- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
سبحان من خضع كل شيء لهيبته، واستسلم كل شيء لقدرته، وتصاغر كل شيء لكبريائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك.
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، أرسلته ليخرجنا من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن ذل الشرك إلى عز التوحيد، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل محمد، وعلى أصحاب محمد، وعلى ذرية محمد وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، واستفتح بالذي هو خير.
الفضائل الاجتماعية والمصالح المادية:
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، في شخصية الإنسان جانب مادي، وجانب فكري، وجانب نفسي، وجانب اجتماعي، وجوانب أخرى، والخطبة اليوم عن الجانب الاجتماعي في الإنسان وعلاقته بالإسلام، الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وختم به رسالات السماء، وأخبر بأنه سيظهره على الدين كله.
أخوة الإيمان في كل مكان، من حاجات الفرد الأساسية حاجة الإنسان إلى المحبة أي إلى أن يُحِب، والى أن يُحَب، وحاجته إلى التقدير أن يقدره الآخرون، وحاجته إلى الأنس، وحاجته إلى الأمن، وحاجته إلى معونة الآخرين، وحاجته إلى نصرتهم والتقوي بهم، وحاجته إلى الأخذ من معارفهم وخبراتهم ومنجزاتهم، بل إن هناك حاجات عضوية لا تتحقق مع الإنسان إلا بغيره، كل هذه الحاجات تولد في نفس الفرد الميل إلى الجماعة، الميل إلى الانخراط فيها والاندماج معها تلبية لحاجاته العضوية، والنفسية، والفكرية، والى جانب هذا الدافع الاجتماعي في الإنسان نجد الفردية والأثرة التي تغذيها الغرائز والمصالح، وحينما تصطدم النزعة الاجتماعية في الفرد مع مصالحه المادية نجد الإنسان المتفلت من منهج الله يؤثر مصالحه المادية، ويلقي بفضائله الاجتماعية عرض الطريق، وهذا ما نجده في الأفراد والمجتمعات المادية.
أيها الأخوة الكرام، هذا هو الإنسان قبل أن يعرف الواحد الديان، وقبل أن يستنير عقله، وقبل أن تزكو نفسه، وقبل أن يصلح عمله، لكن الإسلام حينما غذَّى في الفرد الدافع الاجتماعي، وحث على لزوم الجماعة، ووهن فردية الإنسان وانعزاليته أراد أن يصعد هذا الدافع الاجتماعي، وأن يسمو به في كل مراحله ومستوياته، فجعل الإسلام الدافع الاجتماعي في المسلم ينبعث من عبادة الله وطلب مرضاته عن طريق خدمة عباده لا من تلبية حاجاته المادية والمعنوية، وجعل الإسلام النشاط الاجتماعي للمسلم يسري في قنوات نظيفة حددها الشرع الحكيم ضماناً لسلامة الفرد، وضماناً لسلامة المجتمع من الفساد والانحلال، وجعل كثيراً من الفضائل الخلقية والأعمال الجليلة لا تتحقق إلا عن طريق العمل الجماعي، وجعل الفردية والانعزالية سبباً لكثير من الرذائل الخلقية والأعمال الخسيسة، أما حينما يفسد المجتمع، وتنهار فيه القيم، وتداس فيه المبادئ بأقدام المصالح عندئذ يأمر الإسلام بجفوة هذا المجتمع واعتزاله.
النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد بعض الأسس الاجتماعية:
هذه أيها الأخوة، بعض الأسس الاجتماعية من خلال مبادئ الإسلام وتشريعاته، والآن إلى النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد تلك المنطلقات.
روى الترمذي بسنده عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة))
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه مَألف أي أنه يألف ويؤلف، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( المؤمن مألف ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف ))
وتعميقاً لوحدة جماعة المؤمنين شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالبنيان يشد بعضه بعضاً، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه الشريفة))
وزاد النبي صلى الله عليه وسلم في تعميق معنى وحدة المؤمنين حينما بيَّن أن كتلتهم الواحدة المتماسكة وبناءهم المتشابك بناء تسري فيه روح واحدة، وحس مشترك، فهم كالجسد الواحد تتعاون جميع أعضائه تعاوناً تاماً، روى مسلم عن النعمان بن البشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى عينَه اشتكى كلُه وإن اشتكى رأسَه اشتكى كلُه))
وقال أيضاً:
((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))
أشار القرآن الكريم إلى ضرورة انتماء المؤمن إلى مجموع المؤمنين:
أخوة الإيمان في كل مكان، أما القرآن الكريم فقد أشار إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من انتماء عميق إلى مجموع المؤمنين، ومن سمو المشاعر الجماعية عنده، ومن إيجابية مواقفه الغيرية، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (188) ﴾
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾
. ولم يقل: ولا تأكلوا أموال أخوانكم، وكأن الآية تقول أيها المؤمن مال أخيك هو في الحقيقة مالك من زاوية أن قوة أخيك المالية قوة لك، وفي أكل ماله إضعاف للمجموع وإضعاف لك، ومال أخيك هو في الحقيقة مالك من زاوية ثانية، من زاوية وجوب المحافظة عليه فلأن تمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى، ومال الفرد المسلم هو مال للجماعة، فينبغي أن ينفق وفق المنهج الإلهي الذي يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فلو أنفق المال إسرافاً وتبذيراً أضر بالجماعة، لذلك يأمر الإسلام أن يحجر على تصرفات السفيه، وأن تكف يده عن ماله، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) ﴾
ومثل هذا قوله تعالى:
﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (11) ﴾
ومعلوم في البديهة أن الإنسان لا يلمز نفسه، وإنما يلمز غيره أي يحقره، ولكن لما كان المعنى الجماعي سارياً في كل الأفراد كان من يلمز أخاه كأنما يلمز نفسه، لأن له نصيباً من مضرة ما فعل، بوصفه جزءاً من الجماعة التي آذى بعض أفرادها، فسرى الإيذاء إلى الجماعة كلها.
بعض الأحاديث النبوية عن تعميق روح الجماعة بين المؤمنين:
أيها الأخوة الكرام حضوراً ومستمعين، ترسيخاً لروح الجماعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتمع المسلمون على الطعام ليبارك لهم فيه، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما نأكل ولا نشبع، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( فلعلكم تفترقون، قالوا نعم، قال: فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه))
حينما يعتذر بعض الانعزاليين بأنهم يريدون أن يسلموا من أذى الناس بسبب مخالطتهم، لذلك هم يؤثرون الابتعاد عن المجتمع، يأتيهم البيان النبوي يؤكد لهم أن المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، حتى إن بعض العبادات في الإسلام لا تؤدى إلا بشكل جماعي كعبادة الحج، وصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الجنازة، بل إن الإسلام حرص على أن تؤدى الصلوات الخمس جماعةً في المساجد، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:
((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله))
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ - أي الفرد - بسبع وعشرين درجة))
ولعل من أبلغ ما قيل في تعميق روح الجماعة بين المؤمنين قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
(( لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه ))
الدافع الاجتماعي الذي غذاه الإسلام وسمى به ينبغي أن تضبطه ضوابط:
أيها الأخوة المستمعون، أيتها الأخوات المستمعات، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدافع الاجتماعي الذي غذاه الإسلام وسمى به ينبغي أن تضبطه ضوابط، وأن تنظمه أوامر، وأن تحصنه أخلاقه، وأن تحكمه قيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله أخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا وأشار إلى صدره الشريف ثلاث مرات، بحسب مريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))
وقال الإمام النووي عن هذا الحديث ما أعظم نفعه وما أكثر فوائده، وقال عنه ابن حجر الهيثمي: هذا الحديث حوى أكثر أحكام الإسلام منطوقة ومفهومة، وحوى أكثر الآداب إيماءً وتحقيقاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن الحسد الذي يرجع إلى ضعف الإيمان بحكمة الله وعدالته، وتمني زوال النعمة عن الآخرين، وهذا التمني مناقض للأخوة الإيمانية، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو شراء صوري بسعر مرتفع بقصد الإضرار بالمشتري الحقيقي، وتحقيق ربح غير مشروع، وهو بالمعنى الموسع مطلق الخديعة والمكر، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (11) ﴾
وفي الحديث الشريف:
((المكر والخداع في النار))
وفي الحديث الآخر:
(( ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به))
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التباغض والتدابر والهجران:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التباغض بسبب الأهواء والمصالح، وحقيقة النهي عن التباغض هو نهي عن أسباب التباغض، فكل موقف، أو تصرف، أو كلام من شأنه أن يجرح أخاك فيبغضك محرَّم في دين الله، والتباغض أيها الأخوة يتناقض مع الألفة والمحبة، التي هي
من خصائص المؤمنين، قال تعالى في سورة آل عمران:
﴿َاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أخوانا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) ﴾
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التدابر والهجران، ففي صحيح البخاري:
((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. ))
ومن هجر أخاه ستة أيام فهو كسفك دمه.
وبعد أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب العداوة والبغضاء أمر بكل ما من شأنه أن يمكِّن المحبة والألفة والتآخي بين المؤمنون فقال عليه الصلاة والسلام:
((وكونوا عباد الله أخوانا))
فأنتم عباد الله، ومن شأن العبد أن يطيع الله ربه فيما أمر وفيما نهى، والله يريدكم أن تكونوا أخواناً.
في حديث آخر يبين النبي صلى الله عليه وسلم حقوق المسلم على المسلم، ولا شك في أن أداء هذه الحقوق تورث المحبة والألفة والأخوة، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( حق المسلم على المسلم خمس، رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس، وفي رواية لمسلم، وإذا استنصَحَك فانصحْه))
من حقه عليك.
حرم النبي الكريم ظلم المسلم وخذلانه وتكذيبه وتحقيره أشد التحريم:
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ما من شأنه أن يسبب تنافر القلوب واختلافها، فقد حرم النبي عليه الصلاة والسلام أشد التحريم ظلم المسلم، فلا يدخل عليه ضرراً في نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو ماله، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحريم خذلان المسلم في دنياه، كأن يقدر الرجل على نصرة أخٍ مظلوم، وكف يد ظالمه، ثم لا يفعل، وكأن يقدر المسلم على نصرة أخيه في آخرته، كأن يقدر على نصحه وكفه عن غيه فلا يفعل، روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة))
وحرم النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحريم أن يُكذب المسلم، أو يُكذَب عليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((كبرت خيانةً أن تحدث أخاك حديثاً هو لك مصدق وأنت به كاذب))
وحرم النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحريم تحقير المسلم، لأن الله لما خلقه كرمه ورفعه وكلفه، واحتقار المسلم تطاول على مقام الربوبية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( بِحسْبِ المْرِء مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلمَ ))
والاحتقار ناشئ عن الكبر، لما رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((الكبر بطر الحق - أي رده - وغمص الناس))
أي احتقارهم، وفي صحيح مسلم:
(( لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ))
وتعليل ذلك أن الكبر يتناقض مع العبودية لله، فكما أن قطرة من النفط واحدة تفسد قربة من العسل، كذلك ذرة من الكبر تفسد العبادة كلها.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم أن للمسلم حرمة في دمه، وحرمةً في ماله، وحرمةً في عرضه، وهذه الحرمات الثلاث يقوم عليها المجتمع المسلم الآمن، وحفاظاً على الدم من أن يسيل، وعلى المال من أن يسرق، وعلى العرض من أن ينتهك شرَّع القصاص في الإسلام، وأعلنت الحدود، قال تعالى:
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ﴾
بل إن ترويع المسلم محرم في الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام:
((لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً))
قصة تُظهِر التعاون والإخلاص للمبدأ والتناصح:
أيها الأخوة المسلمين، أيتها الأخوات المسلمات، بعد أن تحدثت عن المنطلقات النظرية للجانب الاجتماعي في شخصية المسلم، وبعد أن تحدثت عن النصوص القرآنية والنبوية التي تعد أصلاً في الروح الجماعية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون، ننتقل الآن إلى الوقائع، فهذه قصة جرت وقائعها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ممكن أن نستشف منها روح التعاون والإخلاص، وروح التناصح بين المؤمنين.
غلام صغير اسمه عمير بن سعد الأنصاري تجرع كأس اليتم والفاقة منذ نعومة أظفاره، وتزوجت أمه من ثري من أثرياء الأوس يدعى الجلاس بن سويد، أحب عمير عمه الجلاس حب الابن لأبيه، وأولع الجلاس بعمير ولع الوالد لولده، وكان عمير لا يتخلف عن صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عن عزمه على غزو الروم في تبوك، وأمر المسلمين أن يستعدوا، ورأى عمير كيف أن المسلمين يبذلون كل ما في وسعهم لتجهيز هذا الجيش الغازي، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتي بألف دينار ذهباً ويضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يحمل مئتي أوقية من الذهب ويضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء نساء المهاجرين والأنصار ينزعن حليهن ليقدمنه لرسول لله صلى الله عليه وسلم، وهذا رجل يعرض فراشه للبيع ليشتري بثمنه سيفاً يقاتل به، وهؤلاء النفر الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمهم إلى الجيش فردهم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً.
وعجب عمير الفتى الأنصاري من تباطأ عمه الجلاس عن البذل لهذا الجيش، وعرض عليه هذه الصور المشرقة من بذل الصحابة الأغنياء والفقراء على حد سواء، فما كان من الجلاس إلا أن قال: يا عمير إن كان محمد صادق فيما يدَّعيه من النبوة فنحن شر من الحمير، شده عمير مما سمع، ورأى أن في السكوت على الجلاس والتستر عليه خيانة لله ورسوله، وإن في إذاعة ما سمعه عقوقاً بالرجل، فقال لعمه الجلاس: والله يا عم ما كان على ظهر الأرض أحد بعد محمد بن عبد الله أحب إلي منك، ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خنت أمانتي، وأهلكت نفسي، وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قلت قبل أن ينزل وحي يشركني في إثمك، فكن على بينة من أمرك، ومضى الفتى عمير إلى المسجد، وأخبر النبي بما سمع، واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس، وسأله عن مقالته لعمير فقال: كذب علي يا رسول الله وافترى فما تفوهت بشيء من ذلك، فقال بعض الحاضرين: فتىً عاقّ أبى إلا أن يسيء لمن أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه غلام نشأ في طاعة الله، والتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن بالدم، والدموع تنحدر من عينيه، وهو يقول: اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به، فانبرى الجلاس، وقال: يا رسول الله إني أحلف بالله ما قلت شيئاً مما نقله إليك عمير، ثم غشيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فعرف أصحابه أنه الوحي، فلزموا أماكنهم حتى سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سُرِّي عنه تلا قوله عز وجل:
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ (74) ﴾
ارتعد الجلاس من هول ما سمع ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بل أتوب يا رسول الله، صدق عمير، وكنت من الكاذبين، اسأل الله أن يقبل توبتي جُعلت فداك يا رسول الله، ثم توجه النبي الكريم إلى عمير بن سعد فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق، فمد يده الشريفة إلى أذنه فأمسكها برفق وقال: وفّت أذنك يا غلام ما سمعت، وصدقك ربك، وعاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام، والشيء الغريب أن الصحابة عرفوا صلاح حاله مما كان يغدقه على عمير من بر، فقد كان يقول كلما ذكر عمير: جزاه الله عني خيراً لقد أنقذني من الكفر وأعتق رقبتي من النار.
أرأيتم أيها الأخوة إلى التعاون والإخلاص للمبدأ والتناصح.
الأمر التكويني والأمر التكليفي:
أيها الأخوة المؤمنون، الأمر التكويني فعل الله، والأمر التكليفي أمر الله ونهيه، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وكرمه أعظم تكريم بأمر تكويني، وكلفه أن يبني مجتمعاً فاضلاً أساسه التعاون والتنظيم والعمل المنتج وتحكمه القيم، قيم العدل والرحمة والإحسان بأمر تكليفي، خلقه بأمر تكويني وأمره أن يبني هذا المجتمع الفاضل بأمر تكليفي، فإذا ظهر الخلل والفساد في المجتمع البشري فسببه الخروج عن الأمر التكليفي، وشاءت حكمة الله أن يخلق مجتمعاً قائماً على أعلى مستويات التعاون، والتكامل، والاختصاص، والعمل الدؤوب المنتج، والتنظيم المعجز بأمر تكويني لا تكليفي، لذلك لا يمكن أن تجد في هذا المجتمع خللاً ولا فساداً، كمال مطلق لان أمره هنا تكويني لا تكليفي، هذا ما نجده في مجتمع النحل فخلية النحل مجتمع موحد متكامل على رأسه ملكة واحدة لا تنازعها أخرى، تشعر كل نحلة في الخلية بوجود الملكة عن طريق مادة تفرزها الملكة، وتنقلها العاملات إلى كل أفراد الخلية، فإذا ماتت الملكة اضطرب النظام في الخلية وعمت الفوضى، وشلت الأعمال، والملكة تضع كل يوم في فصل الربيع قريباً من ألفي بيضة ما بين ذكور، وإناث، وملكات، وتضع الملكة كل جنس في مكان مخصص ليتلقى غذاءً خاصاً، وعناية خاصة بحسب جنسه، ولإناث النحل أعمال متنوعة كثيرة توزع فيما بينها بحسب أعمارها واستعدادها الجسماني، وعند الضرورة، وعند الخطر، وفي المواسم الجيدة تعمل كل نحلة أيّ عمل يفرض عليها، هناك وصيفات للمكلة يقمن على خدمتها وجلب الطعام الملكي لها، وهناك حاضنات ومربيات يقمن برعاية الصغار وجلب الغذاء المناسب، وهناك شغالات يحضرن الماء إلى الخلية، وهناك شغالات يقمن بتهوية الخلية صيفاً وتدفئتها شتاءً، وترطيبها في وقت الجفاف، وهناك شغالات يقمن بتنظيف الخلية، وجعل جدرانها ملساء ناعمة لامعة عن طريق مواد خاصة، وهناك حارسات يقمن بحراسة الخلية من الأعداء، ولا يسمحن لنحلة أن تدخل الخلية ما لم تذكر كلمة السر وإلا تقتل، وكلمة السر تبدل عند الضرورة، وهناك شغالات يقمن بصنع أقراص الشمع ذات الشكل السداسي الذي تنعدم فيه الفراغات البينية بتصميم معجز، وبأسلوب يعجز عن تقليده كبار المهندسين، وهناك رائدات يقمن بمهمة استكشاف مواقع الأزهار، فإذا عثرن عليه عدن إلى الخلية، ورقصن رقصة خاصة تحدد هذا الرقصة لبقية النحلات العاملات الموقع من حيث المسافة، ومن حيث الاتجاه، ودرجة النشاط في الرقص تدل على وفرة الغذاء أو تناقصه، والجمهرة الكبيرة من الشغالات تنطلق إلى مواقع الأزهار لجني رحيقها، لأنه المادة الأولية للعسل، وقد تبتعد هذه المواقع عن الخلية أكثر من عشرة كيلو مترات، وتعود النحلات إلى الخلية بعد أخذ الرحيق بطريقة لا تزال مجهولة حتى اليوم.
إعجاز الله في خلق النحل:
النحل أكفأ الحشرات في جمع، ونقل، وتخزين أكبر قدر من رحيق الأزهار في أقصر وقت، وفي أقل مجهود، وهي أكفأ الحشرات على تلقيح النباتات لتساعدها على إنتاج البذور والثمار، وتخرج النحلات إلى مكان واحد محدد مسبقاً لتجني رحيق أزهار نوع واحد محدد مسبقاً، والذي يلفت النظر أن أمراض النحل كلها لا تنتقل إلى الإنسان عن طريق العسل، ويتمتع النحل بقدرة يصعب تفسيرها على الإحساس بالزمن فيعرف متى تفرز أزهار كل نوع من النبات رحيقها ؟ ومتى تنثر حبوب لقاحها ؟ ثم يداوم على زيارة كل منها في الموعد المناسب فقط، وجني الرحيق الذي يكفي لصنع كيلو واحد من العسل يحتاج إلى طيران أربعمئة ألف كيلو متر، أي ما يعادل عشرة أضعاف محيط الأرض، وقيمة العسل العلاجية أضعاف قيمته الغذائية، ففوائده العلاجية في مختلف أجهزة الجسم وأعضائه ونسجه ثابتة، بل تفوق الحد المعقول، كيف لا وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) ﴾
لماذا خوطِب النحل في القرآن الكريم بضمير المؤنث، حيث قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ﴾
بينما خوطب النمل في القرآن الكريم بضمير المذكر، حيث قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) ﴾
الإجابة عن هذا السؤال تدخل في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.