الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
مع الدرس الرابع والخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الواحدة والثمانين بعد المئة.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
أيها الإخوة، قال تعالى:
﴿ لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (181)﴾
اليهود توهّموا أن الله فقير فطلب القرض:
هذه مقالة قالها اليهود حينما أمرهم الله أن يتصدقوا، توهموا أن الله فقير، وهم أغنياء، قال تعالى: ﴿سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ﴾
مراقبة الله أعلى مستويات الإيمان:
أولاً: إن أعظم مستوًى من مستويات الإيمان أن تشعر أن الله معك، وأن الله عليمٌ بما في نفسك، سميعٌ لقولك، يرى حركتك، ويسمع كلامك، ويعلم ما في قلبك، حينما قال الله عز وجل:
﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا(12)﴾
الكون يدل على الله الخالق المسيّر:
هذه الآية عجيبة، علة خلق السماوات والأرض بالنسبة للإنسان: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓاْ﴾ معنى ذلك أن هذا الكون العظيم مهمته أن يعرِّفك بالله، العين لا ترى الله، ولكن العقل يراه، فهذا الكون فيه أسماء الله الحسنى، وفيه صفاته الفضلى تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى، ومظهرٌ لها، فأنت إنْ أعملتَ عقلك في الكون توصلت إلى خالق هذا الكون، من الخَلق إلى الخالق، من التسيير للمسيِّر، من النعمة للمنعم، من النظام للمنظِّم، من الحكمة للحكيم، هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، المؤمن مع المنعم خَلق النعمة إلى المنعم.
لكن الكافر مع النعمة فقط يتذوقها، ويقتنصها، ويستمتع بها، لكنه حُجِب عن المنعِم، الكافر مع النظام، لكن لم يخرق هذا النظام إلى المُنظِّم، وبطولة الإنسان كلُّها أن يخرق النظام إلى المنظِّم، والحكمة إلى الحكيم، والخَلق إلى الخالق، والجمال إلى الجميل، إلى مبدع الجمال.
حينما تتأمل وردة فواحة عطرة جميلة فيها ألوان تأخذ بالألباب ينبغي أن تنتقل منها إلى الجميل، القضية كلها أن تعبر هذا الكون إلى مُكوِّنه، وأن تعبر هذا النظام إلى منظِّمه، وأن تنتقل من النعمة إلى المنعم: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓاْ﴾
علمُك بأن الله يعلم يجعلك منضبطًا:
من أجل أن تعلموا ﴿أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا﴾ حينما تعلم أنّ الله يعلم يُنفَى الشر في الأرض، هل تستطيع أن تفعل شيئاً أمام مسؤول عن الأمن؟ لا تستطيع، فحينما تعلم أن الله يعلم هل تقتل طفلاً؟ هل تهدم بيتاً؟ هل تسرق مالاً؟ هل تحتال على مسلم؟ مستحيل.
كأنني أقول: إن كل أخطاء الناس سببها أنك لا تعلم أن الله يعلم، وأن كل الانضباط الذي نطمح إليه، الانضباط القولي، والعملي، والانضباط في كسب المال، وفي إنفاق المال، وفي ممارسة الشهوات التي سمح الله لنا بها، لا يمكن أن ننضبط إلا إذا علمنا أن الله يعلم، وهناك آية أخرى:
﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَٰٓئِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(97)﴾
فحينما تعلم أن الله يعلم صار هناك انضباط ذاتي، لأن أي إنسان في الأرض لا يمكن أن يقترف مخالفة أمام مَن بيده أن يعاقبه عليها.
هناك مثال بسيط جداً: لن تعبر الإشارة الحمراء في رابِعَةِ النهار، والشرطي واقف، ومعه كتاب الضبوط، لن تستطيع، لكنك تعبرها في الليل الساعة الثالثة، لأن واضع النظام غير موجود، واضع النظام يمثله هذا الشرطي، أما في الساعة الثالثة ليلاً فواضع النظام ليس له عينٌ يراك بها، إذاً تعبر هذه الإشارة، أو أن تكون أقوى منه فلا تعبأ بنظامه.
متى ينضبط الإنسان بشكل علمي؟ ينضبط حينما يعلم أن الله يعلم، وأنه سيحاسب، وأنه سيعاقب، والله الذي لا إله إلا هو، أي انضباط آخر مُتوهَّم، يقول لك: وازع داخلي، ضمير مسلكي، تربية بيتية، كله كلام فارغ، ما لم تعلم أن الله يعلم، وما لم تعلم أن الله سيعاقب لا يمكن أن تنضبط.
بالمناسبة تنضبط مع إنسان من جلدتك من جنسك، قد يكون أصغر منك سنًّا، لكنه أقوى منك، أنت حينما ترى أن هذا الذي تخالفه يعلم وسيعاقب، مَن يجرؤ مِن التجار على أن يخفي من حساباته صفقة خارجية؟ لا أحد، لأن هذه الصفقة الخارجية تأتي نسخة منها إلى المالية، فإذا أغفلتها أُهدِرَت حساباتك، وكُلِّفت بضريبة فوق طاقتك، وأيّ تاجر حينما يعلم أنّ هذه الصفقة الخارجية هناك ورقة منها تذهب إلى المالية فلا يمكن أن يُغفِلها من حساباته، وإلا يُعاقَب، فأنت تنضبط مع مخلوق من مثلك، من جنسك، لكنه أقوى منك فكيف بالخالق!
المتفلِّت يتوهمّ أوهاما هي سراب بقيعةٍ يحسبه ماء:
أيها الإخوة الكرام ﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٞ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ﴾ هذا الذي يغش المسلمين كيف يغشهم؟ والله لو علم أنّ الله يعلم، وسوف يدفع الثمن باهظاً من صحته، أو من أولاده، أو من أقرب الناس إليه لمَا فعل ذلك، ما من معصية تُقتَرف في الأرض إلا بسبب توهُّمٍ أن الله لا يعلم، أو يعلم ولا يحاسب، يقول لك: الله غفور رحيم، لا تسعنا إلا رحمته، هذا كلام فارغ، تسعنا رحمته حينما نطيع أمره:
﴿ قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ(53)﴾
تسعنا رحمته إذا أنبنا إليه، وإذا عدنا، وإذا تبنا إليه، وإذا اصطلحنا معه عندئذ تسعنا رحمته، أما إنسان مقيم على معصية، مقيم على مخالفة، مقيم على دخل حرام، مقيم على علاقة مُحرَّمة مع امرأة، مقيم على تفلّت، ويقول: لا تسعنا إلا رحمة الله عز وجل، لا يمكن أن يُستهزَأ بدين الله، وأن تنجو من عقاب الله، هذا استهزاء، لو قال شخص من باب الدعابة: أنا أكسب مالاً حراماً، وأدفع جزءاً منه صدقة، والصدقة بعشرة أمثالها، إذاً أنجو، لا تنجو أبداً.
احذروا الاستهزاء والتلاعب بالدين:
بالمناسبة، قضية دقيقة في الفقه الوقت مناسب جداً أن نبحثها: حينما تقول: أنا إذا حججت بيت الله الحرام ، ما جزاء مَن حجّ دون أن يرتدي ثياب الإحرام؟ عليه هَدي، وإنسان ميسور، وغني كبير قال لك: أنا أقدم عشرة أغنام هَدْياً لارتداء الثياب العادية، لو يدفع مليون رأس غنم فحجّه باطل، أما إذا دخل الميقات خطأً من غير ثياب إحرام فعليه هدي، هذه تُرمَّم.
مثلاً: اتفق فقيران على أن يدفع كل منهما زكاة فطره للآخر، هذا عَبَثٌ بدين الله، كأنهما لم يدفعا شيئاً، لكن ممكن أن تدفع زكاة فطرك، وأنت فقير، وأن تأتيك زكاة فطر دون أن تشعر، أو دون أن تخطط، ودون أن تعلم.
الفكرة لا يمكن أن تُستَباح محارم الله بشيء، قد يحدث أن حاجّاً يحج أول مرة في حياته، ويركب الطائرة أول مرة في حياته، وقد وضع لباس الإحرام في حقائبه الكبيرة، وبعد أن صعد إلى الطائرة، وانطلقت الطائرة إلى بيت الله الحرام أُذيع أن هذا المكان هو ميقات الإحرام، فقال: آتوني بالمناشف، لا يفهم بأن موضوع الحقائب لا يمكن أن تصل إليها في الطائرة، فهي موضوعة في مكان آخر، ماذا حلّ بهذا الحاج؟ دخل الميقات من دون ثياب إحرام، قضية محلولة، عليه هَدي، أو أن يعود إلى الميقات فيُحرِم، أما لو جاء غنيّ، وقال: أنا أدفع ثمن مئة رأس غنم على أن أبقى مرتدياً غير ثياب الإحرام فالحج باطل.
مثل آخر: الواجب في الصلاة إذا تُرِك يُسجَد سجدتين سهواً، أحدهم قال: أنا لن أقعد القعود بين الأربع ركعات، وصلى أربع ركعات متواصلة، ثم سجد للسهو، صلاته باطلة، لو أنه سها هناك سجد للسهو، أما أنه قصد ذلك، وعبَث بدين الله فذلك غير مقبول منه إطلاقاً.
أيها الإخوة، ذكرت هذا الكلام لأنه لا يمكن أن تُستَباح محارم الله بشيء، لا بصدقة، ولا بهَديٍ، ولا بأي عمل، أما إذا وقع الإنسان سهواً، أو غير قاصد فلكل مخالفة كفّارتها، أما أن تُدفَع الكفارات سلفاً تبريراً لانتهاك الحرمات فهذا مستحيل: ﴿لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ﴾
هم ما عرفوا أن الله يسمعهم، أو علموا أن الله يسمعهم، ولكن لا يعاقبهم، والحقيقة نقطتان لا بد منهما: يعلم و يعاقب، الذي نشأ في بلاد إسلامية يعلم أن الله يعلم، لكن يتوهم أنّ الله يعلم لكن لا يعاقب:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
بربك لو أن لكل سيئة عقاباً، لو أنك مؤمن بها إيماناً قطعياً، هل ترتكب سيئة؟
حدثني صديق -توفي رحمه الله- جاء إنسان ليصلح مركبته، مركبة جديدة، فيها خَلل، وهو يجهل دقائقها، فالذي قُدِّمت له هذه المركبة كي يصلحها ذكي جداً، أدركَ أن هذه المركبة جديدة، وأن صاحبها لا يفقه فيها شيئاً، والقضية تُحَلّ في عشر دقائق، طلب منه عشرة آلاف ليرة، فصدّقه، وعده أن يأتيه بعد يومين، هذا الإنسان أول يوم أخذ أهله إلى مكان جميل، وثاني يوم إلى مكان آخر، وصلّحها في دقائق معدودة، وأخذ على تصليحها عشرة آلاف ليرة عدّاً ونقداً، له جار صديق لي عاتبه، قال له: هكذا العمل! أنت إنسان مغفل، أنا أدركت أن هذا الإنسان يجهل دقائق هذه المركبة، وهو حريص على سلامتها، وغني، جاء من بلد خليجي، هو يعلم أنّ الله يعلم، لأنه ناشئ في بلد إسلامي، وهذه من البديهيات، ولكن ظنّه أن الله لا يعاقب، له ابن يعمل في مَخرطة، دخلت نثرة فولاذ في عينه، كلّفته ست عشرة ألف ليرة لبنانية يوم كانت الليرة اللبنانية بمئة وستين قرشاً، أي قريبًا من اثنتين وعشرين ألف ليرة، لو كان يعلم أنّ هذا المال الحرام الذي أخذه سوف يدفعه مضاعفاً ما فعل ذلك، فالقضية قضية علم.
أحدهم ركب مركبته، وجد جرواً صغيراً على طرف طريق المطار، أراد أن يُعبّر عن براعته في القيادة فقطع يديه فقط، دون أن يدهَسه كلّه، وأطلق ضحكة هستيرية، يقسم لي شخص يركب معه في الأسبوع الثاني، وفي المكان نفسه أصاب العجلة خلَل، فوقف ليبدّلها، رفع المركبة بآلة الرفع، وفجأة وقعت المركبة على العجلة، والعجلة على رُسُغَيه فهُرِسَتا، أُخذ إلى المستشفى اسودّت كفاه، ولا بد من قطعهما، يقسم لي وهو حي يرزق، قال لي: والله بعد أسبوع أصبح بلا كفَّين.
حينما يعلم الإنسان أن الله يعلم، وسيعاقب يعد للمليار قبل أن يعصيه، أو قبل أن يعتدي على أحد.
هؤلاء هم الأغبياء فلا تكن مثلهم:
من هم الأغبياء اليوم في العالم؟ والله أغبى أغبياء العالم الآن الذين يدمرون، ويقصفون، ويقتلون، هناك تقدير أن هناك ثلاثمئة إنسان قُتِل ظلماً في بلاد شرق آسيا، ثلاثمئة ألف قُتلوا بالقصف، ولا علاقة لهم بما حدث، من هم الأغبياء؟ هؤلاء الذين يتلذذون بالقتل، وهدم البيوت، وقتل البُرَآء، وقتل الأطفال، هؤلاء يظنون أنهم حققوا مجداً، لو أنهم يعلمون أن الله يعلم وسوف يخلدون في جهنم إلى أبد الآبدين، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ (196) مَتَٰعٌ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (197)﴾
قل:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىٓ ءَامِنًا يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾
هذا تهديد من الله عز وجل، العِبرة أنْ تعلمَ أن الله يعلم، قبل أن تأكل المال الحرام، قبل أن تطالب الإنسان الذي وثق بعلمك بتحليلٍ لا جدوى منه، أو قبل أن تطالبه بتعويض لا يقابله شيء، كم مهنةٍ مبنية على الكذب، والخداع، والمماطلة، وغش المسلمين، والاحتيال عليهم!
هذا الانحراف الشديد في سلوك المسلمين ما سببه؟ انحراف شديد في عقيدتهم، هم لا يعلمون أن الله يعلم، أما حينما تعلم أن الله يعلم ستنضبط.
والله اليوم سمعت أن أحد الورثة، وهو أكبرهم اغتصب المال كله، وحرم إخوته كلَّهم من حصصهم في الميراث، وهو في مقتبل العمر أُصيب بمرض خبيث، وهو الآن على فراش الموت.
حينما تعلم أن الله يعلم تعد للمليون قبل أن تعصيه، قبل أن تظلم إنساناً، قبل أن تكتسب درهماً حراماً، قبل أن تحتال على الناس، قبل أن تبالغ في إيذائهم.
من هو السعيد؟ الذي يعمل عملاً في نفع المسلمين، من هو أشقى الخَلق؟ هو الذي يبني عمله ورزقه على إخافة المسلمين، وعلى ابتزاز أموالهم، وعلى هَتْكِ أعراضهم، هؤلاء الذين يُروِّجون الفسق، والفجور على أي شيء يعيشون؟ على أخلاق الشباب.
لي طالب قديم قال لي: إن له خالاً يملك إحدى دُور السينما في دمشق، قال لي: في مقتبل العمر في الأربعين سنة أصابه مرض عضال، دخل عليه فرآه يبكي، لمَ تبكي يا خالي؟ قال له: جمعت ثروة طائلة كي أستمتع بها في خريف عمري، ها قد عاجلني المرض قبل أن أستمتع بها، هذا بنى هذه الثروة على إفساد أخلاق الشباب، كلما كان الفيلم فيه إثارة أكثر يروج أكثر، ويربح أكثر، كان يبحث عن أفلام فيها إثارة شديدة، يأتيه الشباب يستمتعون بالحرام، وقد تنتهي هذه المشاهدة إلى فعل حرام، أو إلى زنا، أو إلى ما شاكل ذلك.
حينما لا تعلم أن الله يعلم، أو تعلم أن الله يعلم، لكن لا يعاقب، هذا خللٌ خطير في العقيدة، وسوف يدفع الإنسان ثمنه باهظاً، فأخطر شيء في الدين هو أن تستقيم على أمر الله، إنك بالاستقامة تسلم، لكنك بالعمل الصالح تسعد، بالاستقامة تسلم:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِىٓ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍۢ رَّحِيمٍۢ(32)﴾
بالاستقامة تسلم، لكن:
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا (110)﴾
فيا أيها الإخوة، جوهر الدين أن تكون وقّافاً عند كتاب الله، أن تأتَمِر بما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجَر، وأن يكون عملك صالحاً، فالمسلم لا يكذب، ولا يأكل مالاً حراماً، ولا يحتال، ولا يغش، ولا يبتزّ أموال الناس، ولا يُفسِد أخلاقهم، ولا يقبل عملاً مبنيّاً على إيذاء المسلمين، أو إخافتهم، أو ابتزاز أموالهم.
أيها الإخوة، أردت من خلال هذه الآية أن تهتزّ قناعاتنا نحو الأصلح، أي هذا السلوك الإسلامي؛ نؤدي العبادات الشعائرية، وفي أمورنا التعاملية لا نعبأ! هذا كله يؤكده حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ، هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ))
[ مسلم ، الترمذي ، أحمد ]
فالمفلس مَن خالف منهج الله، وأقام شعائر الله، هذا مفلس، فحتى نكسب الوقت والعمر أهم شيء في الدين بعد الإيمان بالله أن تستقيم على أمره، ولا تستقيم على أمره إلا إذا علمت أن الله يعلم، هذا أكبر رادع يردعك عن معصية الله، أن تعلم أن الله يعلم.
هؤلاء: ﴿قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحۡنُ أَغۡنِيَآءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُواْ﴾ هذه مقولة كُتبت عليهم، كم من عملٍ يفعله الإنسان المسلم وهو يرتكب أكبر معصية دون أن يشعر؟
وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
﴿وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقٍّ﴾ هذا من خصائصهم أيضاً: ﴿ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(182)﴾
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
أي :
﴿ وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47)﴾
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)﴾
هذا ملخص الملخص، وهذا هو الدين، هذا الأعرابي الذي امتحنه سيدنا عبد الله بن عمر قال له: <بعني هذه الشاة، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها: ماتت، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله>؟
هذا البدوي الراعي الأعرابي وضع يده على جوهر الدين، ما لم تقل: أين الله؟ ولن أفعل هذا، لأنني أخاف الله، فكل عباداتك الشعائرية لا وزن لها إطلاقاً، ما لم تقل إذا جاءك شيء، أو عرضوا عليك أمراً لا يرضي الله، ما لم تقل حينئذ: إني أخاف الله رب العالمين، لا أفعل هذا، فكل عباداتك الشعائرية لا وزن لها إن لم تستقم على أمر الله.
الملف مدقق