وضع داكن
01-07-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الجمعة - تفسير الآيات 5- 8 القرآن للتدبُّر والتطبيق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزِدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا مِمن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة الجمعة، ومع الآية الخامسة، وهي قوله تعالى:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚبِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[ سورة الجمعة  ]


علاقة الآية بما قبلها:


قد يسأل سائل: ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚبِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[ سورة الجمعة  ]

 1 ـ الصحابة استجابوا لدعوة الرسول:

أيُّها الإخوة الكرام، حينما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأُمة نبياً ورسولاً، بشيراً ونذيراً، أصحابه الكرام استجابوا له، وفهموا حقيقة دعوته، وطَبَّقوها، وتألقوا، ودانت لهم الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وخرجوا من جزيرتهم ونشروا الإسلام في الخافقَين، هذه الدعوة المُتألِقة، هذه الدعوة السماوية، كيف يمكن أن تُفرَّغ من مضمونها؟ كيف يمكن أن تتراجع؟ كيف يمكن تذوي؟

 2 ـ موقف اليهود من دعوة الرسول كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا:

اليهود جاءتهم التوراة، (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) أي أُنْزِلَتْ على نبيِّهم، نبيُّهم عَلَّمهم إيَّاها، عرفوا أحكامها، ثم لم يحملوها، حُمِّلوها تعليماً وإرسالاً، ثم لم يحملوها تَدبُّراً وتَطبيقاً، يعني أكبر خطر ينتظر المسلمين هو أن يقرؤوا النصوص، ولا يعملوا بها، أن يفهموا حقيقة الوحي ولا يُطبِّقوه، أن يكونوا أوعيةً لا وُعاةً لهذا الدين العظيم، وهناك مفارقة عجيبة جداً، هي أن الصحابة الكرام كانوا قِلَة لا يزيدون عن عشرة آلاف رجل، نُقِلَتْ دعوتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، بينما المسلمون اليوم يزيدون على مليون ومائتي مليون، ومع ذلك تروْنَهُم ليسوا كما ينبغي أن يكونوا.
في الحقيقة الخطر الكبير الذي ينتظر المسلمين هو أن يكون هذا الدين صورةً في حياتهم، ليس مُطبَّقاً في حياتهم، الله جلَّ جلاله يقول:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال ]

أجمَع العلماء على أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن يرتحِل إلى ربِّه، عذاب أمته بمخالفة سُنَّته، بل إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل علامة حُبِّه اتباع سُنًّة نبيه، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران  ]


أكبر خطر على المسلمين مشابهتهم لليهود أنهم حُمِّلوا التوراة، ثم لم يحملوها:


إذاً عندنا خطر كبير، أن نقرأ القرآن ولا نعمل به، أن نقرأ السُنَّة ونتزيَّن بها ولا نُطبِّقُها، أن تكون حياتنا في وادٍ والنصوص التي نقرأها كل يومٍ قراءةً تعبُّديَّة في وادٍ آخر، أن لا يكون هذا الدين مُطبَّقاً في حياتنا، أن نحيا حياةً على نمطٍ غربي، أن نُتاجِر على النمط الغربي، أن نُقيم علاقاتنا الاجتماعية على نمطٍ غربي، دون أن يكون للدين دخلٌ في حياتنا، لكن الدين في المسجد، نُصلّي في المسجد، ونقرأ القرآن في المسجد، ونقيم شَعائِرَهُ دون أن نسمح للدين أن يدخل إلى حياتنا اليومية، كما أنَّ اليهود حُمِّلوا التوراة، أُنزِلت عليهم التوراة، نبيِّهُم الكريم سيدنا موسى علَّمهم إيَّاها، إلا أنهم لم يحملوها، أي لم يطبِّقوها، ماذا قالوا؟

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)﴾

[ سورة آل عمران ]

أي هُم أحرار في أن يُسيئوا إلى الأقوام الآخرين، بل إنَّهذا يُعَدُّ جزءً من دينهم،(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
كما ذكرت في الدرس الماضي، الأُميّون أي في الأُمَمِيين، الأُمم الأُخرى، هُم يتوهمون أنَّهُم شعب الله المُختار، وليس عليهم أن يُسيئوا أو أن يَغتصبوا، أو أن يُنكِّلوا في بقية الأمم، هذا جزءٌ من عقيدتهم الفاسدة، لذلك (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا)  أي لم يُطبِّقوها، فلذلك مِحكُّ الإنسان الحقيقي لا ما يقوله لك، بل ما يفعله، وقد تجد أُناساً ألسنتهم أحلى من العسل، وفعلهم أَمَرُّ من الأسَل، أي الصبر، فالعِبرةلِئلا يتوهَّم الإنسان أن بكلامه الذكي ينتزع إعجاب الآخرين، وينجو عند الله، لا ينفعنا إلا أن نكون على منهج الله.

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

فالإنسان يتكلم، بكلامه إذا كان ذكياً يقلب الحقَّ إلى باطل، والباطل إلى حقّ، يعتدي ويتَّهِم الذي اعتدى عليه أنه هو السبب، يتجاوز الحدود، يتناقض ويُقنِع الناس بلسانه الذَرِبْ أنه على حقّ، هذا عقابه يوم القيامة قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾

[ سورة يس ]

لأنَّهم كاذبون، (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم) .
يعني أخطر شيء يُصيب الدين أن يبقى طُقوساً، حركاتٍ لا معنى لها، عباداتٍ جَوْفاء، أن يوصف عند الآخرين بأنه تراث، ثقافة، فلكلور، عادات، تقاليد، نماذج، رواسب الآباء والأجداد، الدين منهج، الدين سبب سعادة المجتمع، سبب انضباطه، فأكبر خطر يتهدد المسلمين هو الخطر الذي أهْلَكَ اليهود أنَّهم (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) ، القرآن بين أيدينا نقرأه صباح مساء، أحكامه واضحةٌ وضوح الشمس، ومع ذلك لا تجِد معظم المسلمين في مستوى هذا الكتاب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: << رُبَّ تالٍ للقرآن، والقرآن يلعنه>> ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( ما آمَن بالقرآنِ مَن استحلَّ مَحارمَه ))

[ أخرجه الترمذي وللطبراني والبيهقي ]


العِبرة  في تطبيق الدين:


فالعِبرة لا أن تقرأ القرآن، العِبرة  أن تقرأه وأن تُطبِّقه، العِبرة لا أن تُصلّي في المسجد، العِبرة  أن يكون بيتك مسجداً، أن يكون بيتك منتظِماً، ملتزماً، العِبرة أن تُربّي أولادك وفق الشريعة الإسلامية، العِبرة أن تأخذ بيد زوجتك إلى الله ورسوله، العِبرة أن تتعامل مع الناس وفق منهج الله، العِبرة  أن يستوي عندك التِبْر والتُراب في جنب الله عزَّ وجل، والمال مهما عَظُم فهو تحت قدميك إذا كان سيحجِبك عن الله عزَّ وجل، هذا هو المؤمن.
النبي عليه الصلاة والسلام ربَّى أصحاباً من هذا النموذج، لذلك كان الواحد منهم كألف، سيدنا عمر حينما أرسل إلى سيدنا سعدٍ دعماً، استنجَد به، أُريد الإمداد، أُريد جيشاً يَدْعَمُني، أرسل له واحداً القعقاع بن عمرو، أيُعقَل أن يُرسِل الخليفة إلى قيادة جيشٍ في العراق دعماً رجلاً واحداً؟!!
فيا أيُّها الإخوة الكرام، العلاقة بين هذه الآية وبين الآية التي سبقتها هو أن الله سبحانه وتعالى قال:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) .
هذه الدعوة التي كانت محور الدرس الماضي، تلاوة الآيات الكونية، والاتصال بالله، والتزكيّة، التطهير من الأدران والتحلّي بالكمال، ومعرفة الكتاب والسُنَّة، هذه هي أركان الدعوة إلى الله، هذه الدعوة التي آتَت أُكُلَها، وأيْنَعَت ثمارها في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، حتى استحقَّ أصحابه أن يستخلفهم الله في الأرض، استخلفهم، وكانت كلمتهم هي العُليا، استخلفهم الله في الأرض،ومَكَّنَ لهُم دينهم الذي ارتضى لهُم، وأبدلهم من بعد خوفهم أمناً.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَفَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[ أخرجه الترمذي والطبراني والبيهقي ]

لأنَّهُم عبدوه، فإذا جاء بعد قوم النبي قومٌ ما عبدوا الله، بل عبدوا شهواتهم،اصعد إلى جبل قاسيون، وانظر إلى أسطحةالمنازل تفهم كل شيء، لا تنظر إلى أشياء أُخرى، انظر إلى أسطحة المنازل ماذا عليها؟ تعرف ماذا في هذا البيت، انظر إلى النوافذ مُتألِّقة حتى الساعة الخامسة صباحاً، ماذا يفعل هؤلاء في الليل؟ ثم يَعْتَبَ الناس على ربِّهم لماذا لا ينصُرهم؟!
المشكلة حينما تنفصِل الحياة عن الدين يصبح الدين ثقافة، تراث، كُتب في المكتبة، يصبح الدين أفكار لا تُقدِّم ولا تُؤَخِّر، يُصبح الدين عادات، يعني أحياناً إكراماً لشهر رمضان المُبارك، تُقام الحفلة الفلانية الراقصة، والملهى الفلاني يُقدِّم أشياء إكراماً لرمضان المُبارك، لم يعُد هناك دين، انفصلت الحياة عن الدين، لذلك: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)

لن ينصرنا الله إلا إذا كُنّا كما يريد:


الإنسان أحياناً يستمع إلى ما يجري في العالم الإسلامي فيتألم أشدَّ الألم، ولكن لو فتح القرآن ليفهم الحقيقة يرى قوله تعالى:

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

لنُغيِّر ما بأنفسنا حتى يُغيِّر الله ما بِنا، لنفتح القرآن ونقرأ:

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾

[ سورة محمد ]

فإن لم ننصر دينه في بيوتنا، إن لم ننصر دينه في أعمالنا، إن لم ننصر دينه في بناتنا، إن لم ننصر دينه في أولادنا، إن لم ننصر دينه في أفراحنا، إن لم ننصر دينه في أتراحنا، فليس لنا عليه شيء.

دققوا في هذا الحديث الصحيحَ: 


(( كُنْتُ رِدْفَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ إلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فقالَ: يا مُعاذُ بنَ جَبَلٍ، قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ، وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سارَ ساعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعاذُ بنَ جَبَلٍ قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سارَ ساعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعاذُ بنَ جَبَلٍ قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّ حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، ثُمَّ سارَ ساعَةً، ثُمَّ قالَ: يا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ قُلتُ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ، وسَعْدَيْكَ، قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ علَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلكَ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ. ))

[ صحيح مسلم ]

يعني أراد الله أن يُطمئننا،أراد الله أن يُنشئ لنا حقاً عليه،(قالَ: هلْ تَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ علَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلكَ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أنْ لا يُعَذِّبَهُمْ. )

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

[ سورة الروم  ]

الله عزَّ وجل أنشأ هذا الحقّ على ذاته العَلِيَّة.

﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)﴾

[ سورة النساء  ]

فإذا كان لهم على المؤمنين ألف سبيلٍ وسبيل، ماذا يعني ذلك؟ إذا كان للكافرين على المؤمنين ألف سبيلٍ وسبيل، يقول عليه الصلاة والسلام: 

((  أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ. ))

[ صحيح البخاري ]

فإذا جاء من بعده فهُزموا بالرُعب مسيرة عام، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنهم تركوا دينهم، ولم ينصروا دينهم، ولم يُطبِّقوا شرع نبيهم، لذلك الله جلَّ جلاله يُعالجهم، ولعل في المُعالجة خيراً لهُم، لقوله تعالى:

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾

[ سورة القصص  ]

 فلذلك المسلمون وقد تألَّقت دعوة الإسلام في حياتهم، وقد قطفوا ثمارها في عهد النبي وعهد أصحابه الراشدين، ومن بعدهم التابعين، هذه الدعوة التي تألَّقت أشدَّ التألُّق في صدر الإسلام، ما الخطر الذي ينتظرها؟ الخطر الذي ينتظرها أن نُحَمَّل القرآن إنزالاً وتعليماً، ثم لا نَحمِله تدبُّراً وتطبيقاً، فنكون كهؤلاء الذين وصفهم الله عزَّ وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) .

 3 ـ معنى: أَسْفَارًا:

الأسفار جمع سِفْر، والسِفر هو الكتاب، أما السَفْرُ هو الكشف، سَفَرت العمامة عن الرأس، أي كُشِفَت عن الرأس، سَفَرَ الحجاب عن الوجه أي كُشِف عن الوجه، فالسَفر الكَشْف، أما السِفْر الكتاب، به تُكشف الحقائق.
لو أن دابةً حُمِّلَت كتاباً في الفَلَك، وكتاباً في الرياضيات، وكتاباً في الفيزياء، وكتاباً في علم النفس، وكتاباً في علم الاجتماع، وكتاباً في التاريخ، وكتاباً في الجغرافيا، وكتاباً في الفلسفة، وسارت هذه الدابة وعلى ظهرها هذه الكتب مسافةً طويلة، ثم استوقفناها، وسألناها عن قانون التجاذب الحركي، فإن الحمار يَنْهَق، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) يعني شيءٌ زَريّ، شيءٌ لا يُحتمل، إنسان يقرأ القرآن ولا يعمل به! يقرأ القرآن وبناته كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مُميلات، ملعوناتٌ أينما ذهبنَّ! يقرأ القرآن ودخله حرام، يقرأ القرآن وحياته اختلاط، يقرأ القرآن وهو في وادٍ، والدين في وادٍ آخر (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) .

 4 ـ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا

(حُمِّلوها) أنَّ القرآن أُنزِل على هذه الأمّة، والنبي فصَّله في سُنّته، سُنّته كلها تبيانٌ لِما في هذا القرآن، معنا كتاب الله، ومعنا كتب السُنَّة، تسعُ كُتبٍ صحيحة، السُنَّة تزيد على ستمائة ألف حديث، الكتب الصحيحة التسعة تزيد على ستين ألف حديث، في هذه الأحاديث شرَحَ النبي القرآن، وهي متوافرةٌ بين أيدينا أينما ذهبت، الكتاب مع التفاسير، تفاسير مقروءة، وتفاسير مسموعة، وتفاسير مرئية، كتب، يعني  المكتبة الإسلامية عامرة إلى أقصى درجة، بل إنك لتجد أنه إذا أُقيم معرض للكتاب الناس فيه زُرافاتٍ ووحدانا، هناك إقبال على طلب العِلم، فأين التطبيق؟ أين الاستخلاف الذي وعدنا الله به؟ أين التمكين الذي وعدنا الله به؟ أين التطمين الذي وعدنا الله به؟ أين النصر الذي وعدنا الله به؟ أين معنى قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
أين قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) ؟ لأن المسلمين أصابهم ما أصاب اليهود، (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) حُمِّلوا القرآن ثم لم يحملوه، (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين


 1 ـ المسلمون يكذِّبون القرآن بلسان حالِهم لا بلسان مقالهم:

أيُّها الإخوة الكرام، لا أعتقد أنَّ في العالم الإسلامي رجلاً واحداً يقول لك: القرآن ليس كلام الله، هذا قَلَّما تجد، حالات نادرة جداً، حالات تُعَد على أصابع اليدين، أن يقول لك قائل: هذا القرآن ليس كلام الله، لكنك تجد أنَّ إنساناً يقرأ القرآن، ولا يعمل به، كيف تُفسِّر إنساناً يقرأ القرآن ولا يعمل به؟

 2 ـ التكذيب العملي أخطر من التكذيب القولي:

إذا ذهبت إلى طبيب، وعالجك الطبيب، ووصف لك وصفة، وصافحت الطبيب، وأثنيت على عِلم الطبيب، وتشكرت الطبيب، ولم تشترِ هذه الوصفة، وأنت متألم، ومعك مال، عدم شرائك لهذه الوصفة تكذيبٌ لعِلم الطبيب، تكذيبٌ ضمني، وهذا أعظم أنواع التكذيب، إنك إن كذّبت بلسانك ناقشناك، وحاورناك، وأقنعناك، لكنك تقول: كلام الله، هذا القرآن تقول أنت: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا سبيل إلى محاورتك، أمّا إذا دخلت إلى بيتك لا تجد أثراً للقرآن في بيتك،لا في خروج بناتك، ولا في تربية أولادك، ولا في كسب مالك، ولا في إنفاق مالك، إذاً: هذا الذي حصل، (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)  فهذا الذي يُطلِق بصره في الحرام، يملأ عينيه من الحرام، ويقرأ قوله تعالى:

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَأَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

ألا يُكذِّب تكذيباً ضِمنياً بهذه الآية؟ (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ)  هذا الذي يقرأ القرآن، يقرأ قوله تعالى:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

ويتعامل بالرِبا ألا يُكَذِّبُ هذه الآية؟
هذا الذي يقرأ قوله تعالى:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188)﴾

[ سورة البقرة ]

ويأكل أموال الناس بالباطل اغتصاباً، واحتيالاً، وغِشاً، وتلاعباً، وتدليساً، وإخفاء عيبٍ، وتزوير جهةٍ صانعةٍ، هذا الذي يأكل أموال الناس بالباطل، ويقرأ قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)﴾

[ سورة النساء ]

ألا يُكذِّب بهذه الآية؟
إنَّ أخطر أنواع التكذيب أن يُكذِّب عملك لا أن يُكذِّب لسانك، لأنه إن كَذَّبَ عمُلك فلا أحد يكشفك، أنت فيما تُعلِن مسلم، مؤمن، صادق، طاهر، لكن حينما تكون مع المؤمنين تندَّس بينهم، لا يُعرَف ما إذا كنت معهم أو ضِدهم، لذلك قال تعالى:

﴿ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)﴾

[ سورة الأحزاب ]

لو قال: (لو كانوا معكم) فهذا موضوع ثانٍ، (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ) اندمجوا معكم، يُصلّون كما تُصلّون، يُسبِّحون كما تُسبِّحون، يأتون المساجد كما تأتون، لكنهم لا يُطبِّقون، فهذا الذي يحضر مجلس العِلم، ولا يلتزم بأوامر الدين، كيف يفكر؟ كيف ينام؟ كيف يستلقي على جنبه مساءً؟ سمع الحقّ، أو أسمعه الله الحقّ، ما حُجّته عند الله عزَّ وجل؟ لِمالم تُطبِّق؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾

[  سورة الصف  ]

هل يُعقَل أن يكون أصل العمل حراماً، وأصل كسب المال حراماً، وأصل هذه العلاقة مُحرَّمة، ثم تتبرّك بالعلماء، تدعوهم إلى بيتك لينطقوا بكلمات الحقّ وأنت تزهو بهم، أليس هذا نِفاقاً؟
أيُّها الإخوة الكرام، ليس من أشياء قليلة تَخَلَّى الله عنا، هناك أسباب كبيرة جداً، ومع ذلك نحن نرجوا رحمة الله، ونخشى عذابه، فالله عزَّ وجل قال:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[  سورة النحل  ]

الله جلَّ جلاله إذا قَنَّن لا يُقَنِّن عجزاً، لأنه:

﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)﴾

[  سورة الحجر ]

إلا أنَّ الله إذا قَنَّن، إذا قَنَّن الدخول، إذا قَنَّن الأمطار، إذا قَنَّن المكاسب، إنّما يُقنِّن تأديباً. 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾

[ سورة السجدة  ]

أصحاب الجنَّة الذين انطلقوا إليها، يتبخترون من أجل أن يصرموها مُصبحين، ولا يستثنون حق الفقراء. 

﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24)وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾

[ سورة القلم  ]


قصة أصحاب الجنَّة: دروس وعبر:


إنسان لا يؤدِّي زكاة ماله، عنده بستان يُضَمِّنُه كل عام بمليون ليرة، هَبَّتْ رياحٌ عاتية قبل أيام لم تُبقٍ له شيئاً، مَحَقَت الإنتاج كله، كله في الأرض، وبحجمٍ صغير، في منطقة مرتفعة، ولأنها مرتفعة يتأخر نمو التفاح فيها، يُضمِّنُه كل عام بمليون ليرة، ليس عنده شيئاً يُضَمِّنُهُ، (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) والسرعة ثمانون كيلو متر، لو كانت مئة وعشرين فهذه نكبة ثانية، لو كانت مائتين، هناك أعاصير بسرعة ثمانمائة كيلو متر، تقتلع المدينة من جذرها، على ثمانين كيلو متر لم يبقَ شيء، ربنا عزَّ وجل بعد أن حدّثنا عن قصة أصحاب الجنّة، قال:

﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28)قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ  ﴾

[ سورة القلم  ]

قال تعالى:

﴿ كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾

[  سورة القلم  ]

أي ياعبادي كل أنواع العذاب الذي أسوقه لكم من هذا النوع، عذاب تأديب، عذاب معالجة، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، المشكلة أنَّ هذه الآية يُقاس عليها أنَّ الذين حُمِّلوا القرآن ثم لم يحملوه. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚبِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

 عدم تطبيق أوامر الله تكذيبٌ عملي بها:


معنى ذلك أن كل أمرٍ بين يديك لا تُطَبِّقُهُ هو تكذيبٌ به، بنوعٍ أو بآخَر، حينما لا تُطبِّق أمر الله عزَّ وجل أنت تُكذّبه، تكذيباً مُعلناً بلسانك، وهذا قلّما يكون، أو تكذيباً سلوكياً ضِمْنِيَّاً، وهذا أخطر أنواع التكذيب، (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .

3 ـ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وانحرفوا عن جادة الصواب، ولم يعملوا بكتاب ربِّهم ولا بسُنّة نبيهم، هُم ظالمون.

 قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ


ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(6)﴾

[ سورة الجمعة ]

 1 ـ الدعوى باللسان سهلة يسيرة:

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى       وليلى لا تقرُّ لهم وِصالاً

[ أبو العتاهية ]

الدعوى سهلة، زعم اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾

[ سورة المائدة ]

هذه دعواهم.

﴿ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾

[ سورة البقرة  ]

إخواننا الكرام، كل إنسانٍ بإمكانه أن يدَّعي ما يشاء، أنت لك أن تقول: هذه الشام كلها ملكي، بكل أحيائها، وأبنيتها، وبيوتها، وأسواقها، لكن أين الدليل؟ نُريد الدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إذا أعفيتموني من الدليل أقول لكم: كل الشام ملكي، بكل بيوتها، وكل أبنيتها، وكل أسواقها التجارية، كلها ملكي، بلا دليل، لذلك القضية من دون دليل سهلة جداً، كلٌ يدعي أنه حبيب الله، وأنه مؤمن كبير، وأنه عالم جليل، هُناك أَدِلَّة.
لمّا ربنا عزَّ وجل ما قبل من أي إنسان أن يدَّعي حبه إلا بالدليل؟ قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)
فهؤلاء الذين هادوا، قال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ)  إن زعمتم أنكم أحباب الله، أحبابه، الحبيب يشتاق إلى حبيبه، هذه بديهية، فالإنسان إذا أَحَبَّ فتاةً، ونوى أن يتزوَّجها يتمنَّى أن يلتقي بها، وهذا شيء بسيط جداً من أبسط مبادئ الحُب، أن تتمنى أن تكون مع محبوبك، فإن زعمتم أنكم أحباب الله، (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) .

 2 ـ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ

الحقيقة موضوع تمنِّي الموت هذا كاشف دقيق جداً، فالذي يتمنى الموت هو الذي على صلةٍ طيبةٍ بربه، يتمنى لقاءه.

(( مَن أحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ أحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ.قالَتْ عائِشَةُ أوْ بَعْضُ أزْواجِهِ: إنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قالَ: ليسَ ذاكِ، ولَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ برِضْوانِ اللَّهِ وكَرامَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ فأحَبَّ لِقاءَ اللَّهِ، وأَحَبَّ اللَّهُ لِقاءَهُ، وإنَّ الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّرَ بعَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ، فليسَ شَيءٌ أكْرَهَ إلَيْهِ ممَّا أمامَهُ؛ كَرِهَ لِقاءَ اللَّهِ، وكَرِهَ اللَّهُ لِقاءَهُ. ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

لو قرأتم تاريخ الصحابة الكرام لوجدتم أن في حياتهم قاسماً واحداً مشتركاً، ألا وهو: أنه ما من صحابيٍ جليل إلا وكان في أسعد لحظات حياته عند دنوِّ أجله،"واكربتاه يا أبتِ، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة مُحمداً وصحبه" وهذه علامة صحة العمل.
إذا كان الإنسان لا يحتمل ذكر الموت، لا يحتمل منظر القبر، لا يحتمل مرضاً خطيراً، لا يحتمل نعياً، لا يحتمل أن يسمع قرآناً يُتْلى في تعزية، ينخلع قلبه، معنى هذا أن هذه مشكلة كبيرة جداً، وفي عمله خلل كبير، هذا مصير كل حيّ، لذلك علامة صحة العمل عدم الخوف من الموت، وعلامة سوء العمل الفزَع من الموت، هذه آية قرآنية، ودليل قرآني، (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) .
هناك بعض القواعد، مثلاً: ما الذي يُفرحك؟ أن تأخذ المال أم أن تُعطيَهُ؟ إذا كان يُفرِحك أن تأخذ المال فأنت من أهل الدنيا، أمّا إذا كان يُفرِحك أن تُعطيَهُ في سبيل الله فأنت من أهل الآخرة، إذا كان الموت يَخْلَع قلب الإنسان، أو لوازم الموت، أو مُقدِّمات الموت، ولا يُطيق سماعها، ولا النظر إليها فهذه علامة غير مُرضية، معنى ذلك أن العمل سيئ،أمّا إذا كان لقاء الله مُحبباً إليك فهذه علامةٌ طيبةٌ جداً، هذا مقياس قرآني، فكل واحد يعرف نفسه، النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: 

(( أَكثروا ذِكرَ هاذمِ اللَّذَّات. يعني الموتَ ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه ]

الإنسان يتصوَّر أنه إذا مات أين سيُدفن؟ أين سَيُغَسَّل؟ ما مصير أهله بعده؟ هذه خواطر مفيدة جداً، لأنها تضع الإنسان في حجمه الحقيقي، يا ترى دخله سليم؟ كَسبه سليم؟ علاقاته سليمة؟ إنفاقه سليم؟ بيته إسلامي؟ عمله إسلامي؟ البضاعة التي يتعامل بها مُحرَّمة أم حلال، هذا كله يبدو في الموت، وفي التفكر بالموت.

وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ


﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(6)وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)﴾

[  سورة الجمعة  ]

﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)﴾

[ سورة البقرة ]

أعرف رجلاً، أو قرأت عنه، أنه ما ركب طائرةً في حياته خشية الموت، ضبط طعامه وشرابه بشكل مذهل، وعاش عمراً مديداً، ثم مات، وهذا مصير كل حي، فلذلك موضوع الموت موضوع مركزي، وكلنا:

﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)﴾

[  سورة الزمر  ]

 

لابُدَّ من الاستعداد للموت:


لا يستطيع أحدٌ أن يُنكِر الموت، إلا أن الناس يتفاوتون في الاستعداد له، الاستعداد له بالتوبة، الاستعداد له بالعمل الصالح، الاستعداد له بالدعوة إلى الله، الاستعداد له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاستعداد له بإقامة الإسلام في البيت وفي العمل، بهذا نستعد للموت.
الموت أيُّها الإخوة له هدفان إيجابيان، لو أنك تركب مركبة على طريقٍ مستقيم، وعلى اليمين والشمال واديان سحيقان، ما الخطر الذي يتهدد هذه المركبة؟ أن تنحرف إلى أحد الواديين، أو أن يحترق محركها فتقف، فإمّا الوقوف، وإمّا الانهيار، مهمة الموت في حياة المؤمن أنه يَحول بينك وبين أن تعصي الله، التفكُّر في الموت يَحول بينك وبين أن تقف، يدفعك إلى الله، ويحميك من الانزلاق في المعاصي، لذلك النبي الكريم قال: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) .
فالإنسان المؤمن يتفكر في الموت، ولا يخشى الموت، لأنه مصير كل إنسان، فهذا الذي يخاف الموت، ويبتعد عن كل مسبباته، وعن كل لوازمه، ولا يطيق سماعه، ولا سماع أوصافه، هذا كالنعامة تغرس رأسها في الرمل والعدو لاحقٌ بها، فلذلك البطولة لا أن أبتعد عن ذكر الموت، أن أُفكِّر في الموت كثيراً، وأن أستقيم على أمر الله كثيراً، لذلك: (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) لأنهم ظالمون لا يتمنونه، ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم.
أمّا هذه الآية:

﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)﴾

[  سورة الجمعة ]


 قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ


 الموت مصير كل حي:

تصوَّر إنساناً يخاف من عدوٍ شرِس، فهو يركض والعدو وراءه، وكل يقينه أنه وراءه، فإذا فوجِئ أنه أمامه!!
حدثني شخص عن رجلٍ أُصيب بأزمةٍ قلبية، فرأى الموت يأتيه من قلبه، فاعتنى عناية تفوق حد الخيال، الطعام المُقنَّن، والرياضة، والعناية، والراحة التامَّة، والبُعد عن المشكلات، حسب تعليمات الطبيب، وهو لا ينتظر الموت إلا من قلبه، جاء صهره من بلدٍ نفطي، ومعه سيارة فخمة، أخذه إلى نزهة إلى منطقة الزبداني، وفي طريق العودة وقع حادثٌ أليم أودى بحياته، هو ينتظر الموت من أين؟ من قلبه، فإذا هو بحادث لم يكن يتوقَّعه، (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)  تظنّه وراء ظهرك، وأنت هاربٌ منه قد تفاجأ أنه أمامك. 

من لم يمُت بالسيف مات بغيره      تنوَّعت الأسباب والموت واحد

[ ابن نباتة السعدي ]

***

الموت مصير كل حي، الإنسان مهما أخذ الحيطة

كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى     إلا ذو العــــــزة والجبــــــروت

والــلـيــل مــهــمـا طــال      فــلابـُـدّ مـــن طــلـوع الفـجـــر

والـعــمــر مـهـمــا طــال      فـلابُــدّ مـــن نـــزول الــقــبـــر

[ صالح بن محمد بن عبد الله ]

***


كل ابن أنثى وإن طالت سلامته       يوماً على آلةٍ حدباء محمول

فإذا حَملت إلى القبــور جنــازةً       فاعـلم بأنـك بعدهــا محمـول

[ كعب بن زهير ]

***

خواطر الموت مفيدة جداً، أنَّ هذا البيت بعد أن أموت سيبيعونه أم لا؟ هذا مصير كل حي، هذا المحل بعد وفاة الإنسان ماذا سيكون مصيره؟ الإنسان يُفكِر في الموت حتى يُخفِّف تعلّقه بالدنيا. 
سموه النزاع، النَزع يعني شيء رابص بشيء.

﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾

[ سورة آل عمران ]

الزحزحة أي شيء ثقيل جداً، (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ، ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

 ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ


 1 ـ لابُدَّ من التفكر فيما بعد الموت:

أي أنَّ هذا الذي لا يُفكِر في الموت كما قلت قبل قليل، كالنعامة تماماً، فلابُدَّ من العودة إلى الله، ولابُدَّ من أن نُحاسَب على أعمالنا صغيرها وكبيرها

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[  سورة الحجر ]

أين قوله تعالى: 

﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾

[  سورة الزلزلة  ]

هناك قصةٌ رمزية: أنَّ رجلاً من كبار الأغنياء وافته المنيَّة، أولاده من شدة خوفهم على مصيره في القبر، دفعوا لأحد الفقراء المُعدمين مبلغاً كبيراً جداً لينام معه أول ليلةٍ في قبره، لأنه قد ورد في بعض الأحاديث أن أصعب ليلة هي أول ليلة، يقول الله عزَّ وجل لعبده:
"عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت" ، فهذا الفقير المُعدم يرتدي كيساً من الخيش، ورابطه بحبل، فنزل في القبر، وهذه قصةٌ رمزية، جاء الملكان، فرأيا اثنين، شيء جديد،فتحرك، فقالوا لبعضهما: لنبدأ بالحي، أجلسوه وسألوه: من أين هذا الحبل؟ فأجاب: والله أخذتها من بستان، فسألوه: كيف دخلت إلى البستان؟ ضربوه، كيف دخلت إلى البستان؟ هل استأذنت صاحبه؟ هذا صباحاً خرج وهو يصيح ويستريح، ويقول: الله يعين أباكم.
موضوع الموت أمرٌ كبيرٌ جداً، فراقب، احضر تعزية في بيت فخم، وانظر إلى أين مصير صاحبه اليوم؟ بيت بمساحة أربعمائة متر، ثمنه خمسون مليوناً، أين مصير صاحبه اليوم مساءً؟ في المقبرة، ماذا يوجد داخل القبر؟ ظلامٌ دامس، وحساب دقيق عن كل كلمة.
السيدة عائشة قالت للنبي عن صفية أنها قصيرة.

(( حَكيتُ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا فقالَ ما يسرُّني أنِّي حَكيتُ رجلًا وأنَّ لي كذا وَكذا قالَت فقلتُ يا رسولَ اللَّهِ إنَّ صفيَّةَ امرأةٌ وقالَت بيدِها هَكذا كأنَّها تعني قصيرةً فقالَ لقد مزَحتِ بِكلمةٍ لو مَزجتِ بِها ماءَ البحرِ لَمُزجَ ))

[ أخرجه الترمذي ]

الآن أين هي كلمة قصيرة، يتكلمون في عرضها ولا يبالون، سهرة كلها غيبة ونميمة، أو مسلسلات مُنحطّة، أو لعب بالنَرد إلى الساعة الواحدة ليلاً، وكسب مال حرام ونزهات مختلطة، المعاصي كلها موجودة، والموت مثل النعامة تماماً، لذلك:

(( مَن عدَّ غدًا مِن أجَلِهِ فقد أساءَ صُحبةَ الموتِ ))

[ أخرجه البيهقي ]

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

 2 ـ إذا ذكر الموت في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله:

لذلك النبي عَلَّمنا أن نفكر بالموت كل يوم، ويا إخواننا الكرام،الموت له ميزة،

(( أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذاتِ يعني الموتَ فإنَّهُ ما كان في كثيرٍ إلا قلَّلَهُ ولا قليلٍ إلا جزَّاهُ ))

[ أخرجه البيهقي والطبراني ]

 ما ذُكر في كثيرٍ إلا قلله، واحد مات من مدة وترك ألفين مليون، في خلال ثانية أصبح خبراً على الجدران، انتهى، يا ترى في الكفن هل يوجد جيب؟ هل يوضع دفتر شيكات في الكفن؟  هل القبر خمس نجوم؟ لا يوجد خمس نجوم، في الحياة خمس نجوم، فلذلك موضوع الموت أخطر ما فيه أن الإنسان بغفلة عنه أحياناً، أمّا إذا أكثر الإنسان من ذِكره استقام على أمر الله.
الشيء الذي يلفِت النظر أن الإنسان تنمو حياته درجة درجة، يقول لك: إلى أن أخذت هذا البيت خرجت عيوني بالطول والعرض، وبيت قبو، وشمالي، بعد ذلك قام بتوسعته، تنمو حياته درجة درجة، يأتي مَلَك الموت يُخلِّصه كل ما يملِك في ثانية واحدة، انتهى كل شيء، حتى مُقتنياته الشخصية تؤخذ، فلا يوجد أحد إلا ولديه درج خاص له يضع فيه أشياء ومقتنيات، هذا بعد الموت كله يُفتح ويؤخذ ويُستهلك، وينتهي الأمر.
فيا أيُّها الإخوة،التفكر بالموت من العبادة ، فالموت (ما كان في كثيرٍ إلا قلَّلَهُ) بالعكس، وما ذُكِر في قليلٍ، (ولا قليلٍ إلا جزَّاهُ)  إذا كانت حياة الإنسان خشنة، دخله محدود، لكنه مستقيم على أمر الله، هذا مَلِك.

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِين(61)﴾

[ سورة القصص  ]


 خاتمة:


إذا كانت حياة الإنسان خشنة، وكان مستقيماً، وذكر الموت كَثَّرَ الله أمله، وجعله في أعلى عليين، إذا كان في بحبوحة كبيرة جداً، لكن غير صحيحة، وذكر الموت هذا الشيء قلَّ في عينه، الفراعنة الموت كان مُرعباً بالنسبة لهم، يعتقدون وهماً أنَّ هناك حياة بعد الموت، فإذا ذهبت إلى أهراماتهم وجدت العجب العُجاب، مركبات، الآن هناك خبز في الأهرامات من ستة آلاف عام، وقطع لحم قديد من ستة آلاف عام، لأنَّهم يحبون الحياة، ويكرهون الموت، اعتقدوا واهمين أن هناك حياةً بعد الموت، لذلك اعتنوا بها كثيراً، كل حضاراتهم في القبور موجودة، مركبات، الذهب الذي يُزينون به أنفسهم بعد الموت لا يُصدَّق، الفضة، التُحَف، المُقتنيات، المركبات، الطعام، الشراب، الخبز، اللحم، الألبسة، الأحذية، كله موجود في القبر، لأن الإنسان يتمنى أن يعيش إلى أبد الآبدين، أمّا إذا عرف الله، وعرف منهجه كان الموت نقطة تحوّل من حياة إلى حياة.
تجد الطفل يعيش في رحم أمه تسعة أشهر، وحجم الرحم أعتقد سبعمائة وخمسون سنتيمتر مكعب، وبعد أن يولَد يضعونه في غرفة كبيرة، والبيت مائتا متر، ويأخذونه إلى حلب، واللاذقية، وإلى المصايف، وإلى أمريكا واليابان، و يصعد إلى القمر أيضاً، فالإنسان عندما يولَد ينتقل من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، أمّا إذا مات المؤمن فينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، فلذلك عندما يعمل الإنسان للدار الآخرة يكون أعقل العقلاء، "أرجحكم عقلاً أشدّكم لله حُبّاً" ، كل إنسان يُحبّ، إلا أنَّ المؤمن عرف كيف يختار مَن يُحبّ، اختار الله.

(( عن عمرَ بنَ الخطَّابِ قال : أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يومًا أن نتصدَّقَ ، فوافقَ ذلِكَ مالًا عندي ، فقلتُ : اليومَ أسبِقُ أبا بَكْرٍ إن سبقتُهُ يومًا ، فَجِئْتُ بنصفِ مالي ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : ما أبقيتَ لأَهْلِكَ ؟ ، قلتُ : مثلَهُ ، قالَ : وأتى أبو بَكْرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ بِكُلِّ ما عندَهُ ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ ؟ قالَ : أبقَيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ ، قلتُ : لا أسابقُكَ إلى شيءٍ أبدًا  ))

[ أخرجه أبو داوود والترمذي ]

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) .

الملف مدقق

والحمد لله ربِّ العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور