- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
الحمد لله رب العالمين، يا رب، يا كاشف الأسرار، يا مسبل الأستار، يا واهب الأعمار، يا منشئ الأخبار، يا مولج الليل في النهار، يا معافي الأخيار، يا مداري الأشرار، يا منقذ الأبرار من العار والنار، جد علينا بصفحك عن زلاتنا، كن لنا وإن لم نكن لأنفسنا، لأنك أولى بنا، متعنا بالنظر إلى نور وجهك، لا تهجرنا بعد وصلك، لا تبعدنا بعد قربك، لا تكربنا بعد روحك، قد عادينا أعداءك فيك، فلا تشمتهم بنا لتقصيرنا في حقك، ووالينا أصفياءك لك، فلا توحشنا منهم لسهونا عن واجبك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
سل الواحة الخضراء والماء جاريــا وهذي الصحارى والجبال الرواسيـا
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديــا
وسل هذه الأنسام والأرض والسمــا وسل كل شيء تسمع الحمد ساريــا
***
الشمس والبدر من أنوار حكمـتــه و البر و البحر فيض من عطاياه
الطير سبحه و الــزرع قدســـه و الموج كبره والحوت ناجــاه
والنمل تحت الصخور الصم مجــده و النحل يهتف حمداً في خلايـاه
رب السماء ورب الأرض قد خضعت إنــس و جن وأملاك لعليــاه
الناس يعصونه جهـراً فيسترهــم العبد ينسى وربي ليس ينســاه
***
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، يا سيدي يا رسول الله:
أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة في مثلهـا يلقى عليك رجـاء
رقدوا وغرهم نعيم باطــــل و نعيم قوم في القلوب بــلاء
المصلحون أصابع جمعت يــدا هي أنت بل أنت اليـد البيضاء
أدرى رسول الله أن نفوســهم ثقةٌ ولا جمع القلوب صفـاءُ
***
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله وأوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
الجانب الإنساني في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم:
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، موضوع الخطبة اليوم الجانب الإنساني في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، فمن رحمته إلى عدله، من محبته إلى سموه، ومن سموه إلى حرصه.
أخوة الإيمان في كل مكان، إننا نرى في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان الحاني الرحيم، الذي لا تفلت من قلبه الذكي شاردة من آلام الناس وآمالهم إلا لباها و رعاها، وأعطاها من ذات نفسه كل اهتمام وتأييد، نرى فيه الإنسان الذي يكتب إلى ملوك الأرض طالباً إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل، ثم يصغي في حفاوة ورضىً إلى أعرابي حافي القدمين يقول في جهالة: "اعدل يا محمد، فليس المال مالك، ولا مال أبيك "، نرى فيه العابد الأواب الذي يقف في صلاته، يتلو سورةً طويلةً من القرآن في انتشاء وغبطة لا يقايض عليها بملء الأرض تيجاناً وذهباً، ثم لا يلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلفه في المسجد فيضحي بغبطته الكبرى، وحبوره الجياش، وينهي صلاته على عجل رحمة بالرضيع الذي كان يبكي، وينادي أمه ببكائه.
نرى فيه الإنسان الذي وقف أمامه جميع الذين شنوا عليه الحرب والبغضاء، وقفوا أمامه صاغرين، ومثّلوا بجثمان عمه الشهيد حمزة، ومضغوا كبده في وحشية ضارية، فيقول لهم، وهو قادر على أن يهلكهم:
(( اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
نرى فيه الإنسان الذي يجمع الحطب لأصحابه في بعض أسفارهم، ليستوقدوه ناراً تنضج لهم الطعام، ويرفض أن يتميز عليهم.
نرى فيه الإنسان الذي يرتجف حين يبصر دابةً تحمل على ظهرها أكثر مما تطيق.
نرى فيه الإنسان الذي يحلب شاته، ويخيط ثوبه، ويخصف نعله.
نرى فيه الإنسان، وهو في أعلى درجات قوته، يقف بين الناس خطيباً فيقول: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقدْ منه".
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، نشهد أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد.
الرحمة خير من الإفراط في العبادة:
أيها الأخوة الأكارم حضوراً ومستمعين، من ومضات رحمته صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه:
(( إنما أنا رحمة مهداة ))
وقد روى عن ربه في الحديث القدسي:
(( إن كنتم تحبون رحمتي فارحموا خلقي ))
وبين صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله، وأرشد المؤمنين إلى التزام الرحمة فقال لهم:
(( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ))
وبيّن أيضاً أن الرحمة خير من الإفراط في العبادة، فقد خرج صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان، حتى بلغ موضعاً يدعى كراع الغميم فصام، وصام الناس، ولما رأى بعض الناس قد شقّ عليهم الصيام بسبب وعثاء السفر دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، ولما قيل له: إن بعض الناس لا يزال صائماً، قال:
((أولئك العصاة))
رجل يسرع الخطا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغشاه الفرح الكبير، تغمره الفرحة العارمة ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة معه، وعلى الجهاد في سبيل الله تحت رايته، يقول له: " يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبواي يبكيان " فيقول له عليه الصلاة والسلام:
((ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما))
إن بسمة تعلو شفتي أبٍ حنون، وتكسو وجه أمٍ متلهفة، لا تقّدر عند محمد صلى الله عليه وسلم بثمن، حتى حينما يكون الثمن جهاداً في سبيل الله، يثبت دعوته، وينشر في الآفاق البعيدة رايته، وحينما تتم العبادة على حساب رحمة الوالدين تتحول إلى عقوق، والنبي صلى الله عليه وسلم يركز على الرحمة تركيزاً شديداً كلما اشتدت إليها الحاجة.
النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها:
هؤلاء المساكين الذين تسوقهم ضرورات العيش إلى الدين، ثم تعجزهم ضحالة الدخل عن السداد، فيعانون من أجل الديون همّ الليل وذلّ النهار، هؤلاء يأسو جراحهم النبي صلى الله عليه وسلم، إنه لا يملك أن يقول للدائن: تنازل عن حقك، فمحمد صلى الله عليه وسلم خير من يصون الحقوق، لكنه يهب الدائن شفاعته، وقلبه، وحبه إذا هو أرجأ مدينه، وصبر عليه حتى تحين ساعة فرج قريب، فقال عليه الصلاة والسلام:
((من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله))
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً:
((من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرج عن معسر))
ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة فوق الفضائل الإنسانية كلها، فيجعل كل عمل رحيم عبادةً من أزكى العبادات، فعند النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا الرحيمة التي نسديها للآخرين إنما يراها الله قُربات توجه إليه ذاته، فإذا زرت مريضاً فأنت إنما تزور الله، وإذا أطعمت جائعاً فكأنما تطعم الله، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:
(( يا بن آدم مرضت ولم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي))
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله بصورة باهرة أخَّاذة حينما رأى أماً تضم طفلها إلى صدرها في حنان بالغ، ورحمة بالغة، فالتفت إلى أصحابه وقال لهم:
(( أترون هذه طارحةً ولدها في النار ؟ قال أصحابه: لا والله يا رسول الله، قال لَله أرحم بعبده من هذه بولدها ))
النبي الكريم حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس:
أيها الأخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، ذات يوم تقدم منه أعرابي في غلظة وجفوة، وسأله مزيداً من العطاء، وقال: اعدل يا محمد، ويبتسم عليه الصلاة والسلام، ويقول له:
(( ويحك يا أعرابي من يعدل إن لم أعدل))
أيها الأخوة الكرام إن الطمأنينة التي دفعت هذا الأعرابي إلى هذا الموقف المسرف في الجرأة، هذه الطمأنينة وحدها تصور عدل محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان هذا الأعرابي قادراً على أن يقول مقالته تلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم أقام بينه وبين الناس حجباً، وبث في نفوسهم الخشية والرهبة، لكن هذا النبي الكريم حطم كل معالم التمايز بينه وبين الناس، وحينما دخل عليه رجل غريب يختلج، بل يرتجف من هيبته، استدناه وربت على كتفه في حنان وفرط تواضع، وقال له قولته الشهيرة:
((هون عليك فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة))
لقد هيأه تفوقه صلى الله عليه وسلم ليكون واحداً فوق الناس، فعاش واحداً بين الناس، يسأله أعرابي يوماً، في بداوة جافة، يا محمد هل هذا المال مال الله أم مال أبيك ؟ ويبتدره عمر يريد أن يؤنبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: " دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً ".
وانطلاقاً من قيم العدل التي آمن بها صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها، يبين عليه الصلاة والسلام ويقول:
((كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه))
وأن:
(( لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دم سفك بغير حق ))
(( إنَّما أَهلك الذين قبلكم: أنَّهمْ كانوا إذا سَرقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكُوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ. وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا ))
لو أن إنساناً استطاع بطلاقة لسانه وقوة حجته أن ينتزع من فم النبي صلى الله عليه وسلم حكماً، ولم يكن محقاً فيه لا ينجو من عذاب الله، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
ومضات من محبته صلى الله عليه وسلم:
أيها الأخوة الأكارم حضوراً ومستمعين، إلى ومضات من محبته صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم محب ودود، أطاع الله كثيراً، لأنه أحبه كثيراً، بر الناس كثيراً، لأنه أحبهم كثيراً، أحبّ عظائم الأمور، وترك سفسافها ودنيها، أحبّ عظائم الأمور، ومارسها في شغف عظيم ممارسة محب مفطور، لا ممارسة مكلف مأمور، لقد سجد، وأطال السجود، وسُمع وجيبُ قلبه، ونشيج تضرعه وبكائه، لأنه في غمرة شوق جارف، ومحبة أخَّاذة، كان ينتظر الصلاة على شوق، فإذا دخل وقتها قال:
(( أرحنا بها يا بلال ))
أرحنا بها لا أرحنا منها، وهذا هو الفرق بين الحب والواجب.
ذات يوم كان في الطائف يدعو قومها إلى الله، فقابلوه بالتكذيب والسخرية والإيذاء، أغروا به سفهاءهم، ألجؤوه إلى حائط، رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه فقال:
(( يا رب، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي ))
أي إنه لا يخشى العذاب والألم إلا إذا كان تعبيراً عن تخلي الله عنه.
ثم أدرك صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي للمحب الصادق أن يشغله استعذاب التضحية عن رجاء العافية، فيستدرك ويقول: لكن عافيتك هي أوسع لي.
أيها الأخوة الأكارم حضوراً ومستمعين، ذات يوم أقبل على محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً فظاً غليظاً، لم يكن قد رآه من قبل، غير أنه سمع أن محمداً يسب آلهة قريش والقبائل كلها، فحمل سيفه، وأقسم بالله ليُسَوِّيَنَّ حسابه مع محمد، ودخل عليه، وبدأ حديثه عاصفاً مزمجراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وتنطلق مع بسماته أطياف نور آسر، وما هي إلا لحظات حتى انقلب المَغِيظُ المتجهم محباً يكاد من فرط الوجد والحياء يذوب، وانكفأ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم يقبلهما ودموعه تنحدر غزيرةً، ولما أفاق قال: يا محمد والله لقد سعيت إليك وما على وجه الأرض أبغض إلي منك، وإني لذاهب عنك وما على وجه الأرض أحب إلي منك.
ما الذي حدث ؟ لقد أحب محمد الرجل من كل قلبه، فخرّ جبروت هذا الرجل صريع حب وديع، قلب محمد صلى الله عليه وسلم مفتوح دائماً لكل الناس، الأصدقاء والأعداء، وحينما اقترب الرجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم مسَّته شعاعة من فيض قلبه الكبير..! معذورة قريش حينما لم تدرك هذا السر، فقالت: إن محمداً لساحر.
توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحبّ والود:
أيها الأخوة الكرام، من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والود:
((والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا))
((إذا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ))
((وإذا آخى الرجلُ الرجلَ، فليسأله عن اسمه، واسم أبيه، وممن هو ؟ فإنه أوصل للمودة))
((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه))
(( من هجرة أخاه سنة فهو كسفك دمه))
((وكفى بك ظلما ألا تزال مخاصماً ))
(( من أتاه أخوه متنصلاً فليقبل ذلك محقاً كان أو مبطلاً))
((ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: الذين لا يقيلون عثرةً ولا يقبلون معذرة ولا يغفرون ذنباً))
((صل بين الناس إذا تفاسدوا، وقرب بينهم إذا تباعدوا))
جهاز المناعة:
يا أيها الأخوة الكرام، ما دام الحديث عن الحب، فإليكم هذا الموضوع العلمي، والمطلوب من الأخوة المستمعين أن يبحثوا عن علاقة هذا الموضوع العلمي بالحب.
هناك في الإنسان جهاز خاص للشفاء الذاتي، لم تأت على ذكره فهارس كتب الطب أو قواميسه، فهناك حالات مرضية مستعصية شفيت بشكل غامض ودون سبب واضح، وهذا الجهاز المسؤول عن الشفاء الذاتي هو جهاز المناعة، وهو من الأجهزة الرائعة التي أبدعها الخالق جلّ وعلا، ليس لهذا الجهاز مكان تشريحي ثابت، بل هو جهاز جوال، مبرمج على أن يتعرف على أية خلية غريبة عن خلايا الجسد ليقوم بتميزها، وأهم ما في هذا الجهاز ذاكرته العجيبة، فهو لا ينسى أبداً أي سلاح واجه به عدواً من أمد طويل، ولولا هذه الذاكرة العجيبة لما كان هناك من فائدة إطلاقاً من التلقيح ضد الأمراض، تُصنع عناصر هذا الجهاز في نقي العظام، ويتم إعدادها القتالي في الغدة الصعترية " التيموس "، معهد إعداد المقاتلين، وعناصر هذا الجهاز موزعة بين مهمات الاستطلاع وتصنيع المصل المضاد والقتال والخدمات، لكن فيروس الإيدز يدخل إلى الجسم متخفياً بشكل مشابه لعناصر هذا الجهاز، ثم يقضي عليها تماماً، لكن من بين عناصر هذا الجهاز فرقة المغاوير، ذات كفاءة عالية جداً، وقد اكتُشفت في أواخر السبعينات، وتستطيع عناصر هذه الفرقة التعرف على الخلايا السرطانية، وتتجه إليها وتدمرها، أخطر ما في هذا الجهاز أن القوة التي تشكله وتطوره وتأمره ليست من داخل الجسم بل من خارجه، إنه الله جلّ جلاله، وأخطر ما في هذا الجهاز أيضاً أن الاكتئاب، والحزن، والتوتر، والقلق، والحقد، والشدة النفسية، تضعف من قوة هذا الجهاز، وأن الأمل، والحب، والهدوء، والتفاؤل، تقوي إمكانات هذا الجهاز، ومن هنا يعد التوحيد صحةً بالمعنى الدقيق للكلمة، ويعد الشرك سبباً للخوف والقلق، والخوف والقلق سبب لإضعاف جهاز المناعة الذي أبدعه الله من أجل الشفاء الذاتي، قال الله تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
أيها الأخوة، ابحثوا عن علاقة الراحة النفسية الناتجة عن التوحيد بالشفاء، وعن علاقة الشدة النفسية الناتجة عن الشرك الخفي بالوباء.
قصة جابر بن عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيها الأخوة المؤمنون، أيها الأخوات المؤمنات، إليكم قصة جابر بن عبد الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصة تصور مودة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ورفقه بهم، واهتمامه بمشكلاتهم، وتواضعه، ومؤانسته لهم:
عن جابر بن عبد الله، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، مرتحلاً على جمل لي ضعيف، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضي ( أي تسبقني )، وجعلت أتخلف ( لأن جمله ضعيف ) حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا جابر ؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: فأنِخْهُ، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمله، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، ففعلت، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخس بها الجمل نخسات ( أي وخزه بها )، ثم قال: اركب، فركبت، فانطلق جملي، والذي بعثه بالحق صار جملي يجاري ناقة رسول الله، وتحدث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قلت: يا رسول الله بل أهبه لك، قال: لا ولكن بِعنيهُ، قلت: فسُمْني به، قال: أخذته بدرهم، ( هكذا قال عليه الصلاة والسلام )، قلت: لا، إذاً يغبنني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( درهم قليل ) قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن حتى بلغ الأوقية، فقلت: قد رضيت، قال: قد رضيت، قلت: نعم هو لك، قال: قد أخذته، ثم قال لي: يا جابر هل تزوجت ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكراً ؟ قلت: بل ثيباً، قال: أفلا تزوجت بكراً ؟ قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، فتزوجت امرأة جامعةً تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، فقال: قد أصبت إن شاء الله، ثم قال: أخبرت امرأتي الحديث، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: سمعاً وطاعة ( أي بع جملك لرسول الله ) قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنَخْته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال: وخرج النبي عليه الصلاة والسلام، فرأى الجمل، قال: ما هذا ؟ قالوا: هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر ؟ فدعيت له، فقال: تعال يا بن أخي خذ برأس جملك فهو لك، ودعا بلالاً فقال: اذهب بجابر، وأعطه أوقية، فذهبت معه، وأعطاني أوقية وزادني شيئاً يسيراً، قال: فوالله ما زال ينمو هذا المال عندنا ونرى مكانه في بيتنا.
يا أيها الأخوة الأكارم، أرأيتم إلى ملاطفته، إلى رقته، إلى رفقه بأصحابه، إلى تواضعه لهم، هكذا كانت أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
ومضات من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه:
أيها الأخوة الأكارم في دنيا العروبة والإسلام، إلى ومضات من حرصه على أصحابه.
كان من بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام صحابي جليل هو عثمان بن مظعون، وكان عثمان متبتلاً غير مشفق على نفسه، حتى لقد همّ ذات يوم أن يتخلص كلياً من نداء غريزته، وذات يوم دخلت زوجته على السيدة عائشة رضي الله عنه، فوجدتها عائشة رثَّة الهيئة مكتئبة، فسألتها عن أمرها، فقالت: إن زوجي عثمان صوام قوام، أي يصوم النهار، ويقوم الليل، فأخبرت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال هذه المرأة، امرأة عثمان بن مظعون فالتقى النبي عليه الصلاة والسلام بعثمان وقال له: يا عثمان، أما لك بي من أسوة ؟ قال عثمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ماذا فعلت ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قال عثمان: إني لأفعل، قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعل، إن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه.
وفي صبيحة اليوم التالي ذهبت زوجة عثمان إلى بيت النبوة عطرة نضرة، كأنها عروس، واجتمع حولها النسوة اللاتي كانت تجلس بينهن بالأمس رثة بائسة، وأخذن يتعجبن من فرط ما طرأ عليها من بهاء وزينة، قلن لها: ما هذا يا زوج بن مظعون ؟ قالت وهي مغتبطة: أصابنا ما أصاب الناس.
إنسانية النبي عليه الصلاة والسلام لم تحتمل حال زوجة يؤرقها هجر زوجها، فذكَّر زوجها بما لها عليه من حق، كان عليه الصلاة والسلام أرحم الخلق بالخلق، فمن أقواله المؤكدة لهذه الحقيقة: "لأن أمشي مع أخ في حاجته أحب إلي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً ".
سئل صلى الله عليه وسلم:
((يا رسول الله أي الناس أحبهم إلى الله ؟ قال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس))
وقال صلى الله عليه وسلم:
((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله))
ويقول أيضاً:
(( من كان وصلة لأخيه إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو إدخال سرور رفعه الله في الدرجات العلى من الجنة ))
ويقول أيضاً:
((إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العبد و يقرها فيهم ما بذلوها فإذا منعوها نزعها عنهم و حولها إلى غيرهم))
ويقول أيضاً:
((من استعمل رجلا من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين))
(( إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع ؟))
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.
***
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
محمد صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة ونعمة مزجاة:
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، هذا جانب واحد من جوانب شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الجانب الإنساني، إنه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق، وحبيب الحق، إنه الرحمة المهداة والنعمة المزجاة، إنه أرحم الخلق بالخلق، أحرض الخلق على هداية الخلق، سيد الأنبياء والمرسلين، أقسم الله بعمره الثمين، فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
وأثنى على خلقه القويم، فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
أيها الأخوة الأكارم، حضوراً ومستمعين، إن النبي صلى الله عليه وسلم في نظر المنصفين من خصومة الإنسان الأول من بين المئة الأوائل في تاريخ البشرية كلها، من حيث قوة التأثير، ومن حيث نوع التأثير، ومن حيث امتداد أمد التأثير، ومن حيث اتساع رقعة التأثير.
وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرّأً من كل عيــب كأنك قد خلقت كما تشاء
***
وأسدت للبرية بنت وهب يداً بيضاء طوقت الرقاب
لقد وضعته وهّاجاً منيراً كما تلد السماوات الشهاب
***
المسلمون يحترمون أنفسهم و تعاليم دينهم فلا يقابلون الأشياء المشينة بمثلها:
أيها الأخوة الأكارم، ومع أن النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم ألزم أتباعه المسلمين باحترام جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل الإيمان بهم شرطاً لصحة الإيمان، ومع وفرة هذه الحقائق الناصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يقر بها القاصي والداني، والعدو والصديق، تطالعنا الأخبار أن فتاةً إسرائيلية حاقدةً وجاهلة، تسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيما إساءة، وتطعن في كتابنا العزيز أيما طعن، إنها تعبر عن قومها أصدق تعبير، وإنها مرحلة متطورة وإجرامية، من مراحل صراعنا مع الصهيونية، إن ما فعله الصهاينة مؤخراً، من الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتطاول عليه يعد عملاً خسيساً يقوض عملية السلام، ويوتر العلاقات، ويستفز المشاعر الدينية، ولا يخدم أحداً، وهو عمل جبان، وإجرامي، لا يمكن أن يصدر إلا عن حاقد مريض، ماذا ننتظر من قتلة الأنبياء ؟ وماذا ننتظر من قوم لا يحترمون شرائع السماء ؟ إن تاريخهم القديم والحديث مليء بالمواقف، والأعمال، والأقوال المخزية ضد الإسلام والمسلمين، فمن إحراق المسجد الأقصى المبارك ثاني القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومروراً بالحفريات المتزايدة تحته بقصد هدمه، ونقض بنيانه، ثم العدوان الصهيوني على المصلين في الحرم الإبراهيمي الشريف، ثم فتح النفق أسفل المسجد الأقصى المبارك، إن استعراض هذه الأعمال الإجرامية يجعلنا ندرك عن يقين أن هذا العمل الشائن الأخير لن يكون الأخير في سلسلة الأعمال الشائنة ضد الإسلام والمسلمين.
وإننا نحن المسلمين نُجل الأنبياء، ونحترمهم، ونوقرهم، ونؤمن بهم جميعاً، ولا يمكن أن نقابل هذا التصرف المشين بمثله لأننا نحترم أنفسنا، ونحترم تعاليم ديننا، وندرك أن من يتطاول على الأنبياء والمرسلين إنما يرتد سيفه إلى نحره، ويكون تدميره في تدبيره، والدائرة تدور عليه.
ونحن ندع العالم العربي والإسلامي إلى مزيد من الوعي، واليقظة، والتماسك، وإزالة أسباب الخلافات فيما بين المسلمين حتى يتفرغوا بحق لمواجهة المكائد والمؤامرات التي تحاك ضدهم وضد دينهم، وضد مستقبل أبنائهم فضلاً عن حاضرهم وتراثهم.
يقول السيد الرئيس: ( لا يمكن لإنسان عاقل أن يعتقد أن الله جلّ جلاله قال لمجموعة من الناس، لشعب، لأي شعب: سأعطيكم أراضٍ من هنا إلى هناك، وسأطرد أمامكم هذه الشعوب، نحن نتصور أن الله قوة عدل مطلقة تسير هذا الوجود، الله لنا جميعاً ونحن له جميعاً ).
ويتابع حديثه قائلاً: نحن نعتز بالإسلام اعتزازاً لا حدود له، ونقاوم الذين يشوهون هذا الإسلام، ونحن سندافع عن الإسلام، سندافع عنه كما جاء إسلام الصحابة، إسلام عمر وعلي، إسلام العدل، إسلام المساواة، إسلام المحبة ).