- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (027)سورة النمل
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الحادي عشر من سورة النمل.
القرار لها معانٍ عِدَّة من معانيها هناك معنىً مادي وهناك معنىً معنوي:
وقفنا في الدرس الماضي عند قوله تعالى:
﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)﴾
الآية الثانية دقيقةٌ جداً:
﴿
القرار لها معانٍ عِدَّة، من معانيها أنَّها مستقرَّة بالمعنى المادي، ومن معانيها أيضاً أنها مكانٌ يستقرُّ فيه الإنسان، هناك معنىً مادي وهناك معنىً معنوي، مكانٌ لاستقراره، مكانٌ لسُكْناه، وهذه الأرض في الأصل مستقرَّة، فربنا سبحانه وتعالى يسألنا:
هذا الإله العظيم خلق الأرض بطريقةٍ يرتاح الإنسان فيها:
للأرض اثنتا عشرة دورة ومع ذلك هي مستقرَّة وساكنة سكوناً مطلقاً:
قال تعالى:
السكون والاستقرار نِعَمٌ يجب أن يعرفها الإنسان:
﴿
دورةٌ حول نفسها، دورةٌ حول الشمس، تأرجحٌ في محورها، دورةٌ لمحورها، دورةٌ لمستوي دورانها، هذا كلُّه والأرض مستقرَّة، هذا البناء أُنْشِئ قبل أربعمائة عام وهو كما هو، لو أن هناك اهتزازاً لم تكن مستقرَّة، من جعلها مستقرَّة؟
في دورانها حول الشمس تزداد سرعتها وتنقُص، تزداد حينما تصل إلى البُعد الأصغر بينها وبين الشمس لئلا تزيد جاذبيَّة الشمس لها، تزيد من سرعتها حتَّى ينشأ من هذه السرعة قوَّةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة، من جعل هذه السرعة تزيد؟ ومن جعلها تنقص؟ ومن جعلها تزيد تدريجياً بلطفٍ شديد؟ من جعل هذه الأرض على مسارها الصحيح منذ آلاف آلافِ آلاف آلاف الأعوام؟
من نعم الله تعالى علينا أنه جعل الأرض تلزم خطَّاً دقيقاً لا تحيد عنه:
قال تعالى:
﴿
القطار أحياناً يخرج عن خطِّ سيره، فيحتاج إلى رافعات كي تعيده إلى خطِّ سيره، إلى هذه القضبان الحديديَّة، الأرض لم تخرج ولا مرَّة عن مسارها حول الشمس، بل إنَّنا جميعاً حينما نُمْسِكُ بالتقويم، هل تعلم ماذا يعني هذا التقويم؟ نعلم أن الشمس تشرق في يوم الجمعة السادس عشر من شباط في الساعة السادسة واثنتين وعشرين دقيقة، هذه متى طُبِعَت؟ طُبِعَت من أول العام، وهذه الأرقام معروفة قبل عشرات السنين وقبل مئات السنين، ما معنى ذلك؟ أن حركة الأرض في دورتها حول نفسها وحول الشمس محسوبةٌ بأجزاء الدقيقة، إذاً من جعل هذه الأرض تلزم خطَّاً دقيقاً لا تحيد عنه؟
﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا(109) ﴾
معاني هذا الكتاب لا تنقضي؛ لأنه كلام الله رب العالمين، وفضل كلام الله على كلام عباده كفضل الله على عباده، فإذا قال الله عز وجل:
الجبال الرواسي من وظائفها الأساسيَّة أنها تبقي الأرض في حالة سكونٍ أثناء حركتها:
﴿
هذه الجبال الرواسي من وظائفها الأساسيَّة أنها تبقي الأرض في حالة سكونٍ في أثناء حركتها، حركةٌ ساكنة هذا أرقى شيء، الإنسان لم يتوصّل بعد إلى تحريك شيء مع السكون التام، مع الحركة يوجد اهتزاز.
معنى الاستواء والأفقيَّة والليونة والسكون هذا كلُّه مأخوذٌ من الآية التالية:
شيءٌ آخر: هذه الحاجات نضعُها على الطاولة فتبقى في محلِّها، لو أنّك ركبت مركبةً فضائيَّة واجتزت المنطقة التي تنتهي فيها جاذبية الأرض، واقتربت من منطقةٍ تنعدم فيها الجاذبيَّة، لعرفت هذه النعمة الكبيرة، كيف أنك إذا وضعت الشيء على الطاولة استقر في مكانه، هذا الوزن الذي يعبر عنه الناس (وزن الشيء) ما معناه؟ وزن الشيء أي قوة انجذابه إلى الأرض، لولا هذه الجاذبية، رواد الفضاء حينما وصلوا إلى القمر الجاذبيَّة هناك أقل بستة أمثال، فالرجل الذي وزنه على سطح الأرض ستون كيلو غراماً في القمر وزنه عشرة كيلو، فالحركة تبدو سهلة جداً، أي جهدٍ تبذله تقفز من على سطح القمر عشرات الأمتار، من جعل هذه الجاذبيَّة بهذا الميزان الدقيق؟
لو أننا على سطح كوكبٍ آخر يزيد حجمه عن حجم الأرض بمرَّاتٍ عديدة، لكان وزن الإنسان يزيد عن آلاف الكيلو غرامات، شيءٌ لا يطاق أن يكون وزن الإنسان ألف كيلو غراماً، ولا يطاق أيضاً أن يكون وزنه عشرة كيلو، ولكن حجم الأرض يقرِّر نوع الجاذبيَّة.
الأرض تجذب الأشياء نحو مركزها:
روَّاد الفضاء وهم في مركبتهم، في منطقة انعدام الجاذبية حياتهم في المركبة لا تُطاق، إذا أمسك بالقلم طار منه القلم إلى سقف المركبة، الأشياء تتحرَّك وحدها من دون سبب، ليس لها وزن، الحاجات، الأغراض كلها ليس لها وزن، فحياة الإنسان بلا وزن لا تطاق لا تحتمل، تضع قطع الأثاث في هذه الغرفة وتأتي بعد ساعة تجد أنها صارت في مكانٍ آخر مبعثرة لأنه ليس لها وزن، نسمة ريحٍ تنقلها من غرفةٍ إلى غرفة
شيءٌ آخر: هذا البحر المسجور من ربطه في الأرض؟ ألا تعرف أن الأرض كرة؟ ألا تعرف أن البحر في جنوبها مُلتصقٌ بها؟ من جذبه إليها؟
شيءٌ آخر: هذا الهواء المُحيط بالأرض مرتبط بها، لو أن الهواء مستقلٌّ عن الأرض، والأرض تدور بسرعة ألف وستمائة كيلو في الساعة والهواء ثابت، لنشأت أعاصير سرعتها ألف وستمائة كيلو في الساعة، البارحة كانت السرعة تسعين فحصلت أضرار شديدة، في أوروبا قبل أسابيع هَبَّت عاصفة سرعتها مائة وثمانين كيلو متراً، اقتلعت المزارع كلَّها، اقتلعت الأبنية، فكيف إذا كانت الرياح تزيد عن ألفٍ وستمائة كيلو متراً في الساعة؟ بسرعة 200 كم اقتلعت الأبنية والمزارع والأشجار، وذهب ضحية هذه العواصف أشخاص عديدون.
إذاً هذا الهواء ربطه الله بالأرض، هذا الماء مرتبط بالأرض، هذه الجبال راسيات، هذه الحاجات ثابتة، أنت إذا ركبت مركبتك وانطلقت بها في طريق هابطة، تشعر أنها تنطلق وحدها من دون محرِّك، أية قوَّةٍ هذه؟ إنَّها قوة الجاذبيَّة، الأرض تجذبها نحو مركزها:
تنظيم الكون بقدرة الله عز وجل بطريقة التجاذب:
الله سبحانه وتعالى يقول كلمةً واحدة، ولكن ينطوي في هذه الكلمة معانٍ لا تُعَدُّ ولا تحصى:
أنا قلت لكم أن تضع كرة معدنية بين كتلتين متساويتين على مستوٍ شيء صعب جداً، فإذا كانت هاتان الكتلتان مختلفتين في الحجم أصعب بكثير، فإذا كانت هذه الكتل أكثر من اثنتين أصعب بكثير، فإذا كانت هذه الكتل كثيرة جداً، وكلها في الفراغ، وكلها متحركة، وذات حجوم متفاوتة، وعليك أن تضع كرة معدنية في مكان تستقر فيه هذا شيء من سابع المستحيلات.
انجذاب و جذب كل كتلةٍ في الكون بحسب كتلتها وبحسب المسافة:
أما الكون فهو أعقد من ذلك، كل كتلةٍ في الكون تجذب وتنجذب بحسب كتلتها، وبحسب المسافة، وهذه الكتل متحرِّكة والكون مستقر، الأرض مستقرَّة، انجذابها إلى الشمس بمقدار، انجذاب القمر إليها بمقدار، انجذابها إلى أية كتلةٍ أخرى بمقدار.
ما الذي يجعل هذا الكون بهذه الكيانات المتفرِّقة، هذه درب التبَّانة مجرَّتنا، وهذه أرض، وهذا قمر، وهذا المريخ، وهذا المُشتري، وهذا بلوتو، وهذه المرأة المسلسلة، وهذا برج العقرب، وهذا برج الجوزاء، من جعل هذه الكواكب كل كوكب له كيان؟ لأنه متحرِّك، من هذه الحركة تنشأ قوى نبذ، وقوى الجذب متكافئة مع قوى النبذ، هذا الكون، إذاً الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
لا تنفي العمَد، هناك عمد لا ترونها، قوى التجاذب.
الشمس بطاقتها ونورها وحرارتها داخلة في قوله تعالى أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا:
قال تعالى:
لكن هناك معانٍ أخرى، الإنسان كيف يستقرُّ عليها؟ لولا الشمس لما استقرَّ الإنسان في الأرض، الشمس مصدر الطاقة، مصدر النور، مصدر الحرارة، مصدر التعقيم، لولا الشمس لما استقرَّ الإنسان على الأرض، فهذه الشمس:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)﴾
لو أنها أقرب إلى الأرض لاحترق ما على الأرض، لو أنها أبعد لتجمد ما على الأرض، إذاً الشمس بطاقتها ونورها وحرارتها وتعقيمها بقدَر، إذاً الشمس داخلةٌ في هذه الآية:
الأرض وحجمها والشمس والهواء والماء والنبات هذا كلُّه نجده في الآية التالية:
الآن محور دوران الأرض عمودي مع مستوي دورانها حول الشمس، لا يوجد فصول، الأشعَّة عموديَّة هنا صيفٌ إلى الأبد، ومائلةٌ هنا شتاء إلى الأبد، كيف تنبت المزروعات؟ كيف يتبدَّل الطقس؟ كيف يتقلَّب الجو؟ كيف تأتي الأمطار؟ الأرض لو أنها واقفة لا تدور ليست قراراً، لو أنها تدور على محور عمودي مع مستوي دورانها ليست قراراً، لا بدَّ من أن يكون دورانها بمحور يميل على مستوي دورانها هكذا، لذلك تأتي أشعَّة الشمس هنا مائلة، فإذا اختلف الأمر انعكست الآية، جاءت الفصول فكان الصيف والشتاء، والخريف والربيع، والليل والنهار.
القدر الدقيق لهذه الأشعَّة، الله عزَّ وجل غلَّف الأرض بطبقة أوزون، الآن في هذه الأيَّام الحديث عنها يكثُر، غاز الفحم الناتج عن احتراق الأكسجين في المركبات والمعامل يسهم في خلخلة هذه الطبقة من الأوزون لذلك جو الأرض اختلف، وهناك ارتفاع في درجات الحرارة بسبب خلخلة هذه الطبقة، هذه الطبقة من الأوزون سمكها لا يزيد عن ميليمترات تغلِّف الأرض كلها، من جعلها؟ هذه داخلة أيضاً:
تسخير الكون للإنسان لمعرفة الله عز وجل من خلاله:
مرَّةً أخرى أيُّها الأخوة، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
معظم العلماء على أن التفكر عبادة من أرقى العبادات، إنها أقرب عبادةٍ توصل إلى الله عزَّ وجل، لذلك هذا الكون سخَّره الله عزَّ وجل لنعرفه من خلاله، فهذا الذي يُعْرِضُ عن التفكُّر في خلق السماوات والأرض كأنَّه يُعَطِّل الهدف الذي من أجله خلق الله الكون، والحد الأدنى إذا مرّت بكَ في القرآن الكريم آية تشير إلى عظيم قدرته أو دقَّة صنعته يجب أن تقف عندها.
إذا قرأنا القرآن فلنقف عند هذه الآيات حتَّى نعرف الله عزَّ وجل:
درسنا اليوم كان كلمة قرار، هذه الأرض جعلها الله قراراً، هناك خمس معانٍ ماديَّة لهذا القرار، وهناك معانٍ كثيرة جداً تدعو الإنسان إلى أن يستقرّ عليها، أن يعيش عليها، طبعاً الحرارة، والبرودة، والماء، والهواء، والطعام، والشراب، وغير ذلك، فالإنسان إذا قرأ القرآن ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
القضيَّة قضية تَدَبُّر، وهذا القرآن بين أيدينا، والله سبحانه وتعالى يسَّره لنا، فإذا قرأنا القرآن فلنقف عند هذه الآيات حتَّى نعرف الله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ
أي أن العلماء وحدهم ولا أحد سواهم يخشى الله.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.