وضع داكن
26-04-2024
Logo
قناة الجزيرة – برنامج الشريعة والحياة - الندوة : 3 - الابتلاء وأنواعه وكيفية التعامل معه وفق المنهج الالهي .
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  مستمعينا الكرام ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامج : " الشريعة والحياة في رمضان " .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :

(( عن صهيب رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : عَجَباً لأمر المؤمن ! إنَّ أمْرَه كُلّه له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر ، فكان خيراً له ))

[ أخرجه مسلم ]

 هذه حال المؤمن ، فالخير كله في قضاء الله ومراده .

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) ﴾

[ سورة الأعراف]

 وإن علموا لا يوقنون ، فكيف نستقبل نعم الله : وكيف نتجاوز المحن والابتلاءات ؟ هذا موضوع حلقتنا اليوم ، وضيفنا هو فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي .
 نرحب بضيف حلقتنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي ، مرحباً بفضيلة الشيخ .
 لو تحدثنا عن مفهوم الابتلاءات في هذه الدنيا في ضوء قوله تعالى :

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ﴾

[ سورة الأنبياء]

 وفي ضوء قوله تعالى أيضاً :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) ﴾

[ سورة الملك]

الابتلاء علة وجودنا وغاية وجودنا :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا سؤال دقيق جداً وخطير ، لأنه متعلق بسر وجودنا ، وغاية وجودنا : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ) اللام لام التعليل (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، والآية الثانية :

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ﴾

[ سورة المؤمنين]

 فعلة وجودنا في الدنيا الابتلاء ، غاية وجودنا الابتلاء ، منتهى وجودنا الابتلاء ، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) والبطولة ألا تبتلى ، بل أن تنجح في الابتلاء ، لا بد من الابتلاء ، فالابتلاء قدرنا ، علة وجودنا ، سبب وجودنا ، سبب نجاحنا .
 لذلك هذا المفهوم يفهمه العوام فهماً سلبياً ، لا ، الابتلاء مصيبة ، لا ، المفهوم مفهوم حيادي ، قد تبتلى فتنجح ، سيدنا يوسف ابتلي بامرأة العزيز فنجح ، ونجاحه رفعه إلى أعلى عليين ، وقال بعضهم : سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته ، ومن جعل الملوك عبيداً بمعصيته .
 فالابتلاء مفهوم حيادي ، أي النجاح والرسوب ، والفتنة كذلك ، فلان فتن بهذا العمل رآه لا يليق بإيمانه فتركه ، فُتن ونجح ، والآخر فُتن ورسب ، فالابتلاء معناه حيادي ، لا يعني العطاء ولا المنع ، لكن معناه تقييمي حيادي .
 الآية دقيقة جداً : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ) اللام لام التعليل ، أي علة وجودنا الابتلاء .

الإنسان مخير وإن توهم أنه مسير فقد وقع في أكبر خطأ دعوي :

 (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) يوجد ملمح دقيق جداً ، ليس الامتحان من أجل فرز الصالح عن الطالح ، الأصل كل مسببات الهدى موجودة ، الكون دليل ، والأنبياء أدلة ، والرسل أدلة وفعل الله دليل ، مليار دليل يدل على الله ، ما من شيء في هذه الحياة إلا ويدل على وجود إله عظيم، صاحب الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، بيده كل شيء ، حياتنا بيده ، موتنا بيده ، رزقنا بيده ، القوة بيده ، الضعف بيده ، هو كل شيء ، ومع كل ذلك ما قبل أن تعبده إكراهاً ، قال :

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) ﴾

[ سورة البقرة]

 أراد أن تكون العلاقة به علاقة حب لا علاقة إكراه ، إله خلقنا ، حياتنا بيده ، موتنا بيده ، الصحة بيده ، المرض بيده ، الغنى بيده ، الفقر بيده ، كل شيء بيده ، ومع كل ذلك ما قبل أن نعبده إكراهاً ، قال : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) فنحن مخيرون ، وأي إنسان للحظة واحدة يتوهم أنه مسير فقد وقع في أكبر خطأ دعوي ، أكبر خطأ عقدي ، أكبر خطأ فلسفي ، لو أن الله عز وجل أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً .
 إنسان افتراضاً بنينا جدارين بعرض كتفيه بالضبط ، وقلنا له : خذ اليمين ، أي يمين؟ لمجرد أن هناك أمراً إلهياً فأنت مخير ، ولمجرد أن هناك نهياً إلهياً فأنت مخير ، فإذا ألغينا الاختيار ألغينا الدين ، ألغينا الثواب والعقاب ، وألغينا النجاح وعدم النجاح ، ألغينا كل شيء ، ما الدليل ؟

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) ﴾

[ سورة الكهف]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾

[ سورة الإنسان]

 ولو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً .
 إذاً إن صحت العقيدة صح العمل ، وإذا فسدت فسد العمل ، فالإنسان مخير ، والآيات كثيرة جداً ، والأدلة كثيرة ، الأمر الإلهي يعني أنت مخير ، والنهي معناه أنت مخير ، معنى ذلك الشيء الدقيق الآن الابتلاء علة وجودنا ، غاية وجودنا ، ميزان تقييمنا ، والأدلة كثيرة .

القدوة قبل الدعوة والإحسان قبل البيان :

 الآن يوجد بالقرآن قوانين ، أحد هذه القوانين قانون الالتفاف والانفضاض ، أنت أب عندك أولاد ، أنتِ معلمة عندك طالبات ، أنت رئيس دائرة يوجد عندك موظفون ، النقطة الدقيقة جداً الدنيا دار ابتلاء ، والبطولة أن تنجح بالابتلاء ، ولا بد من أن تكون قدوة لمن حولك ، فقيل:

(( عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وحجوا ، واعتمروا ، واستقيموا يستقم بكم ))

[أخرجه الطبراني]

 فالأب لأنه ما كذب أمام أولاده ، ولا فتح الشاشة على وضع لا يرضي الله عز وجل ، ولا كان هناك اختلاط لا يرضي الله ، استقامته دعوة لأولاده للاستقامة ، فالقضية سهلة جداً ، القدوة قبل الدعوة ، والإحسان قبل البيان .
 عندنا قواعد للدعوة دقيقة جداً ، أما أهم شيء بالموضوع :

((واستقيموا يستقم بكم))

إلزام الله ذاته العلية بهداية خلقه :

 الآن يوجد أخطاء ، يوجد أقوياء ، يوجد ظلام ، هناك نقطة دقيقة جداً ، الله عز وجل ضرب الأمثال ، لو فرضنا يوجد عشرون أو ثلاثون وحشاً كاسراً جائعاً ، بيد جهة قوية ، حكيمة، رحيمة ، عادلة ، أنا علاقتي مع الوحوش أم مع من يملكها ؟ هنا السؤال ، ما دامت الوحوش مربوطة بأزمة محكمة ، مع جهة تملكها ، فأنا علاقتي مع من يملكها لا مع الوحوش ، لذلك الآية تقول :

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾

[ سورة هود]

 لا تترددوا ولا ثانية ، (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) دقق ؛ وكلما تأتي كلمة لفظ الجلالة مع على أي الله عز وجل ألزم ذاته العلية بفعل كذا .

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ﴾

[ سورة الليل]

 تولى الله هداية خلقه بذاته العلية .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ الابتلاء بالمحن والشدائد مفهوم ، لا يُشكل على أفهام البشر ، لكن قد يستغلق على أفهام البعض ، لا يفهمون الحكمة من هذا ، المراد من هذا ، الابتلاء بالمنح والعطايا .

بطولة الإنسان أن يفهم الحكمة من الابتلاء بالإيجابيات :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 ابتلي إنسان بالقوة يا ترى ظلم ؟ استحوذ على مال كثير بلا مساءلة ؟ ظلم من دونه؟ غفل عن الآخرة ؟ نسي الموت ؟ نسي العلّام ؟ العدل ؟ طبعاً الحقيقة الابتلاء بالسلبيات سهل اكتشافه لكن البطولة أن تفهم الابتلاء بالإيجابيات ، فالغني له مهمة ، أدى زكاة ماله ؟ رحم من حوله ؟ أطعم الطعام للجياع ؟ قدم مساعدات للجمعيات الخيرية ؟ طبعاً الإنسان قد يمتحن بالسلبيات واضحة جداً ، أما البطولة ، والذكاء ، والقوة ، والنجاح ، والفلاح أن تنجح حينما تبتلى بالإيجابيات ، أنت بمنصب رفيع ، جاءك مراجع فقير ، تعال غداً ، لماذا تعال غداً ؟ تحل قضيته بتوقيع واحد ، تعال غداً اضطر أن يبيت بالفندق ويتكلف ، الله حسابه دقيق ، والله الذي لا إله إلا هو لو علم الإنسان دقة محاسبة الله له يوم القيامة لخشي أن يدوس على نملة ، فما قولك فيما فوق النملة ؟ أنا لا أصدق أن هناك إنساناً بالأرض لم يبتلَ ، النبي الكريم سيد الخلق وحبيب الحق قال :

(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أُخِفْتُ في الله ما لم يُخَفْ أَحدٌ ، وأُوذِيت في الله ما لم يُؤذَ أحد ، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة ، ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال ))

[أخرجه الترمذي]

 إلا أن النبي له خصوصية ، لأنه قدوة لكل الناس ، للأغنياء والفقراء ، والأقوياء والضعفاء ، والأصحاء والمرضى ، من كل جانب بالحياة ابتلي بطرفيه الحادين ، قدوة للأغنياء بالعطاء والبذل ، وقدوة للفقراء بالصبر والرضا ، قدوة للأقوياء بعدم البطش والإنصاف ، قدوة للأغنياء والفقراء ، قدوة لكل أهل الأرض ، بل لكل المسلمين ، لكل صفة أو حال ، بطرفيها الحادين ، هو قدوة ، لذلك :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) ﴾

[ سورة الأحزاب ]

المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ عند بعض الناس يختل مفهوم الرضا ، والقبول ، والفهم للابتلاءات التي تقع عليه من قبل الله عز وجل ، يقول الله تعالى في سورة الفجر :

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) ﴾

[ سورة الفجر ]

 كيف نصحح هذا المفهوم لدى الناس ؟ أن الابتلاء ليس فقط لمن يغضب الله عليهم ولكن الابتلاء أحياناً كثيرة أو في غالب الأحيان يبتلى المؤمن على قدر إيمانه ؟

حاجة كل إنسان إلى حاضنة إيمانية :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 ليس هذا الشيء عقاباً بل ابتلاءِ امتحانٍ ، وإكرامِ إكرامٍ ، الله عز وجل يبتلي العباد بطرفي الحالات كلها ، ليس هذا مصيبة بل امتحاناً ، هل هناك جامعة بلا امتحان بالأرض كلها؟ إذا توهم الإنسان أن الجامعة بلا امتحان فهو أحمق ، لكن الذي يعين على فهم الأمور فهماً دقيقاً أن يكون لك حاضنة إيمانية ، أن تعيش مع مؤمنين ، أن تقوم بعمل طيب مع مؤمنين ، أن تتنزه مع المؤمنين ، أن تكون مع المؤمنين في كل أحوالهم ، هذه اسمها بعلم النفس: حاضنة مقوية ، الإنسان وحده قد يستوحش ، وحده قد يجر إلى مكان لا يرضي الله ، مع المؤمنين حاضنة وحصن .
 لذلك أنا أقول : إذا كنت مع جماعة ، مع أصدقاء ، واستطاعوا أن يأخذوك إلى جادتهم ، إلى التقصير في الصلاة ، أو إلى ترك الصلاة ، أو إلى إيذاء الناس ، أو إلى التفلت اتركهم بنعومة بالغة ، أما إذا كنت مع أناس ازداد إيمانك بهم ، وازدادت معرفة الله بهم ، فابقَ معهم ، هذا اسمه : سلوك التجاذب والتنافر ، لعبة شد الحبل ، إن شدوك إليهم ، إلى معصيتهم لا سمح الله ، إلى تقصيرهم ، إلى سوء ظنهم بالله فدعهم ، أيضاً بنعومة ، وإذا شددتهم إليك فابقَ معهم .
 فلذلك أنا لا أعتقد أن الحركة الشاقولية ناجحة ، يوجد حركة مائلة .

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا ، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً مَّا ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوْنا مَا عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً ما ))

[أخرجه الترمذي]

 اجعل الحركة مائلة :

((أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا))

 بخط مائل ، صاعد صعوداً بطيئاً وابتعد عن الآخر بطريقة لطيفة دون أن تزعجه بخط مائل .
 لذلك العلاقات الإنسانية ، والعلاقات الشخصية ، وعلاقات الجوار ، وعلاقات الأقارب لابد من ضابط لها ، فإن أخذوك إليهم وهم ليسوا على حق انسحب بنعومة ، وإن أمكنك أن تأخذهم إليك إلى طاعة الله فابقَ معهم ، هذا لعبة شد الحبل .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ تحدثت عن الحاضنة الخارجية المقوية ، الممثلة في الأصحاب والرفاق ، وما إلى ذلك ، ولكن هناك أيضاً من تحدث عنهم القرآن الكريم في سورة الحديد من مقويات في داخل المرء ، في إيمان نفسه ، يقول الله عز وجل :

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ﴾

[ سورة الحديد ]

 وإن الإيمان بالقضاء والقدر أيضاً من الأشياء التي تساعد على تلقي الابتلاءات بشقيها المحن والمنح ، نفس راضية ، وقلب مطمئن .

المصيبة رسالة من الله عز وجل :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 نعم ؛ الحقيقة لو أن طبيباً في المستشفى مرّ على مريض ضغطه عال جداً ، 12/ 20 ، القضاء حكم ، حكم أن ضغطه غير معقول ، 12 / 20 ، هو 8 / 12 ، أمر بإلغاء الملح من الطعام كله ، فالقضاء حكم ، والقدر معالجة .
 طبيب آخر فحص ضغط المريض 6 / 10 ، شيء خطير ، على مشارف الموت ، أمر بزيادة الملح ، فالقضاء حكم ، والقدر معالجة ، النبي قال : "كل شيء بقضاء من الله وقدر" يوجد إسراف بالمال ابتلاه بنقص ماله ، يوجد إعراض عن الزوجة ابتلاه بالشقاق الزوجي ، كل علاج متعلق بذنب ، والبطولة رسالة .
 شخص عليه زكاة مال ، أذكر صديقاً أعرفه ، زكاة ماله فرضاً عشرة آلاف ، ضغطت عليه زوجته أن يقوم بطلاء البيت بدل دفع الزكاة ، استجاب لها ، وهذا خطأ منه ، بعد أن انتهى من طلاء البيت بعد شهر عمل حادث سير ، الفاتورة كلفته عشرة آلاف ، توافق الرقمين رسالة من الله ، يوجد كبر يصاب بموقف حرج ، إسراف يبتلى بتضييق مالي ، دائماً تأتي المعالجة من جنس الذنب ، هذه رسالة من الله عز وجل ، فالبطولة ، والنجاح ، والفلاح أن أفهم على الله هذه المصيبة ، المصيبة رسالة من الله عز وجل .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ بعض الناس قد يذهب بعيداً في تفسير المحن والابتلاءات التي تقع على غيره ، فيقول : إن الله غاضب على فلان ، ولذلك فإنه ابتلاه بكذا وكذا ، ولو كان يحبه لفعل به هذا ، ولكن القرآن الكريم يتكلم عن الابتلاءات الكثيرة التي مرّ بها خير البشر ، وهم الأنبياء من أول سيدنا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الذي ابتلي بغواية إبليس ، ونوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وما آمن معه إلا قليل ، واضطجع للذبح إسماعيل ، ونشر بالمنشار زكريا ، ويوسف الصديق سجن ، وهو النبي الكريم ابن الأنبياء ، وكذلك سيد الخلق أجمعين كما تفضلت هو أشد الناس ابتلاءً .

العمل الصالح علة وجودنا بعد الإيمان بالله واليوم الآخر :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 والله الحقيقة الإيمان شاف للإنسان ، إذا فهم الإنسان سرّ وجوده ، أحد أكبر أسرار وجوده الابتلاء ، ممكن طالب يدخل لجامعة يقول : لا يوجد امتحان ، يكون أحمق ، هل هناك جامعة بالأرض لا يوجد فيها امتحان ، الابتلاء علة وجودنا ، غاية وجودنا ، سبب وجودنا ، ميزان وجودنا ، طبعاً الكليات ، والعقيدة ، والإيمان بالله ، والاستقامة ، والعمل الصالح ، والصلاة ، لكن العمل الصالح أخذ موقعاً كبيراً جداً ، النقطة الدقيقة الإنسان إذا شارف على الموت ماذا يقول ؟

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) ﴾

[ سورة المؤمنون]

 معنى ذلك علة وجودنا بعد الإيمان بالله واليوم الآخر العمل الصالح ، لِمَ سمي صالحاً؟ لأنه يصلح للعرض على الله ، ومتى يصلح ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
 طالب أرسله والده إلى فرنسا ، أبوه ميسور ، أرسله إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون ، هذا الطالب بباريس ، علة وجوده ، سبب وجوده ، غاية وجوده الدراسة ، فممكن أن يدخل لمطعم يأكل ، أو إلى مكتبة يقتني مجلة ، أو إلى حديقة يتنزه ، أما سبب وجوده في هذه المدينة الكبيرة فهي الدراسة ، البطولة ، والذكاء ، والنجاح ، والفلاح ، والتفوق ، أن أعرف بادئ ذي بدء علة وجودي في الدنيا ، أنا جئت إلى الدنيا لامتحن ، وسوف أقبض ثمن نجاحي الجنة.

(( عن سهل بن سعد رضي الله عنه : قال : شَهِدْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَجْلسا وصفَ فيه الجنة ، حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : فيها مالا عين رأتْ ولا أذن سَمِعتْ ، ولا خطر على قلب بشر ))

[أخرجه البخاري]

 فلذلك الجنة أبدية ، أما الدنيا فمحدودة .

الإنسان خاسر إلا من آمن وعمل صالحاً :

 الإنسان بضعة أيام ، الله قال :

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾

[ سورة العصر]

 أقسم الله ، بعضهم قال : لفت نظر ، ممكن ، أقسم الله بمطلق الزمن ، أيها الإنسان إنك خاسر ، لِمَ يقول بأنا خاسر ؟ ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لماذا يا رب أنا خاسر ؟
 الحقيقة أن الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، فهو زمن ، ولأنه زمن أقسم الله له بمطلق الزمن ، فقال تعالى ( وَالْعَصْرِ) واو القسم ، جواب القسم مخيف (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا ) رحمة الله في إلا ، ما بعد إلا قناة النجاة ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) عرفوا الله ، عرفه خالقاً ، مربياً ، مسيراً ، صاحب الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، ذات كاملة ، أصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآن حركتهم في الحياة ، كسب أموالهم ، إنفاق أموالهم ، اختيار الزوجة ، اختيار الحرفة ، يوجد حرف شريفة طاهرة ، وحرف تسلب من الناس حقوقهم أحياناً ، أو أموالهم ، اختار زوجة صالحة ، وحرفته شريفة ، وربى الأولاد تربية عالية (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .

الدعوة إلى الله دعوتان :

 بقي شيء آخر : ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ) يوجد دعوة إلى الله ، هذه الدعوة فرض عين على كل مسلم ، في حدود ما يعلم ، ومع من يعرف ، حضرت خطبة جمعة ، شرح الخطيب آية رائعة جداً ، انقلها إلى زوجتك ، إلى بناتك ، إلى أصهارك ، إلى أقربائك ، إلى زملائك ، إلى من معك في العمل ، هذه دعوة إلى الله فرض عين كالصلاة تماماً .

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) ﴾

[ سورة يوسف]

 فكل إنسان لا يدعو على بصيرة أي بالدليل والتعليل ليس متبعاً لرسول الله ، أما الدعوة التي تحتاج إلى تفرغ ، إلى تعمق ، إلى تبحر ، إلى تثبت ، فهي فرض كفاية ، إذا قام بها البعض سقطت عن الكل .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ تحدثنا عن التواصي بالحق والدعوة ، وبقيت السورة تتحدث عن التواصي بالصبر ، كيف نستلهم من قصص الأنبياء الذين ابتلوا أشد الابتلاء كما ذكرنا الزاد المعين على الصبر والرضا في مواجهة المحن والابتلاءات ؟

بطولة الإنسان بالصبر :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 بربك ؛ شخص أعطى الثاني شيكاً بمليون دولار ، كم قيمته ؟ مليون ، شيك بمليونين، بمليونين ، بخمسة ملايين ، بخمسة ملايين ، لكن يوجد شيك مفتوح ، شيء لا يصدق، شيك موقع ، مؤصل إلى بنك ثمين جداً ، مكتوب التوقيع الرقم مفتوح لك أيها المستخدم، هذا معنى قوله تعالى :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) ﴾

[ سورة الزمر]

الصبر جزاؤه مذهل ، انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب التائب ، يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ، ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب .
 فلذلك الصابر معه شيك مفتوح من الله ، أي بمليون ، بمئة مليون ، موقع ، والرقم متروك لصاحبه ، فلذلك البطولة بالصبر : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) والحياة كلها فتن الآن ، وسائل الشر متاحة للجميع ، أما وسائل الخير فمراقبة مراقبة شديدة جداً ، يوجد محاسبة عليها ، فالإنسان آثر طاعة الله على أن يعصيه ، هذه هي البطولة ، كل شيء بحساب دقيق جداً ، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذا الصبر ، الصبر مفتاح الفرج .

الاهتمام بالضعفاء طريق النصر :

 يوجد نقطة دقيقة :

(( عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : أُبْغُوني ضُعَفَاءكم ، فإنما تُرزقُونَ وتُنصرون بضعفائكم))

[أبو داود والترمذي والنسائي]

 هذا الضعيف أطعمته إن كان جائعاً ، كسوته إن كان عارياً ، آويته إن كان مشرداً ، عالجته إن كان مريضاً ، أغنيته إن كان فقيراً ، نصرته إن كان مظلوماً ، شي جميل ، الرد الإلهي مذهل ، يتفضل الله عليك بأن يرزقك وينصرك على أعدائك ، هذا طريق النصر ، أن نهتم بضعفائنا ، بالمشردين ، بالفقراء ، إذا اهتممنا بضعفائنا انتصرنا على أعدائنا .

الحق منابع الإيمان والباطل منابع الكفران :

 لذلك قالوا : الحرب بين حقين لا تكون ، مستحيل ، الحق لا يتعدد ، بين نقطتين يمر مستقيم واحد لا يمكن أن يمر خطان مستقيمان ، وبين حق وباطل لا تطول ، الله مع الحق، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ وبين باطلين لا تنتهي .
 فالبطولة أن تكون مع الحق ، والحق هو الله ، والحق وحي السماء ، الحق القرآن الكريم ، وما صح من السنة النبوية ، الحق العلماء الربانيون ، الحق منابع الإيمان ، والباطل منابع الكفران ، الحق أن تكون مع الحق لا مع الباطل ، الحق يحتاج إلى رؤية ، فلذلك الرؤية دقيقة جداً للإنسان ، المؤمن معه غير العين ، نحن بغرفة مظلمة في الليل ، والنوافذ مغلقة تماماً، ما قيمة العين ؟ لا قيمة لها إطلاقاً ، إلا بضوء في الغرفة يتوسط بينك وبين المرئي ، هذا المثل يسحب على العقل ، العقل كالعين ، أعقد جهاز بالكون ، أعقد آلة بالكون ، شبهوه بناطحة سحاب بأمريكا ، صمامات في الداخل والخارج لتقوم مقام العقل ، لكن هذا العقل كما أنك لا قيمة لعينيك الدقيقتين في الرؤية في غرفة لا يوجد فيها نور ، والعقل يحتاج إلى نور إلهي .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) ﴾

[ سورة الحديد]

 فالعين يحتاج إلى نور مادي ، والعقل يحتاج إلى نور إلهي .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ أيضاً ونحن في شهر رمضان ، كيف نقوي أجهزة الصبر لدينا وهو الشهر الموصوف بأنه شهر الصبر ؟

رمضان شهر الصبر والصلاح وصلة الأرحام :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 الحقيقة أُمرنا أن نعبد الله عبادة تامة على مدار العام ، بضبط الدخل والإنفاق ، واختيار الزوجة الصالحة ، وتربية الأولاد ، واختيار حرفة راقية ، والمعاملة وفق منهج الله ، كلام طويل ، لكن الله عز وجل جعل للعبادة حالة استثنائية ، أي دورة مكثفة ، أنت بهذا الشهر تبتعد عن الطعام والشراب المباح ، تبتعد عما أُحلّ لك من زوجتك ، والشهر قد يطول بأيام الصيف ، فأنت تركت الطعام والشراب ، فلذلك البطولة في هذا الشهر - وكلامي دقيق - إما أن - لا سمح الله ولا قدر- يغدو عند بعض الناس شهر ولائم ، وشهر مسلسلات ، هذا الشهر فرغ من مضمونه ، ألغيت فضيلته ، شهر التقوى ، شهر الصلاح شهر رأب الصدع ، شهر صلة الأرحام ، إنفاق الزكاة ، تفقد المساكين ، شهر الصلاة ، التراويح ثماني ركعات بين يدي الله عز وجل ، شهر تلاوة القرآن ، شهر الإحسان ، شهر أداء الزكاة ، هذا الشهر متميز ، عبادة خاصة جداً ، هذا الشهر يمتد أثره الإيجابي إلى مدى العام ، انتهى رمضان أكلنا الطعام والشراب ، لا تفطر إلا أفواهنا فقط ، أما أنت برمضان ما اغتبت ، والغيبة تركتها بعد رمضان ، ما أكلت مالاً حراماً برمضان ، وترك المال الحرام تابعته بعد رمضان ، إذا لم تطبق إيجابيات رمضان بعد رمضان والله الذي لا إله إلا هو ولا أبالغ كأننا ما صمنا رمضان ، شوقي قال شعراً ، لكن طبعاً قال : ما فعلته والله ، أقسم بالله :

رمضان ولّى هاتها يا ساقي  مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
***

 عدنا بعد رمضان إلى ما كنا في رمضان ، لذلك النصر معطل في الأرض للمسلمين، معطل ، دينهم دين فولكلوري ، دين مظاهر ، دين ولائم ، دين صلات ، ليس دين منهج تفصيلي ، هذا المنهج التفصيلي يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، هذا المنهج ، أنت مؤمن لا يوجد حل وسط ، عندك بيت فيه جميع الأجهزة الكهربائية من أعلى مستوى ، لكن لا يوجد كهرباء ، لا قيمة لكل هذه الأجهزة ، قطعة بلاستيكية لا جدوى منها .
 فهنا السؤال دقيق : قطع التيار ميلي واحد أو أكثر مثل بعضها ، مؤدى المعصية حجاب عن الله ، إنسان يحجب بجريمة ، أو بفاحشة ، إنسان يحجب بعدم غض بصره ، بعدم ضبط شاشة البيت ، بعدم تربية أولاده .
 خذ أنت شارعاً إسلامياً ، مئة بيت ، لا يوجد بيت فيه زنا ، ولا ببيت يوجد خمر ، ولا قمار ، لكن هذه كلها معاص صغيرة .
 فلذلك الصغيرة ، راكب سيارتك ، والطريق عرضه عبارة عن ستين متراً ، حرفت المقود سنتمتراً واحداً ، هذا الطريق على يمينه واد سحيق ، وعلى يساره واد سحيق ، أنت حرفت المقود سنتمتراً واحداً ، لو ثبته إلى الوادي ، الحديث : لا صغيرة مع الإصرار ، أما لو حرفته تسعين درجة ، وانتبهت ، وأعدته ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، نحن مشكلتنا بالصغائر التي ثبتنا عليها .
المذيع :
 ونحن في شهر رمضان الشهر الذي أنزل فيه القرآن من لدن رب كريم على عباده المؤمنين ، كيف نستلهم من آيات القرآن ، وآيات الذكر الحكيم ، والقصص النبوية ، والتفسير الموجود في القرآن الكريم ، أقصد قصص الأنبياء ، وما تعرضوا له من محن وابتلاءات ، كيف نستلهم ما يعيننا على مواجهة مصاعب الحياة ؟

اعتماد المؤمن على القصة لبناء القيم والمبادئ و مواجهة مصاعب الحياة :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 النقطة الدقيقة أن القصة حقيقة مع البرهان عليها ، فيها شخصيات ، فيها بيئة مكانية، بيئة زمانية ، فيها حوار ، فيها بداية ، فيها عقدة ، فيها نهاية ، الفن القصصي الأول هو الفن حينما يحملك على عمل ، ينقلك من فهم إلى تطبيق ، من خوف إلى أمن ، فالقصة أول فن ، تستطيع هذه القصة أن تفكك السلبيات التي يؤمن بها الإنسان ، فالقصة حقيقة مع البرهان عليها ، فيها حوار ، فيها شخصيات ، فيها بيئة ، فيها مكان ، فيها زمان ، فيها مغزى ، فيها بداية ، فيها عقدة ، فيها نهاية ، فيها حبكة ، والله عز وجل قال :

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) ﴾

[ سورة يوسف]

 فالقصة ليست البطولة أن نتابعها بشغف ، أن نكتشف مغزاها ، كشف المغزى هو الهدف من هذه القصة ، فإذا الإنسان قرأ قصة وما كشف الهدف منها كأنه ما قرأها .
 فلذلك القصة أسلوب أدبي رائع ، خطير ، له إسهامات إيجابية وسلبية بآن واحد، فالغرب اعتمد القصة ، هي الأفلام ، هي المسرحيات ، والمؤمنون يجب أن يعتمدوا القصة لبناء القيم والمبادئ ، القصة حقيقة مع البرهان عليها ، والله قال : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) مثلاً ألقيت على شاب عشر محاضرات بعدم السرعة ، أن يرى حادث سير مروع ، ثلاث جثث ، وسيارة محطمة ، هذه أبلغ من عشر محاضرات ، فالقصة واقع ، القصة بيئة ، القصة حوار ، القصة تفاعل ، القصة شخصيات ، القصة واقعية ، فالقصة هي الفن الأول في إيجابياتها وسلبياتها بآن واحد ، والقرآن اعتمد القصة .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ لعل أبرز القصص الموجود في القرآن السورة التي نزلت كلها من عند الله عز وجل تتحدث عن قصة نبي واحد منذ مولده ، وغيرة أخوته عليه ، ثم ما تقلبت به الحياة من محن وشدائد ، ثم ما مُنح من عند الله عز وجل من نعم وعطايا حتى صار على مستوى مسؤول كبير ، سواء كان العزيز ، أو كان الملك ، ورفع أبويه على العرش وخرا له سجداً إلى آخر هذه القصة العظيمة في سورة يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
 مخلص هذه القصة : سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته ، ومن جعل الملوك عبيداً بمعصيته ، قصة طويلة ، القصة الأولى الطويلة في القرآن الكريم ، الإنسان يتعلق بالقصة، فيها تفاصيل ، فيها حوار ، فيها شخصيات متباينة ، فيها بيئة مكانية ، بيئة زمانية ، فيها هدف ، فيها عقدة ، فيها حبكة ، القصة فن كبير جداً ، وأنا أقول : الآباء والمعلمون والدعاة إلى الله إذا اعتمدوا القصة لها تأثير منقطع النظير .
 مثلاً : ممكن تتحدث بالدين عشر ساعات ، ائتِ بقصة صحابي جليل ، عملَ عملاً بطولياً ربح الدنيا والآخرة ، هذه أبلغ ، فأنا أقول : أتمنى من الآباء والمعلمين والدعاة اعتماد القصة كمنهج ، أو كأداة فعالة لدفع الناس لشيء معين ، أو لإبعادهم عن شيء معين ، هذه القصة ، يعتمدها الأب ، والأم ، والمعلم ، والمدرس ، والأستاذ الجامعي ، وأي منصب قيادي ، القصة دقيقة جداً .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ كما أن آيات الله العظيمة ، الواضحة ، البينة وقعت على نفوس بعض الناس من الأبرار فزادتهم إيماناً ، ووقعت على أسماع بعض المجرمين فزادتهم رجساً إلى رجسهم ، فالمحن والابتلاءات أيضاً يتفاوت الناس باستقبالها ، الله عز وجل يبتلي عباده بالمصائب ليطهرهم من الذنوب والمعايب ، وما زلنا في الجائحة التي ألمت بالبشرية منذ أكثر من عام حتى اللحظة الراهنة ، بعض الناس فقد أسباب رزقه ، وبعض الناس تعايش مع هذه المحنة ، وقْع هذه المحنة على بعض الناس كان عظيماً جداً أعادهم إلى جادة الصواب وأعادهم إلى خالقهم ، وتضرعوا ليكشف عنهم هذه الغمة ، وبعضهم الآخر زادتهم غفلة إلى غفلتهم ، وغياً على غيهم ، كيف يتفاوت الناس باستقبال هذه الأمور المتشابهة ، وهم جميعاً خلق الله .

الوباء رسالة من الله :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 أخي الكريم ؛ دولة عظمى إلى جوارها دولة تناوئها ، ماذا تفعل ؟ ترسل أسطولها البحري ، طيرانها ، صواريخها ، هذا العمل رسالة من هذه الدولة العظمى إلى الدولة التي تناوئها، هل هذه واضحة ؟
 أنا والله فهمت هذا الوباء رسالة من الله ، بعد أن غرق الناس في وحل الأرض ، في المصالح ، في الشهوات ، القوى الظالمة ، الشعوب المقهورة ، بعد أن غرق الناس في وحل الأرض الله عز وجل أرسل هذا الوباء للفت نظرهم إلى وحي السماء .

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) ﴾

[ سورة طه 14]

 والشيء الدقيق أن هذا الوباء وصل إلى الرؤوس في أوروبا ، أكبر حاملة طائرات في العالم يخاطب قائدها رئيسه في العاصمة : أنقذنا نموت واحداً بعد الآخر ، ما هذا الفيروس ؟ والله إن لم ترَ هذا الفيروس جنداً من جنود الله ، لو أن الله أسلمنا إلى غيره لا يستحق أن نعبده، قال :

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) ﴾

[ سورة هود]

 إذا رأيت الله بيده كل شيء ، خالق السماوات والأرض ، رب العالمين ، المسير ، لو أسلمك إلى غيره ، إلى فيروس لا يستحق أن تعبده ، قال لك : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ ) أل الجنس ، ما معنى أل الجنس ؟ أل العهد ، وأل التعريف ، هذه أل الجنس تعني أي أمر من آدم ليوم القيامة بالقارات الخمس يرجع إلى الله عز وجل ، فلو أسلمك إلى غيره لا يستحق أن تعبده ، قال : ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، العلماء قالوا : نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل العبادة ، والعبادة : طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا إيماننا ، ويحفظ لنا عبادتنا ، وعلاقاتنا ، وأن نكون أناساً صالحين ، وأناساً منتجين ، ونقدم للناس أجمل ما عندنا ، ونتعامل مع الآخرين بتواضع ، وبتعاون ، والتعاون حضارة ، الله عز وجل قال :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾

[ سورة المائدة]

 ومع الأسف الشديد الطرف الآخر يتعاونون تعاوناً مذهلاً وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة ، ومع الأسف الشديد المسلمون أحياناً لا يتعاونون وبينهم 95 % قواسم مشتركة .
المذيع :
 فضيلة الشيخ ؛ ختاماً كيف نجعل من رمضان منطلقاً جديداً وبداية جديدة للمؤمن مبنية على فهم وتدبر ورضا بقضاء الله ؟

كيفية جعل رمضان بداية جديدة للمؤمن مبنية على فهم ورضا بقضاء الله :

الدكتور محمد راتب النابلسي :
 نقلة نوعية في الفهم ، والحركة ، والسلوك ، والعبادة ، نقلة نوعية في العلاقة بالآخرين، نقلة نوعية باختصاص الإنسان ، في حرفته ، هو عنده معمل ، يوجد مادة حافظة ، مسموح ثلاثة بالألف ، فوضع ثلاثة بالمئة ، سبب سرطانات ، الدين يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، له علاقة بحرفتك ، بمعملك ، بالمواد الحافظة ، بطريقة البيع ، مواد غذائية منتهية المفعول ، عملوا طريقة ليغيروا تاريخ نهاية الصلاحية ، هذا غش كبير جداً ، والشيء الذي يلفت النظر ، النبي قال :

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه : أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ في السوق على صُبْرَةِ طعامٍ ، فأَدْخَلَ يده فيها ، فنالتْ أَصابعه بَلَلاً ، فقال : ' ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : يا رسول الله أَصابته السماء ، قال : ' أَفلا جعلتَه فوقَ الطعام حتى يراهُ الناسُ ؟ وقال : مَن غَشَّنا فليس منا ))

[أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي]

 أقسى تحذير وتنديد ليس منا ، هل هناك آية أبلغ من ذلك :

(( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من غش فليس منا ))

[أخرجه مسدد بن مسرهد ]

 لو غششت مجوسياً تنطبق عليك الآية ، هذا الدين ، الدين وحي السماء ، نحن كلنا عباده ، دين السعادة ، دين التألق ، دين السرور ، دين الرحمة ، دين الإنصاف ، دين العدل ، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً .

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 )﴾

[ سورة القلم ]

 الله عز وجل منح النبي مئات الخصائص التي لا أقول تميز بها ، انفرد بها ، ولكن حينما أثنى عليه قال له : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لم يقل له : وإنك لذو خلق (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا يوجد تردد أبداً .
 فالحقيقة يقول ابن القيم الجوزية : الإيمان - بتعريفه الجامع المانع - هو الخلق ، فمن زاد عليك بالخلق زاد عليك بالإيمان ، هذا الدين ، دين أخلاق ، دين إنصاف ، دين رحمة ، دين عدل ، دين رؤية بعيدة .
 لذلك المسلمون قد يخطئون لا بالميزان بل في الوزن ، الخطأ في الوزن لا يتكرر أما في الميزان فلا يصحح ، فالبطولة والذكاء والتفوق أن يكون خطؤنا لا بالميزان ، بالوزن ، الخطأ بالميزان لا يصحح ، بالوزن لا يتكرر .
 أرجو الله أن يحفظ لكم إيمانكم جميعاً ، أول دعوة ، وأهلكم وأولادكم ، وصحتكم ، ومالكم ، والسادسة أهم واحدة واستقرار البلاد التي أنتم فيها هذه نعمة لا تعرف إلا إذا فقدت

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور