- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
حكم وحدة المسلمين:
أيها الإخوة الكرام، موضوع اليوم، نحن في أمسِّ الحاجة إليه، يمكن أن يندرج تحت الأولويات في الإسلام، ولكن هناك مقدمة لا بد منها:
الشرع كامل وكل قضية لها حكم شرعي:
ذلك لأن كل حركة من حركات المسلم يجب أن تكون مغطاة بحكم شرعي، لأن هذا الشرع كامل وتام، ومعنى تام أي أن التمام عددي، ومعنى كامل أن الكمال نوعي، فجميع القضايا التي عالجها الدين تامة عدداً، وطريقة المعالجة كاملة نوعاً، لذلك أي حركة، أي سكون، أي عطاء، أي منع، أي رضى، أي رفض، أي صلة، أي قطيعة، أي حركة مهما دقت، ومهما جلَّتْ، فلابد من أن يغطيها حكم شرعي بين الفرض، والواجب، والسنة المؤكدة، والسنة غير المؤكدة، والمستحب، والمباح، والمكروه كراهة تنزيهية، والمكروه كراهة تحريمية، والحرام، والسؤال هو:
تحت أي حكم شرعي تندرج وحدة المسلمين ؟
هذا هو موضوع الخطبة، ولابد من مقدمتين:
الأولى: قصة بليغة.
والثانية: مثلٌ بليغ.
المقدمة الأولى: قصة بليغة:
وهي أن مسجداً من مساجد المسلمين، اختلف المصلون فيه حول عدد ركعات صلاة التراويح، اختلفوا وتصايحوا حتى علت أصواتهم، وتلاسنوا وتماسكوا وتضاربوا، رُفِعَ الأمرُ إلى عالمٍ كبير من علماء المسلمين، فأفتى بإغلاق المسجد، لأن وحدة المسلمين فرض، وصلاة التراويح سنة.
المقدمة الثانية: مثل بليغ:
لو أن إنساناً نائماً، وعلى جبينه ذبابة، أيعقل من أجل أن تقتل هذه الذبابة أن ترمي هذا الرجل بصخرة فتسحق رأسه، وتقتله من أجل أن تنقذه من ذبابة ؟
مع أن هذا المثل صارخ في الوضوح، لكن ـ واللهِ ـ أحياناً بعض المؤمنين، من أجل جزئية في الدين دقيقة جداً جداً يضحّي بوحدة المسلمين !
مشكلة فرقة المسلمين وأسبابها التاريخية:
فلذلك، هذه الخطبة تنطلق من معاناة، وهي أن ضعف المسلمين سببه اختلافهم، أنا لا أقول: ينبغي أن نتحد، ونحن على اختلاف خطير في عقائدنا، إننا نختلف، ونتقاتل على جزئيات صغيرة، ربما من أجلها ضحّينا بوحدتنا، فضَعُفْنا، واستطاع العدو أن يصل إلينا بسبب فرقتنا.
أيها الإخوة الكرام، جاء الإسلام والعرب في الجزيرة آنذاك فرق وطوائف لا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، إلا ما كان من دواعي العيش ومطالب الحياة، في صورة لا تعدو وحدة قبلية، وعصبية جاهلية، والتي كانت إلى التفرق والخصام أقرب منها إلى الوحدة والوئام، فألَّفَ الإسلام بين قلوب المسلمين على حقيقة واحدة صارخة، وهي إيمان بإله واحد، وجاءت تعاليم الإسلام ومناهجه تقوّي تلك الرابطة، وتدعم تلك الوحدة بما افترضَ الله عليهم من صلاة وصوم وحج وزكاة، وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين، ودينه القويم، والتحلّي بكل خلق كريم، والتخلّي عن كل خلق ذميم، يقول الله في محكم كتابه:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (*) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
فماذا حصل بعد ذلك ؟
أيها الإخوة الكرام، إن أردت قانوناً جامعاً للعداوة والبغضاء، فهو قانون ورد في آية كريمة، قال تعالى:
﴿ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾
هذا القانون القرآني ينطبق على زوجين، وعلى أخوين، وعلى شريكين، وعلى فئتين، وعلى جماعتين، وعلى دولتين، وعلى كتلتين..
إذا ابتعدنا عن منهج الله دبَّت العداوة والبغضاء بيننا، فإن رأيت عداوة وبغضاء فاسأل عن ضعف التطبيق، فاسأل عن المعاصي والآثام، فاسأل عن المخالفات والانحرافات وهذا ما فرَّق المسلمين بعد وحدتهم.
الإسلام يوحدنا أم يفرقنا ؟
أيها الإخوة الكرام، إن الإسلام وحده يؤلف وحدةً للمسلمين، وهو وحده الذي يجعل منهم أمةً واحدة، وإن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب، وتضمحل ضمن نطاق هذه الوحدة الشاملة، وتذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط الفوارق، فوراق النسب واللون، فلا يتأخر أحد، أو يتقدم، إلا بطاعة الله وتقواه..
الإسلام عامل وحدة، ويتهم أعداؤنا الإسلام بأنه عامل تفرقة، وهو عامل تفرقة إذا انتمينا إليه شكلياً، ولم نطبق جوهره، قال تعالى:
﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ﴾
لو طبقنا منهج الله جميعاً لكنا في وحدة لم يسبق لها مثيل.
تعاون المؤمنين يعين على تحقيق الوحدة:
أيها الإخوة الكرام، إن النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام، كان إنساناً تجمّع فيه ما تفرّق في عالم الإنسان كله، من كمالات، ومواهب، وخيرات، فكان صورة لأعلى قمة من قمم الكمال يبلغها بشر، فلا غرو إذا كان الذين أخذوا منه، وداروا في فلكه رجالاً أبطالاً يشهد لهم التاريخ بالبطولة..
سيدنا الصديق يقول لسيدنا عمر: " مد يدك لأبايعك "، قال عمر: " أيّ أرضٍ تقلني، وأي سماء تظلني إذا كنت أميراً على قوم فيهم أبو بكر "، قال: " يا عمر، إنك أقوى مني "، قال: " يا أبا بكر، إنك أفضل مني، إذاً قوتي إلى فضلك، نتعاون ".
أيها الإخوة الكرام، كلمة قاسية، أقولها لكم: علامة إخلاصك تعاونك مع المؤمنين، وعلامة ضعف إخلاصك، علامة النفاق، علامة الرياء، التنافس معهم، إن أكبر جريمة يقترفها مسلم أن يشقَّ صفوفَ المسلمين.
أيها الإخوة الكرام، إن متانة المسلمين تجعلهم قوة تهاب، لا يرضى أحدهم بخذلان أخيه، ولا تقرّ عينه بما يؤذيه، بل لا يرضى له إلا ما يرضاه لنفسه، وذلك هو المقصود من تشبيه العلاقة بين المسلمين بعلاقة أعضاء الجسد الواحد بعضها من بعض:
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى ))
أيها الإخوة الكرام، إن الكون متآلف بذراته، بمجراته، لا يحيد عن السنن الإلهية، ولا يخرج عن مقتضيات القوانين الربانية، وهو بعد ذلك مسخّر كله للإنسان.
فما بال هذا الإنسان المسلم يتخلى عن قيادته لهذا الكون ؟
ولماذا يكون نغماً نشازاً عن هذا التآلف الكوني ؟
ولماذا يرضى بذيلٍ في القافلة يلتقط فتاتها، وقد أوجده الخالق ليكون قائد زمامها ؟
الكون كله منسجم، ألا ينسجم المسلمون ومعهم كتاب واحد، ونبي واحد، وسنة واحدة ؟
التفرق والاختلاف نوع من الكفر:
أيها الإخوة الكرام، دققوا، إن الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل، وإن لم توحدهم عبادة الرحمن مزقتهم عبادة الشيطان، وإن لم يستهوهم نعيم الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا، ولذلك كان هذا التطاحن المزمن من خصائص الجاهلية الجهلاء، وديدن مَن لا إيمان له.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ))
الذي يشق صفوف المسلمين وُصف بأنه كافر، الذي يعمق الهوة بينهم وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه كافر:
(( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ))
هذا العراك الدامي شأن الشاردين عن الله عز وجل، المنقسمين على أنفسهم أحزاباً متناحرة، وقد لان الإسلام لاختلاف العقول في الفهم، ومنح المخطئ في الاجتهاد أجراً، ومنح المصيب أجرين، ثم وسع الجميع في كنفه الرحب ماداموا مخلصين في طلب الحق، وحريصين على معرفته والعمل به.
الفرد المسلم جزء من جماعة المخاطبين:
أيها الإخوة الكرام، لو دققتم، لوجدتم أن شرائع الإسلام وآدابه تقوم على اعتبار الفرد جزءاً لا ينفصم من كيان الأمة، وعضواً موصولاً بجسمها لا ينفك عنها، فهو طوعاً أو كرهاً يأخذ نصيبه مما يتوزع على الجسم كله من غذاء ونحو ذلك، وقد جاء الخطاب الإلهي مقراً لهذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده بالأمر والنهي، إنما تناول الجماعة كلها بالتأديب والإرشاد، ثم من الدرس الذي يلقى على الجميع يستمع الفرد، وينتصح، وهكذا اطرد سياق التشريع في الكتاب والسنة بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
لماذا لمْ يقل: يا أيها المؤمن ؟ قال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
المؤمن واحد من مجموع المؤمنين، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
إذا وقف المسلم بين يدي الله عز وجل ليناجيه، وليتضرع إليه لم تجرِ العبادة على لسانه كعبد منفصل عن إخوانه، بل كطرف من مجموع متفق مرتبط، يقول تعالى:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
لماذا لمْ تأتِ الآية: ( إياك أعبد، وإياك أستعين ) ؟ قال تعالى:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (*) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (*) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾
كل صيغ مناجاة الله ودعائه بصيغة الجمع وكل صيغ الأوامر بصيغة الجمع.
وحدة الأمة فرض، والشهوات سبب للفرقة:
أيها الإخوة الكرام، بيد أن الشهوات المتقدة تناست هذه الوصية الكريمة، وتنكرت للتوجيه الإلهي العظيم، فانقسم الناس أحزاباً، كل حزب يكيد للآخر، ويتربص له، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (*) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾
وحدة الأمة فرض، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (*) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (*) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾
هؤلاء الذين يشقون صفوف المسلمين، هؤلاء الذي يعمقون الهوة بينهم، هؤلاء الذين جعلوا دينهم شيعاً وأحزاباً، كل حزب بما لديهم فرحون، دعهم يا محمد في غمرة خطأهم، وغمرة غفلتهم، إلى أجل آخر، ويبين الله عز وجل أن اتباع الهوى ومتابعة البغي هو سرُّ هذا الافتراق الواسع.
علماء السوء من أكبر عوامل الفرقة:
والحق أن العلم عندما ينفصل عن مقاصد الدين، ويفارقه الإخلاص يمسي العلم وبالاً على صاحبه وعلى الناس، وقد كان الناس قبل هذا الدين العظيم يضلهم الجهل في شعابه الحائرة، فلما جاء الدين، واستبد به أناس، وتاجروا بعلومه لأنفسهم ومطامعهم تاه الناس في غياهب الظلمات، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من علم لا ينفع:
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان ))
إن القلب الخرب يجعل من العلم سلاحاً للفساد، وقد تأذى العالم في القديم والحديث من هذا العلم المدمر، ونبأ الله عز وجل أن العلماء بألسنتهم لا بأفئدتهم هم الذين مزقوا شمل البشر، قال تعالى:
﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾
أيها الإخوة الكرام، هناك اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات، صاحبه ليس محموداً ولا مذموماً، لكن هناك اختلاف قذر، يكون بعد العلم، اختلاف الأهواء، اختلاف المكاسب، اختلاف البغي والحسد، قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
الاختلاف الأول: اختلاف حيادي، لا يذم ولا يحمد، اختلاف نقص المعلومات، فإذا جاءت المعلومات الدقيقة انتهى الاختلاف.
أما الاختلاف الثاني: فهو اختلاف قذر مع وجود المعلومات الفاصلة القاطعة، إنه اختلاف الأهواء، اختلاف المكتسبات، اختلاف البغي، اختلاف الحسد.
آية ثانية:
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾
وحذر الله المسلمين من الاختلاف في الدين والتفرق في فهمه كما فعل الأولون، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (*) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾
اجتماع الأمة بعد فرقتها:
أيها الإخوة الكرام، جمع الأمة بعد تشعب الخلاف قريب وممكن عقلاً، لكنه بعيد عادة، وإذا أراد الله أمراً كان، والساعي في الجمع مصلح قطعاً، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية، ويحثهم على التسمي بالإسلام، فإن الدين عند الله الإسلام، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية.
إن الإسلام حريص على سلامة أمته، وحفظ كيانها، ولهذا يطفئ بقوة بوادر الاختلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق وضعف الفراق:
(( يد الله مع الجماعة ))
و
(( من شذ شذ في النار ))
والخروج على إجماع الأمة هذا عقابه، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
هل بعد هذا الوعيد من وعيد ؟ ولا يستغربن أحد، فإن جرثومة الشقاق لا تولد حتى يولد معها كل ما يهدد عافية الأمة بالانهيار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( مَنْ خَرَجَ مِن الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الجماعةَ فماتَ ماتَ مِيتة جَاهلية ))
اسمحوا لي أيها الإخوة الكرام بمثل هندسي، دائرة لها مركز، المركز هو الحق، والخطوط تنبع من هذا المركز إلى محيط الدائرة كأشعة الشمس، أنت على أحد هذه الخطوط، كلما اقتربت من المركز ضاقت المسافة بينك وبين الشعاع الثاني، فإذا وصلت إلى مركز الدائرة انعدمت المسافات، إذا طبقنا هذا المنهج كنا متماسكين كالصف الواحد.
أيها الإخوة الكرام:
(( مَنْ خَرَجَ مِن الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الجماعةَ فماتَ ماتَ مِيتة جَاهلية ))
حاجة المسلمين للوحدة اليوم كبيرة وملحة:
إن حاجة المسلمين إلى التقارب والتفاهم، وهم اليوم بهذا الوضع المؤلم، إن هذه الحاجة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بعد هذه المأساة التي نتعرض لها كل يوم.
أيها الإخوة الكرام، إننا في أمسِّ الحاجة إلى الوحدة، فالأعداء تكالبوا علينا، واستغلوا فينا وصمة التشتت والافتراق، فأصابونا في ديننا وفي علاقاتنا، وألهونا بمسائل هامشية على حساب الجوهر، وهو العمل على تطوير مسيرتنا بما يعود علينا بالخير العميم.
أيها الإخوة الكرام، إن العمل الواحد في حقيقته وصورته يختلف أجره اختلافاً كبيراً حينما يؤديه الإنسان وحيداً، وحينما يؤديه مع الآخرين:
إن ركعتي الفجر أو ركعات الظهر هي هي، لم تزد شيئاً، عندما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها في عزلة فقد ضاعف الإسلام الأجر إلى سبعة وعشرين ضعفاً، وهكذا، العبادات كلها جماعية، وإذا أديتها في جماعة فلها أجر كبير، إذاً، أرادنا الله سبحانه وتعالى أن نكون مجتمعين، وأن نعدَّ وحدتنا فرضاً، فمن أجل هذه الوحدة ينبغي أن نجمِّد، أو أن نلغي، أو أن نحيّد خلافات في قضايا جزئية قد تكون سبباً في دمار هذه الأمة.
وأخيراً:
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطر على الإسلام من أدعيائه لا من أعدائه:
أيها الإخوة الكرام، يخطئ من يظن أن أكبر تهديد للمسلمين يأتي من أعداء الإسلام، إن الخطر على الإسلام لا من أعدائه، بل من أدعيائه، بل يصل هذا الظن إلى حد الخطأ الكبير، حينما ينام المسلم على وهم أن العدو الذي يشتم الإسلام علانيةً، ويحمل السيف عليه تحت أضواء ساطعة هو العدو الخطير، لا، هذا العدو التقليدي مشخَّص، محدود الهوية، خططه معروفة، والحصانة منه موجودة..
إن ثمة سؤالاً خطيراً يفرض نفسه: من يهدد حصون الإسلام، وهوية المسلمين ؟
العدو معروف، هويته معروفة، دعوته مكشوفة، يعمل في النهار، هو قوي لا يعبأ بسمعته، ونحن ـ والحمد لله ـ محصّنون ضده، ولكن التهديد الأول والأخطر هو كل عمل يسمح بشق الصف الإسلامي، ويجعل وحدة المسلمين مستحيلة.
بل إن ذلك الانشقاق يسمح ببروز جهات منشقة عن الدين، لكنها تعمل باسمه، تحارب المسلمين بضراوة وغلّ وإصرار، ولا نجد مثلها لدى الأعداء التقليديين لهذا الدين.
أيها الإخوة الكرام، كل من شهر سيف الفرقة في وجه الإسلام والمسلمين، كل الذين لا يقبلون بأقل من تفسيرهم الوحيد للإسلام، وتصورهم لعقائده، ورفض أي تفسير آخر، ولو كان وفق الضوابط الشرعية، ولو كان وفق علم الأصول، هؤلاء كارثة الكوارث التي حلت بالإسلام..
الدين ليس حكراً على أحد:
إن الحاجة إلى الدين هي نفس الحاجة إلى الهواء، والهواء لا يمكن أن يحتكره أحد لا إنسان، ولا قديم، ولا حديث، ولا فئة، ولا جماعة، ولا طائفة، ولا مذهب..الدين هو الهواء لكل المسلمين، لا يمكن أن يُحتكر، فهذا الذي يحتكر الإسلام وحده، ويؤكد للناس أن فهمه لهذا الدين وحده هو الصواب من دون ضوابط، من دون أدلة، ويرفض الطرف الآخر، بل يلغي وجود الطرف الآخر، بل يعتدي على الطرف الآخر، هذا أكبر أعداء المسلمين، بل إن الطرف الآخر البعيد يستعين بهذا ليفرق المسلمين.
أعداؤنا يستغلون فرقتنا، فلنتحد:
أيها الإخوة الكرام، لا بد من أن أنقل لكم كلمة قالها وزير خارجية دولة عظمى في الغرب قال: " نطمح إلى أن يكون العالم خمسة آلاف دولة، وليس مئة دولة ".
خطة واضحة وضوح الشمس، ترنو إلى إثارة الفتن الطائفية والمذهبية في كل مكان، إلى جعل كل بلد عشرين دولة، شيء واضح، واضح كالشمس، لا تغيب عن أي إنسان، فلذلك أيها الإخوة الكرام يجب أن نتعاون، أن نتكاتف، أن نلغي بعض الجزئيات التي تشوش علينا وحدتنا، لا أن نلغيها من تصورنا، بل أن نلغيها من حواراتنا.
أيها الإخوة الكرام، ما من وقت نحن في أمسّ الحاجة إلى وحدتنا كهذا الوقت، أنا لا أدعوكم إلى أن تقبل من إنسان زاغت عقيدته زوغاناً كبيراً، وقال ما ليس في القرآن الكريم، وأحدث في الإسلام ما ليس منه، أن تكون معه، لا، أدعو عدداً كبيراً من الجماعات الإسلامية التي صحت عقيدتها، ولكن في اجتهاداتها بعض الجزئيات التي تبعد فئة عن أخرى، فأقول: هذا الوقت وقت اجتماع، وقت وحدة، وقت تعاون، وقت تكاتف، وأرجو الله عز وجل أن يقبلنا جميعاً.
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.