الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس والخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية السادسة والثمانين بعد المئة، وهي قول تعالى:
﴿ لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ (186)﴾
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
ليس من العقل أن تُجعل الدنيا دارَ قرارٍ:
أيها الإخوة الكرام، لا بد للإنسان أن يعرف حقيقة الحياة الدنيا، مَن توهَّمها دار نعيم شقيَ فيها، ومَن أيقن أنها دار ابتلاء سعِدَ بها، الدنيا دار ابتلاء، الدنيا دار امتحان، الدنيا دار عمل، الدنيا دار كدح، لكن النعيم المقيم في الآخرة، والسعادة المستمرة في الآخرة، ولك ما تشتهي في الآخرة، ولك ما تحب في الآخرة، والتكريم في الآخرة، لذلك شقي الناس حينما قلبوا هذه الحقيقة، جعلوا الدنيا دار نعيم ودار استقرار، هي ممر وليست مقراً، من هنا: خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هماً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه، وهو لا يشعر، والدنيا تغر وتضر وتمر، دار ابتلاء ، المؤمن العاقل هو في الدنيا ضيف، يتحول عنها سريعاً.
أنا أضرب لكم مثلاً ذكرته سابقاً: لو أن بلداً من البلدان فيها قانون إيجار غريب، مالِك البيت في أية لحظة، وفي أية ثانية يطرد المستأجر من دون إنذار، ولا يستطيع المستأجر أن يأخذ شيئاً، لا ألبسته، ولا أثاث بيته، ولا أي جهاز كهربائي، صاحب البيت بإمكانه أن يطرد المستأجِر في أية لحظة يريد، هل من العقل أن يضع هذا المستأجر كل دَخْله في هذا البيت، أن يملأه بالثريات، أن يملأه بالأثاث، أن يملأه بالأجهزة، وهو مُعرَّض إلى أن يخسر كل شيء في ثانية واحدة، يخسر كل شيء، ولهذا المستأجر بيت بعيد على الهيكل، هل من العقل أن يزين بيته المستأجَر الذي سيغادره في أية لحظة من دون إنذار، من دون إعلام مُسبَق، أم العقل أن يكسو هذا البيت الذي على الهيكل، وهو مصيره إليه، هذه المشكلة كلها، وضع الناس كل البيض في سلة واحدة، فكل ما تملك، وكل مكانتك، وكل مكتسباتك، وكل إنجازاتك، وكل هيمنتك، وكل سيطرتك، وكل استمتاعك في الدنيا منوط بضربات القلب، فإذا وقف القلب أُلصِق النعي في شتى أنحاء المدينة، وكان رجلاً فصار خبراً، كان رجلاً ملء السمع والبصر، فأصبح خبراً تتناقله الأفواه.
فيا أيها الإخوة، ليس من العقل أن تجعل الدنيا أكبر همك، ومبلغ علمك، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( ما لي وللدنيا إنما أنا كعابر سبيل استظل بشجرة وتحول عنها ))
فأنت حينما تفهم حقيقة الدنيا تسعد بها، وحينما تراها مديدة طويلة الأمد، ينبغي أن تستمتع بها، وأن تُنشِئ فيها البيوت، وأن تركب المركبات، وأن تقتني الأشياء الجميلة، هنا تبدأ المشكلة، لذلك أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه، لا خير في الدنيا إلا لذكر الله وما والاه.
لابد من الابتلاء والمصائب:
أيها الإخوة الكرام ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ﴾ معنى ذلك ولو كنت مؤمناً، ولو كنت مقرباً من الله، هناك مصائب ابتلاء، هناك مصائب عقاب، هناك مصائب ابتلاء .
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
حقيقة الحياة الدنيا أنك مُبتلى فيها، مبتلى بأشياء كثيرة، مبتلى بأشياء لا تعد ولا تحصى، مبتلى بالغنى، فإذا كنت غنياً فأنت مبتلى بالغنى، يعني مادة امتحانك الغنى، من أين كسبت هذا المال؟ وكيف أنفقته؟ وما الحالة النفسية التي رافقت هذا الغنى؟ هل كنت متكبراً؟ هل رأيت نفسك فوق الناس؟ كلهم فقراء أصحاب دخل محدود، أما أنت فلك أرقام في المؤسسات المالية كبير جداً، أنت مبتلى بالغنى ومبتلى بالفقر، هل أنت راضٍ عن الله؟ هل أنت مُتجمِّل؟ هل تصمد أمام غني؟ أم تتضعضع، من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، أنت مبتلى بالفقر، أنت مبتلى بالصحة، ماذا فعلت بهذه الصحة؟
اعرف نِعمَ الله عليك قبل زوالها:
ذكرت لكم في درس سابق، أن أحد علماء دمشق الأجلاء رحمهم الله عز وجل كان من عادته -طبعاً وليست هذه سنة- لكن من عادته أن يأخذ إخوانه في صبيحة أيام العيد إلى المقابر ليعرف إخوانه نعمة الحياة، أنت حي، ومعنى حي أنه بإمكانك أن تتوب، معنى حي أنه بإمكانك أن تستغفر، معنى حي أنه بإمكانك أن تكون باراً بوالديك، معنى حي أنه بإمكانك أن تنفق مالك، معنى حي أنه بإمكانك أن تطلب العلم، نعمة الحياة لا تقدر بثمن، لذلك وصف الله الموت بأنه مصيبة:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍۢ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلْأَرْضِ فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعْدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِى بِهِۦ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذًا لَّمِنَ ٱلْآثِمِينَ(106)﴾
الموت أنهى الحياة، أنهى العمل، أنهى الاستغفار، أنهى التوبة كله انتهى، كم من باب مُفتَّح لك وأنت حي، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم جئتني تائباً غفرتها لك ولا أبالي، ما دمت حياً، التوبة بين يديك، المغفرة بين يديك:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)﴾
فكان هذا العالم الجليل يأخذ إخوانه إلى المقابر في صبيحة اليوم الأول، ليعرف إخوانه معنى الحياة، أنت حي، بإمكانك أن تنفق، وقد مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبر فقال لأصحابه:
(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم ))
لو أنك تملك أكبر شركة في العالم، لو أن لك دخلاً كل يوم مليون، لو أنك تملك كهذا الذي يُضرَب به المثل، تسعين مليار دولار، وهو شاب في الأربعين:
(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم ))
في اليوم الثاني يأخذهم إلى المستشفيات، لا يعرف نعمة الصحة إلا المريض، نعمة الحركة، هناك إنسان فقدَ حركته، نعمة الوعي، هناك إنسان فقد وعيه، نعمة انتظام ضربات القلب، نعمة إفراغ المثانة، هناك نِعَم لا تعد ولا تحصى، وأية نعمة في الصحة فقدتها تصبح الحياة جحيماً لا يطاق، كأس الماء لو مُنِع منك، أو لو مُنِع إخراجه، هذا الطعام الذي يأكله الفقراء لو مُنِع منك تدفع ثمنه مئات الألوف، هناك من يعيش على السائل السكري الملحي (السيروم) قد يشتهي هذا المريض أن يأكل شيئاً مما يأكله معظم الفقراء، لا يستطيع، لذلك قال تعالى:
﴿ ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ (8)﴾
ماذا فعلت بنعيم الصحة؟ ماذا فعلت بنعيم الأمن؟ أنت آمن، في اليوم التالي يأخذهم إلى المستشفيات، هذا معه خثرة في الدماغ، هذا معه تشمّع بالكبد، هذا معه فشل كلوي، هذا معه التهاب بالأعصاب حاد، هذا معه ضمور في بعض الأجهزة -والعياذ بالله- من أجل أن يعرفوا قيمة الصحة، وفي اليوم الثالث يأخذهم إلى السجون، من أجل أن يعرفوا قيمة الحرية، أنت حر، تذهب إلى أي مكان تريد لا تخشى أحداً، ليس هناك مذكرة قبضٍ بحقك، ولا مذكرة بحث، حر، ليس هناك حكم جزائي يطولك، وفي اليوم الرابع يأخذهم إلى مستشفى الأمراض العقلية ليعرفوا نعمة العقل، عقلك برأسك.
فيا أيها الإخوة، معنى قوله تعالى:
﴿ أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (4) كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ (8)﴾
نعيم الصحة، نعيم الفراغ، نعيم الأمن، نعيم الكفاية، مَن منا يدخل بيته فيقول: الحمد لله، ألا يتفطّر القلب لهؤلاء المسلمين المشردين؟
فلذلك أيها الإخوة، الدنيا دار ابتلاء، الدنيا دار تكليف، الدنيا دار عمل، الدنيا دار كدح، من هنا ورد في خطب النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ))
لحكمة أرادها الله جل جلاله لا تصفو لأحد، إن كنت قوياً مهيمناً مسيطراً فقدت الأمن.
﴿ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَٰنًا ۖ وَمَأْوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى ٱلظَّٰلِمِينَ(151)﴾
وقد ترتعد فرَقاً أقوى قوة في العالم، خوف، أعطاها كل شيء وسلبها نعمة الأمن، قد تكون الزوجة صالحة والأولاد ليسوا أبراراً، وقد يكون الأولاد أبراراً، والزوجة ليست صالحة، وقد يكون الأولاد والزوجة كما تتمنى، والدخل لا يكفي، وقد يكون الدخل كافيًا، والصحة متدهورة، ما مِن إنسان إلا وهو مبتلى بجانب من جوانب حياته.
حينما توطّن نفسك على أن الدنيا دار ابتلاء ترتاح، لذلك عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. ))
[ الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد ]
لا بد أن توقن بحكمة الله أن هذه الدنيا دار ابتلاء من أجل أن تتعلق بالآخرة لا من أجل أن تركن إليها، وأن تميل إليها، وأن تكره لقاء الله عز وجل، المؤمن دائماً ينتظر أن يلقى الله عز وجل .
الابتلاء في المال وضرورة تقوى الله في الفقر:
أيها الإخوة الكرام ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ﴾ لا أعتقد في الناس قلُّوا أو كثروا إلا وقد ابتلي أحدهم بماله، يفقد جزءًا منه، يتلف الله له بعض ماله، يخسر أحياناً، يفوته مال كثير، هناك من يقنصه، هناك من يحتال عليه، هناك من يبتز ماله ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ﴾ لكن:
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)﴾
قال العلماء: من يتق الله في كسب ماله يجعل الله له مخرجاً من إتلاف ماله، مَن يتق الله في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم، من يتق الله في إنفاق ماله يجعل الله له مخرجاً من محاسبته يوم القيامة، لذلك الإنسان في الدنيا في دار ابتلاء، في دار حساب، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، يتزوج الإنسان، فيأتيه طفل صغير، يخاف على عقله من محبته له، قد ترتفع حرارته فلا ينام الليل، قد يمرض، قد يغيب عن البيت، هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، هناك أمراض لا تعد ولا تحصى، وكل مرض يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق.
لكن بالمناسبة أيها الإخوة، لحكمة بالغةٍ بَالغةٍ ثبّت الله مليارات الأشياء؛ دورة الأفلاك ثابتة، خصائص المعادن ثابتة، خصائص البذور ثابتة، القوانين كلها ثابتة، من أجل أن ترتاح، أنت اشتريت سبائك ذهب لا تنقلب إلى حديد بعد حين، أنت أنشأت بناء، وسلّحته بالحديد، هذا الحديد يبقى حديداً إلى ما شاء الله، لا ينهار البناء، مَن الذي ثبّت خصائص المعادن، وثبّت خصائص المواد، وثبّت خصائص البذور، لكن الله حرّك الرزق، وحرّك الصحة ليؤدّبنا بهما.
جفاف، حدثني أخ في بلد يُظَّن أن أمطارها ألفا ميليمتر باسطنبول، قال لي: مرّت سبع سنوات في الأربعة أيام يُفتَح الماء ساعة واحدة، ثم أكرمهم الله بأمطار غزيرة، ونحن قد امتُحِنا بهذا أليس كذلك؟ سبع سنوات عِجاف، المعدلات للنصف والثلث، والينابيع جفت.
أنا أعلم حينما كنت صغيراً أن عشرات الأشخاص يموتون غرقاً في بردى، فهل سمع أحدكم أن أحدًا مات غرقاً في هذا النهر الآن؟ تمشي فيه قطة.
﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(96)﴾
وأنا أقول لكم دائماً: كلما قلّ ماء الحياء قلّ ماء السماء، وكلما رخص لحم النساء غلا لحم الضأن، وكلما اتسعت الصحون على السطوح ضاقت صحون المائدة، وكأن هذه الصحون ترُدّ رحمة الله عز وجل.
﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ﴾ فالابتلاء بالمال ثابت، قد تُبتلى بالغنى، وقد تُبتلى بالفقر، وقد تُبتلى بأخذ مالك، وقد تُبتلى بهدم بيتك، وقد تُبتلى بفقد عملك، وقد تبتلى بسرقة مالك، إن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، لأنه مؤقت:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)﴾
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ(28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)﴾
كل شيء مؤقت، كل حال يزول، قال أحد الملوك لوزيره: قل لي كلمة إن كنت حزينًا أفرح، وإن كنت فرِحاً أحزن، قال: كلُّ حالٍ يزول، لذلك ورد في بعض الأحاديث أنّ الموت ما ذُكِر في كثيرٍ إلا قلّله، ولا ذُكِر في قليل إلا كثّره، إذا كنت مؤمن حياتك صعبة فالموت فيه راحة للمؤمن، << لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه>> ، وإن كنت في بحبوحة فاعلم علم اليقين أن هذه البحبوحة مؤقتة، وأن بعد هذه البحبوحة حساب دقيق، لذلك: ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذًى كَثِيرًاۚ﴾
﴿وَأَنفُسِكُمۡ﴾ أي هناك أمراض تصيب الجسم، قد يفقد الإنسان ابنه، وقد سمعت عن إنسان فقَدَ ابنه فترك الصلاة، مات ابنه وهو شاب، فعتِبَ على الله عتباً شديداً، فترك الصلاة، وإنسان آخر فقدَ ابنه فكان شاكراً لله، راضياً بقضائه وقدره، وقد علّمنا النبي صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما مات ابنه إبراهيم الصبر فقال:
(( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))
[ متفق عليه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]
﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ﴾ بالمناسبة أيها الإخوة، أنت كمؤمن البطولة لا أن تنجوَ من مصيبة، هذا ليس متاحاً لأحد، ما من إنسان إلا أصابته مصيبة، ولكن البطولة أن تقف موقفاً كاملاً من أية مصيبة، ليست البطولة أن تنجو من مصيبة، ولكن البطولة أن تقف منها الموقف الكامل، لذلك قال تعالى:
﴿ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّٰتُ عَدْنٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ۖ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُۥ(8)﴾
إن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في أصعب حالات حياته في الطائف حيث ضُرب، وكُذِّب، وسُخِر به بعد أن أخرجته مكة، ليس له ملجأ إطلاقاً، علق الآمال عليهم، فخيبوا ظنه، ماذا قال؟ هذا الدعاء، والله يصلح لنا في هذه الأحوال:
(( اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا ، وقلة حيلتنا ، وهواننا على الناس ، يا رب المستضعفين إلى من تكلنا ، إلى صديق يتجهمنا أم إلى عدو ملكته أمرنا ، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي ولك العتبة حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي ))
[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر ]
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
أيها الإخوة ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرًاۚ﴾ وكل شيء تسمعونه يؤكد هذه الآية؛ المسلم مُتَّهم أنه مجرم، مُتَّهم أنه متخلّف، حضارته متخلفة، هذا نسمعه ليلاً ونهارًا.
﴿وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرًاۚ﴾ يومياً، صباح مساء، الإسلام متهم، المسلمون مُتَّهمون، المسلمون مستهدفون بكل فئاتهم ومذاهبهم، ومِلَلهم ونحلهم وطوائفهم، إنها حرب عالمية ثالثة معلنة على الإسلام، هكذا قال الله عز وجل، ولن يرضوا عنا إلا إذا كنا منهم، فإن لم نكن منهم لن يرضوا عنا، الله أخبرنا فقال: ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرًاۚ﴾ أليس هذا تطييباً لقلوبنا؟ أليس هذا توضيحاً لمَا نعيشه نحن الآن؟ شيء عام.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور
لابد من التقوى والصبر على كيد الأعداء:
﴿وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ تتقوا: أن تطيعوا، إن صبرنا وأطعنا ﴿فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾ لكن هل تصدقون أن هناك آية أخرى والله الذي لا إله إلا هو لو علم الناس فحواها وبُعدها وخطورتها لكان فيها الحل، قال تعالى:
﴿ إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٌ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٌ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾
الكيد يعني عندهم أسلحة لا يعلم عددها إلا الله، تطير الطائرة خمساً وثلاثين ساعة مُحمَّلة بمئات الأطنان من القنابل، وليس في الأرض مطار يحتملها، تطير من أقصى البلاد إلى أقصى البلاد تقصف، وترجع، وهذه صُنعت عام 62، وصالحة لعام 2040.
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾
وهذا ترونه رأي العين ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ ومع ذلك قال ﴿وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ﴾ تصور وأنت واقف في مكان فيه جدران ثلاثة حديدية، ومكعب حديدي متجه إليك بقوة كبيرة، وراءك حائط حديدي، وجدران حديدية، وهذا المكعب تماماً بحسب الفراغ، على مساحة الفراغ، الموت محقق، الانسحاق محقق، لكن هناك زر على اليمين كُتِب عليه: إن ضغطت على هذا الزر يقف تقدُّم هذا المكعب، ماذا تفعل؟ أو ماذا تنتظر؟ الموت محقق، والانسحاق محقق، قال لك الله عز وجل، خالق الأكوان، مبدع الإنسان: ﴿وَإن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ﴾ هذه آية اليوم، آية العصر، آية المشكلة، أي مسلم يتقي ويصبر لا يستطيع قويّ مهما كان قوياً أن يصل إليه.
﴿وَإن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ﴾ أما إن لم نتِّقِ فلسنا مستعدين أن نغير شيئاً من أنماط حياتنا، وكل أنماط حياتنا مخالفات في مخالفات، واستمرأنا هذه الحياة، وقبِلنا هذه الفواحش والآثام، وألِفْنا هذه المعاصي والانحرافات، وندعو الله أن يخفف عنا، هذا كلام لا معنى له: ﴿وَإن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ﴾ هنا ﴿وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾ قال تعالى:
﴿ وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ (187)﴾
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
لا يجوز للعالِم كتمان العلم ولا القول بخلاف ما يعلم:
هذا ميثاق الذين وكّلهم الله بنقل العلم، هذا ميثاق من تصدَّوا لتعليم الناس، الأنبياء أخذ الله عليهم العهد، ومَن ينوب عنهم في إبلاغ العلم أخذ الله عليهم العهد ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾ لذلك الذي يفتي بخلاف ما يعلم هذا مجرم، هذا عليه إثم كبير جداً.
لا تكونوا كأهل الكتاب الذين نبذوا الشريعة وراء ظهورهم:
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ﴾ هذا العهد لم يعبؤوا به، لم يتمسكوا به، أي إنسان له إلمام بالعلم هذه الفتوى تعطيه مكسباً، أو تُرضِي عنه قوياً، أو تجعله في مكانة عليّة...إلخ، فأفتى بجهلٍ فهو آثِم، أما إذا أفتى بخلاف ما يعلم فقد خان أمانة الله، وأمانة الرسول.
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ﴾ رجل يعمل في عمل ديني في دولة إسلامية بمنصب رفيع جداً، يساوي رئيس وزارة، فأفتى في موضوع المصارف والربا، وما شاكل ذلك، حدثني أحد الإخوة العلماء، وهو على فراش الموت رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب، أنا بريء من كل فتوى أفتيتها في المصارف، لكن بعد فوات الأوان، وهو على فراش الموت أدركَ أنّ مَا أفتى به إرضاءً لقويٍّ، أو جلْباً لمنفعة، أو وصولاً إلى مقام وإلى منصب، فكانت هذه الفتوى الضالة ثمن هذا المنصب الرفيع، لكن عندما وجد أنه على مشارف الآخرة شعر بفداحة عمله قال: يا رب إني بريءٌ من كل فتوى أفتيتها في المصارف، الدعوة إلى الله أمانة.
﴿ ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا(39)﴾
هذه صفات العلماء الحقيقيين:
في هذه الآية وُصِفوا بصفة واحدة فقط ليس غير، قال: ﴿وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ﴾ وأغفلت الآية صفاتهم الكثيرة، والحقيقة لا معنى إطلاقاً لذكر صفاتهم إنْ لم يتصفوا بهذه الصفة، فهذه الصفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًا، إذا أُلغِيت أُلغِي الموصوف، لأنهم إذا خافوا غير الله نطقوا بالباطل إرضاءً لهذا القوي، أو سكتوا عن الحق إرضاءً لهذا القوي، فإذا سكتوا عن الحق، أو نطقوا بالباطل ماذا بقي من دعوتهم؟ انتهت دعوتهم: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ﴾ .
﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ﴾ لم يعبؤوا بهذا الميثاق.
نبذ الشريعة سببه ابتغاء الدنيا ومتاعها الزائل:
﴿وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ﴾ وصل بفتوى إلى منصب، أو إلى مكانة، أو إلى مكسب كبير ﴿وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ﴾ والله ما وجدت مثلاً أوضح به هذه الحقيقة إلا هذا: لو أن واحدًا معه شيك بمليون دولار، لكن لا يعلم أنه شيك، رآه ورقة بيضاء، رآه من ظهر الورقة، رآه ورقة بيضاء، كتب عليها كلامًا لا معنى له، ثم مزقها، وألقاها في سلة المهملات، ثم اكتشف أن هذه الورقة شيك بمليون دولار، هو استخدمها استخدامًا رخيصًا جداً، أحياناً الواحد عنده أوراق على الطاولة، يكتب عليها رقم هاتف، يتصل بإنسان يقول له: رقم هاتفي كذا، وهذا الإنسان لا يعيره اهتماماً، فيأخذ رقمه ويسجله على ورقة وبعدها يمزقها، لو أن هذه الورقة شيك بمليون دولار وما انتبه لها، رأى ظهر الشيك واستخدمه كورقة، وكتب عليها رقم هاتف، ثم وجد هذا الهاتف لا قيمة له فمزقها، وألقاها في المهملات، ثم اكتشف بعد ذلك أن هذا شيك بمليون دولار، وهو معاشه بالشهر خمسة آلاف، اشترى بهذا الشيك ثمناً قليلاً، استخدمه أسوأ استخدام، وهذا الذي يتعامل مع الدين لمكسِب مادي -يا لطيف- أراد من الدين الدنيا، أراد من الدين منصبًا، أراد من الدين مكسبًا تجاريًا، أراد من الدين سمعة، أراد من الدين هيمنة، سيطرة، هذا الدين ليسعدَك إلى أبد الآبدين، فجعلته من حُطام الدنيا، جعلته مطيّة، الدين لا يُرتزَق به، الدين دين الله، الدين يطبق، الدين يُعظَّم، الدين يُنشَر، أما أن ترتزق به فهذه مشكلة كبيرة.
﴿ وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ (187) لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)﴾
هو يُقَولِب الدين كما يريد ﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ﴾
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا
ليس هذا هو الذكاء والحنكة!!!
أنه أرضى المؤمنين، وصل لأهدافه المادية، واستمر بهذا الطريق، أرضى المؤمنين، ووصل لأهدافه المادية، واستمر هكذا، فظن أنه ذكيّ جداً، وأنه من خلال هذا الدين وصل إلى ما يصبو إليه ﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ﴾ وجد نفسه ذكيًا، وعنده حِنكة، وعنده مهارة، واستطاع أن يلعب على الناس، ويضللهم، وأوهمهم أنه مؤمن، ثم وصل إلى مبتغاه المادي فقط، وظنّ أنه أذكى منهم.
﴿لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لذلك:
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلْأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)﴾
تستطيع أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، وقد تستطيع أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن تخدع الله عز وجل فمستحيل، الله عز وجل يكشفك، بأي لحظة يكشفك ويفضحك، ويُحبِط عملك، فالإخلاصَ الإخْلاصَ، إن أردت الدنيا فاسلك سبيل الدنيا، أما أن تستخدم الدين للدنيا فهذا عمل قبيح بالإنسان، أن تستخدم الدين للدنيا.
﴿ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ قَدِيرٌ (189)﴾
قدير أن يعطيك أيَّ عطاء، ولكن من أسبابه التي رسمها لك.
الملف مدقق