وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة آل عمران - تفسير الآيتان 18 - 19 التدين الصحيح هو الخضوع لله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثامنة عشرَة، مررت عليها مروراً سريعاً في الدرس الماضي، ونظراً لأهميتها الشديدة سأخصها ببعض التفصيلات.

﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (18)﴾

[ سورة آل عمران ]


 شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ 


 كلكم يعلم أيها الإخوة، أنه حينما تدعى لأداء شهادة، تنطق بلسانك أنني رأيت كذا وكذا، وهذا شيء واضح وضوح الشمس، ولكن كيف تفهم قوله تعالى: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ الإنسان تراه بعينك، وتسمع صوته بأذنك، وتسمع شهادته. 

كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو؟

 ولكن كيف يشهد الله لك أنه لا إله إلا هو؟ أو كيف يشهد لك أن هذا الكلام كلامه، القرآن كلامه؟ هذا سؤال دقيق، وكيف يشهد لك أن الأمر كله بيده، وأنه الفعال لما يريد، وأن بيده ملكوت السماوات والأرض، وأنه إليه يرجع الأمر كله، وأنه في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، وأنه ما من ورقة تسقط إلا هو يعلمها، كيف يشهد لك أن كل الكون بدقائقه، بجزئياته، بتفصيلاته بيده، هناك قصص قصَّها علينا في القرآن الكريم.
 امرأة تضع فَلِذة كبدها في صندوق، وتلقيه في اليم، في النهر، ما الذي يسيِّر هذا الصندوق سيراً معيناً إلى أن يصل إلى شرفة، أو إلى مدخل قصر على النيل؟ وأي غصن اعترض هذا الصندوق، فوقف عند شاطئ هذا القصر، وأيَّة امرأة شعرت بدافع أن تقف على شاطئ النهر؟ إنها امرأة فرعون، وكيف أُلقِي في قلبها حب هذا الغلام الصغير؟ وكيف امتنعت المراضع أن ترضعه تحريم امتناع. 

﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰٓ أَهْلِ بَيْتٍۢ يَكْفُلُونَهُۥ لَكُمْ وَهُمْ لَهُۥ نَٰصِحُونَ(12)﴾

[  سورة القصص  ]

 إذاً: دقائق الحياة؛ حركة المياه، حركة الصندوق، تحرك إنسان، محبته في قلب إنسان، هذا كله بيد الله، ففي قصص القرآن إشارةٌ إلى أن الأمر بيد الله، قصة سيدنا يوسف فيها تفاصيل، ولكن الله يشهد فضلاً عن قرآنه، وفضلاً عن كتابه أنه لا إله إلا هو، كيف يشهد؟ 

الأسباب الكونية بين الأخذ بها وتأليهها:


 نحن أَلِفنا أنّ لكل نتيجة سبباً، وأن لكل سبب نتيجة، وتوهمنا لضعف إيماننا أن هذا السبب خارق النتيجة، والذي آمن بالأسباب، واعتمد عليها، ونسي الله عز وجل فقد أشرك، والذي لم يأخذ بها فقد عصى، وأنا أقول دائماً: الإيمان الكامل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، من السهل جداً أن تأخذ بالأسباب كما فعل الغربيون، لكن مع الأخذ بالأسباب الدقيق مُنزلق خطير أن تؤلِّهها، وأن تعتمد عليها، وأن تراها كل شيء، وأن تستغني بأخذها عن الله .
والفريق الآخر عندنا في الشرق لا يأخذون بالأسباب، تواكلاً على الله، وجهلاً بحقيقة الكون، كأن تستسلم، ألا تتحرك، أن تنسحب، أن تندب حظك، أن تقول انتهينا كمسلمين، لا، هذا ليس من الدين، هذا تواكل، ولكن الله يلوم على العجز ـ 

(( فإذا غَلَبَكَ أمرٌ فقُلْ: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ. ))

[ ضعيف الجامع ]

 إذاً: الأخذ بالأسباب، والاعتماد عليها شرك، وعدم الأخذ بها معصية، لكن الكمال أن تأخذ بها، وكأنها كل شيء، وأن تتوكل على الله، وكأنها ليست بشيء، أما إذا توهَّمها الإنسان أنها كل شيء، فلابد أن يؤدبه الله عز وجل، كيف يؤدبه؟ يؤدبه، ويشهد له أن الله هو وحده الفعَّال، وأنه وحده المتصرف، وأن الأخذ بالأسباب لا يقدم ولا يؤخر، يعطل هذه الأسباب.
 أوضح مثل: فتاةٌ شابة تتزوج بشاب، ولا ينجبان، الأسباب كلها موجودة، الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الزواج عقيماً، مع أن الأسباب متوافرة، أو أن يسمح لامرأةٍ لم تقترن بزوج وهي طاهرة عفيفة أن تنجب مولوداً، كالسيدة مريم العذراء.
 فإما أن يعطّل الله هذه الأسباب، أو أن يلغي وجودها، بهذه الطريقة يشهد الله لعباده أنه لا إله إلا هو، فثاني أكبر قوة في العالم، تداعت من الداخل بلا حرب، وبلا هجوم نووي، وبلا بأسلحة ذرية، تداعي من الداخل، وقد قال بعضهم: "عرفت الله من نقض العزائم" ، قد تأخذ بالأسباب كلها، ولا تنجح، وقد تُضطَّر إلى ألا تأخذ بها لسبب قاهر، فتأتي النتائج طيبة، وكأنك أخذت بالأسباب، فمن خلال تعطيل هذه الأسباب أو إلغائها يشهد الله لك أن الأمر بيده وحده.

لا ينفع مع الله شيء:


 فقد يسعدك، وأنت لا تملك من الدنيا شيئاً، وقد يُشقي الإنسان، ومعه كل أسباب الدنيا؛ معه المال الوفير، ومعه الصحة، ومعه الزوجة، ومعه البيت المريح، والمركبة الفارهة، وهو أشقى الناس، وقد يسعدك، وأنت في السجن أحياناً.
 أحياناً المؤمن إذا دخل السجن يقول لك: والله اقتربت من الله قرباً غير معقول، والله ارتقى إيماني، وارتقت صلواتي، وارتقت تلاوتي إلى درجة لا تصدَّق، قد يرحمك وأنت في أصعب وضع، وقد يحجبك عنه، وأنت في أقوى وضع.
 إذاً: تعطيل الأسباب أو إلغاؤها شهادة الله لك أن الأمر بيده وحده، في ظرف صعب جداً قد يرزقك الله رزقاً طيباً، وفي ظروف مواتية جداً قد تُحرَم من الرزق، وفي بالنهاية يجب أن تؤمن أن الأمر كله بيد الله، ومن الممكن أن يسقط إنسان من ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم من طائرة وينزل سالماً، الأمر بيد الله عز وجل. 

فإذا كنت في كل حال معي     فعن حمل زادي أنا في غنى

[ أبو الحسن الششتري ]

 إذا كان الله معك فمَن عليك؟ وإذا كان عليك فمَن معك؟ إذا كان الله معك يسخر لك أعداءك ليخدموك، وإذا كان الله عليك يسمح لأقرب الناس إليك أن يتطاول عليك.
 يا أيها الإخوة الكرام ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ قد يرزق الله إنساناً ضعيف التفكير رزقاً وفيراً، وقد يحرم إنساناً ذكياً جداً الرزق، يتضعضع أمام غني، وقد ورد في بعض الحكم من الشرق: أن يا رب ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ. 
 الله عز وجل يرفع إنساناً أحياناً، فتصبح كل الخبرات بيده، كل العقول بخدمته، وأحياناً يكون بأعلى درجة من الفهم مسخر لخدمة إنسان، كل طاقته وكل إمكاناته وكل ذكائه وكل شهاداته العليا، وكل اختصاصه النادر لخدمة إنسان ليس في مستوى علمه، "اللهم ارزقني حظاً تخدمني به أصحاب العقول، ولا ترزقني عقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ " ، هذه حكمة من شرق أسيا قالها أحد الفلاسفة.
 فحينما يشهد الله لك أن الأمر بيده، الأمر أمره، النبي الكريم أخذ كل الأسباب من دون استثناء، ووصلوا إلى الغار، هو أخذها لئلا يصلوا، ذهب مُشَرِّقاً، واختبأ في غار ثور، ومحا الآثار، وجاء بالأخبار، وجِيء له بالزاد، واختار خبيرًا بالطرقات مشركًا، أخذ بكل الأسباب، لكنه اعتمد على الله، فلما وصلوا إليه، وقعت عين المطاردين على عين أبي بكر.
  سبب صغير جداً؛ خيوط عنكبوت أنقذت هذه الدعوة، ومن عظمة الله عز وجل أنه يفعل الشيء العظيم بالسبب الصغير، وقد يدمِّر إنساناً بسبب صغير جداً، بكلمة، بغفلة، فلا ذكي مع الله، لا يوجد مع الله تاجر ذكي، ولا قوي، ولا حكيم، إذا أراد ربك إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لب لبه، يا رب لا ينفع ذا الجد منك الجد، صاحب الحظ والذكاء، والتألُّق هذا إن لم يكن مستقيماً على أمر الله، يجعل الله تدميره في تدبيره، يفكر، يفكر، يجمع، يطرح، يقسِّم، ثم يُدمَّر بتدبيره، يأتي إنسان سليم الطوية، بريء، طاهر، الله عز وجل يحفظه مما يحفظ به عباده الصالحين، فكلمة: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ كل أفعال الله عز وجل في الأرض تشهد لك أنه هو الفعَّال، هو الفعال، هو إله في الأرض، كما هو إله في السماء: 

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلْأَنْعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَٰدِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَىٰهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَٰهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْآيَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾

[  سورة يونس  ]


لا سبيل للنجاة إلى برضا الله:


 أنتم ترون أحياناً زلزالاً يكلف ثلاثين مليارًا، وإعصارًا يكلف ما جمعه هذا البلد من دول متخلِّفة خلال عشر سنوات، إنه إعصار واحد، الأمر بيده، لا سبيل إلا أن نرضيه، وإلا أن نكون طائعين له.
أحياناً تاجر يظن نفسه أنه ذكي، يغش، الذي جمَّعه في سنوات يدفعه في ساعة واحدة، الله يورطه في مخالفة كبيرة جداً، والغرامة تفوق طاقة احتماله، فيدفع مئات الملايين في ساعة واحدة، لا ذكي مع الله، لا حكيم مع الله، لا قوي مع الله، لا ينجيك منه إلا أن تطيعه، في حالة واحدة: يا رب لا ملجأ منك إلا إليك، إلا أن تكون في طاعته، والمعصية مع الذكاء لا تجدي، المعصية مع الخبرة لا تجدي، المعصية مع القوة لا تجدي.
 كان هناك رجل يهودي يعد من أغنى أغنياء العالم، كان يقرض الحكومة البريطانية قرضًا، خزائنه وأمواله في غرفة لها باب محكم، دخل مرة غرفة خزائنه، وأُغلِق عليه الباب خطأً، ومن عادته أن يسافر من حين إلى آخر، ويفاجئ أهله بأسفاره، فلم يسألوا عنه، وقد ظنوا أنه مسافر، ومات في غرفة خزائنه، جرح يده، وكتب على الحائط: أغنى رجل في العالم يموت جوعاً وعطشاً. 

(( كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما  والماء فوق ظهورها محمولُ ))

[ طرفة بن العبد ]

 أنا لا أذكر هذا منتقداً أبداً: طبيب في أمريكا، روَّج قضية الجري لسلامة القلب، فكان يجري في اليوم ساعتين، وهو يؤكِّد بمقالات، وبلقاءات، وبندوات أن صحة القلب في الجري، وهذا كلام صحيح، وأنا لا أنقضه أبداً، إلا أنه نسي الله، واعتمد على الجري وحده، فمات وهو يجري في مقتبل العمر، وهو طبيب قلب.
 قد تجد أحياناً بعض المتخصصين في أعلى مستوى يُؤخَذون باختصاصهم، لأنهم اعتمدوا عليه، ونسوا الله عز وجل، والذي يعتمد على ذكائه يُخفِق، والذي يعتمد على ماله يفتقر، والذي يعتمد على مَن حوله وينسى الله عز وجل يقلبون له ظهر المِجنّ، لا تعتمد إلا على الله، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

((  لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي. ))

[  البخاري  ]

 لا تعتمد لا على زوجة، ولا على ولد، ولا على صديق، ولا على صحة، ولا على مال، من أدعية النبي الرائعة الثابتة ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

((  اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. ))

[  مسلم  ]

 فجأةً، بثوان معدودة تنقلب من شخص متألق إلى شخص مهمل، فخثرة من الدم لا يزيد حجمها على رأس دبوس، لو تجمدت في إحدى شرايين الدماغ لفقدت الحس والحركة.
 والله كنت في العيد أزور بعض الأشخاص، أعرفه إنساناً متألقاً، ذكياً، حكيماً، أنا لا أعلم أنه مريض، استقبلنا، وبدأ يتكلم كلامًا غير معقول أبداً، سألت ابنه فقال لي: والله عنده خثرة بالدماغ، أين ذكاؤه؟ أين عقله؟ أين حكمته؟ أين استقباله؟ وأين ترحيبه بالناس؟ يتكلم كلامًا غير معقول إطلاقاً، كلام ليس له معنى، أحضر وثائق، وأتى بصور، وتكلم كلامًا غير معقول، أنا استحييت والله من زيارته، فكل شخصيتك، وقوة شخصيتك منوطة بسيولة الدم في دماغك، وكل شخصيتك منوطة بقطر الشريان التاجي، هذا أخطر شريان بالإنسان، وكل شخصيتك منوطة بنمو الخلايا، فإذا تفلَّتت انتهى كل شيء.
 والله مرة كنت عند طبيب، جاءه اتصال هاتفي، هاتف قديم صوته عالٍ جداً سمعت الطرف الآخر عن بعد، قال له: أي مكان بالعالم نأخذه، وأي مبلغ، فقال الطبيب له: لا أمل، والمرض بالدرجة الخامسة، لا تغلب نفسك، قال تعالى:

﴿  لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٌ مِّنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِۦ يَحْفَظُونَهُۥ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ سُوٓءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ(11)﴾

[  سورة الرعد ]

 فالأمر بيد الله عز وجل، الدين كله توحيد، ألا ترى مع الله أحداً، فالله عز وجل يشهد لك، تأخذ بالأسباب كلها، ولا تنجح، وربما لا تأخذ بها اضطراراً، ليس تهاوناً، وربما لا تأخذ بها اضطراراً فتنجح، "عرفت الله من نقض العزائم" ، وهذا الشيء يحتاج الأمر إلى من يتفهمه.

وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْط


مَن هم أولو العلم ؟

﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾ عند بعض المفسرين آراء لطيفة حول أولي العلم، مَن هم؟ بعضهم قال: الأنبياء عليهم السلام، ﴿أُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ﴾ لأن مقام النبوة مقام علم، ومقام الرسالة مقام علم وتبليغ معاً، وقال بعضهم: هم المؤمنون، لأنه ما من مؤمن إلا وعنده الحقيقة.

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍۢ مَّن نَّشَآءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)﴾

[  سورة الأنعام  ]


يكفي العلم شرفاً أن الله قرن أهله باسمه:


 على كلٍ هناك ملمح لطيف، هذا يسعدنا جميعاً، قال: لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ﴾ لو كان في خلقه جميعاً أحدٌ أشرف ممَّن طلب العلم، وممن تعلم العلم، وممَّن علَّم العلم لقرنه الله مع اسمه، من هؤلاء الذين قُرِنوا مع اسم الله؟ هم الذين طلبوا العلم، فطلبكم للعلم شرف كبير، ومنحة عظيمة، وهو عطاء الأنبياء. 

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(22)﴾

[ سورة يوسف  ]

 ولكن الله عز وجل أعطى المال لمن لا يحب. 

﴿ إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُۥ قَوْمُهُۥ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ(76)﴾

[  سورة القصص  ]

 أعطى الملك لمن لا يحب، أعطاه لفرعون، أعطى المال لمن لا يحب، أعطاه لقارون، أما العلم والحكمة فما أعطاهما الله إلا لمن يحب، قال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ فإذا سمح الله لك أن تطلب العلم، وإذا سمح الله لك أن تصغي إلى أهل العلم، وإذا سمح الله لك أن تعلِّم العلم، وإذا سمح الله لك أن تخدم أهل العلم، وإذا سمح الله لك أن تكون في خدمة العلم، فهذا وسام شرف كبير، وهذا أعظم عطاءٍ إلهي.
 الآن الله عز وجل يأمر نبيه، قال له : 

﴿ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰٓ إِلَيْكَ وَحْيُهُۥ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا(114)﴾

[  سورة طه ]

 ما هو الشيء الثمين العظيم الذي أراده الله لعباده المؤمنين؟ قال: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ لم يقل: زدني مالاً، يا رب زدني جاهاً، يا رب زدني ذريةً، لا، لا ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾  لمجرد أنك طلبت العلم، وأنك تحضر مجالس العلم، وأنه يُسمح لك من حين لآخر كي تعلِّم العلم فهذا وسام شرف كبير، ويقول عليه الصلاة والسلام: 

(( العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، يحبُّهم أهلُ السماءِ، وتستغفرُ لهم الحيتانُ في البحرِ إذا ماتوا إلى يومِ القيامةِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

 والعلماء أمناء الله على خلقه، واسأل نفسك: بماذا أقامك؟ الله قد يقيم إنسانًا بعمل لا يرضيه، طبعاً باختياره، قد يُبنى عملك على ابتزاز أموال الناس، أو على إدخال الخوف إلى قلوبهم، وقد يكون عملك تعليم العلم، وقد يكون عملك إنفاق المال في سبيل الله، وقد يكون عملك بناء المساجد.
 ذات مرة افتُتِح مسجد في ريف دمشق، وقد حضرت افتتاحه، وكان إلى جانبي مسؤول الأوقاف، قلت له: اشكر الله عز وجل على أن الله أقامك في افتتاح المساجد، وتعيين الخُطَباء، فهناك من يفتتح الملاهي، ويعيّن الراقصات، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك.
 ما مهمتك في الحياة؟ هل مهمتك العطاء أم الأخذ؟ إشاعة الأمن في الناس أم إشاعة الخوف؟ إكرام الناس بالمال أم ابتزاز أموالهم؟ أنت تابع لمَن؟ تابع لخالق السماوات والأرض، أم تابع لجهة أرضية تأتمر بأمرها، وأنت أداة بيدها؟ وكلما عرفت قيمة نفسك أبيت أن تكون لأحد إلا أن تكون لله الواحد القهار. 

(( واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ. ))

[ الجامع الصغير ]


اشهد يا طالب العلم للناس بعدالة الله:


 ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾ ملمح ثان: إن كنت من أهل العلم حقيقةً، إن كنت من طلّاب العلم حقيقة فاشهد للخلق بعدالة الله، لكن هناك دعوات إلى الله غير معقولة، يقول لك: نحن ملك الله -فعلاً نحن ملكه- يفعل بنا ما يشاء، يضعنا في النار، أم في الجنة، هكذا، ولا يحق لنا أن نعترض؟ هذه ليست دعوة لله عز وجل، هذه دعوة منفرة، يأتون بمثال: نجار عنده لوحان من خشب، وضع أحد الألواح بابَ قصر، والثاني باب مرحاض، ألك عنده شيء؟ لا، أما لو كان اللوح الرديء وضعه باب مرحاض، واللوح النظيف باب قصر فهذا عمل حكيم، فهم من أجل أن يؤكدوا أن الله يملك كل شيء، قد لا ينتبهون، فيصفون الله بالظلم، الله عز وجل قال:

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[  سورة الزلزلة  ]

﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ وَهَلْ نُجَٰزِىٓ إِلَّا ٱلْكَفُورَ (17)﴾

[  سورة سبأ  ]

 آيات كثيرة تؤكد عدالة الله عز وجل. 

﴿ يَٰبُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍۢ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِى ٱلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16)﴾

[ سورة لقمان ]

 إذاً: حينما اقترن اسم العلماء مع اسم الله الأعظم ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ﴾ .

طالب العلم المتواضع شريف عند الله والناس:


 ليس هناك على وجه الأرض أشرف من طلب العالم، من طالب العلم، والملائكة تضع أجنحتها لطلّاب العلم رضاً بما يصنعون.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إذاً طالب العلم يبيِّن عدالة الله، طالب العلم يبيِّن فضل الله، أيها الإخوة، والله أنا أستحي أن أقول: أنا عالم، أقول: طالب علم، كن أديباً مع الله، أكبر علماء الأرض طلّاب علم، لا تقل: عالم، لأن الله عز وجل قال : 

﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً ا(85)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 ذات مرة شاب داعٍ إلى الله عز وجل، يبدو أنه ألقى دروساً في بغداد، وتحلق الناس حوله، وأقبلوا عليه إقبالاً شديداً، بعض من يعمل في العلم من التقليديين امتلأ صدره غيظًا منه، فجاء إلى مجلسه كي يسفهّه، فحضر الدرس، وفي نهاية الدرس وقف وقال:
 يا هذا، هذا الذي تقوله ما سمعناه، من أين جئت به؟ هذا ليس علمًا. 
 قال له: يا سيدي، وهل حصَّلت العلم كله؟ سؤال محرج، إذا قال له: نعم خالف الآية: 

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾
  قال له: كلا والله.
  قال له: كم حصلت منه؟ 
  قال له: شطره.
  قال له: هذا الذي قلته في هذا الدرس من الشطر الذي لا تعرفه.
 فالإنسان ليكن متواضعًا، لا تقل: أنا أعلم، قل: أنا أعلم بفضل الله، لذلك يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، لمجرد أن تقول: أنا أطلب العلم فأنت عالم، ولا ضير عليك أن تقول: لا أدري، وهذا وسام شرف آخر، النبي الكريم سئل أسئلة كثيرة قال: لا أدري، حتى يأتي الوحي، فجاء الوحي فأجاب، وهو قمة العلم في الأرض كلها.
 على كلٍ أكبر شرف تحوزه أن تطلب العلم، أن تطلب العلم النافع، هناك علم ممتع، وهناك علم ممتع نافع، وهناك علم ممتع نافع مسعد، إنه معرفة الله، ممتع نافع مسعد، قد تقرأ في النعوة: أن هذا من أعلم علماء الأرض في هذا الموضوع، مات وانتهى، أما إذا كان يعرف الله فعلمه ينفعه بعد الموت، أما إذا كان غافلاً عن الله، وكان متفوقاً في العلم فعلمه ينفعه في الحياة الدنيا، أما إذا عرف الله عز وجل فينفعه علمه في دنياه وفي أخراه، فدقق في هذا.
 هناك علم ممتع، لو قرأت قصيدة في الأدب الجاهلي لوجدتها ممتعة، هناك علم ممتعٌ نافع، معك اختصاص نادر، دخلك فلكي، هذا علم ممتع نافع، وهناك علم ممتع نافع مسعد في الدنيا والآخرة، وهو أن تعرف الله، لبعض علماء القلوب كلمة: "إنه حيث ما وردت كلمة العلم في القرآن فإنما تعني العلم بالله". 
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أيها الإخوة، شيء آخر، يقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ(19)﴾

[ سورة آل عمران  ]


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ 


1 ـ لابد من الدعوة إلى الإسلام أن تكون صحيحة:

﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلْآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ(85)﴾

[ سورة آل عمران ]

ولكن اسمعوا هذه الحقيقة: مَن دُعي إلى الإسلام بدعوة هزيلة، دعوة سطحية، دعوة غير متماسكة، دعوة متناقضة، مَن دُعي إلى الإسلام من خلال داعية لا يطبق ما يقول، ولا تجد مصداقية فيما يقول، من دُعي إلى الإسلام بمضمون غير علمي، وبأسلوب غير تربوي، وبتناقض بين القول والعمل، هذا المدعو إلى الإسلام بهذه الطريقة ليس مُبلَّغاً عند الله، لأنه رُكِّب في أعماقنا أن الله عظيم، وينبغي أن يكون دينه عظيمًا، ينبغي أن يكون شرعه عظيماً، حتى أدى الأمر ببعض العلماء إلى أن يقول: "الشريعة عدل كلها، رحمة كلها، حكمة كلها، مصلحة كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، من العدل إلى الجور، من الحكمة إلى خلافها، ليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل"

2 ـ الإسلام دين الأنبياء جميعا:

 ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ والذي يلفت النظر أنك إذا قرأت آيات القرآن تُفاجَأ أن كل الأنبياء على الإطلاق وُصفوا بأنهم مسلمون، إذاً: هناك دين واحد عند الله عز وجل، وهو أن تعرفه، وأن تستسلم له، وهذا منطوق قوله تعالى:

﴿  وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ(25)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)﴾

[  سورة البقرة ]

 كلهم سواء ﴿مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ .

3 ـ الإسلام استقامة :

 اضغط كل المعلومات عن الأديان بكلمتين: أن تعرف الله، وأن تطيعه، أن توحِّده وأن تعبده، إن وحَّدته وعبدته حققت الهدف من وجودك، فالدين المقبول عند الله أن تستسلم له، أن تنصاع له، أن تطيعه، أما هناك من يُعجَب بالإسلام، يقول لك: مفكر إسلامي، ليس مستقيماً؛ لا في بيته، ولا في عمله، ولا في علاقاته، ولكنه مفكر إسلامي، هذا شيء يخالف منطوق هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ فأنت ممكن أن تُعجَب بطبيب، أو بمهندس، أو بعالم آثار، أو بمؤرخ، أو بفلكي، ولا يعنيك أمر استقامته في سلوكه، ولا تربط بين علمه ولا سلوكه إطلاقاً، إلا رجل الدين لا يمكن أن تستمع إليه، ولا أن تصغِي له إلا إذا كان مطبقاً لما يقول، فإن الدين عند الله أن تكون مطيعاً له، أما مفكر إسلامي لا يصلي، مفكر إسلامي يلتقي مع الكاسيات العاريات، ويملأ عينيه من محاسنهن، يقول لك: مفكر إسلامي، له خلفية إسلامية، نزعة إسلامية، أرضية إسلامية، منطلقاته إسلامية، عواطفه إسلامية، اهتماماته إسلامية، ولكنه في النهاية ليس مسلماً ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ العبرة أن تطيع الله، أن يُرى هذا في كلامك، في حركاتك، في سكناتك، في بيتك، في عملك، في مشيك في الطريق؛ أتغض البصر عن محارم الله؟ أم تملأ عينيك من الحرام؟ هذا الإسلامي.
 بالمعنى اللغوي إن الدين عند الله أن تكون مطيعاً لله، هذا التدين الحقيقي، أما في آخر الزمان فصار التدين عبارة عن تقاليد عادات، وفلكلور، وثقافة، وعلم، ومظاهر، واستعراض، يقول لك مثلاً: الآثار الإسلامية شيء جميل، مكتبة إسلامية، الزخرفة الإسلامية، الخط العربي الإسلامي، الخط الزخرفي الإسلامي، كله صحيح، لكن نريد إسلاماً، نريد كما كان الصحابة، كانوا يعرفون الله ويطيعونه، فهذه الأشياء مادية، زخرفية، سمِّها حضارية، سمِّها تراثية إن شئت، أما الإسلام فأن تطيع الله فقط.
 والله ذات مرة التقيت مع شخص يحمل شهادات متنوعة، وكلها دكتوراه، وله مكانة عندي، ثم قال لي: أنا لا أصلي، سبحان الله! كيف لا تصلي؟ هذا الذي خلق السماوات والأرض ألا يستحق أن تعبده؟ أنت أكبر من ذلك؟ حينما لا تعرف الله لست عند الله عاقلاً أساساً، من هو المجنون؟ المجنون من عصى الله.

بين الذكاء والعقل:


 حينما وجدت هذه المعاني وجدت أنه لابد من التفريق بين الذكاء والعقل، فما كل ذكي بعاقل، فقد تجد إنسانًا قمة في العلم، فكره قوي، ومعلوماته غزيرة، ومنطقه قوي، ودرّ عليه علمه أموالاً فلكية، ولكنه يشرب الخمر، ولا يصلي، فما كل ذكيٍ بعاقل، ولكن كل عاقل ذكي، العقل أن تعرف الله، وأن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، هذا هو العقل، وأما الذكاء فأن تتقن اختصاصاً، أن تتقن اختصاصاً عالي المستوى، هذا ذكاء، ولحكمة بالغة بالغ أرادها الله جعل أحقر حيوان نشمئز جميعاً منه، والله من اسمه نشمئز، أذكى الحيوانات، فهذا الذكي إن لم يكن تقياً فينبغي ألا يفخر بذكائه، ذكاء شيطاني، هؤلاء الغربيون والله عندهم ذكاء مذهل، فقد جمعوا أموال الدنيا عندهم، يعيشون حياةً تفوق حد الخيال، ولكنهم لأنهم ما عرفوا الله، وما عملوا لآخرتهم فهم واللهِ أغبياء جداً، لأنهم سوف يدفعون الثمن باهظاً عند الموت، هؤلاء الذين يقتلون الصغار في فلسطين، يتوهَّمون أنهم أذكياء معهم أسلحة فتَّاكة، أنت قوي على طفل؟ أسلحة فتاكة على طفل؟ هذا ذكاؤك؟ الله عز وجل قال:

﴿ وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ(190)﴾

[  سورة البقرة ]

 طفل مندفع، ببندقية دقيقة الإصابة تُرديه قتيلاً، أنت مسيطر، لابد أن تعرف الحقيقة: أنه لابد من يوم يدفع الإنسان ثمن أعماله كلها مهما كان كبيراً، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُاْ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾

[  سورة الأنعام ]

 تأتي الله وحدك، ما معك أحد؛ لا نصير، لا جماعة، لا أتباع، وحدك، وتُحاسَب عن أعمالك كلها، فهناك قصة أنا أرويها لكم، طريفة للموعظة، رجل من أغنياء مصر الكبار، وافته المنية، وأولاده من شدة محبتهم له خافوا عليه من أول ليلة يُوضع في قبره، القبر مخيف، واحد ينتقل من بيت ثمنه خمسون مليونًا إلى قبر، لا يوجد قبر بخمس نجوم أساساً، ولا قبر فيه بلاط، كله تراب مُمَدَّد، أنت حينما تشيع ميتاً ينبغي أن تكون متعظاً، هذا الذي يوضع في القبر البارحة كان بغرفة نوم ثمنها ثمانمئة ألف، كان غطاؤه من أرقى أنواع الصوف (موهير) وغرفة نومه كانت ثمانية بخمسة أمتار، كبيرة، ومطبخ، وغرفة استقبال، وبيت فخم، وسيارتان أو ثلاث، أين هو الآن؟ في قبر صغير.
 طلبوا من رجل فقير جداً أن ينام مع ميت أول ليلة، أعطوه عشرة جنيهات فطار عقله، فقبِل -هي قصة رمزية ليست حقيقية- جاء الملكان فرأوا شخصَين في القبر، فقالا: هذا شيء جديد علينا، يبدو أن الحي خاف، فتحرك، قال له: الثاني حي، وليس بميت، تعال نبدأ به، من شدة فقره كان يلبس كيس خيش، فيه فتحة لرأسه، وفتحتان ليديه، وربطه بحبل، لا يوجد أفقر من هذا، أن تلبس كيساً من الخيش، سألوه عن الحبل من أين جاء به؟ قال لهما: الحبل أخذته من بستان، كيف دخلت للبستان؟ فارتبك، فضرباه بشدة ليعرفا كيف دخل البستان؟ أما الحبل كيف أخذه، ما زال موضوعاً ثانيًا، وسيسألانه أيضاً عن  كيس الخيش، فخرج من القبر مذعورًا، قال لهم: كان الله في عون أبيكم.

﴿  فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( 93)﴾

[  سورة الحجر  ]

 اصطاد أحدهم عصفورًا لغير مأكلة، والموسم صيد، ذهب الصياد إلى صحراء معه سيارته، رأى عصفورًا، فقال: هذا العصفور يأتي يوم القيامة له دوي كدوي النحل، يقول: يا رب سله لمَ قتلني؟ والله ستحاسب عن عصفور، وعن هرة حبستها، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : 

((  دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ.  ))

[  متفق عليه  ]

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ مَن هو الذكي؟ قبل أن يفعل شيئاً يهيِّئ جواباً لله عز وجل، كيف ينجو من حساب الله؟ هذا المؤمن، لذلك ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ التدين الصحيح أن تخضع لله؛ في كسب مالك، في إنفاق مالك، في إطلاق بصرك، في استخدام أذنك، في استخدام لسانك، في استخدام حركاتك وسكناتك.
 اليوم ذكرت في الخطبة: 

﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ(19)﴾

[  سورة غافر ]


يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور


 أعجبني شرح بعض العلماء قال: إنسان في مجتمع، مرت امرأة، له مكانة، غض بصره حفاظاً على مكانته عند هؤلاء، ثم نظر إليهم، فإذا هم غير منتبهين له، فاسترق نظرةً إليها، فلما رآهم انتبهوا غضّ بصره عنها ثانية، هو يغض بصره حفاظاً على مكانته، وإيهاماً لمن حوله أنه ورعِ، فإذا شعر أنه غير مراقب ملأ عينيه من محاسنها ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ﴾ تُحاسَب إلى هذا المستوى، هذا الحق، هذه نصوص، أما أن تقول الأستاذ زوّدها، هذا موضوع ثان، أنا أنقل لكم ما في الكتاب والسنة، أنقل لكم كلام خالق الأكوان. 

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[  سورة النور ]

 تقول لي: لا أقدر، أقول لك: أنت ترد كلام الله، لأن الله عز وجل يقول : 

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]


وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم


 ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ﴾ فهناك اختلاف طبيعي، أساسه نقص المعلومات، وهناك اختلاف قذِر أساسه الحسد، والغيرة، والتنازع على المصالح والرئاسات، وهناك خلاف ممدوح، خلاف التنافس، خلاف التنافس محمود، وخلاف البغي والعدوان مرذول، والخلاف الطبيعي معذور، فعندنا خلاف معذور صاحبه، وخلاف قذر، وخلاف محمود، قال تعالى :

﴿  وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾

[  سورة المطففين  ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور