- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين :
أيها الأخوة الكرام ، يقول الله عز وجل :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
الله جلّ جلاله في القرآن الكريم يُحَدِّثنا ، ومن أصدق من الله حديثًا ؟ فزوال الكون أهون على الله من ألا يُحَقِّق وُعوده للمؤمنين ، قال تعالى :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
والآية التي تُتَمِّمُ هذه الآية قوله تعالى :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
ويلقى المسلمون هذا الغيّ تنفيذًا لِتَقصيرهم في أداة الصَّلوات ، واتِّباع الشَّهوات .
ارتباط نصر الله بالاصطلاح معه و العودة إليه :
أيها الأخوة الكرام ، من الأدْعِيَة القرآنيّة قوله تعالى :
﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
والله سبحانه وتعالى يُطَمئنُ المؤمنين فيقول :
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
اقرؤوا القرآن أيها الأخوة ففيه إجابات لِكُلّ التَّساؤلات ، قال تعالى :
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾
وقال تعالى :
﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾
هذه الآيات الكريمة لا تحتاج إلى شرح ، واضحة بيِّنة ، وما علينا إلا أن نصطلح مع الله ، ونعود إليه ، لأنَّه حقٌّ لنا عند الله أن ينصرنا ، قال تعالى :
﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾
ارتباط كثرة الخبث بالهلاك العام :
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ))
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا))
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِي اللَّه عَنْهنَّ أَنَّهَا قَالَتِ :
((اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّوْمِ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ سُفْيَانُ تِسْعِينَ أَوْ مِائَةً قِيلَ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))
وقال بعض شُرَّاح الحديث : هذا الحديث ينسَحِبُ على قوله تعالى :
﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾
حينما لا يأمر المسلمون بالمعروف ، ولا ينْهَون عن المنكر ، ولا يحملون هموم المسلمين .
وفي رواية عن زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا قَالَتِ :
((اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَعَقَدَ بِيَدَيْهِ عَشَرَةً قَالَتْ زَيْنَبُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))
وفسَّر الجمهور الخبَثَ بالفُسوق والفُجور ، وقيل : المراد الزِّنا خاصّة ، والظاهر أنّه المعاصي مطلقًا ، ومعنى الحديث أنَّ الخَبَث إذا كَثُر فقد يحْصل الهَلاك العام ، وإذا كان هناك صالحون ، هذا شرْح الإمام النَّووِي لِصحيح مسلم .
الإيمان يُبَدِّل طبيعة النَّفس ويُغَيِّرُ مطامِحَها ويُصَعِّدُ مُيولها :
أيها الأخوة الكرام ، ماذا على المسلمين أن يفعلوا ؟! قال تعالى :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾
الإيمان وحده شرْطٌ لازمٌ غير كافٍ ، والإعداد وحده شرْطٌ لازمٌ غير كافٍ ، بل إنَّ علاقة الإيمان بالنَّصْر علاقة رياضِيَّة ، علاقة سَبَبٍ بِنَتيجة ، والدليل قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
يا أيها الأخوة الكرام ، يتَّضِحُ من خلال هذه الآية الكريمة أنَّ معادلة النَّصر في حالة قوّة الإيمان واحد إلى عشرة ، وفي حالة ضعف الإيمان واحد إلى اثنين ، وفي حالة انعدام الإيمان النَّصر للأقوى عدَدًا وعُدَّةً ، وقوَّة واستِعْدادًا ، وما إلى ذلك لأنَّ الإيمان يُبَدِّل طبيعة النَّفس ، ويُغَيّر قِيمَها ، ويُغَيِّرُ مطامِحَها ، ويُصَعِّدُ مُيولها ، ويرقى بِرَغباتها ، ويُخَفّف من متاعبها وهمومها ، ويُقَوِّي رجاءَها ، وأملها ، يقلبُ أحزانها أفراحًا ، ومغارمها مغانم ، تُؤكّد هذه الحقيقة وَصِيَّة سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سيّدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : (أما بعدُ ، فإنِّي آمرُكَ ومن معك من الأجناد بِتَقوى الله عز وجل على كلّ حال ، فإنَّ تَقْوى الله أفضلُ العُدَّة على العدوّ ، وأقوى المكيدة في الحرب ، وآمرُكَ ومن معك أن تكونوا أشدّ احْتِراسا من المعاصي عليكم من عدوّكم ، فإنّ ذنوب الجيش أخْوَفُ عليهم من عدوّهم ، فإنَّما ينصَرُ المسلمون بِمَعصِيَة عدوّهم ، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوَّة ! لأنَّ عَدَدَنا ليس كَعَدَدِهم ، ولأنَّ عُدَّتنا ليْست كَعُدَّتهم ، فإذا اسْتَوينا في المعصِيَة كان لهم الفضل علينا في القوَّة) .
الإيمان وحدهُ يغرسُ في النَّفس الشَّجاعة والإقدام :
الإيمان أيها الأخوة يعني أنْ يعتَقِدَ الإنسانُ اعْتقادًا جازمًا أنَّ له أجَلاً لا يتقدَّم ولا يتأخَّر ، هذا الإيمان وحدهُ يغرسُ في النَّفس الشَّجاعة والإقدام ، وروح التَّضحيَة والإيثار ، سيّدنا خالد رضي الله عنه وهو على فراش الموت قال : (لقد خُضْتُ سبعينَ معركةً أو زهاءها ، وما في جسمي موضع شِبْرٍ إلا وفيه ضربةٌ بِسَيف ، أو طعنة بالرمح ، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي ، فلا نامَتْ أَعْين الجبناء) .
ومِمَّا يؤكِّد علاقة الإيمان بالنَّصر أنّ الظروف الصَّعبة التي يضعف أمامها الإنسان غير المؤمن ، وتُذِلُّهُ وتُحَدِّدُ مصيره لا يمكن لها أن تؤثِّر في المؤمن الحقّ ، ولا أن تُبعِدَهُ عن متابعة سَيْرِهِ ، ولا أن تُحَدِّد مصيرهُ الذي رسمه له الأعداء ، قال تعالى :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾
التَّطبيق العملي لِعَلاقة النَّصر بالإيمان :
أيها الأخوة الكرام ، هذا التَّطبيق العملي لِعَلاقة النَّصر بالإيمان ، ففي معركة بدْرٍ كان المؤمنون قِلّة مستضعفين ، وكان المشركون كثرةً مستكبرين ، وكان المؤمنون مفتقرين مقبلين ، وكان المشركون مستغنين معْرضين ، فاسْتَحَقَّ المؤمنون النَّصْر ، بسَبب إيمانهم وافْتِقارهم ، ودُعائِهم وإعدادهم جُهْد استِطاعتهم ، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
أيْ نصرَهم وهم ضِعافٌ مُستَضعفون ، لكنَّهم يوم حُنَين اسْتَجمعوا كلّ أسباب النّصر المادِيَّة مِن وفرة العدد ، وكثرة العدَد ، واسْتَجمعوا أسباب النَّصر المَعْنَويَّة حيث دانَتْ لهم الجزيرة العربيَّة ، ولكن زلَّتْ بهم القدَم إلى الاعْتِماد على هذه الأسباب ، الأمر الذي أضْعفَ افْتِقارهم إلى الله تعالى ، واعْتِمادهم عليه ، فجاء التَّأديب الإلهي بِقَوله تعالى :
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾
القوَّة مطلقة ، فَكُلّ أنواع القوَّة يجب أن يُعِدَّها المؤمنون ، ولكنَّ رحمة الله بالمؤمنين كلفهم بإعْداد القوَّة المتاحة ، وليْس بإعْداد القوّة المكافئة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ))
وهو مِقياسٌ خالد للقوَّة ، وعنصر أساسي في كَسْب المعارك مهما اختلفَت أنواع الأسلحة وتطوَّرَت ، ومستوياتها الفنيَّة ، فعَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ :
(( ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[ ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ))
المواقف الأخلاقية و البطولات الفذة التي ظهرت من أصحاب النبي الكريم :
هذه الحقائق أيها الأخوة مستنبطة من القرآن الكريم ، ومن منهج الإنسان المؤمن، وتِلك التَّوجيهات التَّفصيليَّة والتَّوضيحِيّة التي جاءَت بها سنَّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام ، وهذا المواقف الأخلاقيَّة الرائعة والحكيمة ، والتي وقفها المصطفى صلى الله عليه وسلّم أُسْوتنا وقُدوتنا، وتلك البطولات الفذَّة التي ظَهَرت من أصْحابه أُمناء دَعْوته ، وقادة ألْويَتِه نضَعها بين أيدي أبناء أُمَّتنا العربيّة ، وهي تخوض المعارك تِلْو المعارك مع أعدائها أعداء الحق والخير !
لمَّا فرغَ الناس من قتْلاهم في أُحد قال النبي عليه الصلاة والسلام : مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع ؟! أفي الأحياء هو أم في الأموات ؟! فذَهَب رجل من الأنصار فوجدهُ جريحًا في القتلى ، وبه رمق ، فقال له : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات ؟ فقال : أنا في الأموات ، أبْلِغ رسول الله صلى الله عليه وسم عنِّي السَّلام ، وقُل له : إنَّ سعد الربيع يقول لك : جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبِيًّا عن أُمَّته ، وأبلِغ قومك عنِّي السَّلام ، وقُل لهم : إنَّه لا عُذْر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيِّكم ، وفيكم عَينٌ تطْرُف ! كان سعْدُ بن الرَّبيع في أعلى سعادته حينما لقيَ الله وقد أدَّى واجبه ! قال : فلم أبرح حتَّى مات ، فجئتُ النبي صلى الله عليه وسلَّم فأخبرْتُهُ خبري فبكى حتَّى أخضل لِحْيَتَهُ ! ما هذه السَّعادة أيها الأخوة التي كانت تملأُ جوانح سَعد بن الرَّبيع ؟! لقد ظهرتْ في ضَوء هذه المبادئ ، وتلك القِيَم ، بطولات فذَّة يندر أن نرى مثلها في المجتمعات التي أدارتْ ظهرها لِمَنهج الله ، وانْغَمَسَت في وُحول الشَّهوات ، قال تعالى :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
من هذه البطولات الفذَّة بطولة سيّدنا جعفر في مُؤْتة ، لمَّا وصل المسلمون إلى مؤتة ، وهي قريةٌ واقِعة على مشارف الشام ، وجدوا أنَّ الروم قد أعدُّوا لهم مئة ألف، وتُظاهرهم مئة ألف أخرى ، أما جيشٌ المسلمين فكان ثلاثة آلاف ! وما أن التقى الجَمعان ودارتْ رحى المعركة حتَّى خرَّ زيد بن حارثة صريعًا مُقبِلاً غير مُدْبر ، فما أسْرع أن جاء القائِدُ الثاني سيّدنا جعفر بن أبي طالب وثَبَ عن ظهر فرسِه ، وحمل الراية ، وأوْغَلَ في صفوف الروم ، وهو يقول:
يا حبَّذَا الجنَّة واقْتــِرابـــــــــــها طيِّبةٌ وباردٌ شرابـــها
و الروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدة أنسابها
عليّ إنْ لاقيْتُها ضرابها
***
وظلّ سيّدنا جعفر رضي الله عنه يجول في صفوف الأعداء ويصول حتَّى أصابتْهُ ضربَةٌ قطَعَت يمينه ، فأخذ الرايَة بِشِماله ، فما لبِثَ أن أصابتْهُ ضربَةٌ أخرى قطَعَت شِماله ، فأخذ الراية بِعَضُدَيهِ وصَدرهِ ، فما لبثَ أن أصابتْهُ ثالثة شَطَرتْهُ شَطْرين ! بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مصْرع سيّدنا جعفر - تَتِمَّة هذه القصَّة - وكان القائد الثالث سيّدنا عبد الله بن رواحة، وعلى ذِمَّة الرِّوايات أنَّه تردَّد ثلاثين ثانية ، وقال :
يا نفسُ إلا تُقْتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صَليت
إنْ تفْعلي فِعْلهما رضـــيت وإن تولَّيــــــــــــت فقد شقـــيت
***
فأخذ الراية فقاتَل بها حتَّى قُتِل ، قال عليه الصلاة والسلام : " أخذ أخوكم زيد الراية فقاتل بها حتى قُتِل ، وإنِّي لأرى مقامه في الجنَّة ، ثمَّ أخذ الراية أخوكم جعفر ، فقاتَلَ بها حتى قُتِل ، وإنِّ لأرى مقامه في الجنَّة ، ثمَّ سكت النبي عليه الصلاة والسلام ، فَقلِقَ الصَّحابة عن أخيهم عبد الله فقالوا : يا رسول ما فعل عبد الله ؟! فقال : ثمّ أخذ الراية أخوكم عبد الله وقاتل بها حتى قُتِل ، وإنِّي أرى في مقامه ازْوِرارًا عن صاحِبَيْه " كلّ هذا لأنَّه تأخَّر ثلاثين ثانية مقدار هذين البيتين في بذل نفسه في سبيل الله ، لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام مصرعَ سيدنا جعفر ، انطَلَق إلى بيت سيّدنا جعفر بِنَفسِه احتِرامًا لأهله ، فوجَدَ زوْجته أسماء ، تتأهَّب لاسْتِقبال زوجها الغائب وقد عجَنَت عجينها ، وغسَلَتْ بنيها ، وألْبسَتهم ، قالت أسماء : فلما أقبلَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأيْتُ دلالة من الحزن توشِّح وجهه الكريم ، فَسَرَت المخاوِف في نفسي ، غير أنَّني لم أسألهُ عن جعفر مخافة أن أسمَعَ منه خبرًا أكرهُهُ ! فحيَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أسماء وقال : ائتني بِأبناء جعفر ، فَدَعَوْتُهم له ، فهبُّوا نحوه فرحين ، وأخذوا يتزاحمون عليه كلٌّ يريد أن يستأثر به ، فأكبّ عليهم صلى الله عليه وسلّم ، وجعل يتشمَّمهم ، وعيناه تذرفان من الدَّمع ، فقلتُ يا رسول : بِأبي أنت وأُمِّي ما يُبكيك ؟! أبلغَكَ عن جعفر وصاحِبَيه شيء ؟! قال : نعم ، لقد اسْتِشْهِدوا هذا اليوم ! عند ذلك غاصَت البسْمة من وُجوه الصِّغار ، لمَّا سَمِعوا أُمَّهم تبكي ، وجمدوا في أمكنتهم كأنَّ على رؤوسهم الطَّيْر ، أما النبي صلى الله عليه وسلَّم فقد مضَى وهو يُكَفْكِفُ عَبَراته وهو يقول : اللهمّ اخْلُف جعفرًا في ولده ، اللهمّ اخْلُف جعفرًا في أهله ، ثمّ قال : رأيتُ جعفرًا في الجنَّة له جناحان مدرَّجان بالدِّماء ، وهو مصبوغ القوادم ! هكذا كان أسلافكم أيُّها الأخوة وهكذا كان أجدادكم ، أعزَّهم الله بالنَّصر المبين لأنَّهم اصْطلحوا معه ، ونفَّذوا منهجه في بيوتهم .
أيها الأخوة الكرام ، إلههم هو إلهنا ، وربُّهم هو ربُّنا ، والقوانين هي هيَ ، والسُّنَن هي هيَ ، لم تتبدَّل ولم تتغيَّر ، فالصُّلح الصّلح أيها الأخوة ، أقْبِلوا ، وأنيبوا إليه ، واصطلحوا معه ، وعودوا إلى كتابكم وسنَّة نبيّكم قال تعالى:
﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾
حاجة المسلمين إلى آيات التوحيد :
أيها الأخوة الكرام ، هذه حقائق ، والحقيقة المرّة أفضل من ألف مرة من الوَهْم المريح ، فلا تعيشوا في الأوهام ، قال تعالى :
﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
وقال تعالى :
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
ما علينا إلا أن نصطلح مع الله ، قال تعالى :
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
فنحن في أمسِّ الحاجة إلى آيات التوحيد ، قال تعالى :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
الله وحده الذي يرفع ، ووحده الذي يخفض ، ووحده الذي يُعِزّ ويُذِلّ ، ووحده الذي يُعطي ويمنع ، ووحده الذي ينصر ويخذل ، ولكنَّ العلماء قالوا : لا ينبغي أن تقول أنَّ الله ضارّ! فمِن أسمائه الضارّ ، ولكن ينبغي أن تقول : هو الضارّ النافع ، والمعطي المانع ، والمعزّ المذلّ ، لأنَّ يأخذ لِيُعطي ، ويُذِلّ لِيُعِزّ ، ويضرّ ليَنفع ، ويخفض لِيَرفَع .
عَوْدٌ على بدء ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
هذه القوَّة الغاشمة والمتغطْرسة في العالم ، التي تسْتبيح الدِّماء ، وحقوق الشُّعوب، تمثِّلها هذه الآية السابقة ، ونرجو الله أن ينطبق علينا شطر الآية الآخر ، قال تعالى
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾
أيها الأخوة الكرام ، حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم ، واعلموا أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتَخَطَّى غيرنا إلينا ، فلْنَتَخِذ حِذْرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبعَ نفسهُ هواها ، وتمنى على الله الأمانيّ ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبدهُ ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيّدنا محمَّد ، وعلى آله وصَحبِهِ أجمعين .
الحاجة إلى الطعام :
أيها الأخوة الكرام ، كنتُ قد أعْدَدْتُ لكم خطبةً عن الصِّيام ، ولكنّ الأنباء المؤسِفَة التي سَمِعتموها جميعًا اضطرَّتني أن أُحَوِّل الموضوع إلى موضوع آخر ، ولكنّ شطْر الخطبة الثاني هو هذا :
قال بعض العلماء المتخصِّصين في التَّغْذِيَة : ليس عِلمُ الإنسان بِوَظائف الطَّعام هو الذي يدْفعُهُ إلى تناول الطَّعام ! ولكنّ الإحْساس بالجوع الضاغط وشَهوة الطَّعام الباعثة هما اللَّذان يُحَرِّكان الإنسان إلى الطَّعام ، أما حاسَّة الجوع فَتَدْعو الإنسان إلى ما يسدّ حاجته من الطَّعام لِيَبقى حيًّا ، وأما شَهوة الطَّعام الباعثة فهي وسيلة ، وليْسَت غاية ، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان مِن أدْعِيَتِهِ : " الحمد لله الذي أذاقني لذَّته ، وأبقى فيَّ قوَّته ، وأذْهَب عنِّي أذاه " فمِن نِعَم الله عز وجل أنَّ هذا الذي هو سبب في بقاء حياتك طيِّب المذاق ، فهناك الحاجة إلى الطَّعام بِدافعِ الإحساس بالجوع ، وهناك لذَّة الطَّعام ، فقد يستكمل حاجته إلى الطعام بِسائِلٍ يُحْقنُ في دَمِهِ ، ولكنّ الله عز وجل تفضّل علينا فجَعَل هذا الطَّعام ذا طَعمٍ لذيذ ، فشَهوة الطَّعام وسيلة ، فإذا جعلها الإنسان غاية اضْطرب الجِسم ، أُناس كثيرون عن سوء تقْديرٍ منهم ، أو عن ضَعف في إرادتهم يَجعلون شَهوة الطَّعام غاية ، وإذا أصبح الطعام غاية يتعطَّل ما يُسَمِّيه العلماء بالجرس الخفي الذي يدقّ حين الجوع فقط ، تتعطَّل وظيفة هذا الجرس ، فالمعدة كما قال عنها العلماء : تتمدّد مراتٍ عديدة ، فَمِن حجمٍ ابتِدائي - مئتان وخمسون سنتمترًا مكعّبًا إلى ألفين وخمسمئة سنتمتر مكعّب - فحينما تتمدّد المعدة يُصبحُ الطَّعام هدفًا ؛ نعيشُ لِنَأكل، هذا تمهيد.
آلية تصميم الأبدان للتعامل مع مركبات الطعام :
هناك حقيقة عجيبة جدّاً ، ولكنَّها ثابتةٌ على نحْوٍ قاطِع ، وهي أنَّ آليات تعامل الأبدان مع الطَّعام تسْتوْجِبُ الصِّيام ، فقد صمَّم المولى جلّ وعلا الأبدان على نحْوٍ يُهَيِّئ التعامل مع مركبات الطعام وِفقًا لآليَةٍ تسير بانتظام وتوافقٍ في ثلاث مراحل ، وهذا بحثٌ مهمّ جدًّا .المرحلة الأولى : مرحلة هضْم الطعام في المعدة والأمعاء
ثمّ الامتصاص والتَّمثيل، وتحويل الطعام إلى سكّر يسري في الدِّماء ، وإلى مواد أخرى مُرَمِّمة يستخدمها الجسم لإطلاق الطاقة ، وبِناء الأنسِجَة .المرحلة الثانية : مرحلة تخزين الفائض من الطاقة ، التي تزيدُ عن حاجة الجسم فالسُّكَّر الفائض يُخَزَّن في الكبد والعضلات على نشاءٍ حيواني ، ويُخَزَّن الفائض الدُّهني في معظم أنحاء الجسم .
فالأولى هضم وامتصاص واستهلاك ، والثانية تخزين ،
المرحلة الثالثة :هي مرحلة فتْح مخازن الطاقة ، وتحويل السكّر والدُّهون إلى سكّر وأحماض دُهْنيَّة لإطلاق طاقتها في الجسم . دَقِّقوا أيُّها الأخوة ، المرحلة الثالثة لها ميزةٌ خاصَّة ، وهي أنَّها لا تحدث مطلقًا إذا لم يمْتَنع الإنسان لِفتْرةٍ زمنيَّة محدَّدة عن تناول الطعام ، فالمهمّة الثالثة معطَّلة ما لم يمْتَنِع الإنسان عن تناول الطَّعام .
فيزيولوجيا خلق الأبدان تقتضي الامتِناع عن تناول الطَّعام :
أيها الأخوة الكرام ، قال العلماء : يبدأ مستوى السكّر في الدم من ثمانين إلى مئة وعشرين ميليغرامًا في كلّ سنتمتر مكعَّب ، هذه نِسبة السكّر في الدم وبعد صِيام سِتِّ ساعات تنخفض هذه النِّسبة ، وهنا تتجلَّى عجيبة من عجائب الجسم البشري ؛ مركز بالدِّماغ - لا يعنيكم اسمه الدقيق - يُرْسِل إلى الغدد الصماء رسائل عاجلة يطلب منها العَون والمدد فالكظر يفرزُ هرمونًا يحثّ على تَحويل النشاء الحيواني في العضلات والكبد إلى سكّر بِوَساطة هرمون ، والغدَّة الدرقيَّة تفعل مثل ذلك عن طريق إفراز هرمونها ، فهي تحُثّ سكَّر الدم المُخزَّن في العضلات والكبد على أن يُطْلق ويُسْتَهلك لأنَّ نسبة السكَّر في الدم انْخفضَتْ بعد سِتِّ ساعات من الصِّيام ، والغدّة الأخرى هي البنكرياس ، تفعَل مثل ذلك عن طريق هرمون يحثّ هذه المخزونات على الانطلاق كي تُسْتهلَكَ فإذا اسْتَهلك الإنسان ما هو مخزون عنده من السُّكر في عضلاته وكبده ، يتحوَّل العمل إلى الدُّهون المخزَّنة فتَهْدِمها ، وتحرِّر طاقتها ، وقد أكَّدَت الأبحاث العلميَّة ازدِياد احْتِراق الدُّهون طوال ساعات الصِّيام ، واستهلاك الدهون المتراكمة في مناطق ترسُّبها على الجسم أيها الأخوة ، حقيقة مذهلة ، فكلّ كيلو غرام من الأنسجة الدهنيّة يحتاج إلى ثلاثة كيلو متر من الأوعيَّة الشَّعريَّة التي يسري خلالها الدم ، وهذه عِبءٌ على القلب ، فلو أنّ الإنسان زاد حجمه عشرة كيلو غرام فهذا دليل أنَّ به ثلاثمئة كيلو متر أوعيَة شَعْريَّة زائدة ! وقال العلماء : إنَّ فيزيولوجيا خلق الأبدان تقتضي الامتِناع عن تناول الطَّعام ، لماذا ؟لإراحة الوظيفة الأولى والثانية ، ولإتاحة الفرصة لِعَمل الوظيفة الثالثة ، فالصِّيام ترتاح به وظيفة هضم الطعام وامتصاصه ، وترتاح الوظيفة الثانية وهي تخزينه ، وتبقى الوظيفة الثالثة وهي هدم المُدَّخرات الدهنيَّة وإحراقها ، واستهلاك المُدَّخرات الدهنيَّة في العضلات والدم ، فَلِكون الصِّيام ضروريّ
لكلّ إنسان كانت هذه الفريضة على كلّ الأُمم والشُّعوب ، قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
ولكن هذا البحث العلمي يعني شيئًا دقيقًا ، وهو أنَّ الصِّيام عِبادة ، وقُرْبٌ من الله ، ومزيدٌ من الاتِّصال بالله ، وكلّ عمل ابن آدم له إلا الصِّيام الله يجزي به ! فالصِّيام تَقْوِيَة إرادة الإنسان وأن تشعر بِضَعفك البشري ، فهذا البحث العلمي لا يخدش مهمَّة الصِّيام الأولى وهي العبادة ، والقرب ، ولكنّ أمر الله متنوّع فهو عبادة ، وهو قُرب ، وهو تحجيم ، وهو صِلَة ، وافتقار .
الدعاء :
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن تولَّيت ، وبارك اللهمّ لنا فيما أعطَيت ، وقِنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيت ، فإنَّك تقضي بالحق ، ولا يُقضى عليك ، وإنَّه لا يذِلّ من واليْتَ ، ولا يَعِزُّ من عادَيت ، تباركت ربَّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قَضَيْت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهمّ هبْ لنا عملاً صالحًا يُقرِّبنا إليك ، اللهمّ أعْطِنا ولا تحرمنا ، أكرِمنا ولا تهنَّا آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرْضِنا وارْض عنا ، وانصرنا على القوم الكافرين ، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهْلكنا بالسِّنين ، ولا تأخذنا بِفِعل المسيئين ، اللهمّ بِفضْلك ورحمتك أصلِح لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعَل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعَل الموت راحة لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربَّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بِحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبِطاعتك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تُؤمِنَّا مكْرَكَ ، ولا تهتِك عنَّا سِتْرك ، ولا تنسنا ذِكرك يا رب العالمين ، اللهمّ بِفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدِّين ، وانصر الإسلام وأعِزَّ المسلمين ، وخُذ بيَد وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى ، إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .