الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغرّ الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان هو المخلوق الأول والزمن رأسماله:
أيها الإخوة الكرام؛ قيل: "من عرف نفسه عرف ربه"، فمن أنت أيها الإنسان؟ هل تصدق أنك المخلوق الأول، لماذا؟ لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، ما الدليل؟
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
ولأنك أيها الإنسان قبلت حمل الأمانة سخّر الله لك ما في السماوات وما في الأرض تسخير تعريف وتكريم، أي من أجل أن تعرفه، ومن أجل أن تعبده، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية. أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان في أدق تعريف قرأته لتابعي جليل هو الحسن البصري: "الإنسان هو بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه"، أنت بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، إذاً أنت زمن، والزمن كما قال علماء الرياضيات: هو البعد الرابع للأشياء، شيء له طول، وله عرض، وله ارتفاع، فإذا تحرك شكّل زمناً، وأنت كائن متحرك، ما الذي يحركك؟ الحاجة للطعام والشراب حفاظاً على بقاء جسمك، وما الذي يحركك؟ الحاجة إلى مَن تقترن به حفاظاً على بقاء نوعك، وما الذي يحركك؟ حاجتك الثالثة إلى تأكيد ذاتك، الحاجة إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقائك، والحاجة إلى الذكر حفاظاً على بقاء ذكرك، وحفاظاً على بقاء النوع عن طريق الزوج، إذاً أنت المخلوق الأول: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ﴾ .
العمر الذي منحه الله للإنسان أخطر شيء في حياته:
أيها الإخوة الكرام؛ إذاً أنت زمن، بالتعريف الجامع المانع: أنت بضعة أيام، إذاً أخطر شيء في حياتك هو هذا العمر الذي منحك الله إياه،

إما أن يكون في طاعة الله، وتنتهي الحياة، وتسعد بهذه الطاعة إلى أبد الآبدين، ولا سمح الله ولا قدر إما أن يكون هذا العمر في معصية الله، فيشقى بهذه المعصية، ويهلك إلى أبد الآبدين، إذاً شيء خطير جداً هذا الزمن؛ لذلك أقسم الله لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن، أقسم له بالزمن، قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
ما الخسارة؟ مُضي الزمن وحده يجعلك خاسراً، اثنين ثلاثاء أربعاء خميس جمعة سبت أحد، انتهى أول أسبوع، أسبوع ثان، ثالث، رابع؛ شهر، شهر ثان، ثالث، رابع؛ فصل، فصل أول، ثان، ثالث؛ سنة، عشر سنوات أول عقد، الإنسان بضعة عقود، يفاجأ أن الموت قد اقترب منه، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والـــجبروت، والليل مهما طــــال فلا بد من طلوع الفـــجر، والعمر مهما طــــال فلابد من نزول الـــــقبر.
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فــإذا حملت إلى القبـور جـنـازة فـاعلـم أنك بعدها محمـــول
الزمن يُنفق استهلاكاً أو استثماراً:
إخواننا الكرام؛ ألِف الناس أن يعيشوا وقتهم، أنا مهندس، أنا محام، أنا طبيب، أنا تاجر، أنا مهاجر، أو أن يعيشوا ماضيهم؛ كنت، وكنت، وفعلت، لكن قلة قليلة جداً من يعيش المستقبل وأخطر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا من بيت إلى قبر، من زوجة، وأولاد، وأصهار، وكنائن، وأقرباء، وجيران، وأحباب، وسهرات، وحفلات، ولقاءات، وسفر سياحي، وطعام نفيس إلى قبر، من هو الذكي؟ من هو العاقل؟ هو الذي يُعد لهذه الساعة التي لا بد منها، والله مرة شيّعت أحد الإخوة، فلما وُضع في القبر، أعرف بيته، ودخله، والرفاه الذي يعيشه، لما وضع في القبر قلت: والله ما وجدت على وجه الأرض إنساناً أذكى ولا أعقل ممن يُعد لهذه الساعة، التفكر في الموت من العبادة؛ لأن الموت ينهي قوة القوي، الأباطرة ماتوا، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، وصحة الصحيح، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، الموت ينهي كل شيء، فالذكاء والبطولة والنجاح والتوفيق في الإعداد لهذه الساعة، لذلك قيل في النجاح: أن تنجح في كسب المال، قيل في النجاح: أن تنجح في اختيار الزوجة، قيل في النجاح: أن تنجح في تربية أولادك، وقد يكون النجاح في الدنيا لكن الفلاح شيء آخر؛ أن تنجح في الدنيا والآخرة معاً، الفلاح أن تحقق الهدف الذي خلقت من أجله، أنت خلقت لعبادة الله التي هي ثمن الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان بِضْعَةُ أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منه، لذلك أنت حينما تتعامل مع الزمن، هذا الزمن ينفق على طريقتين؛ ينفق إنفاقاً استهلاكياً بالتعبير المعاصر، تأكل، وتشرب، وتنام، وتسهر، وتسافر، وتذهب إلى النزهة، وتقيم علاقة طيبة، وتستأنس بمن حولك، كل هذه الأعمال ليس لها أثر مستقبلي، أما حينما تتعرف إلى الله، وحينما تتعرف إلى منهجه، وحينما تحمل نفسك على طاعته، فأنت الآن تحركت وفق الهدف الذي خلقت من أجله.
منهج الله -عزَّ وجلَّ- منهج تفصيلي كامل:
لذلك: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ العبادة أن تخضع لمنهج الله بتفاصيله، ومنهج الله -عزَّ وجلَّ- دقيق جداً، يتوهمه المتوهمون أنه صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، هذه خمسة بنود من المنهج، العبادة الشعائرية صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، أما العبادة التعاملية - والله لا أبالغ- فتصل إلى خمسمئة ألف بند، العبادة التعاملية تبدأ من فراش الزوجية -وهو من أخص خصوصيات الإنسان- وتنتهي بالعلاقات الدولية، منهج تفصيلي كامل، فإذا أردت الجنة ابحث عن هذا المنهج، اطلب العلم، في المنهج طريقة لكسب المال، طريقة لإنفاقه، مَن ينبغي أن تتزوج، كيف تعامل أولادك، كيف تعامل أقربائك، كيف تعامل من حولك؟ كيف تعامل من فوقك؟ كيف تعامل من تحتك؟ منهج تفصيلي.
طلب العلم حتم واجب على كل مسلم:
إذاً لا بد من طلب العلم، طلب العلم حتم واجب على كل مسلم، وأنت بطلب العلم تهتدي لمنهج الله -عزَّ وجلَّ-، لماذا أنت ومن دون أن تشعر إذا اقتنيت آلة غالية الثمن، عظيمة النفع، معقدة التركيب، لا تستخدمها قبل أن تقرأ تعليمات الصانع؟ وأنت أعقد آلة في الكون، والذي صنعك له تعليمات، في الكتاب والسنة، لماذا لا تقرأ تعليمات الصانع حفاظاً على سلامتك وبحثاً عن سعادتك؟ قضية الدين ليست وردة نضعها على صدورنا، نضعها أو لا نضعها،
قضية الدين قضية مصيرية، إما إلى سعادة أبدية، أو إلى شقاء أبدي، قضية خطيرة جداً، مثلاً هناك درس علم: اليوم لست فارغاً، هذا كلام فارغ، هذا الدرس جزء من حياتك، قراءة القرآن جزء من حياتك، معرفة سنة النبي العدنان جزء من حياتك، أن تقرأ تاريخ الصحابة جزء من حياتك، يجب أن تتحرك، هناك توجيهات نظرية كليّة في القرآن، وهناك توجيهات تفصيلية في السنة، وهناك تطبيقات عملية في السيرة،
الكتاب فيه حقائق كلية، والسنة تفصيلية، والسيرة تطبيقية، فأنت إذا قرأت العلم ينبغي أن تقتني كتاب حديث، تفسير،

أنت بالضبط كهذا الهاتف الخليوي، ماذا يحتاج من حين إلى آخر؟ إلى شحن، فإذا لم تشحنه اسودت الشاشة وصمتت، وأنت في أمسّ الحاجة إلى شحن أسبوعي، الشحن الأسبوعي في خطبة الجمعة، وعندنا شحن إضافي في دروس الجمعة، وشحن يومي في الصلوات الخمس، وهناك شحن أسبوعي، وشحن سنوي في رمضان، وشحن على مستوى العمر هو حج بيت الله الحرام، هذه كلها وسائل للشحن.
أيها الإخوة الكرام؛ هذا الذي أتمنى أن يكون واضحاً، أنّ الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
أيها الإخوة الكرام؛ في الأرض الآن سبعة مليارات إنسان، ما منهم واحد إلا وهو حريص حرصاً لا حدود له على سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، سلامة وجودك بالاستقامة على أمر الله، لكن الاستقامة لا تكفي، أنت بالاستقامة تنجو من عذاب الله، بالاستقامة تَسلم، لكن أنت بحاجة إلى السعادة، بالعمل الصالح تسعد.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
العمل الصالح علة وجود الإنسان في الدنيا بعد الإيمان بالله:
أنت بالاستقامة أزحت كل العقبات عن طريقك إلى الله، في الطريق إلى الله عقبات كأداء، كل معصية عقبة، فإذا استقمت وتبت توبة نصوحة أزحت العقبات عن طريقك إلى الله، لكن هذا طريق لابد من التحرك عليه، العمل الصالح يدفعك على هذا الطريق إلى الله، إذاً الاستقامة والعمل الصالح جزء أساسي جداً من سلوك المؤمن، يمتنع عن كل معصية، استقام، يفعل كل طاعة، وكل خير، وكل عمل صالح، هل تصدق أن علة وجودك في الدنيا بعد الإيمان بالله هو العمل الصالح، والدليل أن الإنسان إذا اقترب أجله يقول:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
على ماذا يندم من حضرته الوفاة؟ على عمل صالح فاته، على ساعة مضت لم يذكر الله فيها، على خير كان بين يديه ففرط به، وأسوأ شعور يصيب الإنسان شعور الندم، ورد في بعض الآثار: "إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب"، أن تضيّع فرصة ذهبية، أنت خُلقت لسعادة الدنيا والآخرة.
ما الأبد؟ إخوتنا الكرام؛ قضية الأبد شيء خطير جداً، تصوّر يوجد واحد هنا وثلاثة أصفار تساوي ألفاً، ثلاثة أصفار أخرى تساوي مليوناً، ثلاثة ثالثة ألف مليون، ثلاثة رابعة مليون مليون، ثلاثة خامسة ألف مليون مليون، فلو كانت الأصفار لآخر المسجد كم مليارًا؟ ولو كانت إلى شمال الأرض؟ أو إلى الشمس؟ مئة وستة خمسون مليون كيلو متر، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم إذا نُسِب إلى اللانهاية فهو صفر، الدنيا بأموالها، بنسائها، بمباهجها، بشهواتها، بمراكزها، بمناصبها، الدنيا بكل ما فيها، لا تعدل عند الله جناح بعوضة:
(( لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ ))
[ أخرجه الترمذي، وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي ]
الدنيا جيفة طلابها كلابها، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، الدنيا تنتهي بالموت، فالموت ينهي القوة، ينهي الضعف، ينهي الغنى، ينهي الفقر، ينهي الوسامة، ينهي الدمامة، ينهي الذكاء، ينهي الغباء، ينهي كل شيء، فالبطولة أن تعيش مستقبل حياتك، أن تفكر فيما بعد الموت، أن تعمل لآخرتك، الله -عزَّ وجلَّ- يبين أن الذين انحرفوا عن الطريق لم يسعوا إلى الآخرة.
أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، يجب أن نعيش اليوم بعمل صالح، في صلاة الفجر: "اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك" ، "اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ، لا بد من تذكير مستمر بالله -عزَّ وجلَّ-.
إذاً الإنسان بنص الآية: ﴿والعصر* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ جواب القسم، إلهنا خالقنا يقسم لنا بالعصر، بالزمن لأننا زمن، قال: ﴿والعصر* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ أي مضي الزمن يستهلكه، خاسر لا محالة، قبل أن يعصي هو خاسر لأن الموت ينهيه، لكن رحمة الله في (إلا):
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
أركان النجاة -كما قال عنها الإمام الشافعي- أربعة؛ أن تؤمن، وأن تعمل صالحاً، وأن تتواصى بالحق، وأن تتواصى بالصبر؛ أي أن تعرف الله، أن تعرفه معرفة تحملك على طاعته -آمن-، وأن تُتَرجم هذه المعرفة إلى عمل صالح، ومن معاني العمل الصالح الاستقامة، أن تستقيم على منهج الله، أنت أعظم آلة في الكون ولك صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فانطلاقاً من سلامتك، انطلاقاً من حبك لسلامتك، ومن حرصك على استمرارك ينبغي أن تطيع الله -عزَّ وجلَّ- ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ .
دقق: آمنا بالله خالقاً مربياً مسيراً، آمنا بالله واحداً أحداً، فرداً صمداً، آمنا بالله مُربياً، آمنا بالله مُسيراً، آمنا بأسمائه الحسنى، آمنا بصفاته الفضلى، آمنا بمنهجه الذي هو المنهج القويم، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هذا الإيمان من دون عمل لا قيمة له إطلاقاً، مثال: إنسان معه مرض جلدي علاجه الوحيد أن يتعرض لأشعة الشمس فقط، جلس في غرفة مظلمة قميئة فيها رطوبة حادة، وقال: يا لها من شمس ساطعة! ما أعظم نور الشمس! مهما مدح أشعة الشمس وهو في غرفة مظلمة لا قيمة لهذا المديح، العبرة بالتطبيق، بالعمل ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ .
إخواننا الكرام؛ يتوهم الإنسان أن الدعوة إلى الله متعلقة بالعلماء، لا،
الدعوة إلى الله فرض على كل مسلم، في حدود ما يعلم ومع من يخاطب، الدليل سورة العصر:
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ أحد أركان النجاة، أي أنت مواطن مؤمن -إن شاء الله- جلست في خطبة جمعة،

استمعت إلى شرح آية تأثرت بها، لك قريب، لك شقيق، لك شريك، جار، موظف عندك، بلّغه هذا المعنى، انقل هذه المعاني إلى من حولك، هذه دعوة إلى الله -عزَّ وجلَّ-، في حدود ما تعلم ومع من تعرف، الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف فقط، هذه الدعوة فرض عين، أما التبحر والتعمق والتفرغ فهذا من شأن الدعاة وحدهم، للدعاة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل، أما الدعوة لكل مسلم ففرض عين في حدود ما يعلم ومع من يعرف، الدليل القرآني:
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ ، والدليل النبوي:
(( بلِّغوا عنِّي ولو آيةً وحدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَهُ من النَّارِ ))
[ أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر ]
أنت مكلّف في كل خطبة جمعة أن تنتبه لمضمون الخطبة، أن تكتب بضعة كلمات، أن تحاول في كل أسبوع أن تنقل هذه المعاني إلى من حولك، لزوجتك، لأولادك، لشريكك، لإنسان تحبه، لصديق حميم.
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أي أركان النجاة أن تعرف الله، أن تطبق منهجه، أن تدعو إليه، أن تصبر عن البحث عن الحق، والعمل به، والدعوة إليه، هذه السورة قال عنها الإمام الشافعي: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم" ، وكان أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ما تفرقوا بعد مجلس إلى على هذه السورة، كانوا يتلونها بعد انفضاض المجلس، هذه السورة منهج.
شيء آخر: سورة قصيرة من لوازم هذه السورة، قال تعالى:
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)﴾
ما معنى اللهو؟ أي أن تغوص في البحر، وفيه لآلئ قيمتها بالملايين فتأخذ الأصداف، أن تدع النفيس وأن تأخذ الخسيس، الدنيا كلها بميزان الآخرة شيء خسيس ينتهي بالموت، الملوك ماتوا، والأقوياء ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والضعاف ماتوا، والصحاح ماتوا، والمرضى ماتوا، الدنيا فيها شيء نفيس هو معرفة الله -عزَّ وجلَّ- والعمل للآخرة، وفيها شيء خسيس هذه الأشياء المادية التي نتباهى بها، هذه ليس لها أثر مستقبلي، أي إذا أكل أحدهم طعاماً طيباً من سنتين والآن جائع جوعاً شديداً هل يكفه أن يذكر الطعام ليشبع؟ الطعام النفيس مع أنه نفيس وطيب لكن ليس له أثر مستقبلي، انتهى بوقته، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
استمتاع مؤقت، متعة آنية، متعة لا ثمرة لها، إذا استلقى أحدهم بحوض السباحة ساعة من الزمان يا ترى هذا الحوض يجعله تاجراً كبيراً؟ يصبح أستاذ جامعة؟ يأخذ ليسانس؟ الاستمتاع ليس له أثر مستقبلي أبداً، استمتاع آني ينقي بانقضائه، اثنان تناولا الطعام، الأول طعام نفيس جداً، والثاني طعام رخيص جداً، بعد الشبع انتهى الأمر، الدنيا ليس لها أثر، الأثر للعمل الصالح تسعد به إلى أبد الآبدين، هل دعوت إلى الله؟ هل أنفقت من مالك؟ هل أعنت ضعيفاً؟ هل أطعمت جائعاً؟ هل دللت تائهاً؟ هل أحسنت إلى زوجتك؟ هل ربيت أبناءك؟
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾
خلق الله الإنسان لجنة عرضها السماوات والأرض:
أيها الإخوة الكرام؛ شهد الله أنّ الإنسان لو يعلم ماذا ينتظره من هذا الرب الكريم إذا أطاعه، وماذا ينتظره لو عصاه لما نام الليل، إله خلقنا لنعبده، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض، وجعل الطرق إلى الجنة سالكة، هناك طريق من البيت؛ المرأة إذا ربت أولادها تربية عالية فهناك طريق من بيتها إلى الجنة، والتاجر إذا كان تاجراً صدوقاً من محله إلى الجنة، وكل إنسان من خلال عمله له طريق إلى الجنة، والجنة متاحة لكل إنسان، وثمنها مقبول ومعقول، فيا أيها الإخوة؛ الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
أيها الإخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
توجيه النبي في ذبح الدابة:
أيها الإخوة الكرام؛ في العالم الغربي تعلّق الدّابة التي تُذبح من أرجلها ويُقطع رأسها، في توجيه النبي -عليه الصلاة والسلام- ألّا نقطع رأسها بل أن نقطع أوداجها فقط، هذا توجيه نبوي، لا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلّم- ولا بعد مئة عام من عهد النبي، ولا يوجد أي مركز علمي في الأرض اكتشف الحكمة، وحتى قبيل عشرين أو ثلاثين سنة اكتشف العلم هذه الحكمة، وذلك أن القلب ينبض ثمانين نبضة بأمر داخلي، من بطارية أولى وثانية وثالثة، هناك ثلاثة مراكز كهربائية في القلب؛ لأن القلب خطير جداً ونبضه يعني بقاء الحياة، ووقفه يعني انتهاء الحياة، لذلك لا يستمد طاقته من الشبكة العامة، يأخذها من مولدة خاصة، هناك مركز أول ومركز ثان، لو تعطل الأول هناك مولدة احتياط، لو تعطلت المولدة الثانية يوجد مولدة ثالثة.

إخواننا الكرام؛ إلا أن القلب بالأمر الذاتي لا ينبض إلا ثمانين نبضة فقط، والإنسان عندما يصعد درجاً أو يلحقه عدو أو وحش يحتاج إلى مئة وثمانين نبضة، والإنسان على الشريط عند طبيب القلب يرتفع نبض القلب بشكل طبيعي إلى مئة وثمانين نبضة، فالإنسان بحاجة ليرفع طاقة القلب بظروف استثنائية، لو أن القلب يأخذ الأمر من ذاته لنبض ثمانين نبضة، لكن مركز القلب في الرأس، فالغدة النخامية تعطي أمراً للكظر أن يرفع النبض لمئة وثمانين، أمر معقد جداً، هناك غدة نخامية وزنها تقريباً مليجرام، تقوم باثنتي عشرة وظيفة لو تعطلت إحدى هذه الوظائف لأصبحت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، من هذه الوظائف ضبط السوائل، لو لم يكن هناك ضبطاً فالإنسان يشرب عشر تنكات من الماء، شيء غير معقول إطلاقاً، اقرؤوا عن الغدة النخامية، أحد وظائف هذه الغدَّة أن تعطي أمراً هرمونياً إلى الكظر فوق الكلية، فما الذي يحصل؟ الكظر يعطي أمراً للقلب ليرتفع النبض للمئة والثمانين، ويعطي أمراً للرئتين فيرتفع وجيبهما، وأمراً للكبد ليطرح سكراً إضافياً، وأمراً للكبد ليطلق هرمون التجلط، ويعطي أمراً للأوعية الدموية بأن تضيق، فالخائف يصّفر لونه، لماذا يصفر لونه؟ جاء أمر للأوعية لتضيق فيصّفر لونه، لو فحصنا سكر الخائف لوجدناه مئتين وخمسين مليمتراً وليس مئة وعشرين، يرفع السكر، ويرفع النبض، يضيّق الأوعية، خمسة أوامر يقوم بها الكظر للجسم كي يتلافى الخطر الذي يواجهه الإنسان، صنع من؟! علم من؟! رحمة من؟!
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
[ يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب علي بن أبي طالب ]
لذلك حينما نذبح الذبيحة نبقي رأسها فيها، صار القلب ينبض مئة وثمانين نبضة، يخرج الدم كله، لو قطعوا رأس الذبيحة لخرج ربع الدم فقط، أذكر أن وفداً سورياً ذهب لشراء لحم من الصين، فطلب هذه الطريقة بالذبح، فرفعوا السعر ثمانية دولارات، عندئذ الدم كله يخرج، هذا النبي الأميّ الذي جاء قبل ألف وأربعمئة عام من علمه؟ نحن حينما نذكي الذبيحة نقطع أوداجها دون أن نقطع رأسها حتى يخرج جميع الدم منها، لذلك اللحم المذبوح بالشريعة لونه زهري، شهي، واللحم الآخر لونه أزرق، أليس كذلك؟
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يُعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، اجعل خير عمرنا آخره، وخير أيامنا يوم نلقاك، نلقاك وأنت راضٍ عنا، احفظ لنا أولادنا ومن يلوذ بنا يا رب العالمين، اللهم صُن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء، اللهم احفظ بلاد المسلمين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ إخوتنا في بلاد الشام، احفظ لهم بلادهم وأمنهم واستقرارهم يا رب العالمين، وصلى الله على رسولنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق