآن أنه قرآن الذي يُتلى، هو قرآن وهو كتابٌ، وهو فرقانٌ، وهو نورٌ، إذاً:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
2 – ما هي البشرى ؟
أما البُشْرَى فإنه يبدو من هذه الآية أن هذه الدنيا دار عمل، وأن هذه الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، دار مَشَقَّة..
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)﴾
ولكنَّ الآخرة هي دار الجزاء، دار النعيم المُقيم، دار السعادة، دار العطاء، دار الإكرام، دار التشريف، فالقرآن الكريم يهديك في الدنيا إلى سواء السبيل، ويُبَشِّرُكَ بأن بعد هذه الدنيا حياةً أبديَّة لا نغص فيها ولا نَصَب.
3 – هدى وبشرى للمؤمنين خاصةً:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ
إنه:
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
فلذلك الإيمان قبل القرآن، لأنَّ هذا الكون كلُّه دالٌ على الله عزَّ وجل، فإذا عرفت هذا الإنسان العظيم فعندئذٍ تهتم برسالته، تهتم بأمره، تهتم بنهيه، تهتم ببرنامجه، تهتم بنظامه، تهتم بوعده، تهتم بوعيده، إذاً يجب أن نتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، فإذا عرفناه حرصنا على فهم هذا الكتاب حِرْصَاً لا حدود له، إذا عرفنا الله عزَّ وجل حرصنا على فهم كلامه حرصاً لا حدود له، إذا عرفنا الله عزَّ وجل حرصنا على تنفيذ أمره تنفيذاً دقيقاً، لذلك:
الإيمان يحتاج إلى جهدٍ:
والإيمان يحتاج إلى جُهد، ألا إنَّ سلعة الله غالية، تريد جنَّةً عرضها السماوات والأرض، تريد أن تسعد إلى الأبد، تريد أن تكون من عَلِيَّة خلق الله عزَّ وجل، من الذين اصطفاهم لدخول الجنَّة، ولا تريد أن تبذل وقتاً أو جهداً في الدنيا لمعرفة الله عزَّ وجل؟ هذا شيءُ عُجاب، هذا الذي يخوض ويلعب ولا يدري لِمَ يخوض ويلعب هذا إنسانٌ تائهٌ ضال.
إذاً من قوله تعالى:
من هم المؤمنون؟ هؤلاء الذين يُعَدُّ القُرآن لهم هدىً وبُشرى، فأحياناً الإنسان لا يهتم بالطُرُق إلا إذا كان مسافراً، إذا كان مسافراً يقصد بلدةً معيَّنة، وفي هذه البلدة يُعَلِّق آمالاً عريضة على بلوغها، عندئذٍ يُصْغِي إلى النشرة الجويَّة، يصغي إلى حالة الطُرُق، يقرأ بعنايةٍ بالغة اللافتات من هنا البلد الفلاني، من هنا الفلاني، هذا الإصغاء إلى حالة الطُرُق، والنظر إلى اللافتات، والأسهم والإشارات، سببه الحرص على بلوغ هذه البلدة، فأنت إذا أردت الله عزَّ وجل، أردت أن تصل إليه، من هذه الإرادة الجازمة يأتي اهتمامك لمعرفة كتابه، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، ماذا يُحِب وماذا يكره، ماذا يأمر وماذا ينهى، ماذا يَعِدُ المؤمنين وماذا يَعِدُ الكافرين؟ فلا يمكن أن نهتمَّ بالقرآن إلا إذا عرفنا الواحد الديَّان.
أعيد وأكرِّر:
مَا صفاتُ هؤلاء المؤمنين ؟
من هم هؤلاء المؤمنون؟ الله سبحانه وتعالى وصفهم بأنهم:
﴿
1 – الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة
قد يسأل سائل: لماذا اختار الله من بين أركان الإسلام الصلاة والزكاة؟
الحكمةُ مِن الربط بين الصلاة والزكاة:
بالمناسبة الصلاة عبادةٌ بدنيَّة، بينما الزكاة عبادةٌ ماليَّة، الصلاة عبادةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بالخالق، بينما الزكاة عبادةٌ متعلِّقةٌ بالمَخلوق، فإذا أردت أن تلخِّص الدين كلَّه في كلمتين أقول لك: إن الدين اتصالٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق، وهكذا قال سيدنا عيسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام:
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ
كأن الله سبحانه وتعالى جَعَلَ الصلاة ركناً في بابها، وجعل الزكاة ركناً في بابها، فالصلاة أساس العبادات، أنت تصوم من أجل أن تُصلي، وتحجُّ بيت الله الحرام من أجل أن تتصل بالله عزَّ وجل، وأنت تدفع زكاة مالك من أجل أن تُصَلِّي، إنها الفرضُ الوحيد الذي يتكرَّر، والذي لا يسقط بحال، الصيام يَسْقُطُ عن المريض وعن المسافر، والحج يسقط عن الفقير وعن غير المستطيع، والزكاة تسقط عن الفقير، أما الفرض الوحيد المتكرِّر الذي لا يسقط بحال فهو الصلاة، إنها عماد الدين، مَن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، إنها سيِّدة القُرُبات، وغُرَّة الطاعات، إنها معراج المؤمن إلى ربِّ الأرض والسماوات، إنها مناجاةُ الحق، إنها اتصالٌ بالله عزَّ وجل، إنها ذكرٌ لله.
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
لذلك اختار ربنا عزَّ وجل من بين أركان الإسلام كُلِّها الصلاة، هي في بابها ركن، فالصيام للصلاة، والحج للصلاة، والصلاة للصلاة، العبادات التي في جوهرها اتصالٌ بالله في رأسها الصلاة، ربنا عزَّ وجل اختارها واكتفى بها، قال:
قال الله عزَّ وجل:
2 – وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
لأنه حينما يجعل الإنسان اهتمامه كله في الدنيا، ويُسقِط الآخرة من حسابه، فأغلب الظن إنه لن يصلي، ولن يزكي، لأن الدنيا مبلغ علمه وغاية قصده، أما حينما تنتقل اهتماماته إلى الدار الآخرة، حينما يُدخِل الآخرة في حسابه اليَومي، فهؤلاء الذين يُدْخِلون اليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله عزَّ وجل يوم القيامة في حسابهم اليومي؛ في بيعهم، في شرائهم، في نظرتهم، في غضِّ بصرهم، في عطائهم، في منعهم، في غضبهم، في رضاهم، في صلتهم، في بعدهم، فالإنسان له حركات وسكنات كثيرة جداً، له نشاط كبير، وإذا أدخلت اليوم الآخر في حسابك اليومي تُبادر إلى الصلاة وإلى الزكاة.
فلذلك الإيمان باليوم الآخر يأتي في الدرجة الثانية بعد الإيمان بالله، فمن كان إيمانه بالله ضعيفاً فبالتالي يمكن أن يكون إيمانه باليوم الآخر ضعيفاً، ومن لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر، لأن اليوم الآخر يعطي الدنيا فلسفة خاصَّة، الدنيا فيها قويٌ وفيها ضعيف، فيها غنيٌ وفيها فقير، فيها ذو حَظٍّ عظيم وفيها ذو حظٍّ ضَئيل، فيها إنسان يملك وإنسان لا يملك، إنسان صحيح وإنسان مريض، هذه الحظوظ موزَّعة في الدنيا توزيع ابتلاء، أما إذا اكتفيت بالدُنيا تحسُّ أن في هذا العطاء إجحافاً، لمَ أعطى فلاناً ولَمْ يعط فلاناً؟ أما إذا آمنت باليوم الآخر تشعر أن فهمك للدنيا يصبح فهماً صحيحاً.
فلذلك من لوازم الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر، إذا آمنت باليوم الآخر يصبح إيمانك هذا رادعاً لك عن أي عمل لا يرضي الله عزَّ وجل، ما الذي يمنع القوي من أن يستخدم قوَّته لأخذ مال الناس؟ إيمانه باليوم الآخر، ما الذي يمنعك أن تنظر إلى امرأةٍ لا تحلُّ لك نظرة شهوةٍ؟ إيمانك باليوم الآخر، فلما وصف ربنا عزَّ وجل المؤمنين بأنهم:
الفائدة من تَكرار لفظ ( هُمْ ): وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
أما لماذا جاءت هم مكرَّرة؟ ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ﴾ بعضهم قال: هذه للقَصْر؛ أي أن
فلذلك أيها الإخوة، دعونا من بعض التفصيلات، في عملك اليومي إذا لم تدخل هذه الوقفة بين يدي الله عزَّ وجل، إن لم تُدْخِلْهَا في حسابك فلست مؤمناً، هذا الذي يأخذ ما ليس له، يعطي أقلَّ مما يجب أن يُعطي، هذا الذي يسهو، ينسى، يغفل، هذا الذي يتجاوز، يطغى، يبغي، يأخذ، يعتدي، فهذا ليس مؤمناً باليوم الآخر بشكلٍ قطعي، لأنه لو آمن بهذا اليوم العصيب، وبهذا الحساب العسير فلا يمكن أن يفعل هذا الذي يفعله، فلذلك سيدنا عليٌّ رضي الله عنه قال في بعض الحديث عن هؤلاء:
إذاً:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ(1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3)﴾
سؤالٌ مصيريٌ خطير: هل أنا مؤمنٌ باليوم الآخر ؟
شيءٌ مَصيري، شيءٌ خطير أن تسأل نفسك هذا السؤال: هل أنا مؤمنٌ باليوم الآخر؟ التساهل في طاعة الله ؛ فإذا كان في بيت أحدنا معاصٍ، أو مخالفات، أو تقصيرات، إذا كان في تعامله اليومي تجاوزات، وكذلك لديه شيء من الحرام في دخله، وشيء من الحرام في إنفاقه، وشيء من الحرام في علاقاته مع الناس، في سهراته، في مجالسه، في نزواته، في نشاطه، هناك شيء من الحرام في كلامه، كيف يمكن أن يكون هذا الإنسان مؤمناً باليوم الآخر؟ لا يُبالي، لو أنه كان يبالي بهذا اليوم لسارع إلى الطاعة، إلى طاعة الله عزَّ وجل، فهذا الذي يوهمك أنك لمجرَّد أن تقول: أنا آمنت باليوم الآخر فأنت مؤمن؛ هذا يوقعك في الوهم، لن تكون مؤمناً باليوم الآخر إلا إذا كنت مستقيماً، لن تُفْرَزَ في صفِّ المؤمنين باليوم الآخر إلا إذا كان الإيمان باليوم الآخر واضحاً في عملك.
(( الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ))
فهذا الذي يأخذ ما ليس له، هذا الذي يعتدي على حقوق الورثة، ويأخذ النصيب الأكبر، ويصلي! كيف يكون هذا الإنسان مؤمناً باليوم الآخر؟ هذا الذي يقع في المعاصي، ويعلم أنها معاصٍ، كيف يكون مؤمناً باليوم الآخر؟ مستحيل، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا جاءه أعرابي قال:
(( عن عبد الله بن المسور: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله علمني من غرائب العلم قال: " ما فعلت في رأس العلم فتطلب الغرائب؟ " قال: وما رأس العلم؟ قال: "هل عرفت الرب؟ " قال: نعم، قال: "فما صنعت في حقه؟" قال: ما شاء الله. قال: "عرفت الموت؟ "قال: نعم، قال: "ما أعددت له؟ "قال: ما شاء الله. قال: "انطلق فاحكم هاهنا ثم تعال أعلمك من غرائب العلم. ))
لابدَّ أن يكون الإنسان واضحاً مع نفسه، لا أن يعيش بالوهم، ولا أن يعيش في أحلام ممتعة، لكنَّها موهومة.
بين الحقيقة المرة والوهم المريح:
عندنا شيئان، عندنا وهم مريح، وعندنا حقيقة مُرَّة، أنا أنصح كل أخ كريم أن يبحث عن الحقيقة المُرَّة لا عن الوهم المريح، الوهم المريح يبعثه على أن يقول: نحن إسلام الحمد لله، نحن لنا الجنَّة، نبينا سيشفع لنا، هذا وهم مريح، يريحك من التعب، والنَصَب، والانضباط، والبذل، والعطاء، والخوف، أما أن تقف عند حدود كتاب الله، أن تعرف ماذا يعني الإيمان باليوم الآخر؟ إنه يعني الطاعة لله عزَّ وجل، فإذا كان في الطاعة خللٌ، وكان في الطاعة تقصيرٌ، فهذا يدلُّ على ضعف إيمانك باليوم الآخر.
إذاً:
﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ(4) ﴾
أي أنهم أسقطوا الآخرة من حسابهم، أزاحوها من أهدافهم، يريدون الدنيا فقط، وهذا حال معظم الناس؛ يريد بيتاً، وزوجةً، ودخلاً، ومركبةً، ومكانةً، ورِفْعَةً، يريد أن يفعل كذا وكذا، وأن ينتقل من مكان إلى مكان، وأن يأكل ما لذَّ وطاب، هذه الدنيا تملأ كل همِّه، هذه الدنيا تُصْبِح كل علمه، لذلك:
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ
همُّه التزيينات، همُّه أن يَغْرَقَ في النعيم، أن يغرق في المباهج، في المسرَّات، همُّه أن يكون في أعلى درجة من المظهر الفخم، في بيته وفي حياته اليوميَّة، وفي أثاث بيته، وفي مركبته، همُّه هذا المظهر.
التزيين بين كسب الإنسان وتقدير الله:
الحقيقة أنك إذا عزوت الشيء إلى الله عزَّ وجل فهذا من باب أن الفاعل هو الله، وإذا عزوته للإنسان، أو إلى الشيطان فهذا يعني أن الإنسان مخيَّر، وأنَّ هذا من كَسْبِهِ.
مثلاً: لا تقع في حيرة إذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ
وإذا قال الله عزَّ وجل:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
فَهُمْ يَعْمَهُونَ
معنى العمه:
(( مَثَلُ الْمُنَافِقِ، كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً ))
﴿
هذا المنافق لا هو مؤمن فيقطف ثمار الإيمان؛ ولا هو كافر فيُقصَى من دائرة الإيمان، هو مذبذب، مثل المنافق كالناقة ربطها أهلها، لا تدري لا لمَ عُقِلَت؟ ولا لمَ أُطْلِقَت؟ هذه الحيرة، هذا التيه، يقول لك: نحن في ضياع، نحن تائهون، لا نعرف ما المصير، لا نعرف إلى أين نحن سائرون، هذا كله كلام أهل النِفاق، لأنه حينما ترك الآخرة، وأعرض عنها، وأخرجها من حسابه، وجعل الدنيا مبلغ علمه ومنتهى أمله، الله عزَّ وجل جعل عمله في نظره هو العمل الصحيح.
أحياناً تجد إنساناً يتلف كسوة بيت بمئات الألوف لكي يغيِّر لون الرخام، أو لون البلاط، يقول لك: لم يعجبني، فهل أنت مخلِّد في الدنيا؟ ما إن ينتهي من كسوة هذا البيت حتى يأتيه مَلَك الموت، إلى أين هو يمشي؟
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ(5)﴾
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُون
أي أنه خسر الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم سوء العذاب، وفي الآخرة ليسوا خاسرين، بل هم الأخسرون، أي أنهم أشد الناس خُسْراناً، هذا الذي خسر نفسه يوم القيامة، خسر الجنَّة، خسر كل شيء.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
في مطلع هذه السورة حديثٌ عن يوم القيامة، حديثٌ عن الإيمان باليوم الآخر.
﴿ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6)﴾
هل عرفت خالق الكون؟ هل عرفت ربَّ العالمين؟ هل عرفت الإله العظيم؟ هل عرفت صاحب الأسماء الحسنى؟ هذا القرآن من عنده
1 – مَن هو الحكيمُ ؟
مَن هو الحكيم؟ قال بعض العلماء: الذي يُحْكِمُ خَلْقَ الأشياء، أي أن خلق الله عزَّ وجل مُحْكَم.
﴿ ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)﴾
الله عزَّ وجل لم يجعل في هذا الكون خللاً ولا خطأً، ولا شيئاً غير مُحْكَم، فالحكيم هو الذي إذا صنع شيئاً أحكمه، والحكيم هو الذي يتقن التدبير، إذا رسم خطَّةً تأتي هذه الخطَّة مُحْكَمَةً، والحكيم هو حسن التقدير، إذا قدَّر الأشياء جاءت تقديراته صائبةً مئة بالمئة، إحكامٌ في الخلق، وإتقانٌ في التدبير، وحُسْنٌ في التقدير، هذا من معاني الحكيم، هذا القرآن إذاً من لدن حكيمٍ عليم.
2 – مَن هو العليمُ ؟
شيءٌ آخر، عليمٌ بالبواطن، عليمٌ بالأسرار، عليمٌ بكل شيء، وجاء هذا القرآن بالحجم، والطريقة، والأسلوب، والنَظْمِ الحكيم، من معاني الحكيم المُقَدَّس عن فعل ما لا ينبغي، إذا قلت: الله حكيم أي تقدَّست ذاته عن فعل ما لا ينبغي، فكلَّما عرفت الله عرفت حكمته، نزَّهته عن كل شيءٍ لا يليق بذاته، حكيم، هل يليق بالله عزَّ وجل أن يتخذ ولداً؟ هل يليق بالله عزَّ وجل أن يجعل الملائكة إناثاً، ويجعلهم بناته؟ هذا لا يليق بذاته الوحدانيَّة، ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ
إذاً: أراد الله عزَّ وجل أن يُعَرِّفنا أن هذا القرآن الكريم من عند خالق الكون، من عند الحكيم العليم، فالحكيم الذي أَحْكَمَ خلق الأشياء، وأتقن التدبير، وأحسن التقدير، والحكيم المُقَدَّس عن فعل ما لا ينبغي، والحكيم من كان مُصيباً في التقدير، مُحسناً في التدبير، والحكيم من ليست له أغراض، وليس على عمله اعتراض، على كلٍ، كلُّ ما في الكون، في كلِّ شيء يعبِّر عن حكمته جلَّ وعلا، فإذا أردت أن تعرف الحكيم فدونك الكون ففيه تجسيدٌ لهذا الاسم العظيم، بل إن الحكمة من الأدلَّة القطعيَّة على وجود الله عزَّ وجل، لولا الخالق لمَا كان في الكون حكمة، الحكمة: أيْ شيءٌ يَرْجِح بدليل، فالمرجِّح هو الله سبحانه وتعالى، لا رجحان بلا مرجِّح، فالحكمة أحد الأدلَّة على وجود الله عزَّ وجل.
3 – استنباط من اسم الحكيم: من عرف الله فهو حكيم:
قال بعضهم: من عرف جميع الأشياء، ولم يعرف الله عزَّ وجل لا يسمَّى حكيماً، لا يسمَّى حكيماً إلا من عرف الله لأنه أصل الوجود، أصل الخير، أصل كل نعمة، فإذا عرفت النعمة، ولم تعرف المُنعم فلست حكيماً، إذا عرفت الخَلْق ولم تعرف الخالِق فلست حكيماً، إذا عرفت النظام، ولم تعرف المنظِّم فلست حكيماً، إذا عرفت الكون ولم تعرف المكوِّن فلست حكيماً، لذلك من عرف جميع الأشياء، ولم يعرف الله عزَّ وجل لا يسمَّى حكيماً، ومن عرف الله سُمّي حكيماً ولو كان ضعيف الفِطنة، ولو كان مستوى ذكائه أقل مما يجب، إذا عرف الله وعرف الطريق إليه فقد عرف كل شيء، واهتدى إلى كل شيء، هذا الذي يقول: يا رب؛ ماذا فقد مَن وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ هذا الذي عرفك ما فاته شيء، وهذا الذي لم يعرفك ما أخذ شيئاً.
مِن دلائل معرفة الله:
• الآن من دلائل معرفة الله عزَّ وجل: أن تخافه:
• من دلائل معرفة الله عزَّ وجل:
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
• مِن دلائل معرفة الله عزَّ وجل إيمانُك أنَّ ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى.
• من دلائل معرفة الله عزَّ وجل أن تكون ورِعاً، إذا كنت ورعاً فأنت أعبد الناس، وإذا كنت قَنِعَاً فأنت أغنى الناس.
• من دلائل معرفة الله عزَّ وجل ترك ما لا يعنيك:
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
• من دلائل معرفة الله عزَّ وجل أنك تتعظ بغيرك ولا تتعظ بنفسك، وهذا أيضاً من دلائل معرفة الله عزَّ وجل.
• من دلائل معرفة الله أن تكون أكثر صمتاً، لأن الصمت دليل العقل ودليل التَبَصُّر والتأني.
• ومن دلائل معرفة الله عزَّ وجل أن تكون قانعاً بما أعطاك، لأنك عرفته واستغنيت به عمن سواه.
• من دلائل معرفة الله عزَّ وجل أن تصبر لأن الصبر نصف الإيمان، واليقين هو الإيمان كلُّه.
لذلك موضوع الحكمة؛ إحكامٌ في الخلق، حُسنٌ في التقدير، إتقانٌ في التدبير، تنزيهٌ عن فِعل ما لا ينبغي، هذا بعض ما يعنيه اسم الحكيم.
كلُّ شيءٍ في الكون بحكمةٍ ولحكمةٍ:
أما الكون كله فبُعد الشمس عن الأرض بحكمة، شدَّة الحرارة بحكمة، حجم الكرة الأرضيَّة بحكمة، دورتها حول نفسها بحكمة، محورها المائل بحكمة، علاقتها بالشمس بحكمة، علاقة القمر معها بحكمة، أي شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل متعلِّقٌ بالحكمة المطلقة، فتكاد الحكمة تكون دليلاً أولوياً على الله عزَّ وجل.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نبدأ بقصَّة سيدنا موسى.
﴿
والحمد لله رب العالمين.