وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخلفاء الراشدين : سيدنا عمر بن الخطاب 3 - عدله ومحاسبة نفسه الدائمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

مآثر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب :

أيها الأخوة, مع الدرس الثالث من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, الفصل اليوم حول عدله الذي ليس له مثيل في التاريخ الإسلامي، فكان هذا الصحابي الجليل له ورع لا حدود له، يحاسب نفسه حساباً عسيراً، ويشعر أنه كلما كان منزهاً عن أي شبهة, كلما كان أقرب إلى الله سبحانه وتعالى .
لهذا الصحابي مواقف كثيرة وجليلة، مرة في عام المجاعة شعر أن أمعاءه تضطرب فخاطب بطنه، وقال: " قرقر أيها البطن، أو لا تقرقر، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين" .
قبل كل شيء القصص التي سوف أتلوها على مسامعكم ربما سمعتموها مني كثيراً، لكن محور هذا الدرس ليس ذكر هذه القصص فحسب, ولكنّ التحليل هو الذي يعنينا من هذه الأحداث.
وفي روايةٍ أخرى، كان يأكل الزيت، ويبتعد عن السمن، لأن سعره مرتفع جداً، ويحبّ أن يسوي نفسه بعامة المسلمين، فقال لبطنه: " لتمرنن أيها البطن على الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي " أي لندرتِه صار يباع بالأواقي .

لو طبق المسلمون هذه القاعدة :

إذا طبَّق الإنسان هذه القاعدة في بيته، فما أكل طعاماً أكثر مما يأكل أولاده وزوجته وأهله، إذا سوى نفسه مع مَن حوله، فهذا الذي يجعل المسلم يتألق، وهذا الذي يجعل المسلم تهفو القلوب إليه .
فلو سوى الأب نفسه مع أولاده، والأم مع بناتها، والأخ الأكبر مع أخوته الصغار، تنشأ المودَّة الخالصة بين الأولاد وأبيهم، وبين الأخوة وأخواتهم، وعلى هذا يكون المؤمن قد بنى حياته على المؤاثرة .
نحن عندنا قاعدتان: إما أن تؤثر نفسك على أخيك، وإما أن تؤثر أخاك على نفسك، فإن آثرت نفسك على أخيك فهذه اسمها الأثرة، وإن آثرت أخاك على نفسك هذه اسمها المؤاثرة، قال تعالى :

﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾

( سورة الحشر الآية: 9)

" مرة أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بسواكين: الأول مستقيم، والثاني معوج، فأعطى السواك المستقيم لأحد أصحابه، وترك لنفسه المعوج " .
هذه إشارة دقيقة، فأخلاق المؤمن مبنية على المؤاثرة لا على الأثرة، أخلاق أهل الدنيا، وأخلاق المقطوع عن الله عزَّ وجل، وأخلاق المقصرين أساسها الأثرة، فالمؤمن يسعده أن يعطي، وغير المؤمن يسعده أن يأخذ .

لا يجوز في أحكام الشريعة الإسلامية معايرة المسلم أخيه المسلم بما يشتهي :

أحيانًا الرجل الراشد يصبر، لكن الصغير لا يصبر، فالصغير يشتهي كل شيء، ويطلب من والده كل شيء، ويلِح على والده أن يأكل بعض الأكلات، وأن يشتري بعض الحاجات، مِن هنا علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام،

" فكان إذا قُدِّم للنبي فاكهة في بواكيرها يأخذ الفاكهة ويقبلها شكراً لله عز وجل " .

( ورد في الأثر)

وهذا التقبيل له معنيان:
المعنى الأول: الحمد لله الذي أحيانا إلى أن أدركنا هذه الفاكهة، الآن باعتبار وجود زراعة محمية فالأمور تداخلت، فدائما تجد خضارًا في غير وقتها، أما الأصل فكل فاكهة لها موسم، المعنى الأول شكراً لله عزَّ وجل على أن هيَّأ هذه الفاكهة للإنسان، وهذه من نعم الله عزَّ وجل .
المعنى الثاني: على أن أحيانا حتى أدركنا مجيء هذه الفاكهة، كان يقبلها، ويعطيها لأصغر طفل في المجلس .
يستنبط من هذا أيضاً, إذا كان لك ابن في مدرسة، أو في الروضة، وأنت ميسور الحال ، فتعطي ابنك فاكهة غالية جداً، وتقول: أتركه يأكل، ويشبع في حياتي، هذه معصية كبيرة، الطفل يشتهي، فإن أعطيته هذه الفاكهةَ، والذين حوله محرومون منها يشتهونها، فلا تعط ابنك حين ذهابه إلى المدرسة إلا الفاكهة التي يستطيع كل الناس شراءها .
والنبي عليه الصلاة والسلام في بعض ما ورد عنه:

" وإذا اشتريت فاكهةً فاهدِ له منها " أي لجارك، " فإن لم تفعل فأدخلها سراً "

( أخرجه البيهقي في شعب الإيمان )

كان السلف الصالح يضع الفاكهة في سلّة، وعليها منديل، الآن توضع في كيس من النايلون الأبيض الشفاف، والله مشكلة

" وإذا اشتريت فاكهةً فاهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ".

( أخرجه البيهقي في شعب الإيمان)

هذا الحديث كله قواعد أخلاقية .

 

إليكم نموذج صحيح من هذا العصر يدل على المؤاثرة :

إنّ حياة المؤمن مبنية على المؤاثرة لا على الأثرة، حياة المؤمن مبنية على العطاء لا على الأخذ، المؤمن الصادق الذي يريد تأليف القلوب يسوّي نفسه مع الضعفاء، ومع عامة الناس .
سمعت عن رجل, يوم كانت هناك أزمة في بعض الفواكه، فكان البرتقال في الشتاء نادراً وغاليًا جداً، أقسم لي هذا الرجل، كان بإمكانه أن يشتري من هذه الفاكهة ما شاء له أن يشتري، قال لي: واللهِ أردت أن أشارك عامة الناس في سلوكهم بتقنين هذه الفاكهة، فلم أشتر منها مدة طويلة، وأقنعت أولادي أننا نحن مع الناس، إن أكل الناس نأكل، وإن لم يأكلوا لم نأكل, عندما يشارك الإنسان أخوانه المؤمنين بمشاعرهم, فهذا شيء نادر .

نموذج آخر من هذا العصر يدل على الأثرة :

وقد سمعت عن شخص في أحد أسواق الخضار، وكان سعر كيلو الكمأة ستمئة ليرة، فطلب شراء عشرة كيلو منها، ودفع ستة آلاف ليرة، وكان ثمة شخص آخر ينظر إليه، وهو يشتهي خمس ليرات, لذلك إذا لم يظهر الإنسان ما عنده من خيرات, ربما أصيب بالحسد, والعين تضع الجمل في القدر، وربنا عزَّ وجل قال:

 

﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾

( سورة الفلق الآية : 5 )

وربنا عزَّ وجل قال:

 

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾

( سورة الناس الآية : 1-4 )

فإذا أظهر الإنسان ما عنده، وخرج على قومه بزينته، فعرض النعم التي حباه الله بها أمام الناس، وافتخر بها، وتاه على خلق الله بها، ربما عاقبه الله عزَّ وجل كما عاقب قارون:

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾

( سورة القصص الآية: 79)

وقال الله عز وجل: 

﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾

( سورة القصص الآية : 81)

فالإنسان لا يحبب الدنيا للناس، لا يزرع فيهم حبها، ولا يعرض أمامهم ما عنده من أشياء ثمينة ، ومن دخل كبير، ولا يحدِّثهم عن رحلاته، وعن مصروفه الكبير في رحلاته، فهذا الكلام ماذا ينفعهم؟ ليس هذا من شأن المؤمن، كن مع الناس .
كان يقول هذا الخليفة العظيم: " كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم ؟ " إذا أكل مما يأكلون، وشرب مما يشربون، وتحمَّل ما يتحمَّلون، وعانى ما يعانون، عندئذٍ يعنيه شأن الناس .
أكثر هذه القصص تتمحور حول أن هذا الخليفة العظيم سوّى نفسه مع أضعف الناس ومع أفقر الناس .

انظر إلى موقف عمر من والي أذربيجان :

ذات مرة جاءته هدية من أذربيجان، وهي طعام نفيس، دخل هذا الرسول المدينة في منتصف الليل فكره أن يوقظ أمير المؤمنين، فتوجَّه إلى المسجد النبوي الشريف، في المسجد سمع صوت رجل يصلي ويبكي ويناجي ربه، ومما سمع من كلام هذا الرجل: " ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيَها؟ " فقال هذا الرسول: " من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر, قال: يا سبحان الله ألا تنام الليل؟ فيجيبه هذا الخليفة العظيم: أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيَّتي " وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: " إن لله أعمالاً لا يقبلها بالليل "
أي في النهار لا تقبل أعمال الليل، وفي الليل لا تقبل أعمال النهار، أرأيتم إلى هذا التوازن؟ التوازن بين عملين، بين الإحسان للخلق، والاتصال بالحق، وأكثر الناس يختل عندهم هذا الميزان، فإما أن ينكبّوا على الأعمال الصالحة, وينسون عباداتهم وأذكارهم واتصالهم بربهم، وإما أن ينكبوا على عباداتهم, ولا يفعلون شيئاً من الأعمال الصالحة، لذلك هذا التوازن, رهبان في الليل فرسان في النهار .
فلما أذَّن الفجر صلّى أمير المؤمنين بالناس, ودعا ضيفه إلى البيت, وقال لامرأته حفصة: " ماذا عندك من الطعام؟ قالت: ملح وخبز " كان فقراء المسلمين يأكلون اللحم، أما سيدنا عمر فكان طعامه الخبز والملح، بعد أن أطعم ضيفه, وقد ندم الضيف أشدّ الندم على أنه اختار طعام الأمير، قال: " ما هذا؟, قال: حلوى يصنعها أهل أذربيجان, وقد أرسلني بها إليك عُتبة بن فرقد " وكان والياً على أذربيجان، " فذاقها عمر فوجد لها مذاقاً شهياً، فسأل الرسول: أوكل المسلمين هناك يطعمون هذا؟ قال الرجل: لا, وإنما هو طعام الخاصة, فأعاد عمر إغلاق الوعاء جيداً, وقال للرجل: أين بعيرك؟ خذ حملك هذا وارجع به لعتبة، وقل له: عمر يقول لك: اتق الله واشبع مما يشبع منه المسلمون " .

شدته على أهل بيته :

سيدنا عمر لا يسمح لأهله أن يتجاوزوا الحدود، بل إن أهله كان عليهم تبعة مضاعفة فيما لو وقعوا فيما نهى عمر عنه، فكان إذا سنّ قانوناً, أو أمر أمراً، أو حظر أمراً، جمع أهله أولاً, وقال: " إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هِبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجلٍ منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء فليتأخر " .
فأيام يكون عند إنسان محل تجاري, وعنده موظَّف وابنه في المحل، ابنه له معاملة لو أساء أشد الإساءة يتساهل معه، أما هذا الموظَّف لو قصَّر أدنى تقصير يقيم عليه النكير، هذا الموظَّف يرى بعينه، يرى هذه التفرقة الواضحة بين ما يعامل به ابنه وبين ما يعامله به، فلذلك نحن لا نكون مؤمنين صادقين إلا إذا عاملنا أقرب الناس إلينا كما نعامل أبعد الناس عنا .
أحيانا الإنسان ابنه لا يحمِّله فوق ما يطيق، يخاف على ظهره، يخاف أن تنزلق إحدى فقراته، يخاف عليه المرض، فلماذا إذا كان عند هذا الرجل من يعمل عنده في محلّه التجاري أو في معمله يحمّله فوق ما يطيق؟ ما من صفة أبشع في الإنسان من التناقض، والمتناقض يسقط اعتباره بين المؤمنين، فانتبه قبل أن تعطي قاعدة، قبل أن تقيس بمقياس، قبل أن تستخدم طريقاً من الطرق، هل هذه مطبقة على نفسك وعلى بقية الناس، أم أن هناك مقياسًا لنفسك ومقياسًا للناس؟ وهذا التناقض يقع فيه الناس أشد ما يقعون، فابنته في البيت لها معاملة، أما زوجة ابنه فلها معاملة أخرى، الأُولى في منتهى الرحمة والتسامح، والثانية في منتهى القسوة والشدَّة، أو الأم تعامل ابنتها في منتهى التساهل، وتعامل زوجة ابنها بمنتهى الشدة، هذا تناقض .
أصبحت القرابة من عمر مصيبة، وأية مصيبة، لأنها تحمل صاحبها عقاباً مضاعفاً .

 

السبب في تشديده على أهل بيته تطبيقاً لهذه الآية الكريمة :

هذا ينقلنا إلى آية كريمة, تقول:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾

( سورة الأحزاب الآية: 32)

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾

( سورة الأحزاب الآية: 30)

إذا أطاعت ربها، وقنتت لله ورسوله يؤتها أجرها مرتين، فالقدوة دائماً له حساب مضاعف، إن أحسن فله أجر مضاعف، وإن أساء فله وزر مضاعف .
كل إنسان ينظر إليه على أنه أب، أو معلم، أو معلِّم في مهنة، أو تولّى على أُناس أقل منه، فأي منصب قيادي مهما بدا متواضعاً، كمعلم بصف، أو عرّيف على خمسة جنود, فهذا منصب قيادي، فالذي يتولى عملاً قيادياً إساءته عقابه مضاعف، وإحسانه جزاؤه مضاعف .

نزاهة الخليفة الراشد في رعيته وخاصة مع أهل بيته :

مرة خرج إلى السوق في جولة تفتيشية, فيرى إبلاً سمينة تمتاز عن بقية الإبل بنموّها وامتلائها، يسأل عمر بن الخطاب: " إبل من هذه؟ فقالوا: هي إبل عبد الله بن عمر، وانتفض أمير المؤمنين، وكأن القيامة قد قامت، وقال: عبد الله بن عمر, بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين " (أي الله يعينك ) وأرسل في طلبه فوراً، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده, أخذ عمر يفتل سبلة شاربه، وتلك عادته إذا أهمَّه أمرٌ خطير، فأحياناً الإنسان يحكُّ رأسه، أو يحرِّك ثيابه، كل إنسان له طريقة, فقال: " ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فأجاب: إنها إبل أمضاء ( يعني هزيلة ) اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى ( أي إلى المرعى ) أُتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال عمر متهكماً تهكُماً لاذعاً, ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وتسمن إبل ابن أمير المؤمنين، فبع هذه الإبل، وخذ رأس مالك منها، واجعل الربح في بيت مال المسلمين " هذا إدراك نادر, أن هذا ابن أمير المؤمنين، فلعل الناس أعطوه فوق ما يستحق، ولعلهم أكرموه، أرأيتم هذه النزاهة .
مرة وصل إلى المدينة مال كثير من أموال الأقاليم، فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها، وتقول له مداعبة: " يا أمير المؤمنين حقّ أقاربك في هذا المال، فقد أوصى الله بالأقربين" فيجيبها جاداً: " يا بنيتي حقّ أقربائي في مالي، أما هذا فمال المسلمين، قومي إلى بيتك " أي اذهبي, طبعاً من علمه ذلك؟ إنّه النبي عليه الصلاة والسلام، حينما قال لأحب الناس إليه فاطمة البتول: " لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال، والله لا أؤثرك على فقراء المسلمين " .

( ورد في الأثر)

مرة أراد هذا الخليفة العظيم أن يسجِّل في الديوان أسماءَ أصحابه حتى يعطيهم من فيء المسلمين بحسب أقدارهم، وسبقهم في الإسلام، قال: " ضعوا عمر وقومه في هذا الموضع، فقد رُتِّبت الأسماء ترتيباً بحسب السبق في الإسلام، وبحسب قُرب الصحابي من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هكذا أمر، فجاءت القائمة كالآتي: بنو هاشم أهل بيت النبي، ثم آل أبي بكر، ثم آل عمر، فنقل اسمه، واسم أهله إلى مكان بعيد جداً، فلما ذهبوا إليه أهله بني عدي راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا أنصبائهم, قالوا له: ألسنا أهل أمير المؤمنين؟ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ، أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم، لا والله لتأخذن مكانكم، ولو جئتم آخر الناس، لكم مكان لا يتقدم ولا يتأخر، ولو كنتم أهلي وأقربائي " .

وفائه للإمارة :

وقال هذا الخليفة حينما اقترح عليه أحدهم أن يجعل ابنه في عمل، قال: " من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك, فقد خان الله ورسوله والمؤمنين " يعني على مستوى صف، لو عيَّنت عريفًا على هؤلاء الطلاَّب من يلوذ بك، وفي الصف من هو أكفأ منه, فقد خُنت الأمانة .
ألم يقل مرة لأحد الولاة: " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال: أقطع يده قال: فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، فإن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوْعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلِقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " .

رحمة عمر برعيته :

مرة قال له بعض أصحابه: " إن الناس هابوا شدتك " أي أنهم خائفون منك، فقال هذا الخليفة: " بلغني أن الناس هابوا شدَّتي، وخافوا غِلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتدّ ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين أظهرنا، ثم اشتدَّ علينا وأبو بكر ألين منه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ " أصبحت مشكلة, كان يشتد والنبي الكريم يخفف، وكان يشتد وسيدنا الصديق يخفف, فقال: " ألا من قال هذا فقد صدق، فإني كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم عونه وخادمه، وكان عليه الصلاة السلام لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله تعالى:

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

( سورة التوبة الآية : 128 )

فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني, فلم أزل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك حتى توفَّاه الله وهو عني راضي، والحمد لله على ذلك كثيراً, وأنا به أسعد " كنت بيد رسول الله عليه الصلاة والسلام قوة, إما أن يستخدمني وإما ألا يستخدمني، هو كان رحيم، وأنا شديد .
قال: " ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكِرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلِطُ شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني، أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل، وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد " كلام واضح جداً .
فقال: " ثم إني قد ولّيت أموركم أيها الناس, فاعلموا إن تلك الشدة قد أضعفت, ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم بعضاً " .
أرأيتم أيها الأخوة، هو للمؤمنين رؤوف رحيم، لين مطواع, أما أهل الظلم والتعدي فهو شديد عليهم .

الشدة في موضعها رحمة :

هذه الشدة أشار القرآن إليها, قال:

﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾

( سورة النور الآية: 2 )

الرأفة في غير موضعها مؤذية جداً، إنسان قتل يجب أن يُقتل، لقوله تعالى:

﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

( سورة البقرة الآية : 179)

إنسان زنى يجب أن يُرجم إن كان محصناً، أو أن يُجلد إن كان غير محصن, قال تعالى:

﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾

( سورة النور الآية: 2)

أما ولي الأمر, إذا بلغه انتهاك لحرمة وعفا عنها, قال عليه الصلاة والسلام :

" لا عفا الله عنه إن عفا ".

( ورد في الأثر)

العفو عن إنسان مجرم, مفسد في الأرض، هذا العفو ليس خلقاً نبيلاً, إنما هو ضعف، و توسيع للفساد بين الناس .

المنهاج الذي سار عليه عمر في أثناء خطبة الخلافة :

قال: " أيها الناس, لكم علي خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه " يعني لكم عليّ أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا ضمن الحق, " ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى" أي بما يتناسب الدخل مع المعيشة، " ولكم عليَّ أن أَسُدَّ ثغوركم " أي أحصن الحدود، وأحمي البلاد من عدوان الأعداء، " ولكم عليَّ أن لا أُلقيكم في المهالك " فالإنسان غالي، والإنسان هو الأصل, فإذا أُلقي في المهالك فقد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام, " وإذا غِبتم في البعوث ( في الجهاد ) فأنا أبو العيال حتى ترجعوا " أي أنا متكفل بأهلكم وأولادكم, " فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفِّها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاّني الله من أمركم " .
لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز, اختار رجل من كِبار العلماء، واعتقد اسمه عمر بن مُزاحم، قال: " يا عمر كن معي دائماً, وانظر فيما أحكم، فإن رأيتني ظلمت فأمسكني من تلابيبي وهُزَّني هزاً شديداً, وقل لي: اتق الله يا عمر فإنَّك ستموت " هذه وظيفتك .

التعويض العائلي الذي فرضه عمر لولادة كل مولود في الإسلام :

مرة قدم بعض تجَّار المدينة, وخيَّموا عند مشارفها، وقد أراد هذا الخليفة العظيم أن يقوم بجولة تفتيشية في أطراف المدينة، فاصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة، وكان الليل قد تصرّم، واقترب الهزيع الأخير منه، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها، وقال عمر لعبد الرحمن: " فلنمض بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا " سيدنا عمر الخليفة العظيم جلس ليحرس هذه القافلة، ويحرس أموالها، وهما جالسان سمع صوت بكاء صبي، فانتبه عمر وصمت، وانتظر أن يكُفَّ الصبي عن بكائه، ولكنه تمادى فيه، فمضى يسرع صوبه، و قال لها: " اتق الله وأحسني إلى صبيِّك" أي أرضعيه، ثم عاد إلى مكانه, وبعد حينٍ عاود الصبيُّ البكاء، فهرول نحوه عمر، ونادى أمَّه, قُلت لك: " اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " وعاد إلى مجلسه ، لم يكد يستقرّ حتى زلزله مرةً أُخرى بكاء الصبي، فذهب إلى أمه, وقال لها: " ويحك إني لأراكِ أم سوء، ما لصبيِّك لا يقرُّ له قرار ؟" أي لما لا ترضعيه؟ قالت وهي لا تعرفه: " يا عبد الله قد أضجرتني، إني أحمله على الفِطام فيأبى, سألها عُمر: ولما تحملينه على الفِطام؟ قالت: لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم " أي أن التعويض لا يعطيه إلا للفطيم, قال: " وكم له من العمر؟ قالت: بضعة أشهر, قال: ويحك لا تعجليه " يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف، كأن سيدنا عمر صُعق، وأمسك رأسه بيديه, وأغمض عينيه, وقال: " ويحك يا ابن الخطاب, كم قتلت من أطفال المسلمين؟ " عد نفسه قاتلاً, لأنه أمر أن يُنفق التعويض على هذا الغُلام بعد الفطام، إذاً: أكثر الأمهات يحملن أطفالهن على الفِطام قبل الأوان من أجل أن تأخذ الأم تعويض غلامها .
ثم أمر منادياً نادى في المدينة: " لا تعجلوا على صبيانكم بالفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكلّ مولودٍ يولد في الإسلام من دون فطام " وذهب ليصلي الفجر مع أصحابه، فالناس ما استبانوا قراءته من شدة بكائه، وكان يقول: " يا بؤساً لعمر, كم قتل من أولاد المسلمين؟ " وبعضهم يذكر أنه كان يقول: " ربي هل قبلت توبتي فأهنّئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ " .

خذ عمر قدوة لك :

لهذا الخليفة العظيم مواقف كثيرة جداً، ويمكن أن نهتدي بها، فإذا طبَّق كل إنسان هذه السيرة في بيته، في عمله إذا كان رئيساً لدائرة، وعنده عدد من الموظفين فتواضع لهم، وعدل بينهم، وسوَّى نفسه معهم حتى أحبّوه، فلما أحبوه أحبّوا دينه، وأحبّوا إسلامه، وأحبوا منهجه في الحياة، عندئذٍ الإسلام ينمو، الإسلام لا ينمو بالكلام, ولكن ينمو بالمثل العُليا، وينمو بالتطبيق .
يا أيها الأخوة, أنا ما أردت أن أمْتعكم بهذه القصص، أردت أن تكون هذه القصص منهجاً لكم في حياتكم، أردت أن تترجم هذه القصص في حياتكم اليومية . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور