- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (027)سورة النمل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس التاسع من سورة النمل، وصلنا في الدرس الماضي إلى مطلع القصَّة الأخيرة من قصص هذه السورة، وكنا قد ذكرنا في التعقيب على قوله تعالى:
﴿ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(53)﴾
تتِمّةٌ لموضوع التقوى: الإيمان قبْل التقوى:
إذاً: كان الحديث في الدرس الماضي عن التقوى، ولكن لابدَّ من تعقيبٍ آخر متمِّمٍ لهذا الدرس، التقوى كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ
﴿
في آيتين اثنتين جاء الإيمان قبل التقوى، الإيمان تصديقٍ وإقبال، والكفر تكذيبٌ وإعراض.
1 – طريق الإيمانِ هو العلمُ:
ولكن هذا التصديق ما طريقه؟ ما طريق التصديق؟ لا شكَّ أن طريق التصديق هو العلم، فالعلم هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله عزَّ وجل، لقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اغدُ عالماً، أو متعلِّماً، أو مستمعاً، أو محبَّاً، ولا تكن الخامس فتهلك. ))
الخامس أن تبغض العلم وأهل العلم
2 – العلمُ كلمةٌ ذاتُ مدلولٍ واسعٍ:
الشيء الذي لابدَّ من التعقيب عليه هو أن العلم كلمة ذات مدلول واسع جداً، فهذا الذي يدرس الطب يتعلَّم، والذي يأخذ اختصاصاً في الهندسة يتعلَّم، والذي يدرس أصول التجارة يتعلَّم، وفروع الجامعة كما ترون أنواعٌ منوَّعة، وكلُّها تعطي العلم، فإذا مَرَّت كلمة العلم في القرآن الكريم أهذا هو العلم الذي أمرنا الله به!! هذا العلم الذي يتعلَّمه الطلاب في الجامعات أساسيٌ جداً لصلاح الحياة الدنيا.
كنت قد ذكرت في خطبةٍ قديمة: من أن علوم الكون، أو العلوم الحديثة، أو علوم الخَلْق، أو علوم الخليقة، أسماءٌ متعدِّدة، أصلٌ في صلاح الدنيا، وعلم الشريعة أصلٌ في عبادة الله عزَّ وجل، وعلم الحقيقة أصلٌ في معرفة الله، يجب أن تعرف الله، ويجب أن تعرف أمره، ويجب أن تعرف خصائص الأشياء، فإذا عرفت الله عرفت نفسك، عرفت من أنت، عرفت أين كنت، عرفت أين المصير، عرفت ما يجوز، وما لا يجوز، معرفة الرب أصل الدين، وأصل الدين معرفة الله عزَّ وجل، ومعرفة الشرع أصل العبادة، فإذا عرفته، ألا ينبغي أن تعبده؟ كيف تعبده؟ لابدَّ من أن تعرف أحكامه، وإذا تعلَّمت العلوم الماديَّة، هذه العلوم أصلٌ في صلاح المجتمع على المستوى الجماعي، وطريقٌ لكسب الرزق على المستوى الفَرْدِيّ، فالعلوم التي نتعلَّمها في الجامعات مع أنها ثمينةٌ جداً، ولها علاقةٌ نفيسة بحياتنا، ولكنَّها شيء، ومعرفة الله شيءٌ آخر.
لذلك بعض الأئمَّة القُدامى يُسمّون هذا العلم أن تعرف الله عزَّ وجل، أن تعرف الهدف الذي من أجله خُلِقْتْ، أن تعرف أين كنت، أن تعرف أين ستكون، أن تعرف سرَّ الوجود، حقيقة الحياة، جوهر الأشياء، سرَّ التصرُّف الإلهي، هذا كلُّه ينطوي تحت باب العلم الأعلى، يسميه اليوم الفلاسفة علم ما وراء الطبيعة، ويسميه السلف الصالح العلم الأعلى، وهذا العلم أصلٌ في صحَّة العقيدة.
فيجب أن تعرف هويتك، أنت إنسان إذاً أنت مكلَّف، مكلَّفٌ بنفسك.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
مقوِّماتُ التكليف:
1 – العقلُ:
حينما كلَّفك الله عزَّ وجل أعطاك مقوِّمات التكليف، أعطاك عقلاً يتطابق تطابقاً تاماً مع الكون، وأساس الكون مبدأ السببية، مبدأ الغائيَّة، مبدأ عدم التناقض، وأساس عقلك هكذا.
2 – الكون:
أعطاك كوناً سخَّره لك تسخير تعريفٍ وتسخير تكريم.
3 – الفطرة:
أعطاك الله فطرةً سليمة تحضُّك على فعل الخيرات وترك المنكرات، تؤلمك إذا انحرفت عنه، وتريحك إذا اتبعت الطريق الصحيح، الفطرة عطاء إلهي، والكون عطاء إلهي، والعقل عطاء إلهي.
4 – المنهجُ والشرعُ:
أعطاك كتاباً أنزله على نبيِّه الكريم، أعطاك سُنَّةً تفهم بها هذا الكتاب، أعطاك دعاةً يشرحون لك الأمور، أعطاك دروساً من خلال الحوادث، أعطاك إلهاماتٍ من خلال إلهامات الملائكة، أعطاك الرؤية، وأعطاك أشياء كثيرة، فلذلك هذا العلم الذي نتعلَّمه هو أصلٌ في معرفة الله عزَّ وجل.
الفهمُ العلمي والعقلية العلمية:
لكن قبل أن نمضي في الحديث عن القصَّة الأخيرة في هذه السورة لابدَّ من وقفةٍ صغيرة، لأن العلم طريق الإيمان، والإيمان طريق التقوى، وكان الحديث في الدرس الماضي عن التقوى، لابدَّ من وقفةٍ قصيرة حول هذا الذي يسمونه "العقليَّة العلميَّة" التي رَعَاها الإسلام ونمَّاها القرآن، من خلال القرآن فقط، من خلال آيات الله عزَّ وجل ربَّى ربنا سبحانه وتعالى عباده على الفهم العلمي والعقليَّة العلميَّة، فمثلاً:
نحن عندنا عقليَّةٌ تسمَّى العقليّة العاميَّة، أو العقليَّة الخرافيَّة، يمكن أن ترى إنساناً يتمتَّع بهذه العقليَّة، فما صفات هذه العقليَّة العاميَّة والعقليَّة الخرافيَّة؟ إنها تقبل كل شيء، إنها تصدِّق كل شيء، إنها تعتقد بكل شيءٍ ينتهي إليها، ومثل هذا الإنسان عقليَّته عقليَّةٌ عاميَّة خُرافيَّة، كأن تستمع من زيدٍ أو من عبيد إلى كلامٍ تصدِّقه من دون تحقيق، من دون تمحيص، من دون سؤال، من دون طلب الدليل، من دون طلب الحُجَّة، إذا كنت من هؤلاء فعقليَّتك عاميّة، وعقليَّتك خرافيَّة، وهذه العقلية تتناقض مع صفات المؤمنين.
سأريكم بعد قليل كيف أن القرآن يربِّي في الإنسان العقليَّة العلميَّة، أما أن تستمع وتصدِّق، أن يُلْقَى إليكَ كلامٌ فتقبله، أن تستمع إلى زيدٍ أو عبيد فتصدِّقه من دون سؤال، من دون جواب، لأن فلان قاله، هذه العقليَّة الخرافيَّة والعاميَّة لا مكان لها بين المؤمنين، وهذا الذي يصدِّق كل شيء يكذِّب كل شيء، وهذا الذي يصدِّق كل شيء لأدنى ضغطٍ أو أدنى إغراءٍ يفقد كل شيء.
نحن نريد أن نبني شخصيَّة المؤمن بناءً صحيحاً، لو أن هذا المؤمن ربَّيناه على أن يقبل كل شيء، مثل هذا المؤمن ستنهار مقاومته أمام أصغر ضغطٍ، أو أمام أقلِّ إغراءٍ، يقال: انتكس، لماذا انتكس؟ لأن عقليَّته في الأصل عقلية خرافيَّة، وعقليته في الأصل عقلية عاميَّة قَبِلتْ كل شيء من دون دليل، لذلك يمكن أن ترفض كل شيء من دون دليل، تمثِّلُ هذه العقلية آيةٌ كريمة يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
إذاً: هو يقول: هكذا قال الناس، أنا مع الناس، أنا مع الخط العريض، أكُلُّ هؤلاء الناس في ضلالٍ مبين؟ أنا مع هؤلاء، هذا الانتماء العفوي غير المدروس لأفكار عامَّة الناس، لقيمهم، لمعتقداتهم من دون تمحيص، من دون تأمُّل، من دون دراسة، صاحب هذه العقلية اسمه في العلوم الإنسانيَّة عقليَّته عقليَّةٌ عاميَّةٌ خرافيةٌ ليست بشيءٍ إطلاقاً إذا ما وُزِنَت بالعقليَّة العلميَّة.
صفاتُ العقلية العلمية:
1 – الدليل والحجة في الأمور العلمية:
ما صفات العقليَّة العلميَّة؟ إذا كنت مؤمناً يجب أن تتمتَّع بالعقليَّة العلميَّة، إذا كنت مؤمناً، وسوف ترى بالدليل القرآني كيف أن المؤمنين الصادقين يتمتَّعون بعقليَّةٍ علميَّة، العقلية العلمية من لوازمها ألّا تقبل شيئاً من دون دليلٍ قطعي، وألّا ترفض شيئاً من دون دليلٍ قطعي، فإن كان الموضوع موضوعاً نظرياً يتعلَّق بالأفكار لابدَّ من البرهان النظري والحجَّة المنطقيَّة، والدليل قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ
الموضوع فكري، الموضوع في العقيدة، الموضوع يتعلَّق بالعقليَّات، إذاً: فلابدَّ من الدليل العقلي والحُجَّةِ القاطعة
﴿
هكذا صفات المؤمنين، لا يقبلون إلا بالدليل العقلي والحجَّة البالغة.
2 – الحواسّ الخمسُ هي الحَكَم في الماديات:
وإذا كان الموضوع متعلِّقاً بالمشاهدات الحِسيَّة، والأمور الماديَّة فلابدَّ من أن تكون الحواسُّ هي الحَكَمَ الأخير في هذا الموضوع، والدليل قول الله عزَّ وجل:
﴿
قالوا: العالَم بدأ كذا وكذا وكَذا.
﴿
حينما يزعمون أو يتخرَّصون من أن العالَم بدأ بطريقةٍ كذا أو كذا، ربنا عزَّ وجل يردُّ عليهم فيقول:
﴿ قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ ۖ
في العقليَّات لابدَّ من البرهان، في الحسيات لابدَّ من المشاهدة والتجربة، في الإخباريات لابدَّ من صحَّة الرواية، هكذا يربي ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين على عقليّةٍ لا تقبل إلا الحق، ولا ترفض إلا الباطل.
3 – اليقينُ لا الشكُّ:
شيءٌ آخر، في الإسلام أو كما نَطَقَ به القرآن الظن مرفوض، إذا كنت في أمور العقيدة لست متأكِّداً، فإنك تقول: هكذا قال الناس ولعلَّه كذلك، أرجو أن يكون كذلك..
زعم المنجِّمُ والطبيبُ كلاهما لا تُبْعَثُ الأمـواتُ قلت إليكما
إن صحَّ قولكما فلست بخاسرٍ أو صحَّ قولي فالخسار عليكما
***
هذا التردُّد، عدم اليقين، الشك، عدم الجزم، عدم القطع، هذا الظن ليس من صفات أهل الإيمان، قال تعالى:
﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(28)﴾
إذاً: الظن والشك والوهم كله مرفوض في العقيدة.
﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ
4 – رفضُ الأهواء والنزوات:
شيء آخر، أيضاً من لوازم العقليَّة العلميَّة أن ترفض الأهواء والنزوات، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ
قد يكون هواك في هذا الفعل، ولكن ليس من صفات المؤمن أن يتَّبع الهوى، يجب أن تتبع العقل، آيةٌ أخرى:
﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
﴿
الهوى مرفوض، وكذلك النزوات الشخصيَّة، والمِزاج الشخصي مرفوضٌ في الحق، والظن مرفوضٌ أيضاً، ولابدَّ من دليلٍ قطعيٍّ عقليٍّ في العقليَّات، وحسيٍّ في الحسِّيات، وصحيحٍ في الإخباريَّات، هكذا تبدو ملامح العقليَّة العلميَّة التي يجب أن يتمتَّع بها المؤمن، وكل هذا من كتاب الله، لذلك إيَّاكم أن تتمتَّعوا بعقليَّةٍ خرافيَّة، أو عقليَّةٍ عاميَّة تقبل كل شيء بلا دليل، أو ترفض بلا دليل، مثل هذه الأفكار التي تتأتَّى إلى الإنسان من دون هذا التمحيص أغلب الظن أنه يفقدها أو يكذِّبها أو ينكرها لأدنى ضغطٍ ولأدنى إغراء.
المؤمن كأنه قلعةٌ متينة، لكن لو لم يكن إيمانه مبنياً على هذه الأسس الصحيحة لأصبح إيمانه هَشًّا كبيت العنكبوت، سريعاً ما ينهار، البطولة لا أن تبدأ؛ بل أن تثبت، كم من شابٍ انطلق إلى طاعة الله عزَّ وجل، ولسببٍ تافه بعد أن عمل في وظيفة، بعد أن دخل الجامعة، بعد أن تزوَّج انهار كل إيمانه، وعاد إلى سيرته الأولى، أين إيمانه؟ لأنه لم يبْنِ إيمانه على تحقُّق، لم يكن يتمتَّع بالعقليَّة العلميَّة التي لا تقبل إلا بالدليل، ولا ترفض إلا بالدليل.
5 – رفضُ الجمودِ والتقليدِ:
الشيء الآخر، من لوازم العقليَّة العلميَّة التي وردت ملامحها في القرآن الكريم، أن المؤمن يرفض الجمود والتقليد والتبعيَّة الفكرية للآخرين، والله سبحانه وتعالى وصف أهل الكفر بأنَّهم كذلك، قال:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا
التبعيَّة الفكريَّة، التقليد الأعمى، الانتماء العفوي للكبراء، للعُظماء من أهل الدنيا من دون تبصُّر هذا من صفات أهل الكفر، ربنا عزَّ وجل ردَّ عليهم فقال:
النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَة ))
هذه التبعيَّة الفكريَّة
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا. ))
هذا المؤمن، فهذا الذي مع الخط العريض، مع التيار العام، مع عامَّة الناس، كيفما يرتدوا ثيابهم يرتدِ ثيابه، ولاسيما النساء، على حساب دينهم، وعلى حساب قيمهم الأخلاقيَّة، وعلى حساب انتمائهم الروحي، التبعيَّة العفويَّة الجاهلة للكبراء وللعادات والتقاليد ليست من صفات المؤمنين، الأهواء والنزوات والميول الشخصيَّة لا يمكن أن تكون موجِّهةً للإنسان في عالَم الإيمان، الظن والريب والشك والوهم ليس من صفات المؤمنين.
العقليَّة العلميَّة لا تقبل إلا الدليل والحجَّة والبرهان والخبر الصادق، من أجل هذا إذا بنيت إيمانك وفق هذه الأُسس كان هذا العلم طريقاً إلى الإيمان، وكان الإيمان طريقاً إلى التقوى.
هذا تعقيبٌ على الدرس الماضي الذي بيَّنت فيه أن التقوى أساسها الإيمان، وأن الإيمان أساسه العلم، والآن لمتابعة القصَّة الأخيرة من سورة النمل، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(54)﴾
قصة لوط: وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
1 – وَلُوطاً:
معنى "وَلُوطًا" واذكر لوطاً، أو ولقد أرسلنا لوطاً، ما دام جاءت منصوبة لابدَّ من فعلٍ مقدَّرٍ قبلها، ولقد أرسلنا لوطاً، أو واذكر لوطاً
2 – وَلُوطاً: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
ما هي الفاحشة؟
﴿
أي الفعل الشنيع الذي إذا فعله الإنسان فُضِحَ بين الناس، هذه فاحشة، وليس من فاحشةٍ أشدُّ من أن تخالف السنن الطبيعيَّة في علاقتك بالآخرين، ففعل قوم لوط فاحشةٌ وأية فاحشة، لأنهم أولاً خالفوا الفطرة، قال ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)﴾
3 – مخالفة الطريق السليم عدوانٌ:
من ابتغى هذه الشهوة خلاف الطريق التي رسمها الله عزّ وجل فهو من العادين، ما من طريقٍ لقضاء هذه الشهوة إلا طريق الزواج، ولا شيء غير الزواج، هذا هو الطريق المشروع، هذه هي القناة النظيفة، هذه هي سُنَّة الله في خلقه، هذه هي السُنَّة الشريفة، أما من ابتغى لقضاء هذه الشهوة طريقاً آخر غير الزواج، كالزنا فهو فاحشة.
إنّ عمَلَ قوم لوط أشدُّ أنواع الفواحش، بل هو إثمٌ مرَّتان، أولاً: لأن العلاقة غير مشروعة، وثانياً: هي غير طبيعيَّة، وبعيدة عن أن تكون مشروعةً، وعن أن تكون مألوفةً طبيعيَّةً، فلذلك سمي عمل قوم لوط فاحشة.
معاني: وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
المعنى الأول:
المعنى الثاني:
بعض العلماء قال: هناك معنىً آخر لهذه الآية، المعنى الثاني: أنكم تعلمون أنها فاحشة، وتعلمون أنها عدوان، وتعلمون أنها مخالفةٌ لأمر الواحد الديَّان، تعلمون أن هذا العمل قذر، وأن هذا العمل يؤذي، وأن هذا العمل يضيِّع المروءة في الفاعل والمفعول
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ ))
الانحرافُ يولِّد في النفسِ الكآبةَ والضيقَ والتأنيبَ:
فالإنسان له فطرة سليمة، أيّ إنسانٍ في أيِّ مكان يتمتَّع بفطرةٍ سليمة، فإذا فعل شيئاً خِلاف فطرته شعر بضيق، حتى إن علماء النفس وهم لا يعرفون عن الدين الإسلامي شيئاً، يذكرون أن من حالات الكآبة، المنحرفون إذا انحرفوا عن الطريق الصحيح فانحرافهم هذا يولِّد عندهم حالاتٍ من نوع الكآبة والضيق، كل عملٍ غير أخلاقي تعقبه حالةٌ من الضيق الشديد هي مخالفة الفطرة، بل إن بعض الأمراض النفسيَّة لها اسمٌ على خِلاف ما يعرفه الناس جميعاً "الهيستريا" الهيستريا مرضٌ عضويٌ أساسه نفسي، أي شلل، فتصاب العضويَّة بشللٍ لا لأسبابٍ ماديَّة، فالشرايين، والأوردة، والأعصاب، والجهاز الحسي والحركي في أعلى درجة من الجاهزيَّة، ومع ذلك يُصاب الإنسان بشلل حينما يبلغ تأنيب ضميره له درجةً عالية، هذا المرض مصطلح اسمه "الهيستريا" وهو شللٌ عضوي لأسبابٍ نفسيَّة، هذه الفطرة، الإحساس بالكآبة.
سألوا إنساناً: لماذا لا تخون زوجتك؟ قال: "لا أستطيع أن أواجه شعوري بالذنب"، هذه فطرة، الله عزَّ وجل فطر الإنسان فطرةً عالية، فَطَره على حبِّ الكمال، وأنْ تحبَّ الكمال شيء، وأن تكون كاملاً شيءٌ آخر، قد تحبُّ الكمال ولا تكون كاملاً، أما إذا كنت كاملاً فتلك هي الصبغة، وفرقٌ بين الفطرة والصبغة، الفطرة أن تحبَّ الكمال، والصبغة أن تكون كاملاً، لذلك قال الله عزَّ وجل:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ
وقال:
﴿
لذلك المعنى الثاني:
المعنى الثالث:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10)﴾
وهذا على مستوى حياتنا اليومية، ألم ينتهِ إلى سمعك آلاف القصص من أن فلاناً أكل مالاً حراماً فأتلفه الله، وأن فلاناً تتبَّع عورات المسلمين ففضحه الله في عُقر بيته، وأن فلاناً أوقع الأذى بالناس فدمَّره الله عزَّ وجل، وفلاناً غشَّ المسلمين فدمَّر الله ماله، وفلاناً تكلَّم في أعراض المسلمين فتكلَّم الناس في عِرضِه، وفلاناً زنا فزُنِي بأهله، هذه القصص الصارخة أليست في متناول يدك؟
يتابع الله عزَّ وجل قصَّة هذا النبي الكريم مع قومه فيقول:
﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(55)﴾
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
الجمعُ بين قوله: وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ، وقوله: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
ماذا تجهلون؟ هنا السؤال دقيق جداً، كيف وأنتم تبصرون، هنا وأنتم تجهلون؟ كيف أثبت الله لهم البصر، وكيف نعتهم الله بالجهل؟ يمكن أن تكون عالِماً بجزئيَّات وتفصيلات ولكن لأنَّك لم تعرف الله عزَّ وجل، غاب عنك أن هناك إلهاً عظيماً سيحاسب حساباً عسيراً، فلو أن الإنسان عرف الله عزَّ وجل لما عصاه، يستحيل في حقِّ إنسانٍ عاقل أن يعرف الله ثمَّ يعصيه، لا يعصي الله إلا من جَهِلَ به، كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.
لمجرَّد أن تعصي الله عزَّ وجل فأنت لا تعرفه، لا تعرف أن هناك إلهاً عظيماً عنده عطاءٌ كبير إذا أطعته، وعنده عذابٌ أليم إذا عصيته، فهذا الذي يلبِّي شهوته الطارئة هو لا يعرف الله عزَّ وجل.
معنى: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
تجهلون الثمن الباهظ الذي تدفعونه لهذه المعاصي، تجهلون الثمن العظيم، وهي الجنَّة التي ضاعت عليكم بسبب هذه المعاصي، فالموضوع لا أن تعلم علماً جزئياً، ربنا عزَّ وجل وصف أهل الدنيا بأنهم لا يعلمون، وبعد هذه الآية مباشرةً قال تعالى:
﴿
لا يعلمون ويعلمون، كيف هذا؟ ما عرفوا الله، وما عرفوا ما بعد هذه الدنيا، وما عرفوا ما ينتظرهم من عذاب، ولا من جنَّةٍ لو أنهم أطاعوا، ولكنَّهم عرفوا دقائق الأمور في الدنيا، عرفوا من أين تُؤكَل الكَتِف، عرفوا كيف ينتهزون المناسبات، وكيف يقتنصون الفُرَص، عرفوا كيف يستمتعون، عرفوا كيف يغرقون في ملذَّاتهم، عرفوا كيف يجمعون المال، عرفوا كيف ينفقونه، تمتَّعوا بأذواقٍ عالية في طعامهم، وشرابهم، وملبسهم، ورحلاتهم، ونُزهاتهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وفي مظهرهم الخارجي، هذا كله يعرفونه، ولكنَّهم ما عرفوا الله الذي إليه مصيرهم، وما عرفوا الله الذي عنده حسابهم، وما عرفوا الله الذي عنده مكرهم
﴿
والله في نفسي أن أوضِّح لكم.
إسقاط لمعنى الآية في واقع الناس:
نحن نسمح للشباب بكل عملٍ منكر، وبعد ذلك إذا انحرفوا يحتاجون إلى عمليَّة جراحيَّة، يجب أن نكافح المخدَّرات، من أين جاءت المخدَّرات في الأساس؟ من ضعف الوازع الديني، تحتاج مكافحة المخدَّرات إلى سنوات طويلة في المستشفيات، ويصاب المجتمع بالشلل، يجب أن نرعى أخلاق الشباب بادئ ذي بدء، يجب أن نحول بين المرض وبين أن يصل إلينا، لكن أحياناً تحتاج معالجة هذا المرض إلى علمٍ من أعلى مستوى.
أنا أريد أن أقول: إن الإنسان أحياناً يتمتَّع بذكاء، ولكنَّه يشرب الخمر، يتمتَّع بذكاء ولكنَّه يكذب، يتمتَّع بذكاء ولكنَّه يظلم، يتمتَّع بذكاء ولكنَّه يأخذ ما ليس له، يتمتَّع بذكاء ولكنَّه يعتدي على الناس، قد يبني مجده على أنقاضهم، قد يبني غناه على فقرهم، هو ذكيٌّ فيما هو فيه، ولكن لو عرف أن هناك إلهاً عظيماً سيحاسبه عن كل حركةٍ وسَكنة، وعن كل نفس، وعن كل كلمة، وعن كل درهم من أين كسبه وكيف أنفقه، لغيَّر كل حساباته، كيف يجتمع في إنسان العلم والجهل؟ إنسان يحمل أعلى شهادة ويشرب الخمر، هو في اختصاصه متفوِّق جداً؛ ولكنَّ في العلم الأعلى جاهلٌ فيه، في العلم الضيِّق متفوِّق، ولكن في العلم الشمولي جاهل، في اختصاصه متفوِّق، في حرفته متفوِّق، في ذكائه متفوِّق، في مطالعته ممتاز؛ ولكن لأنه ما عرف الله عزَّ وجل، وغابت عنه الحقائق الكبرى دفع الثمن باهظاً، لذلك: لا ينفع ذا الجَد منه الجد، الأمور ليست بالذكاء فقط ولكن بالتوفيق، الهدى شيء والثقافة شيءٌ آخر، إذاً:
بيْنَ الأُمِّية والجهلِ:
لذلك الجهل يعني أنه قد يكون الإنسان مثقَّفاً وهو جاهل، أي أنه عرف دقائق مهنته، عرف دقائق حرفته، عرف كيف يكسب المال، عرف كيف ينجو من بين براثن الناس، عرف كيف يرفع من شأنه بين الناس، عرف كيف يأخذ ما ليس له، هذا كلُّه يحتاج إلى ذكاء، ولكن لأنه ما عرف الله عزَّ وجل، ما عرف أن هناك إلهاً يعرف كل شيء.
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾
لأنه ما عرف الله، وما استقام على أمره فلابدَّ من أن يكون علمه جهلاً، وذكاؤه غباءً، ونجاحه فشلاً، وتفوُّقه تدنياً، وهكذا.
َمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
المعنى الأول لقوله: ِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
المعنى الثاني:
المعنى الثاني: أن المنحرف في أعماق نفسه يعرف أنه منحرف، وأنه بشكل أو بآخر يقدِّر الطاهر، المرأة البَغِيّ إذا رأت امرأةً شريفةً عفيفة تتمنَّى أن تكون مكانها، لا شك، لأن هذه المرأة البغي مفطورةٌ فطرة سليمة، وهذه الفطرة تدعوها، أو تتوقُ إلى أن تكون مثل هذه الشريفة العفيفة، فإما أنهم قالوا هذا الكلام من باب الاستهزاء، وإما أنهم قالوا هذا الكلام من باب اليقين الداخلي، فربنا عزَّ وجل وصف المشركين يوم القيامة:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن
فقال الله عزَّ وجل:
﴿
إذاً..
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ(57)﴾
عاقبة قوم لوط: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ
أي أصابها غبار قومها؛ لأنها أحبَّت قومها وآثرتهم على الحق أصابها من غبارهم، فاستحقَّت الهلاك معهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( من هوى الكفرة حُشِرَ معهم، ولا ينفعه عمله شيئاً ))
إذا عرفت أن هناك من يفعلون الفواحش في الظاهر وفي الباطن ولكنَّهم يتمتَّعون بذكاء، وبأناقة، وبأبنية شاهقة، وبصناعة مُتقنة، وبحياة مرفَّهة على أخطائهم وانحرافهم تقدِّرهم فهذه مشكلة
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ(57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ(58)﴾
توضيح بعض المفارقات في هذه السورة:
من أجل توضيح بعض المفارقات في هذه السورة، كيف أن الله سبحانه وتعالى أثبت لهم البصر، وكيف وصفهم بالجهل، لابدَّ من كلمةٍ قصيرة عن العلم.
1 – العلمُ ثلاثة أنواعٍ:
العلم أنواعٌ ثلاثة: علم الحقيقة، وعلم الشريعة، وعلم الخليقة، أو علمٌ بالله، وعلمٌ بأمر الله، وعلمٌ بخلق الله.
العلم بخلق الله، أو علم الخليقة من أجل صلاح الدنيا فقط، فالإنسان يستطيع أن ينال أعلى الشهادات وهو بعيدٌ عن الله بُعد الأرض عن السماوات، يستطيع أن يتعلَّم كل شيء، وأن يكون من أهل النار، هذا العلم كالحرفة تماماً يعينك على أمر دينك، ربَّما وسَّع الأُفُق، ربَّما أعطاك موضوعيَّةً، ربَّما أعطاك إدراكاً سليماً ولكن لا يكفي، لابدَّ من أن تعرف الله عزَّ وجل، لذلك الإمام أبو حامد الغزالي يقول: "حيثما وردت كلمة العلم في القرآن الكريم فإنَّما تعني العلم بالله".
2 – العصيان دليلُ الجهلِ:
قد يكون الإنسان مثقَّفاً، ويحمل أعلى الشهادات، ولا يكون عالماً بالله، والدليل: يكفي أن يعصيه، يكفي أن تعصي الله لتؤكِّد لكل الناس أنَّك لا تعرف الله، لأنك لو عرفته ما عصيته، لو عرفت ما عنده من إكرام، وما عنده من عقاب ما عصيته، فالعلم بالله شرطٌ أساسي وهو أصل الدين، وأصحاب النبي عليهم رضوان الله ما تفوَّقوا، ولا وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا لأنهم جرَّدوا أنفسهم لمعرفة الله، معرفة الله تتمُّ من خلال التفكُّر في خلق السماوات والأرض، تتمُّ من خلال التأمُّل في أحكام الشريعة، إذا عرفت الله عندئذٍ تنشأ عندك حاجةٌ ملحَّةٌ كي تعبده، علم الشريعة أصلٌ في عبادة الله، تعرفه بالتفكُّر من طريق الكون، وتعبده بتطبيق العلم علم الأمر والنهي، فإذا أردت أن تأخذ اختصاصاً من أجل أن تعيش حياةً راقيةً هذا بحثٌ آخر.
الشيء الأساسي أن تعرف الله عزَّ وجل كما قال الإمام عليٌ كرَّم الله وجهه:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.