- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، يا رب أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
يا رب، قد عم الفساد فنجنا، يا رب قلّت حيلةٌ فنجنا، ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقبل توبتنا، وأصلح قلوبنا، وارحم ضعفنا، وتولَّ أمرنا، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فحاشى أن نفتقر في غناك، وأن نضل في هداك، وأن نذل في عزك، وأن نضام في سلطانك، وأنت القائل:
(( ما من عبد، يعتصم بي من دون خلقي، أعــرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجــاً، وما من عبد ، يعتصم بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، وما من عبد يطيعني، إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، ومستجيب له قبل أن يدعوني، وغافر له قبل أن يستغفرني ))
ويا سيدي يا أبا القاسم، أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن الذين بهرتهم عظمتك، لمعذورون، وأن الذين افتدوك بأرواحهم لهم الرابحون، يا ذا القلب الذكي، يا من لا تفلت منك شاردةٌ من آمال الناس وآلامهم، إلا لبيتها، ورعيتها، وأعطيتها من ذات نفسك كل اهتمام وتأييد.
يا أيها العبد الأواب، يا من تقف في صلاتك، تتلو سوراً طويلة من القرآن في انتشاء وغبطة لا تقايض عليها بملء الأرض ذهباً، ثم لا تلبث أن تسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلفك في المسجد فتضحي بغبطتك الكبرى، وحضورك الجياش، وتنهي صلاتك على عجل رحمةً بالرضيع الذي يبكي، وينادي أمه ببكائه.
يا من سويت نفسك مع أصحابك في بعض الغزوات، فتناوبت واثنين منهم على راحلة، فلما طُلب منك أن تبقى راكباً، قلت لها:
(( مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي ، وَمَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ))
يا من كنت ترتجف حينما ترى دابةً تحمل على ظهرها فوق ما تطيق.
يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه، وعلى أهل بيته وعلى من تبعه إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
الهجرة:
1 ـ الهجرة علَم على الإسلام وبداية للتأريخ الإسلامي:
حقّ للهجرة أن تكون بداية التاريخ الإسلامي، وحقّ لها أن تكون علماً على الدين الحنيف، لأنها المظهر العملي للإيمان.. قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
فالإسلام ليس قناعة فحسب، بل هو قيام والتزام، وليس ثقافة فقط، بل هو إذعان واستسلام لرب الأكوان، والهجرة مظهر لهذا الالتزام، وذلك الإذعان.
2 ـ الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة :
إن الهجرة قمة التضحية بالدنيا من أجل الآخرة، وذروة إيثار الحق على الباطل، والهجرة ليست انتقال رجل من بلد قريب إلى بلد بعيد، وليست ارتحال مفتقر من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمنٍ في سربه، ممتدِ الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله، وتصفية مركزه، والنجاة بشخصه من أن يُفتن في دينه.
هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن يخاف على سلامة إيمانه، ويسعى إلى مرضاة ربه، أما الهيَّاب الخوَّار القلق فما يستطيع شيئاً من ذلك، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾
دلائل ودروس من الهجرة:
1 ـ بين الحق والباطل صراع مستمر، وتناقض كبير:
من الدلائل والعبر التي تؤخذ وتستفاد من الهجرة، أن بين مبادئ الحق وأوهام الباطل، وبين عناصر الخير، وقوى الشر، وبين رسل الهداية، وشياطين الغواية، تناقض كبير، وصراع مستمر، وحرب ضروس، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين ﴾
فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى مكر به هؤلاء؟ إنهم يعرفونه قبل غيرهم، ويعرفون صدقه، وأمانته، وعفافه ونسبه، وأنه ما زاد على أن دعاهم إلى الله ليوحدوه ويعبدوه، وأنه أمرهم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وأنه نهاهم عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إنه رحمة مهداة ونعمة مزجاة..
أمِثلُ هذا المخلوق الأول يُمكر به؟ أمثل هذا الإنسان الكامل يكاد له؟ إنها معركة الحق والباطل، ولكن ما دامت كلمة الله هي العليا، وما دامت إرادته هي النافذة فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومادام أنه ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فلِمَ أراد الله أن يكون هذا الصراع بين الحق والباطل؟ إنه الابتلاء ليكون النجاح فيه ثمن العطاء.
2 ـ الدنيا دار تكليف وابتلاء وانقطاع:
فالدنيا في حقيقتها دار تكليف وابتلاء وانقطاع، والآخرة دار تشريف وجزاء وخلود، وإن الابتلاء يكشف حقيقة المؤمن لنفسه أولاً، ولمن حوله ثانياً، و ثباته على مبدئه، وإصراره على مرضاة ربه وحبه لله تعالى، وكيف أنه يضحي من أجله بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس؟ إنه يكشف صبره على الشدائد حفاظاً على دينه، والشدائد تدفعه إلى التوكل، وبالتوكل يصرف عنه السوء، وتساق إليه الخيرات، ونتائج التوكل تزيده معرفة بربه، وحباً له، إن هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾
ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيما رواه عبد الله بن عمر عن علي رضي الله عنهما:
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي ))
3 ـ بعد الابتلاء الفرَج والنصر:
ولكن ماذا بعد الابتلاء؟ إنه الجزاء في الدنيا والآخرة، والحفظ والنصر للمؤمنين، والإحباط والخذلان لأعدائهم، فالعاقبة للمتقين، ورحمة الله قريب من المحسنين، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين ﴾
هذا مصير من كذّبه:
فلتستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب الذين مكروا به في الأمس ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، وها هم أولاء الآن قتلى وصرعى في ساحة المعركة، وقد أمر بهم أن يُدفنوا في القليب، إنه يخاطبهم: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا؟ وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟! قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ ))
فإذا كان الله معك فمن عليك.... وإذا كان الله عليك فمن معك؟.
يا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فَقَدَ مَن وجدك؟
هذا جزاء مَن نصر نبيَّه:
أما هؤلاء الأنصار الذين هاجر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قدَّموا مثلاً رائعاً من أمثلة التضحية والإيثار، وأنموذجاً فذاً للتعاون بين المؤمنين، كل هذا كان تعبيراً عن عمق إيمانهم، وسموِّ مشاعرهم، ولقد زكى الله صنيعهم فقال بحقهم:
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
ولنستمع إلى سيدنا سعد بن معاذ، سيد الأنصار رضي الله عنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية معركة بدر، حيث يجسد موقف الأنصار: « يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فصلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعادِ من شئت وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، فلعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك ».
هؤلاء الذين آووا ونصروا، من جاءهم مهاجراً في سبيل الله، أعد الله لهم مغفرة ورزقاً كريماً، وفازوا بمرضاة الله، وهي أثمن ما يناله مخلوق على وجه الأرض.. قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
فشتان بين من يعارض الحق ومن يؤيده.. ومن يصدق النبي ومن يكذبه.. ومن يخرجه ومن يؤويه.. ومن يقاتله ومن ينصره.. وشتان بين المؤمن وغير المؤمن، قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
وقال أيضاً:
﴿ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
4 ـ حقيقة التوكل: أخذٌ بالأسباب وتسليم الأمر لله:
ومن العبر التي تؤخذ من الهجرة، أن حقيقة التوكل، أخذ بكل الأسباب، ثم توكل على رب الأرباب..
فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم خطة محكمة الهجرة، حيث كتم تحركه، وقصده، واستأجر دليلاً ذا كفاءةٍ عالية للطريق، واختار غار ثور الذي يقع جنوب مكة تضليلاً للمطاردين باتجاه الشمال، وحدد لكل شخص مهمة أناطها به، فجعل واحداً لتقصي الأخبار، وآخر لمحو الآثار، وثالثاً لإيصال الزاد، وكلَّف سيدنا علياً رضي الله عنه أن يرتدي برده، ويتسجى على سريره تمويهاً على المحاصرين، الذين أزمعوا قتله.
إن هذه التدابير التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم على كثرتها ودقتها ليست صادرة عن خوف شخصي، ولم يكن اعتماده عليها، بدليل أنه كان في غاية الطمأنينة، فحينما وصل المطاردون إلى الغار، وتحلقوا حوله، حيث لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآه وصاحبه، فما زاد على أن قال لصاحبه:
(( مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ ))
ويروي أحدهم أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لقد رأونا، فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
فلقد أخذ صلى الله عليه وسلم كل التدابير والاحتياطات، ثم توكل على رب الأرض والسماوات، وهذه حقيقة التوكل.
نحن لا نعرف بشراً أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده، من رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الإلهي، لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله، وهذا درس بليغ من دروس الهجرة، يجب أن يضعه كل مسلم وكل مؤمن أمام عينيه، عليه أن يتخذ الأسباب كلها، وأن يُعد لكل أمرٍ عدته، وألا يدع مكاناً للحظوظ، بل عليه أن يتخذ الأسباب وكأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
وحينما فهم المسلمون الأوائل التوكل هذا الفهم الصحيح، رفرفت راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها، واحتلوا مركزاً قيادياً بين الأمم والشعوب.
واليوم إذا أراد المسلمون أن ينتصروا على أعدائهم، ويستعيدوا دورهم القيادي بين الأمم، لينشروا رسالتهم الخالدة، رسالة الحق والخير، عليهم أن يستوعبوا هذا الدرس البليغ، الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال هجرته، وهو أن المؤمن الحق، هو الذي يأخذ بكل الأسباب، ثم يتوكل على رب الأرباب.
النبي مشرِّع:
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: « ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، ومضى قِبَلَ الكعبة المشرفة، والملأ من قريش بفنائها، وقال لهم: من أراد أن تثكل أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي ».
وهنا قد يسأل سائل: لماذا هاجر سيدنا عمر رضي الله عنه علانية تحدياً المشركين، من دون خوف أو وجل؟ بينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً محتاطاً لنفسه؟ أيكون سيدنا عمر رضي الله عنه أشد جرأة؟ معاذ الله أن يكون شيء من ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. فيوم حنين ما رُئي أحدٌ أثبت ولا أقرب إلى العدو منه، وسيدنا علي كرم الله وجهه يقول:
« كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون منا أحدٌ أقرب إلى العدو منه ».
ولكن سيدنا عمر رضي الله عنه أو أي مسلم آخر، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعد تصرفه تصرفاً شخصياً.. ليس حُجةً تشريعية، فله أن يتخذ من الطريق والأساليب والوسائل ما يحلو له، ويتفق مع رغبته الشخصية، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرع، فجميع تصرفاته المتعلقة بالدين تُعدُّ تشريعاً، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر كما هاجر سيدنا عمر، لكانت طريقة اقتحام الأخطار تشريعاً، ولكان الأخذ بها واجباً وسنة، ولظن الناس أنه لا يجوز أخذ الحيطة، والحذر، ولألقى الناس بأيديهم إلى التهلكة اقتداءً بنبيهم، مع أن الله جل وعلا جعل نواميس السماوات والأرض مبنية على الأسباب والمسببات، وجعل شرعه الحنيف متوافقاً معها، فما عند الله لا يُنال إلا بالأسباب التي جعلها الله ثمناً لها.
5 ـ المهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه:
فالهجرة في حقيقتها موقف نفسي، قبل أن تكون رحلة جسدية، إنها هجران للباطل، وانتماء للحق، إنها ابتعاد عن المنكرات، وفعل الخيرات، إنها ترك للمعاصي، وانهماك في الطاعات، والمهاجر الحق هو الذي هجر ما نهى الله ورسوله عنه.. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
فإذا كان باب الهجرة من مكة إلى المدينة قد أُغلق بعد الفتح لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ... ))
فإن باب الهجرة من المعصية إلى الطاعة مفتوح على مصراعيه، إلى يوم القيامة.. بل إن عبادة الله في زمن كثُرت فيه الفتن، واستعرت فيه الشهوات، وعمَّ فيه الفساد، إن عبادة الله في هذه الأجواء والظروف تُعدُّ هجرة خالصة إلى الله ورسوله، فعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))
6 ـ لابد أن تكون الهجرة لله لا للدني:
وحينما تكون الهجرة ابتغاء دنيا يصيبها الرجل، أو ابتغاء مال وخير يحصله..
وحينما تكون الهجرة بذلاً للخبرات، والطاقات، والإمكانات لغير بلاد المسلمين..
أو هروباً من تحمل المسؤولية، وفراراً من البذل والتضحية.. أو إضعافاً للمسلمين، وتقوية لأعدائهم.. أو تمكيناً للعدو من احتلال الأرض، واستثمار خيراتها.. أو من بلد تقام فيه شعائر الدين إلى بلد فرغت منه كل القيم .. أو تضييعاً للدين والعرض، وكسباً للدرهم والدينار.
حينما تكون الهجرة كذلك فهي هجرة في سبيل الشيطان..
ومن هنا حُقّ لنا أن نحيي إخوتنا في الأراضي المحتلة، الذين تشبثوا بأرضهم، ودافعوا عنها، ولقنوا العدو المغتصب درساً لا ينسى في البذل والتضحية حتى انحنت لهم الرؤوس، إجلالاً لإصرارهم على نيل حقوقهم المشروعة في التحرير وتقرير المصير.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
الخطبة الثانية:
وصفُ أمّ مَعبد للنبي صلى الله عليه وسلم :
في أثناء الطريق طريق الهجرة مرَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه بمنازل خزاعة، ودخل خيمة أم معبد، فاستراح بها قليلاً، وشرب من لبن شاتها، ولمَّا خرج من عندها قيل لها: صفيه لنا، يا أم معبد، فقالت: « رَأَيْتُ رَجُلا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، أَبْلَجَ الْوَجْهِ، لَمْ تَعِبْهُ نُحْلَةٌ، وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صُقْلَةٌ، وَسِيمٌ قَسِيمٌ، فِي عَيْنِهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ، أَزَجُّ أَقْرَنُ، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلاهُ الْبَهَاءُ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَجْلاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ المَنْطِقِ، فَصْلٌ لا نَزْرٌ وَلا هَذَرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ، رَبْعَةٌ لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لأَمْرِهِ، مَحْشُودٌ مَحْفُودٌ، لا عَابِسٌ وَلا مُفَنَّدٌ، قَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هُوَ وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ بِمَكَّةَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا ».