- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (027)سورة النمل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الخامس من سورة النمل، وصلنا في قصَّة سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى:
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27)﴾
مقصَد القصة مغزاها:
وقد أخبرتكم في الدرس الماضي أن هذه القصَّة ليست مقصودةً لذاتها، القصَّة في القرآن الكريم مقصودةٌ لمغزاها، مقصودةٌ للعبرة منها، مقصودةٌ للدروس الثمينة التي تُسْتَخْلَصُ منها، وقد بيَّنت أيضاً أن هذه القصَّة كأن الله سبحانه وتعالى ذكرها لمن آتاه الله القوَّة، كيف أن القوَّة في أعلى مستوياتها، وهو المُلك يمكن أن يُوظَّف في سبيل الحق، وفي سبيل الخير، لذلك قارون حينما قيل له:
﴿
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
1 – استعمال العلم ابتغاء الآخرة: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
آتاك الله علماً، ابتغِ به الدار الآخرة، آتاك الله مالاً ابتغِ به الدار الآخرة، آتاك الله مُلْكَاً ابتغِ به الدار الآخرة، آتاك الله ذكاءً ابتغِ به الدار الآخرة، فأي شيءٍ آتاك الله إيَّاه، الحظوظ التي وزَّعها الله بين الخلق وزَّعها بينهم لتكون مِعْوَاناً لهم إلى الحق، فحينما تستخدم القوَّة، أو الذكاء، أو المال، أو الجمال، أو الصحَّة، أو العلم من أجل دُنيا، من أجل شيءٍ من الدنيا زائل فهذه هي الخسارة بعينها، أعطوك درهماً لتأخذ بدله مائة ألف مليوناً فأنفقته في شيءٍ تافه، استهلكته استهلاكاً رخيصاً
2 – الأصل التحقُّق في الأمورِ لإقامة العدل:
فحتَّى هؤلاء الذين آتاهم الله المُلك يمكن أن يرقى بهم الملك إلى أعلى درجات الجنَّة، وقد يهوي بهم إلى أسفل سافلين، سيدنا سليمان آتاه الله الملك، وها هو ذا يوظِّف هذه القوَّة التي أنعم الله بها عليه في سبيل خدمة الحق، فمن صفات القادة التحقيق.
اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
كيف الدليل لمعرفة صدقه مِن كذبه؟ قال:
﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(28)﴾
كيف يكون ردُّهم؟ كيف يكون الردُّ على هذا الكتاب؟ كيف يتَّخذون الموقف المُناسب؟ يبدو أن الهدهد ألقى في قصر الملكة بلقيس هذا الكتاب من دون أن يشعرَ به أحد، فلمَّا وجدوا كتاباً أعطوه للملكة، فقالت:
﴿
موقفُ بلقيس من مضمون كتاب سليمان:
1 – مبدأ الاستشارة:
الآن هي تستشير عَلِيَّةَ القوم، بالمناسبة من استشار الرجال فقد استعار عقولهم، أنت يمكن أن تأخذ كُلَّ هذا العلم، وكل هذه الخبرة، وكل هذا الإحكام بسؤالٍ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ما خاب مَن استشار ولا ندمَ مَن استخار ))
الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، والاستخارة لله عزَّ وجل، فمن استشار الرجال فقد استعار عقولهم، كيف لا، والنبي عليه الصلاة والسلام وهو النبي، وهو الرسول، وهو الذي يُوحَى إليه، وهو المعصوم، أمره الله سبحانه وتعالى أن يشاور أصحابه فقال:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وكيف لا، واللهُ سبحانه وتعالى وصف المؤمنين الصادقين فقال:
﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وما اعتدَّ أحدٌ برأيه إلا هَلَك
2 – ذكاء الملكة بلقيس:
يبدو أن هذه الملكة كانت على مستوى كبير من الذكاء، ماذا يمنع أن تسأل عَلِيَّةَ القوم، أن تسأل الملأ من حولها، أن تسأل كبراء قومها، أن تسأل أولي الخبرة، أولي العلم، أولي الحكمة.
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ
كِتَابٌ كَرِيمٌ
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من عند خالق الكون الرحمن الرحيم، إذاً: هو كريم
1 – معنى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ما معنى بسم الله الرحمن الرحيم؟ أن هذه النعمة التي بين يديك هي من عند الله الرحمن الرحيم، وأن هذا العمل الذي سوف تقوم به يجب أن يكون وَفْقَ كلام الله الرحمن الرحيم، البسملة قبل فعل الأشياء تعني شيئين، تعني أن تذكر نعمة المُنْعِم وأمر المُنعم، نعمته وأمره في الوقت نفسه.
2 – معنى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿
لطيفٌ لأنه رحمن، لطيفٌ، وقديرٌ، وغنيٌ، وواسعٌ، يعطي ويمنع، يُعلي ويخفض، يعزُّ ويذل لأنه رحمن
بعضهم قال: "الله": اسم الله الأعظم، أو "الرحمن": اسم الله الأعظم، على كلٍ بسم الله، كلمة بسم الله، "الله" تعني اسم العَلَمِ على الذات الواجبة الوجود، اسم العلم علمٌ على واجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، الأسماء الحسنى كلُّها مجتمعة بكلمة الله، الله رحمنٌ رحيم، رحمنٌ في ذاته، رحيمٌ في أفعاله، وهذا الكتاب من عند رسوله، إذاً إنه كتابٌ كريم.
﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(31)﴾
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
البلاغة في الإيجاز، أي يا أيتها المَلكة لا تستعلي عليّ، أنتِ ومن معكِ، وأنتِ وجيشك وشعبكِ
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
﴿
هي امرأة، ولأنها امرأة لها طبيعةٌ خاصَّة، هي أَميلُ إلى المُلاينة منها إلى المُخاشنة، أميَل إلى الصلح منها إلى الحرب، أميلُ إلى المهادنة منها إلى المخاصمة، طبيعتها الأنثويَّة تقتضي ذلك.
مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ
﴿
يَرْوون أن سيدنا معاوية بن أبي سفيان جاءه كتابٌ من إنسان، قال فيه:
قال: "أرى أن تُرْسِلَ له جيشاً أوله عنده في المدينة وآخره عندك ليأتوك برأسه"، لكن معاوية تبسَّم، وقال: "غير ذلك أفضل"، ثم كتب كتاباً قال فيه: "أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله"، هذا الذي أرسل الكتاب هو عبد الله بن الزبير، وأبوه الزبير شهد له النبي عليه الصلاة والسلام أنه من حواريي هذه الأمَّة، قال: "أما بعد؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله أطال الله بقاءه، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلُّها هيِّنةٌ جَنْبَ رضاه، لقد نزلت له عن الأرض وما فيها"، فجاء الجواب: من عبد الله بن الزبير. أذكركم بكتابه الأول قبل نقل نص الكتاب الجديد: "أما بعدُ؛ فيا معاوية، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام"، هذا كتابه الأول، بعد أن أجابه بهذه الحكمة والذكاء، وهذه المُلاينة والمُلاطفة، وهذه السياسة الحكيمة، أجابه عبد الله بن الزبير فقال: "أما بعدُ فيا أمير المؤمنين، -كان معاوية قبل قليل- أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحلَّه من قومه هذا المحل"، كان ابنه إلى جانبه فقال: "انظر يا يزيد، يا بني من عفا ساد، ومن حَلُمَ عَظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب".
أربع كلماتٍ مُهلكات: أنا ونحن ولي وعندي:
بالمناسبة: أربع كلماتٍ مُهْلِكات: أنا ونحن ولي وعندي:
أنا: قالها إبليس فأهلكه الله عزَّ وجل:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ
ونحن:
وأما عندي: فقد قالها قارون:
﴿
﴿
وأما لي: فقالها فرعون:
﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
فأغرقه الله عزَّ وجل، لذلك أربع كلماتٍ مُهْلِكات، أنا ولي ونحن وعندي، لا تقل: أنا ؛ بل قل: الله تفضَّل علي، قل: الله أسبغ علي هذه النعمة، أكرمني بها، خصَّني بها، هذا من فضل الله علي، لو تتبعتم أقوال الأنبياء العِظام ما رأيتم واحداً منهم يعزو نعمة إلى ذاته..
﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ
لا تقل: أنا، ولا تقولوا: نحن، قالها أصحاب النبي في حنين رضي الله عنهم، قالوا: "لن نُغْلَبَ اليوم من قلَّة"، كنَّا في بدر ثلاثمائة فغلبنا قريشاً، الآن نحن عشرة آلاف مقاتل أحطْنا بمكَّة وفتحناها، وانضمَّ إلينا آلاف مؤلَّفة، من يغلبنا؟
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾
لا تقل: أنا، ولا تقولوا: نحن، ولا تقل: أنا لي ولا عندي.
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) ﴾
الذي تعرفه عن الملوك، عندنا قضيَّة، هذا الكتاب فيه تأكيد على أن مُرسله نبي ورسول، فإذا كان سليمان نبياً ورسولاً فلنا موقف، وإن كان ملكاً فلنا موقفٌ آخر، لأن
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا
القرية هنا المدينة الكبيرة
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
يُروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه وهو عملاق الإسلام، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي مضطَّجعاً على حصير وقد أثَّر الحصير في خدِّه الشريف، فبكى عمر، قال: "يا عمر، لمَ تبكي؟" قال عمر: "رسول الله ينام على الحصير، وكسرى ملك الفرس.. هذا الذي يعبد النار.. ينام على الحرير؟!"، الأمر لم يتوازن عنده، ما درى له جواباً، هذا النبي العظيم سيِّد الخلق وحبيب الحق، سيِّد ولدِ آدم الذي يوحى إليه، مبعوث العناية الإلهيَّة ينام على حصير؟!
(( دخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحوَ الصَّاعِ ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفةِ، وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا. ))
كان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيدة عائشة رجليها، لأن غرفته الصغيرة لا تتسع لصلاته ونومها، وهو نبيُّ هذه الأمَّة، فكيف يستقيم عند عمر أن ينام هذا النبي على حصير، وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير؟ فسيدنا محمد هو نبي، وليس ملكاً.
(( جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: بَلْ عَبْدًا رَسُولاً ))
سيدنا علي يقول:
يقول سيدنا علي أيضاً:
كل ما تملك من الدنيا لك بشرط أن يدقَّ هذا القلب، فإذا توقَّف القلب انتهى كل شيء، أين البناية؟ أين الشأن؟ أين المكانة؟ أين ما يتمتَّع به هذا الميِّت؟ أين شأنه العظيم؟ أين بيته الواسع؟ أين زوجته؟ أين أولاده؟ أين مركبته؟ أين محلُّه التجاري؟
لذلك الإمام الغزالي في الإحياء يقول: "إنَّ أدنى درجات الفقه أن تعلم أن الآخرة خيرٌ من الأولى"، والدليل أن تسعى لها:
﴿
أن تعلم أن الآخرة خيرٌ من الأولى.
(( أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسُخط والنِقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم. ))
﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(35)﴾
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
1 – أصحابُ المبادئ لا يُشتَرَون بالأموال:
لأن المال ثمين عند أهل الدنيا، فإذا كانت هذه الهديَّة ثمينةٌ جداً وأرضتهم، أُعجِبوا بها، انتهى الأمر، فهم أُناس طلاب دنيا، ليس نبياً عندئذٍ، أما أصحاب الرسالات.
(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك دونه ))
هكذا أصحاب المبادئ، عرضوا عليه بأن يزوِّجوه بأجمل فتاةٍ في مكَّة، عرضوا عليه أن يجعلوه أغنى فتيان مكَّة، عرضوا عليه أن يكون أمير مكَّة على أن يدع هذه الدعوة فقال: "والله لا أفعل" المساومة في المبادئ لا تكون، المؤمن لو أعطيته ملء الغرفة ذهباً على أن يفعل شيئاً نهى الله عنه، يقول: لا أفعل، افعل بي ما تشاء.
جاء النبيَّ خُبيبٌ رضي الله عنه، وكانوا يعذِّبونه في مكَّة، بعد تعذيبه تعذيباً شديداً، قال له أبو سفيان: "يا خبيب، أتحبُّ أن يكون محمَّدٌ مكانك وأنت في أهلك؟"، قال خُبيب: "والله ما أحبَّ أن أكون في أهلي وولدي.. في أهلي، في بيتي مع أولادي، مع زوجتي، وعندي عافية الدنيا ونعيمُها -كل حاجاتي مؤمَّنة مع الكماليَّات- ويصاب رسول الله بشوكة".
لا مساومات في الإيمان، عند أهل الإيمان المليون مثل الليرة، تحت قدمك أي مبلغٍ إذا كان الثمن معصية الله عزَّ وجل، تحت قدمك أي شيءٍ في الدنيا إذا كان الثمن أن تقول كلمة الباطل، أن تقول ما لم يأمرك الله به، لذلك قاضيان إلى النار وقاضٍ إلى الجنَّة، هذا الذي عرف الحق فحكم به إلى الجنَّة، الذي لم يعرف وحكم بالجهل فهو إلى النار، الذي عرف الحقَّ، وحاد عنه، وحكم بالباطل، يدخل النار أيضاً، القضيَّة قضيَّة خطيرة، قضيَّة سعادة أبديَّة أو شقاء أبدي.
2 – اختبار بلقيس لحقيقة سليمان:
هي بهذه الهدية تكشف ما إذا كان هذا الكتاب من عند نبيٍّ أم من عند ملك، إذا كان نبي فالقضية سهلة، فيه رحمة، بسم الله الرحمن الرحيم، ليس معها مشكلة، ولا فيه إذا دخلوا قرية أفسدوها، ولا أن يجعلوا أعزَّة أهلها أذلَّة، ما من شيء من هذا أبداً.
فإذا كان نبياً فهذه الهديَّة لا تغريه، بل يردُّها، أما إذا كان ملكاً انتهى الأمر، ساومته، وانتهى الأمر.
لو فرضنا أنَّ طبيباً قيل له: قل إن هذه الوفاة طبيعيَّة، وهي في الواقع وفاة جرميَّة، قل: طبيعيَّة وهذا بيت، وهذه سيَّارة، قد يكون هذا الطبيب ناشئاً لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا، أما إذا كان مؤمناً والله لو عرضوا عليه أموال الأرض لا يكتب إلا الحق، هذا المؤمن، أما غير المؤمن فيبيعُ دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل.
﴿
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ
هذا استفهام توبيخي
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ وكـل نـعيمٍ لا مـحالة زائـلُ
***
فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم
بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
1 – بماذا تفرحُ أيها المؤمن ؟!
﴿
الآن سؤال دقيق: ما الذي يفرحك؟ أنا أقول لكم: قل لي ماذا يفرحك أقل لك من أنت، هل تفرح برضوان الله عزَّ وجل؟ فأنت مؤمنٌ وربِّ الكعبة، هل تفرح إذا صليت صلاةً خاشعة؟ هل تفرح إذا قدَّر الله على يديك عملاً صالحاً؟ هل تفرح إذا تمَّت هداية إنسان على يديك؟ هل تفرح بهذا؟ ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فهنا مكان الفرح، أم نفرح بالدنيا؟
2 – بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
ردُّ سليمان عليه السلام: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ
كان الرد حاسماً وقاسياً وسريعاً، يبدو أنها عرفت لمجرَّد أنه ردَّ الهديَّة، وأنه لم يعبأ بها، وما اكترث لها إذاً هو نبي، أصحاب الدعوات، أصحاب الرسالات لا تثنيهم الدُنيا عن أداء رسالاتهم، اتضح لها أنه نبي، طبعاً القرآن فيه فجوات، هذه يسمونها فجوة فنيَّة، فالذي لم يذكره الله عزَّ وجل عُرِفَ بالسياق.
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(38)﴾
قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
سيدنا سليمان عَلِمَ أنها في طريقها إليه، جاءته مذعنةً لدعوته، لذلك أراد أن يريها من عظمة المُلك ما يجعل إذعانها قلباً وقالباً، شكلاً ومضموناً
1 – سليمان يطلب إحضارَ عرش بلقيس:
طبعاً عرشها في صنعاء، أو في اليمن، وهو في بيت المقدس، وبين اليمن والقُدس مسافاتٌ شاسعة تحتاج الطائرة الآن إلى قطعها لأربع ساعاتٍ أو أكثر، أمّا أن يأتي العرش بأكمله؟ ماذا قال الهدهد؟
﴿ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ
عرش وهو عظيم، فالمَلِكُ بعرشه، طبعاً لا أدري ما تفصيلاته ولكن عرشٌ عظيم، فأذكر أنه حينما أنشؤوا سد أسوان على نهر النيل فالبحيرة التي نشأت عن هذا السد ربما غمرت بعض آثار الفراعنة، والذي أذكره أن مئة دولةٍ تعاونت على نقل تمثالٍ ضخم من البحيرة التي نشأت عن سدِّ النيل إلى مكانٍ آخر، نقل تمثال ضخم شيء يحتاج إلى خبرات، وإلى مُعِدَّات، وإلى تكنولوجيا، وإلى رافعات، وإلى خبرات هندسيَّة، وقد قرأت عن هذا الموضوع الشيء الكثير، أما أن يأتي عرش الملكة بلقيس من صنعاء إلى القُدس بلمح البصر!! فالله على كل شيءٍ قدير، قد يكون هذا ممتنعاً عادةً، ولكنَّه ليس ممتنعاً عقلاً، لأن الله يقول: كن فيكون، زل فيزول.
﴿
الاقتراحُ الأول من الجن:
1 – قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
الآن أنت جالس، الإنسان يجلس ساعة أو نصف ساعة ثمَّ يقوم من مقامه لقضاء حاجة، لتناول طعام، قال عفريت لسليمان: ما دمت جالساً إلى أن تقوم يكون العرشُ عندك، يبدو أن سيدنا سليمان ما أعجبه ذلك، رآه وقتاً طويلاً ومديداً، وتابع العفريت كلامه فقال:
2 – القوة والأمانة من صفات الملوك والحكام: وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ:
وكلمة قوي أمين فيها إشارة دقيقة إلى ما ينبغي أن يتمتَّع به من توكِلُ إليه أمر، إذا أوكلت إلى إنسانٍ أمراً يجب أن يكون قوياً أميناً، القوة تشير إلى القُدْرَة، والأمانة تشير إلى الإخلاص، بالتعبير الحديث الكفاءة والإخلاص.
سيدنا عمر أرسل كتاباً عيَّن بموجبه والياً فقال: << أما بعدُ؛ فخذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك -سنة واحدة تجريبية- وأنك تصير إلى أربع خِلل فاختر لنفسك؛ إن وجدناك أميناً ضعيفاً -أمين ولكنك ضعيف، لست حازماً، طبعاً الأمين الضعيف لا يصلح- إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك، وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنا بقوَّتك، وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك، وإن جمعت الجرمين -الضعف والخيانة- جمعنا عليك المضرَّتين -العزل والتأديب- وإن وجدناك أميناً قوياً -هنا الشاهد- زدناك في قوَّتك ورفعنا لك ذِكْرَك، وأوطأنا لك عَقِبك>>، وكل هذا أخذاً من قوله تعالى:
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26) ﴾
أنت بحاجة إلى إنسان عنده كفاءةٌ عالية، وعنده إخلاصٌ شديد، إخلاصٌ للمبدأ وكفاءةٌ فنيَّةٌ عالية في كل الأعمال، حتى الزوج يجب أن يكون قوياً أميناً
﴿
الاقتراح الثاني للجن: قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
أي آتيك به بأقل من لمح البصر
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي
1 – يجب أن تنسب الفضل إلى الله وحده:
عندما رآه ماذا قال؟ هل قال: أنا؟ لا. بل قال:
وقفةٌ مع قوله تعالى: هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي
لابدَّ من وقفةٍ سريعة عند قوله تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ
قال:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)﴾
أي اذكروني لعبادي أذكركم برحمتي، فلذلك الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن شاكر؛ والكافر كافر، بمعنى أن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا إنما أنعم الله بها علينا ليبتلينا هل نشكر أم نكفر، هل نعتدَّ بقوَّتنا، هل نتيه بعلمنا، هل نتيه بشكلنا، هل نتيه بمالنا؟ أم نقول هذا من فضل الله علينا ونرجو الله أن يكون موظَّفاً للحق؟ لذلك:
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)﴾
وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه
﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ(44)﴾
﴿
فإذا فعلت صالحاً فلهذه اللحظة العصيبة، لهذه الحفرة الموحشة، لهذا اللقاء المُخيف، أما إذا كنت مؤمناً:
﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89) ﴾
غداً نلقى الأحبَّة محمَّـداً وصحبه
***
إذاً: قال:
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
غنيٌ ولكنَّه كريم، لو استغنيت عنه.
"لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريَّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذموماً". جعلنا الله من الشاكرين المؤمنين.
في درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع القصَّة من عند قوله تعالى:
﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ(41) ﴾
والحمد لله رب العالمين.