وضع داكن
27-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الجمعة - تفسير الآيات 01-04 - التسبيح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما عَلَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة الجمعة.
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)﴾

[ سورة الجمعة ]


 يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ


 1 ـ الفائدة من إيراد الجملة الفعلية: يُسَبِّحُ

أيُّها الإخوة التركيب نوعان، تركيبٌ اسمي، وتركيبٌ فعلي، التركيب الاسمي من خصائصه الثبات والاستمرار، والتركيب الفعلي من خصائصه الحدوث والانقطاع، إلا أنَّ الفعل المضارع وحده يُفيد التركيب الاسمي، يُفيد الاستمرار، فقوله تعالى: ﴿ يُسَبِّحُ ﴾ أي تسبيحٌ دائم.

 2 ـ معنى التسبيح:

وقد تحدَّثنا في درسٍ سابق عن معنى التسبيح، له معانٍ ثلاثة في كلمةٍ واحدة.
التسبيح هو التنزيه ، يجب أن تُنزِّه الله عن كل ما لا يليق به، ويجب أن نُسبِّح الله أي أن نُنزِّهه عن كل ما لا يليق به، ويجب أن نُمجِّده، أي أن نَصِفه بالكمالات التي تليق به، ويجب أن نخضع له، ما دام مُنزَّهاً عن كل نقص، مُتّصِفاً بكل كمال ينبغي أن نخضع له، علامة صحة التنزيه وعلامة صحة التمجيد الخضوع، فإن لم نخضع فالتنزيه ليس صحيحاً، بل التنزيه شكلي، التنزيه أجوَف، التنزيه غير صادق.

 3 ـ الكون كله يسبح لله:

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، السماوات والأرض تعبيرٌ قرآنيٌّ عن الكون، الكون كلُّه يُسبِّح لله، إلا هذا الإنسان الغافل الذي سُخِّر الكون خصيصاً له، الإنسان الأول، المخلوق الأول، المكرَّم، المُكلَّف، الذي سخَّر الله له الكون هو الغافل، أمَّا:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء  ]

 4 ـ الْمَلِكِ

المَلِك هو المالك، المالك هو الحاكم، المالك خَلقاً، والمالك تَصرُّفاً، والمالك مَصيراً، هو الذي خلق، والأمر بيده وإليه المصير، هذه أوسع أنواع المُلْك.

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

 5 ـ الْقُدُّوسِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) ، من القداسة، من التنزيه، يعني لا يُقال للشيء مُقدَّس، إلا إذا كان كاملاً، النقص يتناقض مع التقديس، أنت لا تُقدِّس إنساناً إلا إذا ظننت فيه الكمال، أما إذا ظننت فيه النقص، فلا تُقدِّسه، بل تحتقره، فالتقديس يساوي الاتصاف بالكمال.
 ولماذا جاءت ( الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) ؟ 

 الحكمة من ورود اسمي الْمَلِكِ والْقُدُّوسِ معاً:


كم من مخلوقٍ يملك، وليس كاملاً، وكم من مخلوقٍ يتَّصِف بالكمال، لكنه لا يملِك، ضعيف، فإمّا أن تجد مخلوق كامل، لكنه ضعيف، لا يقوى على فعل شيء، وإمّا أن تجد مخلوق قوي يفعل كل شيء، ولكنَّه ليس كاملاً، ولكن الله سبحانه وتعالى بقدرِ ما هو مالك، وقوي، وقاهر، وجبَّار، بقدرِ ما هو حليم، ورحيم، وكامل. 
الحقيقة جمع صفات القوّة مع صفات الرحمة شيء من أروع ما يكون، أنت مرتاح، الذي تعبُده قوي، بيده كُل شيء، بيده كُل أعدائك، أحياناً الأعداء يتبجَّحون بطائرات مُعيّنة، بوسائل حديثة جداً، إذا عبدت الله حقّ العبادة فالله مالك كل خلقه، مَلِكْ، وإذا عبدَّته حقَّ العبادة فهو قدُّوس، كمال مُطلق، رحمة، رأفة، شفقة، عِلم، لُطف، عَفو، مغفرة، حلم، هذا هو الله عزَّ وجل (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) .
بقدر ما هو قوي، مالك ناصية الخلق، بقدر ما هو كامل يُحسِن إليهم، ويعفو عنهم، أما المخلوقين، فقد تجد القوي غير الكامل، وقد تجد الكامل غير القوي، وكلاهما لا يُعجِبانك، القوي غير الكامل، تَحتقر أخلاقه، قد تؤْخَذ بقوته، لكن تحتقر لُؤمه، أحياناً هؤلاء الذين يتبجَّحون، الأقوياء في بلاد الغرب الذين يتبجَّحون بقوَّتهم، لكنك تحتقر تناقضهم، تحتقر جُحودهم، تحتقر قسوة قلوبهم، تحتقر ازدواجية المعايير التي يكيلون بها، تحتقر أنانيتهم، هُم لشعوبهم، يبنون أمجاد شعوبهم على شعوب الأرض، أقوياء جداً، يتملَّكون ناصية العالم، لكن تحتقر لؤمهم، وقسوتهم، وانحيازهم، وعُنصريّتهم، وقد تجد أُناس طيّبين تحبُّ فيهم التواضع والأدب، والسماحة والعفو والكرم، لكنهم ضعفاء لا يفعلون شيئاً، أنت لا ينتزع إعجابك إلا مَن جمع القوّة إلى الكمال،( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ)

 6 ـ الْعَزِيزِ

العزيز الذي لا يُنال جانبه، العزيز الفرد لا مثيل له، العزيز الذي يحتاجه كل شيء في كل شيء.

 7 ـ الْحَكِيمِ

 (الْحَكِيمِ) المُتقِن لا ترى في خلقه من تفاوت، حكمته مُطلقة، كل شيءٍ وقع، وَقع لحكمةٍ مطلقة، ولو لم يقع لكان عدم الوقوع نقصاً في حكمة الله، ولو وقع على نحوٍ آخر لكان نقصاً في حكمة الله، فالله عزَّ وجل ذَكر أربعة صفات قال: ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

هذا هو الله المستحق للعبادة:


هذا هو ربنا، هذا الذي ينبغي أن نعبُده، هذا الذي ينبغي أن نستعين به، هذا الذي ينبغي أن نَفني العمر من أجله، هذا الذي ينبغي أن نُمضي شبابنا في طاعته، هذا الذي ينبغي أن نضع إمكاناتنا، عقلنا، ومالنا، وعضلاتنا، ووقتنا في خدمة عباده، هذا الذي ينبغي أن تكون له لا أن تكون لغيره، هذا الذي ينبغي أن تُخلِصَ له، أن توحِّدَهُ، أن تعبده، أن تتفانى في خدمة عباده، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) .

 الجماد يعرف قيمة النبي عليه الصلاة والسلام:


هناك أشياء وردت في السيرة نحن ننقلها كما جاءت، لكن لها معنىً عميق.

(( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))

[ أخرجه أبو داود و أحمد ]

كان يقف على شجرةٍ يخطُب عليها، فلَّما صنع له أصحابه مِنبراً حَنَّت إليه الشجرة، وهي جماد من خشب، كان عليه الصلاة والسلام يضع يده عليها، إكراماً لها في أثناء خُطبته، وقف على المِنبر وكان يضع يده على هذه الشجرة. 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ. ))

[  صحيح مسلم ]

الجمادات تعرف قيمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، الأشجار، الحيوانات، وأمّا أتباعه فهم غافلون عنه، غافلون عن كمالاته، غافلون عن رسالاته، يَعْتَدُّون بزيدٍ أو عبيد، وفلان وعلاّن، وينسون نبيهّم عليه الصلاة والسلام، الذي هو سيد الخلق، وحبيب الحقّ.
طبعاً هذه القصص ليست هي مناط كماله، كماله ليس له حَدّ، دعوته، شمائله، عِلمه، تربيته، أخلاقه، الوحي الذي جاء به، القدوة التي كان يجعلها نبراساً لنا، هذا الذي يجعل من هذا النبي مُنقِذاً لأمته من بعده.
هذه الآية تتكرر في أكثر السور التي حولها، تسبيحٌ، تنزيهٌ، تمجيدٌ، خضوع، السماوات والأرض، الكون بأكمله لِمَن يُسبِّح؟ لله، (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) .

الفساد يأتي من الإنسان وحده:


المَلِك عنوان القوّة، والقدُّوس عنوان الكمال، فهو قويٌّ كامل، ذاتٌ كاملة، العزيز الذي لا يُنال جانبه، الحكيم المُتْقِن لصنعته، كل شيءٍ يقع في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، وبالقدر المناسب، وبالطريقة المناسبة، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
إذا كان هناك تساؤلات عمّا يجري في الكون من مشكلات، من حروب، من تسيُّب، هذا كلُّه بسبب أن هناك مخلوقاً، هو الإنسان أُعطيَ حرِّية الحركة، أودِعَت فيه الشهوات، أُعطيَ منهجاً دقيقاً، فخرج عن المنهج بشهوته وهواه ومصلحته، فالفساد لا يكون إلا من مخلوقٍ مُخيّرٍ يشتهي، خَرَجَ عن منهج الله، هذا هو الفساد، أما كل مخلوقٍ آخر كالجماد والحيوان والمَلَك الذي خلقه الله وسيّره، هذا لا يَفسُد أبداً.
أكبر دليل: خلية النحل، فيها نظامٌ مُعجِز، فيها دِقَّةٌ متناهية، فيها نظام اجتماعي ليس في الأرض كلِّها مجتمعٌ يرقى إلى مجتمع النحل ومجتمع النمل، السبب هو أن التكليف الاجتماعي الذي كلَّفنا الله به تكليف، ومعنى تكليف أنه نفعل أو لا نفعل، أما النظام الاجتماعي في خلية النحل فهذا أمر تكويني، أي ألزمها به، عندما ألزم الله مجتمع من الحشرات بنظام اجتماعي كان فيه الإعجاز، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هو الله.

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)﴾

[  سورة الجمعة ]


 هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ:


معنى الأميّين: 

المعنى الأول: الأُميّون هم الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: والأميّون في نظر اليهود هم الأُمَّم الأُخرى، هُم خير أمَّة، هُم شعب الله المختار بزعمهم، وما سواهم أُميّون، أي أُمَمِيُّون، من الأُمم الأُخرى، فالنسبة في اللغة العربية إلى أُمَّم أُمّي، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) ، المعنى الأول أصح، هؤلاء الأُمَّة أُميَّة لا تقرأ ولا تكتب.
وقد ورد عن رسول الله: 

(( إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا. يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ. ))

[ صحيح البخاري ]


لماذا اختار الله مكة مهبطا القرآن ورسوله الأمي وعاء للوحي ؟


لماذا اختار الله هذا المكان الذي هو الصحراء، وذاك الزمان، وهذه الأُمَّة لينزِّل عليها كتاباً مُعجِزاً إلى آخر الدوران؟ هذا سؤال 
الأُميّة فينا نقص، لكنها في رسول الله عين الكمال، لأن رسول الله سيوحى إليه، فإذا أُوحي إليه وهو على ثقافةٍ واسعة، وهو على اطلاعٍ واسع، وهو على هضمٍ لكل الثقافات المعاصرة، سوف يتكلَّم، يا تُرى هل يتكلَّم بما أُوحي إليه أم بما عنده من ثقافة عصره؟ لتكون دعوته صافيةً، صفاء الماء الطاهر العذب الزُلال، لتكون دعوته بعيدةً عن كل مداخلاتٍ أرضية، لحكمةٍ أرادها الله سبحانه وتعالى، جعل النبي أُميَّاً

﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾

[ سورة العنكبوت ]

الله عزَّ وجل اختار هذا الإنسان الكامل الأُمِّي، ليكون أعلم علماء الأرض، أي عالمٍ يفتخر أن أستاذه فلان، أو جامعته كذا، النبي يفتخر بأن الذي علَّمه هو الله.
كما قَالَ النبي عليه الصلاة والسلام: 

(( فضلُ كلامِ اللهِ على سائرِ الكلامِ كفضلِ اللهِ على خلقِه ))

[  أخرجه البخاري ]

نفس المَثَل، فضل كلام الله على كلام خلقه، ادخل إلى مكتبة كلَّها كتب، كل هذه الكتب من تأليف بَشَر، فيها مصحف، هذا المصحف هو كلام خالق البَشر، لذلك فضل هذا الكتاب، المصحف، على فضل كل كتب الأرض، كفضل الله على خلقه، وفضل عِلم النبي على عِلم علماء الأرض قاطبةً من آدم إلى يوم القيامة، كفضل الله على خلقه، أيُّ عالمٍ علَّم، هو عالم من بني البشر، يُخطئ ويُصيب، وعِلمه محدود، وله أبعاد ينتهي عندها، أمّا عِلم الله عزَّ وجل لا ينتهي، فالنبي أُمّي، إلا أنَّ الذي عَلَّمه خالق السماوات والأرض، إذاً فاقَ بعلمه علوم الأرض، لذلك:

يا أيُّها الأميُّ، حَســبُك رُتـبةً            فـي العلم أن دانت بك العُلماء

[ أحمد شوقي ]

تجد إنساناً يقرأ مجموعة أحاديث، يشرحها، يُحلِّلها، يَكشِف أبعادها، فيحمل لقب دكتور في الحديث، أطروحته في الحديث، فصاحب هذا الحديث ما مرتبته؟ إذا كان الذي درس مجموعة أحاديث، وشرحها، وحلَّلها، نالَ لقب دكتور، وهي أعلى مرتبة علمية، فهذا الذي قال هذه الأحاديث في كل شؤون الحياة.

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾

[   سورة النجم  ]

ما مرتبته العلمية؟ 

يا أيُّها الأميُّ، حَســبُك رُتـبةً            فـي العلم أن دانت بك العُلماء

[ أحمد شوقي ]

فالأُمّية فيه هي عين الكمال، كما إذا كُنَّا نُريد أن نُنشئ مركز علمي راقي جداً، نختار أرض فلاة صخرية نظيفة، أمَّا لو اخترنا أسواق المدينة، حيث الضجيج، والازدحام، والقاذورات، والخلافات، والمشاحنات، فهذا المكان لا يصح لبناء معهد علمي راقٍ، فالوحي نزل على قلب إنسانٍ طاهر نقي، ونزل في أرضٍ خالية، لا فيها حضارات، ولا فيها تداخل حضارات، ومع الحضارات يوجد تزوير وكذب وبهتان، وفيها مداخلات، وأشياء لا تُحمَد عُقباها، أرض خالية، حتى العرب في صحرائهم كانوا على صفاءٍ مُعيّن، طبيعة البيئة تفرض على أصحابها نوع معيّن من الصفاء، فالله اختار هذه الصحراء، واختار هذه الأمَّة الأمِّية، واختار هذا النبي الأُمّي، ليكون النبي رَسوله إلى آخر الزمان، وليتنزَّل على قلبه القرآن، ولتكون هذه الأمَّة البسيطة الأُمّية، التي رَعَتْ الغنم تصبح قادةً للأُمم، أمَّا أن تعود قادةً للأُمم، فهذا منوطٌ بعودتها إلى الله، واصطلاحِها معه، أمَّا إذا: 

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾

[ سورة مريم  ]

إذاً (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي في أُمَّةٍ أُمِّية، في بيئةٍ صافية، في بيئةٍ بعيدةٍ عن الحضارات، بعيدةٍ عن المُداخلات، بعيدةٍ عن تصادم الأفكار، في بيئةٍ صافية بعث فيها هذا النبي الأُمِّي. 

رَسُولًا مِنْهُمْ


 (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ) من جِبلَّتهم، من طبيعتهم، من قومهم، من لُغتهم، فلو أن النبي ليس منهم لم تَقُم الحُجَّة، لو أنه ليس من بني البَشَر لا تَقُم الحُجَّة، نحن بشر، يا رسول الله، لو تعاني ما نعاني من شهوات لعذرتنا، نحن بشر لو تعاني ما نعاني من حاجات مادّية لعذرتنا، أنت لا تشعُر بهذا، لكن النبي بشر، من بني البشر، يُحسُّ بما نُحِس، يغضب ويرضى، ويجوع ويعرى، ويخاف ويطمئن، لولا أنه بشر، تجري عليه كل خصائص البشر، لَما كان سيِّد البشر، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ) من طبيعتهم، من خصائصهم، من جبلّتهم.

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)﴾

[ سورة الأعراف ]

لولا أنَّ النفس واحدة، لما كان هناك تفاوت، نحن متى نقول فلان الأول على جامعته، لو أنَّ هذا الطالب أُعطي الأسئلة قبل الامتحان بأسبوع، وأجاب إجاباتٍ تامَّة، ونال علامات كاملة، وأقمنا له حفلاً عظيماً، لأنه نال الدرجة الأولى على كل طُلاَّب الجامعة، ألهذه الأولوية معنى؟! شيءٌ مضحك، لولا أنه طالب مثل جميع الطلاب، تجري عليه كل الأنظمة والقوانين، وفوجئ بالأسئلة، لكنَّه أجاب عنها لأنَّه حَضَّر جيداً، لما سمحنا لأنفسنا أن نقول: هو الأول، كلمة هو الأول، لأنَّه كغيره من الطلاب، خضع لهذه المناهج، ولهذه الدراسات، وتلك الامتحانات، وتفوّق فيها، أما لو أُعطي الأسئلة لم يَعُد الأول، صار النجاح مزوَّر، لم يعُد الأول، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر،(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ) .
فاتني أن أقول لكم: لو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام استوعب ثقافات عصره، سافر إلى الشرق وإلى الغرب، وقرأ الكتب، ودخل معاهد، وتَتلمذ على أساتذة، واستوعب ثقافة العصر، ثم جاءه الوحي، صار لديه ثقافة مكتسبة، ووحي سماوي، الآن هو تكلَّم، فإنه مع كل كلمةٍ يجب أن يُسأل: هذه من الوحي أم من عندك، الله عزَّ وجل طمأننا فقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) ، كل كلامه في كل حياته وحيٌّ يوحى، الوحي المتلو هو القرآن، وغير المتلو هو السُنَّة، فهو بين وحيين، وحيٍّ متلو ووحيٍّ غير متلو.
أمَّا (الْأُمِّيِّينَ) مرَّة ثانية، يعني الله عزَّ وجل أعلمُ حيث يجعل رسالته، ويبدو أن هذا العصر ليس مناسباً لنزول الوحي، لأن الأمور مُتداخلة جداً، لا يوجد صفاء، شهوات مستعرة، تزوير، كذب، نِفاق، أمَّا الزمن الذي عاش فيه النبي زمن جاهلي، إلا أنه فيه خصائص، بُعْدُ هذه الجزيرة عن الحضارات جعلها على نوعٍ من الصفاء، وبُعد هذه الجزيرة عن تداخل الثقافات، جعلها تُربةً نقيّةً لتلقّي وحي السماء، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ) لحكمةٍ بالغة، ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) .

يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ


 1 ـ ما هي الآيات ؟

أولاً: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) الآيات جمع آية، وهي العلامة الدالة على عظمة الله، على وجوده، وعظمته، وكماله، ووحدانيته، والآيات أنواع ثلاثة، آياتٌ كونية، وآياتٌ تكوينية، أفعال، زلازل، فيضانات، حروب، جفاف، مطر، خيرات، أفعال الله، آياته الكونية خلقه، آياته التكوينية أفعاله، آياته القرآنية كلامه، إلا أن المُرجَّح هنا آياته الكونية، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، من أجل أن يعرفوه، فإذا عرفوه واستقاموا على أمره اتصلوا به.

 2 ـ وَيُزَكِّيهِمْ

(وَيُزَكِّيهِمْ) فإذا تزكَّوا..

 3 ـ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

(وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الآيات القرآنية، (وَالْحِكْمَةَ) السُنَّة النبوية.

 4 ـ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

(وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ يعني أيّة دعوةٍ إلى الله، دققوا، ينبغي أن تشتمل على التعريف بالله من خلال خَلقِه، وعلى تزكية النفس من خلال الاتصال به، وعلى معرفة كتابه، كلامه، وتفصيل أمره ونهيه، السُنَّة، فأية دعوةٍ إلى الله ينبغي أن تشتمل على آياته، والتزكية، والقرآن، والسُنَّة، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)

 سرُّ مجيء التزكية قبل التعليم:


العلماء لفت نظرهم أن التزكيّة جاءت قبل تعليم الكتاب والحكمة، أي أنَّ أول ثمرة من ثمار الإيمان التزكيّة، إنسان كامل، إنسان لطيف، إنسان رحيم، إنسان مُنْصِف، إنسان وَرِع، إنسان عفيف النفس، هذه ثمار الإيمان، ما قيمة الإيمان كمعلومات؟ مثله مثل أي اختصاصٍ آخر، ماذا نستفيد من مؤمن مُثقَّف ثقافة عالية وهو مثلاً يكذب؟ يأكل مالاً حراماً، يَتَكَبَّر، يحقِد، أبطَل كل صفات الإيمان، فالتزكية قبل، (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) التزكية، أوتينا الإيمان قبل القرآن، إذاً (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) الدالة على عظمته.

 معنى التزكية:


 (وَيُزَكِّيهِمْ) يُطهِّر نفوسهم، التزكية فيها معنيان: معنى التطهير، ومعنى التحلية بالكمالات.
 يُزكّيهم أي يُطهرهم من العداوة، والبغضاء، والأثرة، وحبّ الذات، والجحود، والإنكار، والطعن، والحقد، كل هذه الصفات الذميمة التي تُسْقِطُ الإنسان من عين الناس، هذه بالتزكية يشفى منها (وَيُزَكِّيهِمْ) ومع التزكية هذه السلبية، هناك تزكية إيجابية، يحلِّيهم بالكمال، فهذه النفس وعاء، كان هناك مواد قذرة، مواد مُنفِّرة، فنظَّفنا هذا الوعاء، وملأناه شراباً مُعَطَّراً، ملأناه شراباً مُمَسَّكاً، ملأناه شيئاً نفيساً، عملية تطهير ثم تعطير، عملية تخلية ثم تحلية، عملية إزالة أدران، ثم تزيين بالكمالات.
كلمة (وَيُزَكِّيهِمْ) أي أنه نجا من الحقد، من الكبر، من الجحود، من الحقد، من الدناءة، (وَيُزَكِّيهِمْ) حلَّ محل الدناءة عفَّة، حلَّ محل الطمع تَرَفُّع، وتجمُّل، حلَّ محل البخل كرم، حلَّ محل الجُبُن شجاعة، حلَّ محل التردُّد عزيمة قوية، هذا هو معنى يزكيهم، يطهرهم من صفاتهم الذميمة، ويُحليهم بالكمالات الإنسانية، هذه أكبر ثمرة من ثمار الدين، وإذا لم يكن الإنسان مستقيم، وما كان مُنصِف، وما كان متواضع، وما كان رحيم، وما كان أديب، وما كان حييّ، وما كان عفُوّ، ما كان مُترفِّع، مُتجمِّل عن الدنايا فما قيمة إيمانه؟
قال عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّ أكملَ الإيمانِ حسنُ الخلقِ ))

[  أخرجه  الترمذي وأبو داوود وأحمد ]

هذا هو الإيمان كلَّه، هذا تعريف جامع مانع، الإيمان حسن الخُلُق،

(( إنَّما بُعِثْتُ لأُتممَ صالحَ الأخلاقِ ))

[ أخرجه أحمد والبيهقي   ]


الدعوة إلى الله تحتاج إلى تزكية للنفس وتعريفٍ بالله:


النبي عليه الصلاة والسلام مجتهد؟ أكبر مجتهد، قاضٍ؟ أعظم قاضٍ، قائد؟ أعظم قائد، خطيب؟ أعظم خطيب، عالِم؟ أعلم عالِم، لكن عندما أراد الله عزَّ وجل أن يمدحه بماذا مدحه؟ قال:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ سورة القلم ]

كل البطولة بالأخلاق العالية، الأخلاق العالية هي نموذج من كمالات الله عزَّ وجل، هذا الإنسان موصول بالله معنى هذا أنه كامل، أو مقطوع عنه معنى هذا أنه ناقص.
لذلك أيُّها الإخوة (وَيُزَكِّيهِمْ) هذه شيء خطير جداً، لأنَّ في القرآن الكريم، يمكن يوجد أربع آيات، آيتان أو ثلاث آيات:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)﴾

[ سورة الأعلى  ]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)﴾

[ سورة الشمس ]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15)﴾

[ سورة الأعلى  ]

التزكيّة هي الهدف الأخير من خلق الإنسان، أي يُزكّي نفسه لتكون مؤهَّلةً لجنَّة الله.
ملخص الملخص: الإنسان في الدنيا يُزكّي نفسه ليكون مؤهَّلاً لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، التزكية ثمن الجنَّة، لذلك أية دعوةٍ إلى الله تُهمِل التزكية فهي دعوة عرجاء، هذه الدعوة الكاملة: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) يعرِّفهم بالله، (وَيُزَكِّيهِمْ ) أي يطهِّرهم، ثم (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أمَّا إذا اقتصرنا على تعليم الكتاب والحكمة دون أن نعرف الله، ودون أن نزكّي أنفسنا ما أفلحنا، ليست هذه هي الدعوة، لأن الإنسان إذا عرف الكتاب والحكمة، ولم يعرف الله، تفنَّن في التَفَلُّت من منهج الله، يضع قطعة ثوم في جيبه، ويأكلها يوم الجمعة، إذاً هو مُعفى من صلاة الجمعة.

(( قِيلَ لأنَسٍ: ما سَمِعْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في الثُّومِ؟ فَقالَ: مَن أكَلَ فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا. ))

[  أخرجه مسلم والبخاري ]

النبي نهانا، فإذا الإنسان لم يعرف الله عزَّ وجل، وما زَكَت نفسه، فإنه يتفنَّن في التفلُّت من منهج الله، ويضحي بأثمن شيء لأتفه شيء، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا قليل، يبحث عن المال من أي طريق، من أي وجهة، بأي ثمن دون أن يكون وَرِعاً، فلذلك الدعوة إلى الله تحتاج إلى تعريف بالله، وإلى تزكية النفس، وبعدها (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ، أمَّا إذا اقتصرنا على تعليم الكتاب والحكمة، ولم نُزكِّ أنفسنا فإننا لسنا مؤهَّلين لِجَنَّة الله، ومتى لم نُزكِّ أنفسنا معنى ذلك أننا لم نعرف ربنا، هذه دعوة، هذا منهج، هذا مبدأ، ركائز الدعوة إلى الله، التعريف بالله من خلال خلقه، أو من خلال أمره، أو من خلال أفعاله، ثم تزكيّة النفس عن طريق الاتصال به، تطهيراً وتحليةً، ثم (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ﴾ ،القرآن، (وَالْحِكْمَةَ﴾ ، في أوجَه التفاسير هي السُنَّة، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بعثه الله عزَّ وجل ليُبيِّن للناس ما نُزِّل إليه، هذه الدعوة إلى الله، تعريفٌ بالله، تزكيةٌ للنفس، معرفةٌ بالمنهج، معرفةٌ بتفاصيل المنهج، المنهج كعقيدة، وكعبادة، وكمعاملات، وكآداب، تأتي السُنَّة لتُبيِّن، مائتا حديث في البيوع، القرآن ذكر البيوع في آيةٍ واحدة، أي مع التراضي

﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)﴾

[ سورة البقرة  ]


 وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ


 1 ـ ضلال العرب في الجاهلية:

 (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) العرب قبل الإسلام كانوا في جاهلية، قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي: "كنَّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، يعبدون صنماً من تمر، فلمَّا جاعوا أكلوه، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونُسِئ الجوار، ويأكل القوي منَّا الضعيف" هذه هي الجاهلية

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾

[ سورة الأحزاب ]

ماذا تفيد كلمة الأولى؟ أي هناك ثانية، جاهلية ما قبل الإسلام، وجاهلية ما بعد الإسلام، الشهوات، والكسب الحرام، والانغماس في الملذَّات حتى قمّة الرأس، هذه جاهلية ثانية.

 2 ـ الضَلَال عن الدين مُبِين واضح:

(وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ضلال واضح كالشمس، ولا تبتعد كثيراً، أي أخ قبل أن يعرف الله، قبل أن يصطلح معه، ينظر إلى حياته، انحراف، مزاح رخيص، نظر إلى العورات، كذب، كسب مال حرام، تناقض، ازدواجية، قلق، دناءة، أما بعد أن عرف الله، وعرف منهجه طَهُرَت نفسه، وزكا عقله، وسما قلبه، وأصبحت ميوله راقية جداً، وصار له منهج يمشي عليه، فهذه الآية واضحة جداً (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، والدليل: التقِ مع أحد أصدقائك الذين لم يسلكوا سلوكك سابقاً، اجلس معه ربع ساعة، واستمع إليه تعرف من أنت، حديث متناقض، عن النساء أحياناً، الدنيا تملأ همَّه، تملأ قلبه، مستعد أن يفعل كل شيء من أجل أهدافه الدنيئة، تراه إنسان مهزوز، متناقض، خسيس، فيه دناءة، ليس عنده التزام، مصلحته فوق كل شيء، مبادئه مُتغيرة، قناعته مُتبدِّلة، علاقاته كلَّها مصلحية، قيَمه مهزوزة، عش مع واحد تعرفه، ولم يسلك سلوكك، (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، نعمة العفَّة، نعمة الورع، نعمة الاستقامة، نعمة وضوح الهدف، نعمة العقيدة الصحيحة، تعبُد خالق الكون، هناك من يعبد بوذا، هناك من يعبُد النار في آسيا، هناك من يعبُد البقر، هناك من يعبُد الجُرذان، عندي صور لمعابدهم، وفيها مئات الجرذان، يقدِّسونهم، يحترمونهم، يأكلون معهم، هناك من يعبُد موج البحر، هناك من يعبُد الأعضاء التناسلية للرجال والنساء، وأنت تعبُد الله خالق الكون، وأنت على منهج الله، على منهجٍ مُعْجِز، مهما تطورت الحياة لا يمكن أن يظهر شيء يناقض هذا المنهج، من عند خالق الكون، من عند الصانع هذا المنهج، فلذلك (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، منهج أساسه الاختلاط، هذا عينه على هذه، وهذه على هذا، وخلافات وطلاقات، وتَشتُّت أُسَر، لأنهم خالفوا منهج الله عزَّ وجل.
أكاد أقول: أتحدَّى أن تكون في الأرض مشكلةٌ كبيرة، إلا ووراءها معصيةٌ كبيرة، وما من معصية إلا وراءها جهل، فالجهل أعدى أعداء الإنسان.
فلذلك أيها الإخوة (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ) مدَّ قدمه وقال: من كان أشرف منّي فليضربها، فقام إنسان وضربها، عشر سنوات من الحرب بين قبيلتين طحنت الأخضر واليابس بسبب ذلك، هذه هي الجاهلية.
بنت مثل الوردة، يأخذها أبوها، ويحفر لها حفرة، ويضعها في الحفرة، وهي حيّة، ثم يردم عليها الرمل!

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)﴾  

[ سورة التكوير ]

هذه هي الجاهلية، عشرة رجال على امرأة، تَحمِل فتختار أحدهم، وتقول: هذا الولد من هذا الرجل، فوضى جنسية غير معقولة (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
حجر يعبدونه، فجاء ثعلب وبال عليه، فكَّر أحدُهم وقال:

أربٌ يبول الثعلبان برأسه              لقد  ذلَّ من بالت عليه الثعالب

[ راشد السلمي ]

معقول؟ إله من تمر! لمَّا جاعت ودٌّ أكلت ربَّها، هذه هي الجاهلية، حروب طائشة، سفك دماء، فخر أجوَف، الشاعر المعروف الذي قال: 

أَنـا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي              وَأَسـمَعَت كَلِمـاتي مَـن بِـهِ صـَمَـمُ

 فَالخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَـيداءُ تَعرِفُني             وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ

[ أبو الطيب المتنبي ]

هذا شعر، ولكن هذا ليس جاهلياً، خرج من بغداد إلى حلب، فظهر له أعداء في الطريق، فولَّى هارباً، قال له غلامه: ألست القائل: (فَالخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني) ؟! فقال له: قتلتني قتلك الله، فعاد وقاتل حتى قُتِل، ما هذه الجاهلية؟
أما الإسلام رفع هذه الأُمَّة من رعاةٍ للغنم إلى قادةٍ للأُمم، سيدنا عمر قال: << الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، ومهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله >> (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
 

معنى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ


قال:

﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)﴾

[ سورة الجمعة ]

وهذه الآية لها معنيان:
يعني أُمَّةٌ لم تكن وقت نزول الوحي، جاءت بعدها، أو أُمَّةٌ غير هذه الأُمَّة، ما حولها، وهذه من بِشَارات القرآن الكريم، أن الإسلام سَيَعُمُّ البُلدان وسيعمُّ الأزمان، أي اتسعت رقعته حتى شمل مليار ومائتي مليون مسلم الآن، وحتى استمر ألف وأربعمائة عام، والإسلام يزداد شموخاً (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ


﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)﴾

[ سورة الجمعة ]

يعني إذا الإنسان إذا آتاه الله عزَّ وجل شيء من العِلم، و شيء من الحكمة، وأعانه على نفسه في طاعته، وذكر الله بلسانه، ودعا إليه فهذا هو الفضل العظيم الذي لا يفنى إلى أبد الآبدين، هذا هو العطاء الحقيقي.
يعني الله عزَّ وجل أعطى المُلك لمن لا يُحب، أعطاه لفرعون، وأعطاه لمن يُحب، لسيدنا سليمان، أعطى المال لمن لا يُحب، لقارون، وأعطاه لمن يُحب، لسيدنا ابن عوف، ولكن الحكمة والعِلم لم يُعطهما إلا لمن يُحبُّ حصراً.

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾

[ سورة القصص  ]

إذا سمح لك الله عزَّ وجل أن تسمع الحق، وسمح لك أن تقتنع به، وسمح لك أن تطبِّقه، وسمح لك أن تدعو إليه، فإن هذا هو الفضل العظيم.

فضلُ الله أعظمُ من كل شيء في الدنيا:


لو كنت تملك أكبر شركة في العالم، وهناك شركات أرباحها تساوي ميزانيات دول، شركات ضخمة جداً، لو أنك تملك مثل هذه الشركات، وجاءك ملك الموت ليس لك منها شيء أبداً، أمّا إذا عرفت الله، وعرفت مَنهجه، وأطَعته، ودعوت إليه، وسمح الله لك أن تكون سبباً في هداية خلقه فإن:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾

[ سورة التوبة  ]

ذلك هو العطاء الكبير.

﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

[ سورة الصافات  ]

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين  ]

دققوا في هذه الآية ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ )   نرجو الله عزَّ وجل أن نكون من هؤلاء الآخرين، الآخرين أي أُمَّةٌ أُخرى، أو جيل آخر، أليس هناك شعوب غير عربية مسلمة؟ إندونيسيا وحدها مائة وخمسون مليون، إندونيسيا تعادل الأمة العربية بأكملها، ولم يأتِهم سيف إلا التُجَّار فقط، والهند فيها سبعمائة وخمسون مليون، نصفهم مسلمين، الباكستان، الأتراك (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، أُمَّة أُخرى، أو جيل آخر، فنحن إن شاء الله نكون بالمعنى الثاني، من الجيل الآخر.
( لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) يعني أنت تتعرَّف إلى الله من آياته، وأن تُزكّي نفسك، تُطهرها من أدرانها، تُحلِّيها بالكمال، تُعلّمها الكتاب والحكمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) فضله عميم، اختر هذا الفضل تنله، لكن له ثمن. 

وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ


(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعني إذا استمع الإنسان إلى الحق، دققوا أيها الإخوة لكم بِشَارة

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

إذا سمح الله لك أن تستمع إلى الحقّ فقد علِم فيك خيراً، بقي أن تطبِّقه، وبقي:

﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾

[ سورة البقرة  ]

مثلما تعلَّمت عَلِّم، استمعت إلى درس انقله إلى زوجتك، استمعت إلى خطبة انقلها إلى إخوانك، لا تكن ساكتاً، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 

(( بلِّغوا عنِّي ولو آيةً ))

[ أخرجه البخاري  ]


فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ:


 (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وإذا ذكرك الله عزَّ وجل نِلْتَ كل شيء، ذِكْرُ الله لك أعظم بكثير من ذكرك له، ذكرك له تنتفع وتُحفَظ، لكن ذكره لك يرفعك إلى أعلى علِّيين.
(ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، هذا هو الفضل العظيم، العظيم يقول لك: هذا هو الفضل العظيم، لا تزهد بدرس، لا تزهد بمعرفة كتاب الله، لا تزهد بمعرفة سُنَّة النبي، لا تزهد في عمل صالح، لا تزهد في الدعوة إلى الله، لا تؤثر مصالحك المادّية على ذكر الله عزَّ وجل، لأنه

(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلينَ ))

[ أخرجه البخاري والبيهقي والطبراني ]

هُم في مساجدهم والله في حوائجهم، من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين.
 يعني أخ له عمل صالح، له دعوة إلى الله، يخدم في دعوته، وفي تعليمه القرآن، الله عزَّ وجل أكرمه إكرام قبل أسبوعين أو ثلاثة، شيءٌ لا يُصدَّق، مستحيل أن يصل إلى هذا عن طريق الوسائل والوساطات، الله عزَّ وجل سميع، بصير، عليم، كُن حيث يرضى عنك، ولا تفكِّر في شيء، "كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يُصلِحُك" أعلم ما يُصلِحُك، لا تكلِّف خاطرك، قل لي ماذا تريد، لكن كُن لي كما أريد، "أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد " .

قانون التيسير والتعسير:


هذا قانون التيسير والتعسير، ولا شيء أصعب من التعسير، كلَّما سلكت طريق تجده مسدود، كلَّما بحثت عن سبب فهو مغلق، فلا شيء أصعب في الحياة من التعسير، وفي الحديث:

(( اللَّهمَّ لا سَهْلَ إلَّا ما جعَلْتَه سَهلًا وأنتَ تجعَلُ الحَزْنَ سَهلًا إذا شِئْتَ ))

[ أخرجه ابن حبان والبيهقي  ]

في عملك، في دراستك، في وظيفتك، في سفرك، أحياناً سفر يصبح قطعة من الجحيم لأسبابٍ تافهة، وأحياناً يكون قطعة من النعيم، ولا شيء أكثر راحةً للنفس من التيسير.
 القانون:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)﴾

[ سورة الليل  ]

آمن، أعطى، واتقى أن يعصي الله، وصدَّق بالحسنى، بهذا الدين، آمن واستقام وعمل صالحاً هذا المعنى. 

﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾

[ سورة الليل  ]

بخل يعني امتنع واستغنى عن طاعة الله.

(( من جعل الهموم همّا واحداً هَمّ آخرته ، كفاه الله هَمّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبالِ الله في أي أوديتها هلك))

[ ابن ماجه ]

أي يذهب لسبب تافه، خبر مزعج يُحدِث له جلطة، فمات وانتهى، لسبب تافه جداً، في مكان تافه، بمناسبة تافهة، أما المؤمن فهو غالٍ على الله عزَّ وجل، حياته مُقدَّسة، والنبي الكريم أقسم الله عزَّ وجل بعمره فقال:

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾

[ سورة الحجر ]

فالإنسان على قدر استقامته، وعلى قدر إخلاصه، على قدر محبَّته، وعلى قدر معرفته، وعلى قدر دعوته إلى الله عزَّ وجل يرتفع عند الله

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4﴾﴾

[ سورة الشرح  ]


لابد للمؤمن أن يفرح بفضل الله عليه:


المؤمن كبير جداً عند الناس وعند الله، أما هو صغير جداً في نفسه، بنظر نفسه، إذاً: (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هذا الفضل الحقيقي، (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) ،( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾

[ سورة يونس ]

افرح بهذه. 
 (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) أن تعرفه، وأن تُزكّي نفسك، وأن تعرف كتابه، وأن تعرف سُنَّة رسوله، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) من السابقين واللاحقين، العرب وغير العرب، (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) ، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
 في درسٍ آخر إن شاء الله نُكمِل تفسير الآية:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[ سورة الجمعة ]


الملف مدقق

الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور