الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
سورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً:
أيها الإخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الناس وهي آخر سورة في كتاب الله، وسورة الناس وسورة الفلق هما المُعَوّذتان اللتان حضّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قِراءَتِهما مِراراً وتَكْراراً.
وفي الدرس الماضي، في سورة الفلق تَوَجَّهَتْ الآيات إلى أنَّ الإنسان إذا خاف عَدُوّاً، وخطراً قريباً، وشَبَحَ مُصيبةٍ، وأشْرار الناس فَلْيَسْتَعِذ بِرَبِّ الفلق، والفلق هو الكون، ويُمْكِنُ أنْ تُوَجَّه آيات اليوم توْجيهاً آخرَ إضافَةً إلى ما تحْتَمِلُهُ أيْضاً من تَوْجيهات السورة السابقة.
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم والكمال الذي ظَهَر منه؛ عَقْلُهُ الراجح، وحِلْمُهُ الذي لا حُدود له، وشَجاَعَتُه:
(( أنا النبي لا كذِب، أنا ابن عبد المطَلِّب. ))
ورأفَتُهُ، ورحْمَتُهُ، ورِفْقُهُ بالحيوان، وعطْفُهُ على الإنسان، ورجاحَةُ تفْكيره، كيف كان أباً ناجِحاً، وزوجاً ناجحاً، وقائِداً ناجِحاً، وسِياسِياً مُحَنَّكاً، وأخاً كبيراً للمؤمنين، كيف جمع هذه الصِّفات من الرحمة إلى العِلْم، إلى الحِكْمة إلى الحِلم إلى التواضع إلى الفِطْنة إلى الذكاء، إلى قُوَّة الحدْس، وإلى إشْراق النفْس، وإلى دِقَّةِ النظْر إلى رجاحة الرأيْ، كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الكمالات! حتى إنَّ الله سبحانه وتعالى وصَفَهُ وصْفاً ينْفرِدُ به، قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
ولم يُقْسم الله سبحانه وتعالى بِعُمُرِ نَبِيٍّ إلا بعمره صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72)﴾
العِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة:
ولم يُخاطب ربنا سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام إلا بِقَوْله:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(59)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ(67)﴾
فَهُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُؤكد عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد يسأل سائِل: من أين جاءَت هذه العَظَمَة؟ ومن أين جاء هذا الخُلُق العظيم؟ ومن أين جاء هذا الحِلْمُ والمروءة والرحمة والحِكمة والتواضع؟ يا رسول الله ما هذا الأدب؟ فكان الجواب: قال تعالى:
﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ (1)﴾
أنا كذلك لأنَّني عُذْتُ بِرَبِّ الناس، فهذا معنى آخر، هذا الخُلُقُ العظيم وهذه النفْسُ المُشْرِقَة وهذا العَقْلُ الراجح وهذه الصِّفات السامِيَة إنما اشْتَقَّها النبي عليه الصلاة والسلام من الله سبحانه وتعالى عن طريق الاتِّصال به تعالى والعِياذِ به، فكلمة ﴿أَعُوذُ﴾ مُضارع ماضيها عاذَ ومصْدَرُها عِياذ وعَوْذٌ، فالعِياذ بالله عز وجل هو سببٌ لِكُلِّ مكْرُمَة.
والآن فإنك ترى أنّ الصورة قد انْقَلَبَتْ من وصْفٍ للنبي عليه الصلاة والسلام إلى طريقٍ سالِكٍ إلى الله عز وجل، فَكُلُّ واحِدٍ يسْمعُ هذا الكلام إذا أراد الخُلُق الرفيع والمقام المحْمود عند الله، وإذا أراد أنْ تكون له سعادته الأبَدِيَّة، وأن يكون حليماً كريماً ومُتواضِعاً وشجاعاً وجريئاً وصاحِبَ مُروءة، حكيماً وذَكِياً وفَطِناً فالطريق أنْ يتَّصِل بالله عز وجل، قال تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾ .
فلا تعْجبوا:
(( أدَّبني ربي فأحْسن تأديبي. ))
هُناك دلائل كُبْرى في كتاب الله تُبَيِّنُ عظمة هذا النبي صلى الله عليه وسلَّم:
في السورة الماضِيَة وُجِّهَت الآياتُ على أساس أنَّك إذا خِفْتَ من مخْلوق شِرير، أو إذا بدَتْ لك مُصيبة أو شبَحُ مصيبة، أو خِفْتَ مرَضاً عُضالاً أو جُرْثوماً فتاكاً وعَدُوّاً قهاراً، إذا خِفْتَ من أمْثال هؤلاء فقُلْ:
﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ (1)﴾
اليوم هذا الكمال العظيم، وهذا الخُلُق العظيم، وهذه الرِّفْعَة العالية، وهذا الثبات على المبْدأ، وهذه السعادة التي لا توصَف،
(( لَو أنَّكم تَكونونَ على كلِّ حالٍ على الحالِ الَّتي أنتُمْ عليها عندي، لصافحتْكمُ الملائِكَةُ بأَكُفِّهِم، ولزارتْكُم في بيوتِكُم. ))
فَمَن مِنا لا تسْتَهْويهِ أخْلاق النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن منا إنْ كان صادِقاً يستطيع أنْ يذْهب إلى الحرَمِ النبوي الشريف ويقف أمام حُجْرَتِهِ الشريفة ولا يبْكي؟ ما الذي جَمَعَكَ به؟ فأنت لم ترَهُ! بعد ألف وأربعمئة عام تقِفُ أمام حُجْرَتِهِ فَتَبْكي، من هذا الإنسان؟ أليس لأنَّهُ على خلُقٍ عظيم، أليْس لأنَّ رحْمته وسِعَتْ أُمَّتَهُ كُلَّها؟ أليس لأنَّهُ كان نَبِيَّ هذه الأُمَّة؟ أليس لأنَّهُ لم يقُل شيئاً بلِسانِهِ إلا طَبَّقَهُ في سُلوكِهِ؟ يكْفيهِ بعضُ المواقف! ففي معركة بدر كانت الرواحل ثلاثمئة، والجُنود أكثر من ألف فما الحيلة؟ فقال عليه الصلاة والسلام وهو قائِدُ الجَيْش: لِيَتَناوَبْ كُلُّ ثلاثةٍ على راحِلَة، وأنا وعَلِيٌّ وأبو لُبابة على راحِلَة، فلما جاء دَوْرُهُ في المَشْيِ قال له صاحِباهُ: يا رسول الله اِبْقَ راكِباً، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو نَبِيُّ هذه الأُمَّة، وهو قائد الجيش، وهو في رأس هذا المجتمع- كلماتٍ لو أعَدتُها آلاف المرات لا أشْبَعُ منها: ما أنا بأغْنى منكما عن الأجْر، ولا أنتما بِأقْوى منِّي على المَشْي!
(( كنَّا يومَ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ على بَعيرٍ، كان أبو لُبابةَ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ زَمِيلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: وكانتْ عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فقالا نحن نَمشي عنك، فقال: ما أنتما بأقْوَى منِّي، ولا أنا بأغْنَى عن الأَجرِ منكما! ))
قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ما هذا التواضع؟ دخل مكَّةَ مُطَأطِئ الرأس تواضعاً لله عز وجل.
خلق النبي الكريم مع أزواجه وأصحابه:
وقد بلغه أن الأنصار في أنفسهم عليه:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَاماً فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالاً فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ –تكلم ما في نفوسهم- أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيداً فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلاً فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْباً لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْماً وَحَظّاً ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا. ))
[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ]
ما هذا الموقف الحكيم! كيف ألَّف قلوبهم؟ كيف جمعهم عليه؟ وكيف أزال من أنفسهم الألمَ؟ كيف أرضاهم؟ كيف أكرمهم؟ ما هذا الخُلُقُ العظيم! وهذا شأنه مع أزواجه الطاهرات، ومع أصحابه الكِرام، وكلُّ صحابيٍّ كان يظُنُّ أنَّه أقربُ الناس إليه، عرفَ قدْرَ أصحابه، يقول لأحدهم:
(( لقد جمعَ لي رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ أُحدٍ أبويه فقال: ارمِ سعدٌ فِداك أبي وأُمِّي. ))
ويقول له إذا دخل عليه:
(( أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ. ))
[ الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]
ويقول لِأحدهم:
(( يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ. ))
ويقول عن سيِّدنا أبي بكرٍ:
(( إنَّ أمَنَّ الناسِ عليَّ في مالِهِ وصُحبَتِه أبُو بكرٍ، ولوْ كُنتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتَّخذْتُ أبا بَكرٍ خليلًا، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسلامِ لا يَبقيَنَّ في المسجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا خوْخَةُ أبِي بكرٍ.))
ما دعا النبي عليه الصلاة والسلام أحداً إلى الإسلام إلاَّ كانت له كَبوةٌ إلاَّ سيدنا أبا بكرٍ رضي الله عنه، فليس على الأرض بعد الأنبياء أفضلَ من أبي بكر، فما أساء للرسول صلى الله عليه وسلم قط، وقد عرف قدرَه عليه الصلاة والسلام.
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه ووصَفه وصفاً دقيقاً وهذا من عظمة خلقه:
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، ما لَقِيَكَ الشَّيْطانُ قَطُّ سالِكًا فَجًّا إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ. ))
لك رهبة عنده، أمّا سيدُنا عثمان:
(( عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعاً فِي بَيْتِي كَاشِفاً عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ. ))
سيدنا عليُّ كان عالماً كبيراً ، سيدنا أبو عبيدة قال فيه:
(( أمينُ هذه الأُمَّة. ))
سيدنا خالد قال فيه:
(( نِعم عبد الله خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله. ))
ما من صحابيٍّ إلا وأعطاه النبيُّ حقَّه، ووصَفه وصفاً دقيقاً، ما هذا الخلُق العظيم! ما هذه الصفات العالية! ما هذه النفسُ السَّامية! من أين جاء بهذا كلِّه؟
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ لأنه التجأ إلى الله عز وجل واتَّصل به واشتقَّ من كماله، واقتبس من أسمائه الحسنى.
جاءت رب الناس ملك الناس إله الناس تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وصْفٌ لحالة النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وسِرٌّ لعظمة النبي عليه الصلاة والسلام، وطريقٌ لأن تكون عظيماً بنوعٍ من أنواع العظمة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تحبُّ أن تكون رحيماً حقيقة؟ هناك من يتظاهر بالرحمة أمام الناس، وهو ينطوي على قلبٍ قاسٍ كالحجر، هناك من يحكم حكماً عادلاً لِيُقال عنه عادل، ولو خلا إلى نفسه لا يحكم هذا الحكم، لذلك إذا أردتَ أن تكون أخلاقياًّ حقيقةً، وأخلاقك أصيلةً نابعةً من الإيمان لا من الذكاء، إنَّ هذا طريقُه الاِتصالُ بالله عز وجل، قال تعالى:
﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ (1)مَلِكِ ٱلنَّاسِ (2)إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ (3)مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ (4)ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ (5)مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ (6)﴾
ربُّ الناس، وملك الناس، وإله الناس جُمِعتْ في قوله تعالى:
﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلْأَنْعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍۢ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ خَلْقًا مِّنۢ بَعْدِ خَلْقٍۢ فِى ظُلُمَٰتٍۢ ثَلَٰثٍۢ ۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (6)﴾
وقال تعالى:
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)﴾
﴿ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ(5)﴾
عندنا سؤالان: لماذا ربُّ الناس مع أنَّهُ رب العالمين؟ ولماذا ملكُ الناس مع أنَّهُ مالِكُ المُلْك كُلِه؟ ولماذاَ إله الناس مع أنَّهُ إله العالمين؟ قيل: هذا تخْصيصَ تشْريف للإنسان، هو رب العالمين، ولكن في هذه السورة جاءت ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ*مَلِكِ ٱلنَّاسِ*إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ﴾ تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان.
الله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم:
لماذا التَّكْرار؟ هو تَكْرار تَوْكيد، فما معنى ربُّ الناس؟ وما معنى ملِكُ الناس؟ وما معنى إله الناس؟
الربُّ أيها الإخوة الأكارم هو المُربي، ولا يتَّضِحُ معنى الربوبيَّة إلا بِمَثَلٍ نضْربه: لو أنَّ مُزارِعاً زرع فسيلَةً، زرع نباتاً فَعَليه أنْ يسْقيه، وأن يُمِدَّهُ بالسماد، وإذا ظهر عليه مرضٌ فعليه أنْ يُكافِحَ هذا المرض بالمُبيدات، وعليه أنْ يعرِفَ طبْعَ النبات، أيُحِبُّ الشمْس الساطعة؟ أم الشمس المُخَفَّفَة؟ أم ظلاً ظليلاً؟ أَتَكون السُّقْيا كُلَّ يوم؟ أم في الأُسْبوع مَرَّتان أو مَرَّة؟ فَسَقيُ هذا النبات وتَقْليمُهُ، وتسْميدُهُ، ونقْلُهُ من مكانٍ لآخر، ومُكافحة أمْراضِهِ هذا نَوْعٌ من الترْبِيَة، فماذا تحْتاجُ التَّربية؟ إلى العِلْم، ما مِن مُرَبٍّ إلا وهو عليمٌ بِطَبيعَة الذي يُرَبيه، ماذا يحْتاج؟ وماذا يُصيبُهُ؟ وكيف تُكافَحُ هذه الأمْراض؟ ما طبيعة هذا النبات؟ فالله سبحانه وتعالى لأنَّهُ ربُّ العالمين وَجَبَ أنْ يكون عليماً بِخَلْقِهِ وخبيراً بِهِم، وفَرْقٌ دقيق بين العِلْم والخِبْرة، فقد تكون عالِماً ولَكِنَّك لا تسْتطيع أنْ تتنبَّأ بما سَيكون، وقد تصْنَعُ هذه الأداة، ولكن لا تعرِفُ أين نِقاطُ ضَعْفِها، عند الاسْتِعْمال تبْدو لك نِقاط الضَّعْف فَتُقَوِّيها، فأنت لا تمْلكُ الخِبْرة الكافِيَة، معنى الخِبْرة: الحقائِق المُسْتَمَدَّة من التجارب الطويلة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ أزَلِّي، وخِبْرَتُهُ أزَلِيَّة، فلا بدّ أن يكون ربُّ الناس عالِماً، ولا بدّ أن يكون ربُّ الناس خبيراً بِهذه النَّفْس، ولا بدَّ أن يكون رب الناس قديراً:
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82)﴾
ولا بد أن يكون رب الناس غَنِيّاً وحكيماً، فقد تَصُبُّ على نبْتَةٍ رقيقة ماءً كثيفاً فَتَكْسِرُها! تقول: هي تحتاج إلى الماء! لست حكيماً، نعم تحْتاج إلى الماء ولكن إلى ماءٍ خفيف، لا بد أنْ يكون عليماً وخبيراً وقديراً وغنياً وحكيماً، ولا بدَّ أن يكون إشْرافُهُ مُسْتَمِراً، فلَوْ غاب صاحبُ هذه الفسيلة، وسافر ثمَّ عاد، قد يجِدُها ماتَتْ لِسَبَبِ غِيابِهِ عنها، فلا بد من إشْرافٍ دائِم، فالإشْرافُ الدائِم والغِنى والقدرة والحكمة والعلم والخبرة هذه بعض الأسْماء التي لا بد من توافُرِها في المُرَبي، فإذا قلت:
﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾ فَرَبُّ الناس هو الذي يُمِدُّهُم بِحاجاتِهم؛ أنت بحاجة إلى الهواء، والهواء موجود فَنِسْبَةُ الأُكْسجين إلى غاز الفَحْم نِسْبَةُ مدْروسة، فَلَو زاد هذا الغاز على حِساب ذاك الغاز لاختَلَّت الحياة، فلو زاد الأُكْسجين لاشْتَعَل كُلُّ شيءٍ في الأرض، ولو زاد غاز الفحْم لاخْتَنَقَ كُلُّ شيء،
ولكن هذه النِّسْبَة دقيقة، وكيف أنَ النبات يُعْطينا الأكسجين في النهار، ويسْتهلكُ غاز الفحم،
وكيف أنَّ الإنسان بالعكس يستهلك الأُكْسجين ويعطي غاز الفحْم.
بعض نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى:
أمَدَّنا الله تعالى بالهواء وبالماء الذي لا طعْمَ له ولا لوْنَ له ولا رائِحَة له، وهو يتبَخَّر في الدرجة الرابعة عشرة، فإذا تَجَمَّد قَلَّتْ كثافَتُه، على خِلاف عناصر الأرض كُلِّها، فلو أنَّه كعناصر الأرض إذا تَجَمَّد تقلّص وانكمش وزادَتْ كثافته لانْتَهَت الحياة على سطْح الأرض، فالله هو المربي، أعْطانا الهواء فهو عالم وخبير وحكيم وغني وقدير ومشرف، أعطانا الهواء بِنِسَبٍ ثابِتَة، وأعْطانا الماء بِمواصفات مِثالِيَّة، جعله عذْباً فُراتاً، وفي البحر جعله ملْحاً أُجاجاً، وَحَوَّل مياه البحْر المالِحَة إلى مياهٍ عَذْبَة عن طريق الأمْطار،
ففي بعض البُلْدان العَرَبِيَّة هناك وِحْدات تحلية، كُلُّ مترٍ من الماء يُكَلِّف ثلاثة ريالات، ومع هذا لا يصْلُحُ للشرب، لأنها مِياهُ لا تُناسِبُ الإنسان، فلا بدّ من خلْطِها بِمِياه الآبار حتى يصْلُحَ للشُّرْب، أمَدَّنا بالهواء والماء والنبات، فَلَولا النبات لمَا عاش الإنسان، لو ألْقَيْتَ نظْرَةً على النبات لَوَجَدْتَ نباتات المحاصيل؛ خُضْراوات شتْوِيّة وربيعِيَّة وصيْفِيّة وخريفيَّة، تُقطَف تِباعاً، والمحاصيلُ تُقْطَفُ دفْعةً واحدة وهي قِوام غِذاء الإنسان، وكذا الأشْجار قد تسْتفيد من ثمرها، أو من ظِلِّها، أو من جِذْعِها، أو من أزْهارِها، أو من أوْراقِها، فالنباتات أنواع، وقد أمدنا الله بالنبات بِشَتى أنْواعِهِ، وأمَدَّنا بالحيوان قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾
أَلْقِ نظْرَةً على طِفْلٍ يقود جَمَلاً، واتْلُ هذه الآية:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾
أما العقْرب فليس مُذَلَّلاً وكذا الأفْعى، فالرجل إذا رأى عَقْرباً قفزَ من مكانه، وصرخ بأعلى صَوْتِهِ، أما الطفْل فَيُمْسِكُ جمَلاً ويقودُهُ، فهو سبحانه وتعالى أمَدَّنا بالحيوان، هناك حيوانات نأكلُ لُحومِها، وأخرى نرْكَبُها، ونَحْمِلُ عليها أثْقالنا، وتلك نسْتفيدُ من جُلودِها، وهذه تَحْرُسنا، وهناك حيوانات تُنَظِّفُ البيوت، وأخرى تنظف البراري، أنواعٌ منوعة لا يعْلَمُها إلا الله.
هناك أسْماكٌ نتَغَذى منها، ونسْتَمْتِعُ بِمَنْظرها، وأسْماك زينة، هناك محلات لبيع أسماك الزينة، كأنها من صنع البشر فهذا سمكٌ شَفاف، والآخر أسْود فاحِم، والرقيق والمُسَطَّح، وله الأجْنحة، وله ذَيْلاَن وشارِبَان، أنواعٌ لا يعْلَمُها إلا الله، لماذا خُلِقَتْ هذه؟ من أجلْ أن تستمتِعَ بها، أسْماك تأكل منها، وأخرى تسْتفيد من أحْشائِها من كَبِدِها، حِيتان، أسماك صغيرة، الأطيار أنْواع منّوعة.
بعض نماذج الربوبية وما يمدنا الله به من حاجات:
ما معنى ربُّ العالمين؟ أي أمَدَّنا بِكُلِّ هذا، حياتنا فيها هواء وماء ونبات وحيوان وأسماك وأطْيار، ثمَّ هناك جبال مثل الخزانات للمياه،
ومِصَدات للرياح،
أوتاد في الأرض، قال تعالى:
﴿ وَأَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَٰرًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15)﴾
﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَٰسِىَ شَٰمِخَٰتٍۢ وَأَسْقَيْنَٰكُم مَّآءً فُرَاتًا(27)﴾
وكذا الوِدْيان، بيت زِراعي دون مُقابل، تجد البيت يُكَلِّف خمسين أو ستين أو سبعين ألفاً! أما الوديان بيوت زراعية وذات بيئة مَحْمِيَّة -كما تسمى الآن- بلا مقابل تزرع فيها خضراوات مُبَكِّرة، وتربحُ منها أرْباحاً طائِلَة، وكذا الأغوار لها فائدة، والسهول والجبال كلُّ هذه لها فائِدَة، فما معنى ربُّ العالمين؟ أمَدَّنا بِكُلِّ هذا! ثمَّ سخَّر لنا الشمس وما فيها من حرارة، فلو انْطَفَأت فجأةً لانْتَهَت الحياة على سطْح الأرض، ولأصْبَحَت الأرض كَوْكباً جليدياً حرارته مئتان وخمسون تحت الصِّفْر، ولانتهت الحياة، أمَدَّنا بالقمر، وبالبحار المُلَطِّفَة للأجْواء، فلولا الماء على سطْح الأرض لأصْبَحَتْ حرارة المكان الذي يرى الشمْس مئتين وخمسين فوق الصِّفْر، وإلى جانبِهِ في الظلّ مئتين وخمسين تحت الصفْر! كما هي الحال في القمر، فإذا وقف الرائد الفضائي في الشمْس كانت الحرارة مئتين وخمسين فوق الصفر، وإذا وقف تحت الظلّ كانت الحرارة مئتين وخمْسين تحت الصفر، لأنَّ الهواء والماء المُلَطِّفَين للجوّ منعدمان،
فالماء والهواء أجْهِزَة تكييف رائِعَة جداً للأرض،
أمَدَّنا بالأنهار والبُحَيْرات، معنى الرَبّ المُمِدّ بالنعم، لكنَّ المُمِدّ يجب أن يكون عالِماً وخبيراً وحكيماً وغَنِياً وقديراً ومُشْرِفاً إشْرافاً دائِماً، وأنت تقول في الصلاة:
﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(2)﴾
والله الذي لا إله إلا هو كلمة "رب العالمين" لو بَقيتَ السنوات الطِّوال تتحَدَّثُ عن نماذِج الربوبِيَّة، وما يُمِدُّنا الله به من حاجات لمَا انتَهَتْ هذه الأيامُ والسنوات.
الجنين وخلق الإنسان من آيات الله الدالة على عظمته سبحانه:
الجنين في بطْن أُمِّهِ من يُمِدُّه بالغذاء؟ ومن خلق له المشيمة ليأخذ الغذاء منها، ويُصفّى دمه عن طريقها! وفيها هرْمونات تُشْرف على أجْهزته الداخِلِيَّة، فالمشيمة وحْدَها تكادُ تكونُ دِماغاً، ونُخاعاً شَوْكياً، وَكَبِداً، وجهاز تَصْفِيَة الدم، ورئتين، وقلباً، ومُسْتَوْدعاً للغذاء، هذه كُلُّها المشيمة،
فَمَن كَوَّن هذا الجنين في بطْن أُمِّه؟ إذْ يحْتاج إلى مواد معينة من بوتاسْيوم وكالِسْيوم، وفوسفور، فهذا الوَحَم تعْبيرٌ عن حاجَةِ الجنين، قد يحْتاج الجنين إلى مادَّة البوتاسيوم، فَتَشْتَهي الأمُّ أكْلَةً مُعَيَّنة، لقد حارَ العُلماء في هذه الظاهرة، حالة المرأة الحامل عجيبةٌ جداً، تشْتهي أكْلات نادرة لا علاقة لها بالمَوْسِم، هذا الذي تشْتهيه تعْبير عن حاجة الجنين في بطْنِها، تدبير ربّ العالمين سبحانه وتعالى، فهذا الجنين لا يسْتطيع أنْ يتَكَلَّم ويقول: ينْقُصُني بوتاسْيوم! الله سبحانه وتعالى يخْلق حاجَةً في نفْس الأمِّ لِهذا الطعام، فَتَأكُلُهُ فَيَذْهَبُ إلى الجنين مُباشَرَةً، مَن أمدّ الجنين؟ من جعل دمه يُصفّى عن طريق المشيمة؟ لديه رئتان وقلب معطلة، بِمُجَرَّد أن ينْزل الجنين إلى الأرض -هكذا قال الأطباء- تأتي جلْطَة فَتُغْلِقُ الثُّقْب الذي بيْن الأُذَيْنَيْن،
ربنا عز وجل حِكْمَتُهُ بالغة، فما دامت الرئتان مُعَطَّلتين في بطْن الأم، والتنفُّس مُعَطَّل، كيفَ يُصَفَّى الدم؟ عن طريق المشيمة، فَدَوْرَةُ الدم الصغْرى من الأُذين الأيْسر إلى الرئتين إلى الأُذَيْن الأَيْمن دوْرَة مُغْلَقَة، هناك فَتْحَة بين الأُذَيْنَيْن كَشَفَها عالِمٌ اسمُهُ بوتال، ثم قالوا: هذا ثُقْب بوتال يمُرُّ بِهِ الدم من أُذَيْن إلى آخر، أما الطريق نحو الرئتين فمُغْلَق، والرئتان مُعَطَّلَتان، وبِمُجَرَّد أنْ يولد الجنين وينزل إلى الدنيا تأتي جلْطَةٌ فَتُغْلِقُ هذا الثُّقْب بين الأُذَيْنين، فَيَتَحَوَّل الدم إلى الرئَتَيْن، ويسْتنشِقُ الوليد الهواء ويتنفَّس، فمن أجل أنْ تصِلَ يَدُ إنسان إلى هذا الثُّقْب فتُغْلِقَهُ بِعَمَلِيَّة، هذه العَمَلِيَّة تحْتاج إلى سبعين أو ثمانين ألف ليرة قبل عشرة سنوات، واحْتِمال نجاحِها بالمئة ثلاثون، ترْكيب قلْب صِناعي، وربْطُ الأوْرِدَة والشرايين إلى القلب الصناعي، وفَتْحُ القلب، وخياطة هذا الثقب، ثمَّ إغْلاقه، ثمَّ تمْسيدُه، فإما أنْ ينبُض أو لا ينْبض! فإذا لم ينْبض يكون الأمر: عَظَّمَ الله أجْركم، لقد مات الغُلام! تاتي جلطة، يد من؟ يدُ من تأتي فَتُغْلِقَ هذا الثقب بين الأذينين؟ الله عز وجل حكيم، يولد مئة ألف غلام فتأتي جلطة بيد القدرة فتغلق هذا الثقب، ومن بين كل مئة ألف غلام يبقي الله عز وجل طفلاً واحداً الثقب عنده لا يزال مفتوحاً، وهذا الداء اسمه داء الزَّرَق يمْشي الطِّفل مستقبلاً ثلاثة أمْتار ثمَّ يقع من تعبه! لأنَّ الدم يخْتار الطريق الأيْسَر، فقد أصبح طريق الرئتين طويلاً عليه ما دام هناك ثقباً مفتوحاً يمر الدم مباشرة دون تصفية، فيصبح لون وجه الطفل أزرق، ولا يقوى على السير خمسة أمتار، ويموت غالِباً في الثالثة عشرة من عُمُرِه أو أكثر، أقصى عمر يصله ست عشرة سنة، لي صديق تَوَفَّت ابنته بِهذا المرض، داء الزَّرَق، لأن الثقب لم يُغلق.
من يربي هذا الجنين وهو في بطْن أُمِّه؟ الله سبحانه وتعالى، وحين نزل إلى الدنيا من جعل له هذين الثديين فيهما حليب مُعَيَّر، ليس تعييراً أسبوعياً أو شهرياً كما نفعل نحن، تعيير يومي، حتى قال بعض العلماء: تعْييرٌ لِكُلِّ وَجْبَة، فلو حَلَّلْنا حليب الأمّ في كُلِّ وَجْبَة لَوَجَدْنا عيارات خاصَّة به!
ساخِنٌ في الشتاء، وباردٌ في الصَّيْف، ومُعَقَّمٌ تعْقيماً كامِلاً، فيه مناعة الأم، ويُهْضَمُ في أقَلَّ من ساعة قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾
حسب تفْسير بعضِهِم.
أرْجَحُنا عقْلاً يعوذ بالله سبحانه وتعالى وكلما قلَّ عقْلُ الإنسان عاذ بغير الله:
الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ هذا الربُّ العظيم الذي أمَدَّ الإنْسان بِكُلِّ ما يحْتاج؛ بالماء والهواء والطعام والشراب، والنبات والحيوان، والشمْس والقمر، وبِالجبال والصحارى، والوِدْيان والبحار والأنْهار، وأمَدَّهُ بالبَنين، هذا الذي يسْتَحِقُ أن تعوذ به، هذا الذي هو أهلٌ أن تحْتمي به، وأن تلْجأ إليه، وأن تسْتنصِرَهُ وأن تحْتمي بِحِماه لا أن تحْتمي بِحِمى إنْسان، فالإنسان ضعيفٌ لا يسْتطيعُ أنْ يَحْمِيَ نفْسَهُ، لذلك أرْجَحُنا عقْلاً يعوذ بالله سبحانه وتعالى، وكلما قلَّ عقْلُ الإنسان عاذ بغير الله، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بي من دون خَلْقي أعْرِفُ ذلك من نِيَّتِهِ، فَتَكيدُهُ أهْلُ السماوات والأرض إلا جعلْتُ له من بين ذلك مخْرجاً، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بِمَخْلوقٍ دوني أعْرِفُ ذلك من نِيَّتِهِ إلا جعَلْتُ الأرض هَوِياً تحت قَدَمَيْه، وقَطَّعْتُ أسْباب السماء بين يَدَيْه، عُذْ بِرَبِّ الناس، وفي الطائِف قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم إنِي أشْكو إليك ضَعْفَ قُوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمُني، أم إلى عَدُوٍّ ملَّكْتَهُ أمْري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، لك العتبى حتى ترضى. ))
[ الطبراني في الكبير عن عبد الله بن جعفر بسند ضعيف ]
فلك مع الله مواقف، فهل تسْتعيذ به إذا خِفْتَ مخْلوقاً؟ وهل تلجأُ إليه وتحْتمي بِحِماه؟ إذا أردْت أن تكون أقْوى الناس فَتَوَكَّل على الله، إذا أردْتَ أنْ تكون أكْرم الناس فاتَّقِ الله، وإذا أرَدْتَ أنْ تكون أغْنى الناس فَكُن بِما في يَدَيِ الله أوْثَقُ منك بما في يدَيْك، ربُّ الناس الذي رَباك في بَطْنِ أمك، يدُ من امْتَدَّت إليك فأغْلَقَتْ هذا الثُّقْب، ولولا أنَّها أغْلَقَتْ هذا الثُّقب لَكان أحدنا في عِداد الموْتى وهو صغير، قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ .
الله عز وجل مالكٌ ومَلِكٌ:
شيءٌ آخر، وهو أنَّ كُلَّ عُضْوٍ في جَسَدِك يحْتاج إلى مواد خاصَّة، فقد قالوا: أقْسى مادَّة على سطْح الأرْض الألْماس، لأنَّها عبارة عن فَحْمٍ صافٍ تَعَرَّضَ لِضَغْطٍ مُنْقَطِعِ النظير، وحرارة تَفُوق الخمسة آلاف درجة، حرارة عالية جداً وضغط عالٍ جداً فصار هناك ألْماس، أقسى عنصر على وجه الأرض الألْماس، وتأتي بعده ميناء الأسْنان، لِوُجود مادَّة الفلور، التي لو نَقَصَتْ لَسَقَطَتْ الأسْنان كُلَّها، فَمَن وفَّر هذه المادَّة؟ الفلور،
فهو مُهِمُّ جداً، وأحْياناً يُضيفونه للماء من أجْل سلامة الأسْنان، وهذه الغُدَّة الدَرَقِيَّة تقوم بأخْطر دَوْر في الإنْسان وهو الاسْتِقْلاب، تَحَوُّل الغِذاء إلى طاقة، تجد شَخْصاً نشيطاً جداً ويأكل أكلاً جيِّداً، وقِوامُهُ رشيق، حينها تكون الغُدَّة الدَرَقِيَّة في أعلى مستوى لأنَّها تُحَوِّل الغذاء إلى طاقة، وهذا الاسْتِقْلاب يحْتاج إلى مادَّة اسْمُها اليود، من وفّرها في غذائنا؟ فالسَّمك يحْتويها، وكُلُّ طعامٍ مُسْتَخْرَجٍ من البحْر فيه اليود، وكذا البِنْكِرْياس هناك مادَّة اسْمُها الأنسولين، من وَفَّرَها؟ ما معْنى الربّ؟ المُمِدُّ، الذي مَدَّ الغُدَّة الدرَقِيَّة باليود، وأمَدَّ البِنْكرياس بالأنْسولين، والأسْنان بالكلور، والعِظام بالكِلْس، والأعْصاب بالفوسْفور، والدَّمَ بالحديد، فينا حديد وفوسفور ومغنزيوم والأنسولين للبنكرياس، والفلور، شيءٌ عجيبٌ جداً، فمن أمَدّ الإنسان بِهذا الغِذاء المعْدني؟ العدس فيه الحديد، والتفاح كذلك، ومعنى الحديد أملاح الحديد وليس الحديد المُرَكَّب،
فَرَبُّنا عز وجل هو الربُّ، ومعنى الربُّ هو المُمِدّ، فإذا أصابك مكْروهٌ فقُل:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ، ولا تقل: ابن أخي وصاحِبي! أعتمد عليهما، هذا نوعٌ من أنواع الشِّرْك بالله عز وجل
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ .
ثمَّ قال تعالى: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ قال بعضُ العلماء: المَلِك، هو الذي يحْكُم ولا يمْلِكُ، والمالك هو الذي يمْلِكُ ولا يحْكم، والله مالكٌ ومَلِكٌ، بعضُهم يقرأ في الفاتحة: (ملِكِ يوم الدِّين) ، والآخر:
﴿ مَٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ(4)﴾
فالله مالكٌ وملِك، وبعضهم قال: الملِكُ هو الذي يمْلِكُ العُقَلاء يأمرهم وينْهاهم، والمالِكُ هو الذي يمْلِكُ الجمادات، وعلى كُلٍّ معنى ملِك بِأَوْسَعِ معانيها: الله ملك الناس، من يمْلِكُ سَمْعَك وبَصَرَك وقلبك ودِماغَك، ومن يمْلِكُ عَدُوَّك؟ الله سبحانه وتعالى، فمَعْنى المالك أنّه حُرُّ التَصَرُّف في مُلكه، هذا في ملك الله لا يسْتطيع هذا المخْلوق أن يتَحَرَّك إلا بِأَمْر الله، إنْ شاء قْبَضَه وإن شاء أطْلَقَه، إنْ شاء أمَدّهَ وإنْ شاء منع عنه الإمْداد.
معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور:
معنى الملِك والمالك هو الذي بِيَدِهِ مقاليد الأُمور، أحْياناً شركة تحْوي ثمانين مُوَظَّفاً، لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُوَقِّعَ لك إلا المُدير العام، إما أنْ يكتب "مُوافق"، أو "غير مُوافق"، الذي يملك تنفيذ هذا الأمر هو المدير العام، ولله المَثَلُ الأَعْلى، فالمَلِكُ هو الذي يمْلِكُ كُلَّ شيء، أعْضاءَكَ وحواسَّك وأجْهِزَتَكَ وزَوْجَتَكَ وأولادك وأعْداءَكَ وأصْحابَكَ وجيرانَكَ وخُصومَكَ ومُنافِسيك، القِوى الطبيعِيَّة كما يُسَميها بعضُ الناس، فالرِّياح من يمْلِكُها؟ الله سبحانه وتعالى، إذا أثارَها بسرعة ثمانمئة كيلو بالساعة تُدَمِّرُ كُلَّ شيء، هناك أعاصير بأَمْريكا لا تُبْقي في المدينة شيئاً، الأبنية تطير، ومن يمْلِكُ الأمْطار؟ الله سبحانه وتعالى، في إفْريقْيا سَبْعُ سنوات بِلا أمْطار، وعندي صُوَرٌ تُظهر كيف تموت الحَيوانات بِعَرْض الصَّحْراء! جفافاً، إذا حبس الله المطر من يملكه؟ كان الفُراتُ يفيضُ علينا، ويطوف ويُدَمِّر القُرى، أمّا الآن فقد أصبح كَنَهْر برَدى! فَمَنْ يمْلِكُ الماء؟ الله سبحانه وتعالى، مالكُ الماء والأمْطار والرياح، ومن يمْلِكُ دَوْرة الأرض حوْل نفْسِها؟ الله سبحانه وتعالى، ومن يمْلِكُ الشمس؟ ومن يملك هذا الشيء الذي أمامك؟ الله تعالى، كلمة مالِك تعني أنَّ الأمر بِيَدِهِ، هذا مملوك والله هو المالك، فالإنسان إذا علِم أنَّ الله ملِك، كل شيء بيده، فإذا نظر إلى عَيْنَيْه ووجَدَهُما كبيرتين دَعْجاوَيْن، فقال: ما أجْمَل هاتين العَيْنَيْن، فَهُوَ أحْمَق إن لم يحمد الله، لأنَّ الله هو مالك العَيْنَيْن! فإذا سَلَبَ الله منهما نورهما فَقَدَ بَصَرَهُ، من يملك هذا السمع المرهف؟ الله سبحانه وتعالى، من يملك هذه القوة؟ تجد الإنسان بِكامِلِ قِواه وصحته فإذا به يصاب بالشلل، ويصبح بحاجة إلى حمالة، وكرسي ذي فتحة ويتأفف منه أقرب الناس إليه، من يملك القوة؟ الله سبحانه وتعالى هو مالك القوّة، والدعاء النبوي:
(( ومتِّعْنا اللهم بأسْماعِنا وأبْصارِنا وقُوَّتنا ما أحْيَيْتنا واجْعَلْهُ الوارِثَ منا. ))
من يمْلكُ هذا العَقْل؟ الله سبحانه وتعالى، فإذا اخْتَلَّ فأقْربُ الناس إليه يَتَوَسَّطون كيْ يُدْخَلَ مشْفى المجانين، يُصْبحون خائِفين منه، مع أنَّهُ هو الذي رَتَّبَ البيْت، ومعه شهادات عُلْيا، وأبٌ لأولاد، إلا أنَّهم لا يريدونه! يقولون: أخاف من أبي، لا أريده، الله مالك العقل فإن سحبه من أحد خلقه خافته كل الناس، وصار مؤذياً لهم، بسبب ذهاب عقله، فمالك العقل الله سبحانه وتعالى، ومالك القوة، ومن دونها يصاب الإنسان بالشلل، ويصير عِبئاً على أسرته، أحدهم أخذ دكتوراه بالجيولوجيا، وجاء لِبَلَده مع زوْجَةٍ فِرَنْسِيَّة، وتَمَتَّع بِمَنْصَب رفيع جداً، وأعْطَوْهُ سيارات وبيوتاً، فإذا به يفْقِدُ بَصَرَهُ! فزارَهُ صديق وقال لي: إنه يقول: والله أتمنَّى أن أجْلس على الرصيف، وأتَكَفَّفَ الناس، وليس على ظَهْري إلا هذا الرِّداء، وليس عندي شيءٌ في الدنيا، ويَرُدُّ الله لي بصَري، من هو مالك البصر؟ الله سبحانه وتعالى، قد يكون المرءُ رفيع الإيمان، فليس معْنى فقْدِ البصر أنَّ الشخْص إيمانه ضعيف! هذا بِعِلْمِ الله، فالذي يفْقِدُ بَصَرَهُ يرْقى عند الله بِفَقْدِ بَصَرِهِ إذا صبر، فهذا قد يكون شيئاً مؤقتاً، وقد يسبق المبصرين، فالبصر نِعْمَة، وفَقْدُهُ نِعْمَة، هذا إذا تَعَمَّقْتَ في التوحيد، كُلَّ شيءٍ نعمة من الله عز وجل، ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ كل شيء بيده، وليس بيدك أي شيء.
كلمة (مُسَيِّر) تعْني الحركة وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله:
ثمَّ قال تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ*مَلِكِ ٱلنَّاسِ *إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ﴾ أما الإله فهو المُسَيِّر، تحْريك الأفْلاك بِيَده تعالى، وكذا تحْريك الأرض والشمْس بيد الله، وحركة القمر بيد الله، وكذا حركة الأمعاء بيد الله، وحركة القُلب، فإذا خَطَّط الإنسان قلبه، ورأى الشريط الطويل يقول الطبيب: الحركة المُنتظَمَة، لا شيء بك، فهذا بيد الله عز وجل، هناك اضطراب خفيف، بيد الله عز وجل، وحركة العَضَلات كذلك، وحركة عَدُوِّك بِيَد الله، فكلمة مُسَيِّر تعْني الحركة، وكلُّ شيء يتَحَرَّك فَهُوَ بِيَد الله، قال تعالى:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
هناك مجموعة آيات وأحاديث، منها حديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال:
(( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. ))
[ الترمذي عن ابْنِ عَبَّاسٍ ]
(( لكلِّ شيءٍ حقيقةٌ، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكن لِيُخطِئَه، وما أخطأه لم يكن لِيُصيبَه ))
آيات قرآنية تؤكد أن المشيئة بِيَد الله:
قال تعالى على لسان هود مخاطباً قومه:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)﴾
وقال تعالى: ﴿وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ ﴾ الأمر بِيَد الله، فإذا شاء أنْ يكون هذا عليَّ كان، هذا الشيء المُخيف بِيَد الله، هذا معنى ﴿إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ﴾ فإذا شاء الله له أنْ يصِلَ إلَيَّ فَهُوَ يصِل، فأنا أخافُ منه ولا أخافُ منه، أخاف منه إذا شاء الله له أن يُؤذِيَني، ولا أخاف منه إذا لم يشأ الله له أن يؤذِيَني، لذلك الأفْعى كما قال المُوَحِّدون: تلْدَغُ عندها لا بِها، أيْ عند إرادة الله لا بِها، فَهِيَ لا تلْدَغُ، وكذا العقْرب لا يلدغ إلا إذا شاء الله، قال تعالى: ﴿وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾ .
كُلَّ شيءٍ في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان وهناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة:
ثمَّ قال تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ*مَلِكِ ٱلنَّاسِ *إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ*مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ﴾ قال بعضُ المُفَسِّرين إنَّ كُلَّ شر في الأرض مبْعَثُهُ وَسْوَسَةُ الشيطان، فالشيطان يُوَسْوِس، وبعضُهم قال: هناك ثلاثة مصادِر للوَسْوَسَة: الأوَّل كما قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16)﴾
أحْياناً النفْسُ المُنْقَطِعَة عن الله عز وجل، البعيدة عن الله أمَّارةٌ بالسُّوء مصْدر داخِلي بحْت، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الإنْس، وهناك وَسْوَسَة من شيطان الجِنّ، ثلاثة مصادِر.
الدعوة لِكُلِّ شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هي مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي:
أما ربنا عز وجل فقال:
﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)﴾
هناك شياطين الإنس وشياطين الجِنّ، فَشَياطين الإنْس يقولون لك: أين وَضَعْتَ مالك؟ بِالبَيْت، غَفَرَ الله لك، قد تُقتل لأجل سرقة مالك، فهذا خطر، ويقنعك أن تضَعْهُ في البنْك وترْبَحُ الفائِدَة! تنتفع بها خلال السنة، وإذا كنت لا تريدهم أنا آخذهم، المهم أن تضعهم في البنك، هذا شيطان، ويقول لك مثلاً: هناك حفْلَةٌ بالفُنْدُق الفُلاني، تُسر ففيها مناظر بهيجَة جداً، اخْتِلاط ونِساء فهذا شيطانٌ كذلك، بل وكُلُّ إنسانٍ دعاك للمَعْصِيَة فَهُوَ شيطان، وهذه قاعدة، إنْ كان اخْتِلاطاً أو خمْراً أو رِباً أو سرِقَة أو أكْل مالٍ حرامٍ أو كسْباً غيرَ مشْروع، ثمَّ يقول لك: أنت لديك أولاد، والناس كُلُّها هكذا! فهذا هو الشيطان الإنْسي، أي كلام تسمعه من بني البشر يدعوك لمعصية، ويزين لك المعصية، ويريك المعصية شيئاً معقولاً، ضرورياً، لا بد منه، هكذا الناس، هذا هو شيطان الإنس، لذلك قال بعضهم: ومن شياطين الإنْس المَشّاؤون بالنَّميمة، ومن شياطين الإنْس بائِعو الشَّهَوات، فإذا فَتَح دار سينما مثَلاً، أو داراً لا تُرْضي الله عز وجل، أو فتَحَ محَلاً يبيعُ فيه أشْرِطَة غير مشْروعة، فَهذا شيْطان الإنْس، يدعوك لمعصية؛ الدعوة للاختلاط، لأكل مال الحرام، لكسب غير مشروع، للاحتيال مثلاً، لأي شيء يُغْضِبُ الله عز وجل هذا مِن وَسْوَسَة الشيطان الإنْسي، والنبي عليه الصلاة والسلام نهانا عن شيْطان الإنْس نهْياً قاطِعاً فقال:
(( فقال يا أبا ذَرٍّ، استَعِذْ باللهِ من شرِّ شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، وهل للإنسِ من شياطينَ؟ قال: نَعَمْ. ))
[ تخريج المسند لشعيب بسند ضعيف ]
إنسان مثلك يكلمك ويقنعك لمصلحتك، هذا الذي يُقْنِعُك بالمَعْصِيَة ويُزَيِّنُها لك، ويُفَلْسِفُها لك، ويُعْطيهاَ شكْلاً فكرياً مَنْطِقِياً هذا هو شيطانُ الإنْس.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾ هذا الوسْواس له صِفَة مريحة جداً، وهي أنَّهُ خناس، بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله خَنَسَ، فَهُوَ شيطان يُوَسْوِس، لكِنَّك إذا اسْتَعَذْتَ بالله خَنَسَ، فالصِّفَة المُلازِمَة له أنَّهُ يخْنُس، قال تعالى: ﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ*مَلِكِ ٱلنَّاسِ *إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾
الموضوع الدقيق هنا موضوع الوَسْواسُ الخناس، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له. ))
[ أخرجه البخاري تعليقًا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ]
إذا شَعَر الإنْسان بالوَسْوَسَة معنى ذلك أنَّهُ غافِل، وإذا كان يَقِظاً يبعدها عنه، علامة دقيقة جداً، حينما تشعر بوسوسة داخلية تقول لك مثلاً: لا بأس إن تعلمت السحر، ولم أفعل به، وقد تدُعِى لِحَفْلة لا تُرْضي الله فتقول لنفسك: اِذْهَب ولا عليك وتَعَرَّف على الناس واخْتَبِر الحياة، وتَعَرَّف على المعْصِيَة كي تجْتَنِبَها، فهذا هو كلام الشيطان، مع أنَّ ظاهِر الكلام منْطِقي: تعلمها كي تجتنبها، اُدْخُل مُعْتَرَكَ الحياة وجَرِّب، واعرف كل شيء، ولا تَكُن غَبِياً، هذا وسواس، ومعنى ذلك أن الإنسان غافل عن الله عز وجل (الشيطان جاثِمٌ على قلب ابن آدم إذا ذَكَر الله خَنَس وإذا غَفَل وَسْوَسَ له) .
شيءٌ آخر، قال تعالى:
﴿ كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَٰنِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىٓءٌ مِّنكَ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَٰلَمِينَ(16)﴾
يورطه الشيطان ويتخلى عنه، وقال تعالى حكاية عنه:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾
النِّسْيان والنعاس والخوف والتَّذْكير بِأُمور ماضِيَة وحاضِرَة هذا كُلُّه من عَمَل الشيطان:
إنّ الشيطان أحْياناً يُوَسْوِسْ لك أموراً قد مَضَتْ، وأنت في الصلاة يُذَكِّرُكَ بِسَفَرٍ مضى عليه خمْسُ سنوات بالتفْصيل مرحلة مرحلة، وتشاجرتَ مع ابن عَمِّك منذ عشْر سنوات، يأتي ويُذَكِّرُك بالحادِثَة، وكيفَ تحداك؟! وماذا قلتَ له؟ وماذا قال لك؟ كُلُّ هذا في الصلاة، فهذا فيما مضى، فالشيطان يوسوس للإنسان في صلاته عن أمور مضت، وله طريق آخر أن يوسوس له عن أمور سَتأتي، غداً سَتُصْبِح صاحب مَحَلٍّ تِجاري، وتشْتري سيارة، وتقتني بيْتاً، وتقيم مَصْيَفاً، وتشْتري أرضاً يكون لك فيها مسبح ومسكن كبير، وتزرعها تفاحاً، كُلُّ هذا في الصلاة، اشْترى الأرض ودفع ثمنها وطوّبها وحفر الأساسات، وبنى وزرع وأثمر! ثمَّ ينْسى إنْ كان واقِفاً في صلاته أم قاعِداً، وقد يقول أشْهد أنْ لا إله إلا الله وهو واقف! فإما أن يذكره بأمور مضت، أو بأمور سوف تقع، وأما في الحاضِر فَيُوَسْوِسُ له بالمَعْصِيَة، اِفْعَل وانْظر، ولا تدع هذه النَّظْرة تفوتُك، تَمُرُّ امْرأةً بالطريق فَيَقول له: انظر، تَعَرَّف على مُواصَفات الجمال كي تخْطُب! فالشيطان ذكي يأتي للإنسان من تفْكيره، ومبْدأ عقْلِهِ وقِيَمِهِ، فالنظرة مباحة للخاطب، وليس لهذه الفتاة فقط.
ثمَّ مسْألة النِّسْيان، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِۦ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ(68)﴾
فهُوَ يُنْسيكَ العمل الصالح، وعَد أُخْتَهُ أنْ يُعْطيهاَ كُلَّ شهْر مئتي ليرة، فإذا جاء المَوْعِد أنْساهُ الشيْطان، يوسوس له قائلاً: بعد ساعة تعطيها، وفي اليوم التالي تعطيها، الخميس القادم، السبت، ويُمْضي أوَّل سبت وثانيه وثالثُه ورابِعُهُ ولم يُعْطِها شيئاً، هذا من عمل الشيطان، ينسيه العمل الصالح.
الطالب يكون عنده دَرْس، فَيَقول له الشيطان: تمهّل قليلاً فالأُسْتاذ لن يأتِيَ الآن، فإذا ذَهَب الطالب وَجَد الحِصَّة في آخِرِها، فالنِّسْيان أيضاً من الشيْطان.
والنُّعاس كذلك من الشيْطان، فقد قيل: النعاس في مجْلِسِ الذكر من الشيْطان، في أثْناء الدرْس ينعس ويتثاءب، فإذا انتَهى نَشُط وسَهَر إلى الساعة الواحدة ليلاً! هذا أيضاً من الشيطان.
والخوف كذلك من الشيطان، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين(175)﴾
يُقابل الوَسْوَسةَ الإلْهامُ فالغافل يُوَسْوَسُ له أما المؤمن فَيُلْهَم:
النِّسْيان والنعاس والخوف والتَّذْكير بِأُمور ماضِيَة والتي ستأتي والحاضِرَة، هذا كُلُّه من عَمَل الشيطان، إلا أنَّه لا يمْلِكُ على ابن آدم سُلْطاناً، ويُقابل الوَسْوَسةَ الإلْهامُ، فالغافل يُوَسْوَسُ له، أما المؤمن فَيُلْهَم، قال ربنا عز وجل:
﴿ ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(257)﴾
كان مُسْتقيماً فانْحَرَف، وهذه كانت مُحجبة فأصْبَحَتْ سافِرَة، (يضيق نفسها من الحجاب) وهذا كان تعامله حلالاً فصار حراماً، يوسوس له الشيطان بأنك كباقي الناس ولديك أولاد، والأسعار مرتفعة جداً فلا بأس إن أخذت مالاً حراماً، فيقابل المؤمن الإلهام، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ(7)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)﴾
هذا وَحْيُ إلْهام، تجد المؤمن مُسَدَّداً، هناك ملك يلهمه العمل الصالح والاسْتِقامة والعمل الطَيِّب، لدينا فرق بين الوَسْوَسَة والإلْهام وهو فرق عِلْمي، كُلُّ ما يأمر به كتاب الله والسنّة المُطَهَّرة إذا جاءَكَ خواطِر بهذا الموضوع فَهِي إلهام من المَلَك، وكُلُّ ما نهى عنه الله في الكتاب والسنَّة إذا جاءَتك خواطر بهذا الموضوع فهُوَ من الشيْطان، فالمِقْياسُ إذاً الكتاب والسنّة ولا مِقْياس ثانٍ لذلك، فالذي يتوافق معهما هو إلْهام، والذي يتعارض معهما وسْواس من الشيْطان سواء شيطان الإنس أو الجن.
المنافق يمْشي مع الشيْطان إلى آخر الطريق بخِلاف المؤمن:
آخر شيء المؤمن إذا جاءَهُ شيْطانٌ - وقَلَّما يأتيه - لا يسْتَرْسِل معه، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ(201) وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ(202)﴾
أما المنافق فيمْشي مع الشيْطان إلى آخر الطريق بخِلاف المؤمن، فحينما يشْعُر بِالوَسْوَسَة الشيْطانِيَّة يقف ويقول: أعوذ بالله من الشيْطان الرجيم ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ*مَلِكِ ٱلنَّاسِ *إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ﴾ فالمؤمن لا يسترسل مع الشيطان، ولكن المنافق يسترسل.
ثمَّ قال تعالى: ﴿ مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾
(( وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ. ))
[ مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]
طوال الليل سباب وشجار وصِياح لأنَّهُ لم يُسَلِّم، (وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ) وكذا إذا لم يذْكر الله عند الطعام، تَجِدُهم ما شَبِعوا! يأكل الشيطان معهم، ولا يكفي الطعام، فإذا دخل الواحد منا بيتَه فلم يسلم، وأكل ولم يسمّ قال الشيطان لإخوانه أصبتم المبيت والعشاء معاً، فعلى الإنسان إن دخل البيت أنْ يُسَلِّم، كي يذْهب الشيطان، ويستعيذ بالله من شر كل شيء.
ثمَّ قال تعالى: ﴿مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ الآن رفيق السوء شيْطانُ الإنْس، وحاشِيَةُ السوء شيْطان الإنس، والنمّام من شياطين الإنْس، وبائِعُ الشَهوات من شياطين الإنس، والدعوة إلى الربا من وسْوَسَة شياطين الإنْس، والدعوة إلى الزنا بِكُلِّ أنواعه من وسْوَسَة شياطين الإنس، وكذا الدعوة إلى الخمْر والمَيْسر والاخْتِلاط. كُلُّ معْصِيَة نهى الله عنها الدعوة إليها، مع فَلْسَفَتِها، وجعْلِ الكلام مُنَمَّقاً عليها، فهذا من شياطين الإنس، فهذه السورة أصْبحت بِمَجْموعِها:
﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾ عَرَفْنا ما معنى الرب؟
﴿مَلِكِ ٱلنَّاسِ﴾ أي بِيَدِهِ ملكوت كُلِّ شيء.
﴿إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ﴾ أي المُسَيِّر.
﴿مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ﴾ أي بِمُجَرَّد أنْ تقول: أعوذ بالله يَخْنس.
﴿ٱلَّذِي يُوَسۡوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ﴾ أي في النفْس.
﴿مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ﴾ .
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
اللهم أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجمّلنا بالعافية.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق