- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني والخمسين من دروس سورة الأنعام، ومع الآية السادسة والعشرين بعد المئة، وهي قوله تعالى :
﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(126) ﴾
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا
على من تعود ﴿هَذَا﴾
الإنسان أيها الإخوة أودعت فيه الشهوات، والشهوات تدعوه إلى الحركة، فإذا كان هناك طريق يمشي عليه سلم، وإن لم يكن هناك طريق شقي، ما دام هناك حركة فالحركة تحتاج إلى طريق، من أين جاءت الحركة ؟ من الشهوات، يجب أن تأكل حفاظاً على الفرد، يجب أن تتزوج دون أن تشعر حفاظاً على النوع، يجب أن تؤكد ذاتك حفاظاً على الِذّكر، فهذه الدوافع الكبيرة في الإنسان تدفعه إلى الحركة، الحركة تحتاج إلى طريق، والعقل هو المقود، الشهوات والدوافع هي المحرك، والعقل هو المقود، والله عز وجل رسم لهذا الإنسان الذي قَبل حمل الأمانة، والذي قال: أنا لها يا رب، والذي كرمه الله عز وجل بأن سخر له :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
هذا الصراط هو القرآن الكريم منهج الله عز وجل .
أيها الإخوة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ
الكون كله في كفة، والقرآن في كفة ثانية، لذلك الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .
إذاً: ﴿وَهَذَا﴾
فالقرآن بآياته الكونية، والتشريعية، والإخبارية، ومشاهد يوم القيامة كلها من أجل أن تكون لك منهجاً قويماً يسير عليه .
حاجة الإنسان إلى منهج
إخواننا الكرام، لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج تسير عليه، والمثل الذي يوضح هذه الحقيقة:
أن آلة غالية جداً، نفعها عظيم جداً، آليتها معقدة جداً، لو اشتريتها ودفعت ثمنها مبلغاً فلكياً، ولم ترسل لك الشركة معها تعليمات التشغيل والصيانة، ما الذي يحصل؟ إن حركتها واستعملتها من دون تعليمات الصانع أفسدتها، وخسرت ثمنها، وإن خفت عليها فلم تستخدمها جمدت ثمنها، أليست هذه التعليمات على أنها كُتيب صغير أثمن من الآلة، وأخطر منها؟ هذا المعنى أشار إليه القرآن الكريم حينما قال :
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) ﴾
أيعقل أن يُعلَّم الإنسان القرآن قبل أن يخلق ؟ ﴿الرَّحْمَنُ﴾
قال العلماء: هذا الترتيب ليس زمنياً، بل هو ترتيب رُتَبي، بمعنى أن وجود الإنسان لا معنى له من دون منهج يسير عليه، ما الذي ترونه في العالم اليوم؟ قتل، تمثيل، نهب، سرقة، سيطرة، عدوان، تفسخ أخلاقي، انحلال، هذه حركة بدافع الشهوات من دون منهج إلهي، الذي ترونه وتسمعونه كل يوم ما يجري في العالم من سقوط، من ظلم، من قهر، من تدمير، من انحراف، من انحلال، هي حركة من دون منهج، لذلك ما من مخلوق في الكون يوصف بالفساد إلا المخلوق الذي أودع الله فيه الشهوات، ومنحه حرية الاختيار، وأعطاه ميزاناً .
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7) ﴾
وأنزل على أنبيائه كتباً، فتحرك بدافع شهواته، من دون منهج الله عز وجل، لذلك قال تعالى :
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ
المعنى المخالف أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه .
يعني الإسلام دين الحياة، الإسلام دين الفطرة، الإسلام دين الواقع، الإسلام من أجل أن تحيا حياة مفعمة بالسلامة والسعادة، من أجل أن تسعد، الإسلام منهج الخالق إلى جنته .
لذلك هذا القرآن بما فيه من آيات كونية، وهي 1300 آية تُعرِّف بالله عز وجل وما فيه من آيات تشريعية، ومن آيات تعاملية، ومن آيات تعبدية، ومن ذكر أخبار الأمم والشعوب السابقة، ومن نقل مشاهد يوم القيامة، هذا القرآن، هذا المنهج، بكلياته وبتفاصيله التي جاءت بها السنة المطهرة :
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
الحكمة:
﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا
﴿وَهَذَا صِرَاطُ﴾
ويا أيها الإخوة، في زمن الانعطافات التاريخية كهذا الزمن الأمور واضحة جداً، الطريق إلى الله سالكة وواضحة، وطريق الشهوات والمصالح والمنازعات طريق آخر ، لذلك :
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ﴾
﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ
بضمير الغائب، يعني إرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله .
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ﴾
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام معصوم، لأنه معصوم أمرنا الله عز وجل أن نأخذ ما آتانا، وأن ننتهي عما عنه نهانا.
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ﴾
﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
السبل المنحنية جاءت جمعاً .
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
جمع ﴿إِلَى النُّورِ﴾
قد يقول قائل: لمَ لم يقول الله عز وجل: يخرجهم من الظلمات إلى الأنوار، أو من الظلمة إلى النور؟
الحق واحد لا يتعدد، أما الباطل لا يعد ولا يحصى، هناك مليار باطل، مليار باطل اعتقادي، مليار باطل سلوكي، مليار باطل عدواني، هناك عدوان على الأراضي، وهناك عدوان على الذات، وهناك عدوان على الممتلكات، وهناك عدوان على الثروات، مليار باطل، لكن الحق واحد
بالمناسبة، يمكن أن تستوعب الحق في عمر معتدل، وإذا استوعبت الحق كان الحق ميزاناً لك:
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾
أنا حينما أمشي على طريق مُعبَّد تسلم مركبتي، أما حينما أهوي بها في أعماق الوديان هناك مليون حالة لتدمير المركبة، بحسب الصخور، بحسب العمق، بحسب، فالتدمير منوع، أما السلامة فواحدة، السلامة حدية، أما التدمير فنسبي .
أحيانا حادث سير قد تتلف مقدمة السيارة، قد يتلف جنبها، جنبها الأيسر، سقفها، عجلاتها، مصدها، أما السيارة السليمة فلها حالة واحدة، كما أخرجها المصنع، فالسلامة حدية، أما العطب فمتنوع تنويعا كثيراً.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
﴿يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾
وهمٌ كبيرٌ في فهم الإسلام
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾
فلذلك هذا الإسلام لا نقطف ثماره إلا إذا أخذناه كله، وأخطر مذهب بالحياة المذهب الانتقائي، أن تأخذ من الإسلام ما يعجبك، قضية عمرة، وركب طائرة، وطواف سبعة أشواط، وتسوق من محلات فخمة جداً، القضية سهلة، أما قضية ضبط الدخل وفق منهج الله، ضبط الإنفاق، ضبط العلاقات.
أيها الإخوة، الإسلام منهج متكامل، إن لم تأخذه كاملاً لا تقطف ثماره أبداً، لأنه كالعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، هذه المشكلة، يريدون الإسلام صلاة فقط، وأعمال تُؤدى في المساجد، أما في البيع والشراء فيه كذب، وفيه تدليس، وغش ، وبضاعة محرم أن تبيعها، بعلاقات اجتماعية منحرفة، هذا شيء كله مرفوض .
إذاً : ﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾
أيها الإخوة الكرام ، بقي آية إن شاء الله سأشرحها ، وربما توسعت في شرحها في الدرس القادم :
﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(127) ﴾
منهج الله ضمان لدار السلام ومخالفته وقوع في المخاوف
هذا الذي مشى على طريق الاستقامة، هذا الذي ضبط حركته وفق منهج الله، هذا الذي أدى ما عليه، هذا الذي ائتمر بما أمر الله، وانتهى عما عنه الله نهى ماذا له؟ يتصور الناس أن المسلم محروم، بسيط، أفقه محدود، لم يستمتع بمباهج الحياة، المسلم ينتظر وعد الله عز وجل لجنة عرضها السماوات والأرض .
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾
الدنيا دار عمل وتعب
غير معقول أن يصبح مقعد الدراسة سريراً، الطالب تعب، يعمل حركة يريد أن ينام، غير معقول أن يكون أمام الطالب شاشة، ومذياع، ومجلات، وموالح، وفواكه، وسندويش مسخن، هذه ليست مدرسة! المقعد بالمدرسة مقعد زاوية قائمة خشب، أما لما يأخذ شهادة عليا يحقق أعلى المراتب، يشتري بيتاً ويخصِّص غرفة جلوس رائعة جداً، هذه متى وقتها ؟ بعد التخرج .
الآن الناس أرادوا أن يستبقوا الأمر، وهو في الدنيا يريد المتعة، يأتي الموت فجأة ينسيه كل متع الدنيا، الموت يأتي بغتة .
فيا أيها الإخوة، الإنسان يحب الاستقرار، أما إذا علم أن الدنيا دار عمل ليست دار أمل، دار تكليف ليست دار تشريف، دار سعي وليست دار راحة، هذا الذي يكون فقيهاً، هذه الدنيا دار عمل، لذلك :
(( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء ))
قد تجد المنحرفين يتمتعون بثروات طائلة، من يملك أكبر الثروات؟ تجار المخدرات، الذين يبنون هذه الثروات على أنقاض الشباب، وأنقاض الشابات، الدنيا هي أحقر من أن تكون عطاء لإنسان، أو عقاباً لإنسان .
(( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ))
إذاً الدنيا دار عمل، فأنت في الدنيا تحتاج إلى ما يقيم صلاحك، مأوى، زوجة، دخل، هذا أقصى ما في الدنيا .
(( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا ))
هذه الدنيا، لذلك يتنافسون عليها، ثم يأتي الموت بغتة، فالذي جمعوه في عمر مديد يخسرونه في ثانية واحدة .
توفي رجل أقام في بلد نفطي 35 عاماً لم يؤدِّ فرض صلاة، وأقام في بلد الحرمين لم يعتمر، ولم يحج، ولم يصلِّ، وهو في قضاء إجازة في تركيا وافته المنية في الفندق عن 55 سنة، ترك أربعة آلاف مليون، جمعها كل يوم بجهد، بضبط، خسرها في ثانية واحدة، هذه الدنيا !
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
***
أهمية معرفة حقيقة الحياة الدنيا
فيا أيها الإخوة، من الخطورة بمكان أن تعرف حقيقة الحياة الدنيا، يجب أن تعرف حقيقة الكون، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الإنسان، هي دار عمل، لذلك العبرة أن تكون معافىً في جسمك، لك مأوى تؤوي إليه، عندك قوت يومك، لذلك سأل ملِك وزيره: مَن الملك؟ قال له: أنت، قال: له لا، الملك رجل لا نعرفه، ولا يعرفنا، له بيت يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه، لذلك حينما تضع يدك على حقيقة الدنيا تكون أسعد الناس بها، وقد ورد في الأثر إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها. ومما ورد في الأثر:
" وعزتي وجلالي خلقت لك ما في السماوات وما في الأرض ، ولم أعَي بخلقهن أفيعيني رغيف أسوقه لك كل حين ؟ لي عليك فريضة ، ولك علي رزق فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد"
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ
لك هدف كبير، أنت حينما تحقق هدفك تسمو عند الله وعند الناس، إذاً هذا الذي طبق منهج الله ، هذا الذي ائتمر بما أمر الله، وانتهى عما عنه الله نهى وزجر، ماذا له عند الله ؟ قال :
معنى السلامة في الدار الآخرة
﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ ﴾
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ :فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))
﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
أي شيء تتمناه هو أمامك، نحن خلقنا لهذه الجنة، هذا هو العطاء الإلهي، لا يليق لعطاء الله أن يكون منقطعاً، الدنيا منقطعة بالموت، سبحان من قهر عباده بالموت .
يكون على رأس بلد فيه أكبر مخزون نفطي بالعالم مَلِكٌ فيموت ويدفن بالتراب، أليست هذه موعظة ؟
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾
يعني بالضبط لو أن مريضاً معه ورم خبيث بالأمعاء، وسأل الطبيب سؤالاً أديباً: ماذا آكل؟ يقول له: كل ما تشاء، لأنه لا أمل له، كل ما تشاء .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
لكن مريضاً معه التهاب معدة حاد يعطيه الطبيب قائمة محدودة من الطعام، فإذا تجاوزها أقام عليه الدنيا، ولا مادة حارة، ولا مادة حريفة، لأن ثمة أملاً بالشفاء .
أسأل الله أن نكون نحن المسلمين في عناية الله المشددة، مع كل هذه الشدة والضغوط، وما نعاني ما نعاني أن نكون في عناية مشددة، لا أن نكون كالذين شردوا عن الله عز وجل، فأعطاهم الله الدنيا كما يشاؤون ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ
جئنا إلى الأرض، وفي الأرض تعرفنا إلى الله، في الأرض صلينا، صمنا، حججنا، زكينا، غضضنا بصرنا، تكلمنا بلسان صادق، أتينا إلى دروس العلم، قرأنا القرآن، طبقنا منهج الله، تزوجنا، ولم نزنِ، عملنا ولم نسرق، هذا الذي له مرجع، له منهج، له رب، إنسان سليم وسعيد
لو أن طالباً كان بجامعة، والجامعة بدولة نامية، بناء قديم، ومدرسون متعبون جداً، ومناهج صعبة، ودراسات ، قضى سبع سنوات مات فيها مئة موتة ، ثم نال الدكتوراه ، وصار طبيباً لامعاً، والله عز وجل أكرمه بدخل واسع، فكل ما مر أمام الجامعة يقول: لولا هذه الجامعة لما كنت بهذا الحال، للتقريب، لولا هذه الجامعة، الدوام المتعب، 12 ساعة باليوم، أساتذة متعبون، طلبات غير معقولة، وظائف صعبة ، امتحان قاسٍ، لولا هذا البناء وهذه الجامعة التي أمضيت فيها سبع سنوات ما كنت بهذا الحال ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ﴾
﴿ نَتَبَوَّأُ﴾
الموت عرس المؤمن
لذلك إذا رأى الإنسان مكانه في الجنة عندما يأتيه ملك الموت يقول: لم أرَ شراً قط .
(( " واكربتاه يا أبت، قال لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه " . ))
كل بطولة المؤمن أن يكون الموت عنده عرساً، لا أن يكون أكبر مصيبة.
إخواننا الكرام، أهل الدنيا قبل الموت إذا كان يشكو أمراً في القلب ينهار انهيارا كلياً، كل دنياه، وكل ماله انتهى، أليس كذلك؟ الذين يملكون المليارات أي شعور أنه في قلبه شيئاً، تسرعاً بالنبض، ينخلع قلبه خوفاً، لماذا ؟ لأن هذا مؤشر بالمغادرة، أما المؤمن فقال تعالى :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
فأنت كل بطولتك أن تجعل من الموت عرساً لا مصيبة .
أوضح مثل: ذكرته كثيراً أن واحداً جاءه عرض، اِئتِ بدكتوراه من البلد الفلاني، ونجعلك في أعلى منصب، وأجمل بيت بأرقى حي، و لك أجمل بيت في أرقى مصيف، وأجمل بيت في أرقى ساحل، ودخل فلكي وزوجة جميلة، وسيارة فارهة، ويخت، فقط هات دكتوراه، هو فقير، ذهب إلى هناك اشتغل بالمطاعم لتنظيف الصحون، واشتغل حارساً، ودرس 7 سنوات، مات باليوم مئة موتة، وأخذ الدكتوراه، وأخذ الشهادة، وصدقها، وقطع تذكرة العودة، ودخل إلى المطار وقدم الجواز، وأعطوه بطاقة الصعود إلى الطائرة، وتوجه إلى الطائرة، ووضع رجله في سلم الطائرة، أليست هذه أعظم لحظة في حياته ؟ هذا يوم فاصل، انقضى عهد التعب والدراسة والحراسة، وتنظيف الصحون، وجاء عهد المنصب الرفيع، والبيت الفخم، والمركبة الفارهة، بحسب مقاييس الأرض، هكذا الموت، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن ، أما بالعكس أهل الدنيا المنحرفون بوادر الموت أكبر مصيبة .
كنت مرة عند طبيب قلب فجاءه هاتف من إنسان يملك مليارات، قال له: أي مكان بالعالم خذني إليه، أي مبلغ أدفعه، قال له: والله لا أمل، ورم من الدرجة الخامسة ، انتهى .
فأنت كن عاقلاً، وإياك أن تمشي مع الله بطريق مسدود .
ارتكب أحدهم جريمة قتل، وأخذ إلى السجن، ثم حوكم بمحكمة الجنايات، ثم صدر الحكم بإعدامه، ثم نُقض الحكم رُفع الحكم إلى محكمة النقض، محكمة النقض صدقت النقض إلى محكمة الجنايات، رُفع الأمر إلى القصر الجمهوري، فوافق الرئيس على إعدامه، وسيق إلى المشنقة، وصل لطريق مسدود، إنْ أراد أن يبكي فليبكِ، سيُشنق، يريد أن يضحك فليضحك، يحب أن يتوسل فليتوسل، لا أمل .
يذكر لي بعض الإخوة الكرام مما يشهدون نهاية إنسان أنواعاً لكن كل هذه المواقف المختلفة تنتهي بالموت .
إن الإنسان مشى إلى طريق مسدود، فإياك أن تمشي بطريق مسدود، انتبه، وكلما بكرت بالتوبة أفضل، وكل ما عرفت الله وأنت شاب أفضل، لأن من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة، كن واعياً، إياك أن تأخذك الحياة، الآن الدنيا ترقص بالشهوات، أينما نظرت ترى المرأة في أبهج صورة، بكل مكان، بالطريق، بالمجلة، بالانترنيت، بالفضائية ، بكل مكان، بالكتب، بالهاتف، كل شيء فيه، لكن أين الله عز وجل ؟ لذلك ما من شيء أحب إلى الله تعالى من شاب تائب .
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) ﴾
فيا أيها الإخوة، نحن في عصر الفتن، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، والدنيا ترقص، ضغوط، مناظر دماء، وقتل، وتمثيل، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، هكذا الدنيا، الجانب الأسود لا يحتمل، والجانب الآخر بأبهى زينة ، وأنت مخير ، فلك أنت تختار، لكن والله أيها الإخوة :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46) ﴾
جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هي جنة القرب، والدليل :
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)﴾
في الدنيا، ذاقوا طعمها، يعني المؤمن يذوق سعادة لا توصف، والله لا أبالغ، والله لا أقول ما ليس واقعاً، المؤمن لأنه استقام على أمر الله، واصطلح معه، وأقبل عليه، وطبق أمره، وتقرب إليه، واستقام على أمره، وخدم خلقه، والله فيه سعادة لو وُزّعت على أهل بلد لكفتهم، هذا هو المؤمن .
أيها الإخوة الكرام، هذا الذي مشى على صراط الله المستقيم، ضبط شهواته، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، ضبط علاقاته، ضبط زواجه، ضبط بناته ، ضبط أولاده .
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾
كل متاعب الدنيا تنتهي، الدنيا كلها متاعب، دخل جيد، الزوجة سيئة، الآن الزوجة جيدة، دخل قليل، دخل وزوجة ممتازان، أولاد سيئون، أولاد جيدون هناك مرض، ما من إنسان ناجٍ، كل واحد عنده نقطة ضعف، لأن الله من محبته لنا ما أرادنا أن نركن إلى الدنيا، يعني دائماً الإنسان ما ليس في دنياه تمام .
فالبطولة أن تلتزم منهج الله عز وجل، وأن تنتظر وعد الله عز وجل لك الإكرام .
بين التولي والتخلِّي
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ﴾
(( كل ميسر لما خلق له ))
خلق للجنة، هذا الطريق إلى الجنة قد يكون أساسه خوف، هذا الطريق إلى الجنة أساسه مرض، الإنسان قد يتألق بعد المرض تألقاً غير طبيعي، المرض كان مفتاح الجنة، أحيانا الفقر، فقير تجد ما له غير الله عز وجل، الله يغنيه بعد هذا، فأنت لما تؤمن بالله كل شيء أصابك خير، اقبله، والله عز وجل قال :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ
هم هم ، وفيهم رسول الله، في حنين قالوا : نحن كثر :
(( لا تغلب اليوم من قلة ))
فتخلى الله عنهم :
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا
تقول: الله يتولاك، تقول: أنا ابن فلان، بعلمي، معي دكتوراه، باختصاصي، لي أتباع كثر، يتخلى عنك .
فهذا الدرس التولي والتخلي، قل: الله، ولا تخف ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
الجنة : حقيقتها والسبيل إلى دخولها
بقيت فكرة الجنة، الجنة محض فضلٍ من الله، والنار محض عدلٍ ، يعني أب قال لابنه انجح ولك هذه الدراجة، كان ماشياً معه بالطريق، ومر على بائع دراجات، و رأى أغلى دراجة، قال له: انجح وسأشتري لك هذه الدراجة، هذا الابن نجح، وأخذ الجلاء إلى بائع الدراجات مباشرة قال له أعطني هذه وهذا الجلاء، يعطيه إياها ؟ أين ثمنها ؟ .
فأنت كل استقامتك بالحياة الدنيا، وكل جهدك، وكل اهتمامك أنت دفعت ثمن مفتاح البيت، البيت ثمنه خمسون مليون، ثمن مفتاحه عشرة ليرات، كل عملك هو ثمن المفتاح، أما البيت فضل من الله، فالجنة فضل، أنت قدمت سبب دخولها لا ثمنها، هناك فرق، أنت قد يكون معك مفتاح ثمنه عشر ليرات، والبيت ثمنه خمسون مليونا، هذا المفتاح سبب دخول البيت، وثمنه خمسون مليونا لا تملكها، فالجنة أنت بكل ما فعلت بالدنيا من تفكر، واستقامة، وصلاة، وصيام، وحج، وزكاة، وغض بصر، واستقامة، دفعت سبب دخول الجنة، وهي فضل من الله عز وجل، لذلك ادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم، درجاتها بحسب عملك، فإذا قال الله عز وجل :
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني أنت لك مرتبة في الجنة بحسب عملك، أما أصل دخولها ففضل من الله، أنت لم تدفع ثمنها، دفعت ثمن سببها، كل أعمالنا في الدنيا هي سبب دخول الجنة، ولكن الجنة فضل من الله عز وجل، والعلماء قالوا: الجنة محض فضل، والنار محض عدل، يؤكد هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لا يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل ))
عملك لا يساوي ثمن الجنة، بل يساوي ثمن مفتاح الجنة .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.