- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
فضل أيام العشر من ذي الحجة
أيها الإخوة الكرام، من فضل الله عز وجل ومنته أن جعل لعباده الصالحين مواسم للعبادة، يستكثرون فيها من العمل الصالح، من هذه المواسم عشر ذي الحجة، وقد ورد في فضلها أدلة من الكتاب والسنة، قال تعالى:
﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
قال ابن كثير: " المراد بها عشر ذي الحجة، كما قال بهذا ابن عباس "، وقد روى هذا الحديث الإمام البخاري.
أيها الإخوة الكرام، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ))
وفي آية ثانية يا أيها الإخوة الكرام، فضلاً عن الآية الأولى:
﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
في آية ثانية:
﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾
قال ابن عباس: " أيام العشر من ذي الحجة "، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ))
<< وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ >>.
وقال ابن حجر في الفتح: " والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره ".
الآن إلى التفاصيل:
ما يستحب من الأعمال في العشر من ذي الحجة
ماذا يستحب فعله في هذه الأيام ؟
1 - الصلاة
أولاً: الصلاة، فيستحب التبكير إلى الفرائض، والإكثار من النوافل، فإنها من أفضل القربات، قَالَ مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
(( عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً ))
2 - الصيام
ثانياً: الصيام: لدخوله في الأعمال الصالحة، فعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي بَعْضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَتِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ ))
يقول الإمام النووي: " صوم الأيام العشر بأكملها مستحب ليس أكثر من ذلك ".
3- التكبير والتهليل والتحميد
التكبير والتهليل والتحميد: لما ورد في حديث ابن عمر السابق:
((... فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ))
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: " كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقال أيضاً: " بَاب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى، وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ، أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا ".
أيها الإخوة الكرام، صيغة التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر وله الحمد، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، والله أكبر وله الحمد.
4- صوم يوم عرفة
أيها الإخوة الكرام، يتأكد صوم يوم عرفة، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ))
لكن من كان في يوم عرفة حاجاًًّ فإنه لا يستحب له الصيام، لأن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعرفة مفطراً، فيستحب الصوم لغير الحاج، أما الحاج ففطره أقوى على الدعاء والابتهال، والعبادة في هذا اللقاء الأكبر بين العبد وربه.
فضل يوم النحر
أيها الإخوة الكرام، يوم النحر كما قال بعض العلماء خير الأيام عند الله، وهو يوم الحج الأكبر، وهو أول أيام عيد الأضحى، كما في سنن أبي داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ ))
يوم القر يوم الاستقرار في منى.
نحن في مواسم عبادة وكما تعلمون أيها الإخوة الكرام أن أعيادنا نحن المسلمين تأتي عقب عبادات كبرى، فعيد الفطر السعيد يأتي عقب الصيام، وعيد الأضحى المبارك يأتي عقب فريضة الحج، ولمن بذل جهداً في هذه الأيام العشر كأنه حقق شيئاً قريباً ممن يحج إلى بيت الله الحرام.
فضل أضحية العيد
أيها الإخوة الكرام، وذبح الأضحية له بحث آخر، فإطعام الطعام، ووصول هذا الطعام إلى جوف الفقير عمل عظيم، لذلك قال العلماء: " توزيع اللحم أفضل من توزيع ثمنه "، لأن الفقير قد يكون مديناً، فإذا قدمت له مبلغاً من المال سدّ به دينه، وبقي أولاده جياعاً، فلذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا ))
ولك أن تذبح في كل أيام العيد في يوم النحر الأول، وفي أيام التشريق الثلاثة التي بعده، لك أن تذبح، ولك أن تأكل من هذه الذبيحة، ولك أن تهدي أصدقاءك غير الفقراء، ولك أن تطعم الفقراء، فأنت في بحبوحة، وفي توسعة على العيال، وأفضل الإسلام إطعام الطعام، كما ورد في بعض الأحاديث.
أيها الإخوة الكرام، ننتقل إلى موضوع آخر، ألا وهو أن الإنسان كائن متحرك، وليس سكونياً، ما الذي جعله متحركاً ؟ ما أودع الله فيه من شهوات، قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
وظيفة الشهوات الرقي بها إلى الله
إن بعض المسلمين يتوهم أنه لولا هذه الشهوات لما شقي الإنسان، ولما استحق النار، والحقيقة الصريحة والصادقة أنه لولا هذه الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات.
ما الطريق للتقرب إلى الله ؟ أودع الله في الإنسان الشهوات، وله بحكم اختياره أن يمارسها من دون قيد أو شرط كما يجري في العالم اليوم، حيث تمارس الشهوات من دون قيد ولا شرط، إلى أن وصل العالم إلى زنا المحارم، وهذا واقع في معظم بلاد العالم، لكن الشرع العظيم أعطاك زاوية مسموح لك فيها أن تمارس هذه الشهوة وفق منهج الله، وفق النظام، وفق ما يسمو بك، وفق ما له ثمرات يانعة، فلذلك ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فليس في الإسلام حرمان، ولكن المحرمات من أجل ضمان سلامتك وسعادتك، تماماً كالمكبح في السيارة، فهو في تصميمه يعيق حركة السيارة، مع أن السيارة صنعت للحركة، وهذا المكبح يناقض علة صنعها، لكنه من أجل ضمان سلامتها، فلذلك المحرمات تحجبك عن الله عز وجل، والمحرمات تجعل الإنسان أعمى أصم.
أيها الإخوة الكرام، هذا الحديث ذكرته كثيراً، لكن الذي أريد أن أعلق عليه هو أن الإنسان كائن متحرك، يبحث عن لذته، لكن لذة كل أحد على حسب قدره وهمته، وشرف نفسه، وأشرف الناس نفساً من يتقرب إلى الله عز وجل، ويعمل الأعمال الصالحة، ويكون في خدمة العباد.
إن لذة المؤمن في الإقبال على الله، وعكوف همته عليه، ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله، حتى تنتهي اللذة إلى ما ذكرت قبل قليل إلى أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء، من الكلام والفعال والأشغال، فلو عرضت على المؤمن أن يتلذذ بما يتلذذ به الشارد عن الله لخرج من جلده رفضاً، ولو عرضت على الثاني أن يتلذذ بما يتلذذ به الأول لرفض ذلك أشد الرفض، فقل لي ما الذي يسعدك أقل لك من أنت، وكلما ارتقى مكان المؤمن ارتقت همته سعادته في الإقبال على الله، وسعادته في معرفته، وسعادته في تخفيف الآلام على الناس، وسعادته في عمل صالح يلقى الله به، وسعادته في فهم كلام الله، في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعادته في إنجاز كبير ينفعه بعد الموت، بل إن قمة سعادته أن يرزقه الله عملاً لا ينتهي بعد موته.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ))
لا بد للمؤمن من عمل صالح
لذلك البطولة أن يكون لك عمل يستمر إلى يوم القيامة، ينتهي أجل الإنسان، وينقضي عمره والأعمال العظيمة التي خلفها كبار الصحابة وكبار التابعين وكبار العلماء العاملين باقية آثارها حتى اليوم.
أيها الإخوة الكرام، أنت حينما تؤمن إنما خلقت للجنة، وأن الدنيا مكان فيه متاعب لا تنتهي، لكنك تدفع في الدنيا ثمن الجنة، ولولا الدنيا لما كانت جنة، وحينما يدخل أهل الجنة الجنة يقولون:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
لولا أننا جئنا إلى الدنيا، وأودعت بنا الشهوات، وأعطينا منهجًا، وأُمرنا أن نفعل كذا، وأن ننتهي عن كذا، ونجحنا في الامتحان لما كنا في الجنة الآن.
إن إنسانًا درس دراسة شاقة في جامعة معينة، ثم حصّل مرتبة عالية، وكان له دخل كبير جداً، فتمتع به هو من حوله، ومن يلوذ به، هذا الإنسان إذا مرّ أمام الجامعة ألا يقول: لولا هذا البناء، ولولا هذه المؤسسة التعليمية وانخراطي فيها ودراستي لما كنت بهذا الحال، قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾
جنة الدنيا وجنة الآخرة
لكن الله عز وجل أيها الإخوة الكرام يقدم لنا تشجيعاً في الدنيا، يقول بعض كبار العلماء: " في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب "، فكأن الله عز وجل يعطي للمؤمن نموذجاً من سعادة أهل الجنة في الدنيا، وهذا بعض ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
" في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، والدليل القرآني:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
عرّفها لهم في الدنيا، وأذاقهم بعضاً من نعيمها، هي جنة القرب، لذلك إذا كان الإنسان مع الله عز وجل فهو في سعادة لا توصف، وإذا استحق السكينة التي من الله أن تتنزل على قلبه سعد بها ولو فقَد كل شيء، وإن حجبت عنه السكينة شقي بفقدها، ولو ملك كل شيء.
لا أبالغ، ولا أتطرف، ولا أصف الشيء بأكبر من حجمه، أسوأ مكان في الأرض الغرفة المنفردة، وأجمل مكان في الأرض بيت مساحته كبيرة جداً مطل على منظر طبيعي رائع جداً، فيه ما لذ وطاب من كل شيء، وأنت في هذا المكان صدّق أنك إذا كنت في بيت فيه ما تشتهي، ولم تكن معك سكينة الله فأنت أشقى الناس، وإذا كنت في المكان الآخر، وكان الله معك فأنت أسعد الناس.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليــت عنا لغيرنا
* * *
فليتــــك تحلو والحياة مريرة و ليتك ترضى والأنام غضاب
* * *
أنا لا أريد أن يكون الدين كله أفكاراً وأدلة ونصوصاً، أريد معنى القرب، أريد الحب، أريد الاتصال بالله عز وجل، أريد السعادة التي تجنيها من قربك من الله عز وجل، المعاني المجردة في الإسلام لا تزيد على خارطة قصر، بينما القرب من الله أنْ تسكن هذا القصر، المعاني الدقيقة جداً في الإسلام لا تزيد على صورة مركبة رائعة، ولكن القرب من الله يعني أن تركب هذه المركبة، وأن تستخدمها، وأن تنتفع بها، وأن تستمتع بكل ميزاتها.
أيها الإخوة الكرام، أكثر الناس توفيقاً في الدنيا من كانت نعم الدنيا عنده متصلة بنعم الآخرة، فحينما يستقيم الإنسان على أمر الله يسلم، وإذا أقبل عليه يسعد، فإذا وافته المنية ينطبق عليه قول الله عز وجل:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾
حقيقة علمية: وظائف السائل الأمنيوسي
أيها الإخوة الكرام، الطفل الصغير وهو في الرحم في حوله سائل اسمه السائل الأمنيوسي، هذا سائل أولاً: يغذيه، وثانياً: يسهل حركته في رحم أمه، وثالثاً: يمتص الصدمات، فأيّ صدمة تصيب الأم في بطنها يأخذ هذا السائل هذه الصدمة، ويوزعها على كامل سطح الجنين، كالمركبة الفضائية، أو كالدماغ، وهذا السائل له حرارة ثابتة، فمهما كان البرد قارساً فهو في تكييف ما بعده تكييف، كأن هذا السائل تكييف وتدفئة، وهذا السائل فضلاً عن كل ذلك يمنع التصاق الجنين بالرحم، وهذا السائل يسهل الولادة، إذْ ينزلق الرحم من أضيق الأماكن بفضل هذا السائل، وهذا السائل يعقم المجرى من أن يصاب بإنتان أو جرثوم، هذا السائل من رحمة الله.
أقول لكم شيئًا تركيبيًا: لو أن هذا الجنين أُخبر أنه سوف تخرج من هذا المكان لرفض أشد الرفض، وتعلق به أشد التعلق، ورأى ترك هذا المكان مصيبة كبرى، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( يخرج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ))
مرة في رمضان كنت في طعام إفطار، وجلس إلى جانبي إنسان كان من رواد الفضاء، فقلت له: كنتَ في بطن أمك في سبعمئة وخمسين سنتيمترًا مكعبًا، ثم صعدت إلى الفضاء، ورأيت الأرض كرة كما نراها في الصورة، كم هي المسافة بين رحم الأم وأن تكون من رواد الفضاء حتى تصل إلى القمر مثلاً ؟!
أيها الإخوة الكرام،
(( يخرج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ))
قال تعالى:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾
أسعد لحظات المؤمن ساعة لقاء ربه
أيها الإخوة الكرام، من هنا نفهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أحاديثه: الموت عرس المؤمن، الموت تحفة المؤمن، كما لو أنك فقير جداً، لكنك وُعِدت إن أتيت بشهادة عليا جداً من بلد متقدم فإنك ستحتل أعلى منصب في اختصاصك، وتقتني أجمل بيت، وأجمل بيت في المصيف، وأجمل امرأة، وأرفه سيارة، لو أنك درست سنوات طويلة، وكنتَ تعمل في المطاعم ليلاً، وفي الحراسة عصراً، وفي الدراسة نهاراً، وفي الدوام قبل الظهر سبع سنوات عمل شاق، إذا نلت الشهادة، وأخذت وثيقة عنها، وصدقتها، ثم قطعت تذكرة العودة، وأعطيت بطاقة الصعود إلى الطائرة، ووضعت رجلك في الدرجة الأولى من سلم الطيارة أليست هذه أسعد لحظات حياتك ؟ هكذا الموت عند المؤمن.
أيها الإخوة الكرام، اقرؤوا سير الصحابة الكرام، ففي سيرهم قاسم مشترك واحد لا يغيب، أنهم كانوا عندما وافتهم المنية في أسعد لحظات حياتهم، وا كربتاه، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
النبي عليه الصلاة والسلام تفقد بعض أصحابه، سعد بن الربيع، فأرسل أحد أصحابه يتفقده في أرض المعركة، رآه بين الجرحى، قال: يا سعد، أمرني النبي أن أتفقدك أنت بين الأحياء أم بين الأموات ؟ يعني ما وضعك ؟ قال: مع الأموات، ولكن أبلغ رسول الله مني السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص إلى نبيكم، وفيكم عين تطرف.
بين أن يكون الموت أكبر مصيبة وأن يكون لقاء الله عرساً وفرحاً وتحفة هذا الفرق بين المؤمن وغير المؤمن.
والله أيها الإخوة الكرام، التقيت بأطباء قلب كثر في بلاد بعيدة، وحدثوني عن وضع المريض حينما يعلم أن مرضه خطير، وأنه يوشك على أن يموت، تنهار أعصابه، يبكي أحياناً، يلطم وجهه، يتحسر على حياته، يتحدث عن أولاده، فرق كبير في البدايات الناس، كلهم متشابهون، لكن خريف العمر ومغادرة الدنيا عند المؤمن هي من أسعد لحظات حياته، مع أن في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ:
(( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))
أيها الإخوة الكرام، هذه اللذائذ المحرمة انقطعت عنه بالموت، وهذه السعادة الأبدية حرم منها بالمعصية، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
هذا هو الخسار، لذلك الغنى والفقر بعد العرض على الله، وطالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا، فيربحهما معاً، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة، فيخسرهما معاً، تضيع الدنيا بالموت، وتضيع الآخرة بالمعصية، لذلك ورد:
(( عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))
أيها الإخوة الكرام، لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبة الخلق، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من المخاوف، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له، والحلاوة التي يكتسبها وجه المهابة التي تلقى في قلوب الناس، وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة استجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد الشياطين عنه والجن، وتنافس الناس على خدمته، وقضاء حوائجه، وخطتهم لمودته، وصحبتهم له، وعدم خوفه من الموت، بل يفرح به بقدومه على ربه، ولقائه له، ومصيره إليه، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده، وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها، وذوق حلاوة الطاعة، ووجد حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش من حوله من الملائكة، وفرح الكاتبين به، ودعائهم له كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه، وفرحته بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرور، لا نسبة له إلى فرح أهل الدنيا بدنياهم.
أيها الإخوة الكرام، كما ورد في بعض الأحاديث عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا ))
تكفينا هذه الآيات أيها الإخوة الكرام:
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
من علامات السعادة والشقاوة
أيها الإخوة الكرام، فائدة سريعة: من علامات السعادة والفلاح أن العبد ـ دققوا في هذه الكلمات الموجزة ـ أن العبد كلما زيد في علمه زيد في حرصه على طاعة ربه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم، والتواضع لهم، إذا زاده الله علماً زاده خشوعاً، وإذا زاده مالاً زاده سخاءً، وإذا زاده قدراً وجاهاً زاد تواضعه، وقربه من الناس، ومن علامة الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه واستعلائه.
إن إنسانًا يرقى بالمال، وإنسانًا يسقط به، وإن إنسانًا يرقى بالجاه والعز، وإنسانًا يسقط به، وإنسانًا يرقى بالعلم، وإنسانًا ينتهي به العلم إلى الكبر.
يا أيها الإخوة الكرام، إذا كنت مع الله كان الله معك، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك ؟
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.
* * *
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سينا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع في الخطبة الثانية منهجي، بمعنى أن كل الوسائل التي يقترحها الشاردون عن الله لإصلاح المجتمع لا تنجح، فما السبب ؟
الإنسان بين رادع القانون ووازع الدين
لأن هذا الدين العظيم مبني على الوازع، بينما الأنظمة الوضعية مبنية على الرادع، والدليل أن واضع القانون إنسان، وقد يكون عاقلاً وذكياً، لكن المواطن قد يكون أعقل منه وأذكى منه، فيحتال على هذا القانون، فيلغي وظيفته، ويفرغه من مضمونه.
أوضحُ مثلٍ يتبادر إلى ذهني أنه حين وُضعت أجهزة في الطرقات في بلاد بعيدة لكشف السرعات الزائدة احتال الناس على هذه الأجهزة، واخترعوا أجهزة تكشف لهم هذه الأجهزة قبل أن يصلوا إليها، فإذا اقتربوا منها خفضوا سرعتهم إلى ما ينبغي، فإذا تجاوزوها عادوا إلى ما كانوا عليه بسرعات عالية فاضطرت الدولة أن تصنع جهازاً آخر لكشف أجهزة السيارات التي تكشف أجهزة الطرقات، وهذه معركة بين عقل وعقل، بين ذكي وذكي، بين مخترع ومخترع، أما حينما يصوم الإنسان في رمضان، ويكون في أشهر الصيف الحارة، وفي أذان الظهر يكاد يموت من العطش، ويدخل بيته، وليس في البيت أحد، ويفتح صنبور الماء البارد، ولا يستطيع أن يضع في فمه قطرة ماء.
هذا الشيء ذكرته من قبل لكن سأذكركم بشيء وقع في أمريكا، انتشرت عادة السكر وشرب الخمور انتشاراً كبيراً، الذي أقنع الحكومة وقتها بضرر ذلك على الأسرة والفرد والمجتمع، فأصدرت قانوناً يمنع الخمر، ومما يلفت النظر أن هذا الحظر أو منع الخمر لم يكن أمراً ملكياً، أو أمراً من إمبراطور، لكنه تشريع جاء من طريق البرلمان، مجلس تشريعي، والنظام ديمقراطي، وبالتصويت، وممثلو الشعب هم الذين أصدروا هذا القانون، وهذا المجلس من شأنه طبعاً أنْ يشرّع، يشرع ما يجلب للمجتمع النفع، و يدرأ عنه الفساد والضرر، وبعد أن اقتنع الرأي العام، وتحقق له من الوجوه العلمية والعملية أن الخمر ضارة للصحة، مفسدة للعقل، محطمة للحضارة، صدر قانون بتحريم الخمر في عام 1918م، الآن ماذا فعلت الحكومة وقتها من أجل تنفيذ هذا القرار ؟ جند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ منعاً لتهريب الخمر، جند الطيران كله لمراقبة المطارات منعاً من التهريب عن طريق الطائرات الخاصة، شغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية لمحاربة الخمر، أنفقت الدولة في محاربة الخمر على المنشورات التي تحذر من تناوله، وتبين أضراره أنفقت ستين مليون دولار، وطبعت عشرة بلايين الصفحات في أربعة عشرة عاماً ووزعت، أنفق على متابعة هذا القانون مئتين وخمسين مليون دولار، أعدم ثلاثمئة إنسان اتجروا بالخمر، سجن خمسمئة ألف مواطن، بلغت الغرامات التي دفعها الذين خالفوا هذا القانون ستة عشر مليون دولار، صودرت من الأملاك وأماكن تصنيع الخمر تهريباً ما قيمته أربعمئة مليون دولار، وكل هذه الإجراءات وهذه النفقات وهذه المطبوعات وهذه النشرات وهذا الاستنفار لم يزد الشعب إلا غراماً بالخمر وعناداً في تعاطيه، ففي عام 1933م اضطرت الحكومة إلى إلغاء القانون وإباحة الخمر.
في القرآن الكريم آية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾
في العالم الإسلامي مليار و ثلاثمئة مليون، لا أحد يشرب الخمر، ولا أحد يجلس على مائدة فيها خمر، ولا أحد يصاحب شارب خمر إلا الشاذ، أرأيتم إلى التشريع إذا كان من عند الخالق ؟ أرأيتم إلى التشريع إن كان من عند البشر ؟ لذلك لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
الخوف من الله
من يراقب الناس ؟ المراقبة محدودة جداً، هذا الذي يعجن العجين بعد الساعة الثانية ليلاً، إذا ذهب إلى الحمام، ولم يغسل يديه، ومعه مرض كبد وبائي، وهذا المرض انتشر في مئات الأشخاص من يراقبه في هذه الساعة ؟ هل نحتاج إلى إنسان لكل إنسان ؟
قال ابن عمر لأحد رعاة الغنم: << بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده الصادق الأمين، ولكن أين الله ؟ >>.
أيها الإخوة الكرام، وصلني بريد إلكتروني في هذا الأسبوع فيه خبر عن حدِثٍ في تركيا ترك ضجة كبيرة جداً، سائح وسائحة ألمانيان دخلا إلى مطعم، ونسيا محفظتهما التي فيها مئتا ألف يورو، أي عشرة ملايين ليرة أو أكثر، وحينما خرجا من المطعم نسيا أين نسيا هذه المحفظة، ومضى على ذلك يومان، فتوجه صاحب المطعم إلى مكتب الشرطة، وسلم هذه المحفظة بما فيها، السائحان يئسا من عودة المبلغ، ثم فوجئا أن المحفظة كما هي، ولم ينقص من المبلغ شيء، فقام هذا السائح، وقدم هدية لصاحب هذا المطعم خمسمئة يورو هدية على أمانته، فرفضها، قال: والله أنا مستعد أن أعمل اثني عشرة ساعة عملاً شاقاً لأطعم أولادي طعاماً حلالاً، وأنا أرفض هذه الهدية، قضية له حق أن يأخذها، أو لا يأخذها هذا موضوع ثان، لكن هذا الذي جاءني في البريد، خمسة عشر مليون ليرة يركلها بقدمه خوفاً من الله.
أيها الإخوة الكرام، هذه الأمة مستحيل أن تصلح إلا بالخوف من الله، إلا بتعزيز قيم الدين، بتعزيز الخوف من الله.
حضرت مؤتمراً للبيئة، الذي سمعته شيء يشيب له الولدان من إفساد البيئة عمداً من أجل مصلحة شخصية، أكاد أقول لكم: إن أكبر مرض يعانيه المسلمون الانتماء الفردي، أنا أصوره بإنسان مستلق بظل شجرة، وقد قطفت ثمارها إلا تفاحة كبيرة في أعلاها، ومعه منشار كهربائي فقطع الشجرة حتى أصبحت على الأرض، وأكل هذه التفاحة.
فمن أجل مصلحته الشخصية يدمر البيئة، يلوث الماء، يلوث الهواء، يأتي بمبيدات مسرطنة، يأتي بهرمونات قاتلة من أجل أن يكبر حجم المنتج، فنحن مهما فعلنا فالضبط الإلكتروني في العالم الغربي يفوق حد الخيال، سوق فيه مئات المليارات من البضائع له خمسة مداخل، أو خمسة مخارج، على كل سلعة مادة حساسة، إن لم يدفع ثمن السلعة تغلق الأبواب، وتصدر أصوات كبيرة، إذاً لا أحد يسرق، ضبط إلكتروني مذهل، أما لما انقطعت الكهرباء تمت مئتا ألف سرقة في ليلة واحدة في نيويورك، فهذا الإنسان لا ينضبط إلا بوازع داخلي، أما إذا أحللنا الرادع الخارجي للضبط فلا ينضبط، ولا قوة في الأرض بإمكانها أن تضبط المجتمع إلا أن تعتمد على ترسيخ قيم الدين، وتعزيز الخوف من الله، وإلا يحدث ما ترون، وحينما يكون الإنسان ذكياً يحتال على القانون، ويفرغه من مضمونه، ويصبح القانون أضحوكة بين الناس.
الدعاء
أيها الإخوة الكرام، إني داع فأمّنوا، اللهم انصرنا على أنفسنا حتى ننتصر لك حتى نستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.