- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده
ونعوذ به من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، و ذريته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
كل مسلم ينبغي أن يكون داعية في حدود ما يعلم ومع من يعرف :
أيها الأخوة الأكارم ، أذكركم بأن محور هذه الخطب ، وهذه الخطبة الثالثة أن كل إنسان بَعْدَ أن شعر بخيبة أمل فيما
يتوهم يسأل : ماذا أعمل ؟
فكان الجواب : كن مسلماً ، أنت إذا كنت مسلماً وسَّعتَ دوائر الحق ، وضيَّقتَ دوائر الباطل ، وحينما يتوهم المسلم أن الدعوة من اختصاص أناس متفرغين متبحرين متفوقين يقع في وهم كبير ، لأن كل مسلم ينبغي أن يكون داعية بشكل أو بآخر في حدود ما يعلم ومع من يعرف ، وأنا أضيف ، ويمكن أن تكون من أكبر الدعاة وأنت صامت ! كما أن القرآن واعظ ناطق ، والموت واعظ صامت . هناك واعظان: واعظ ناطق هو القرآن ، وواعظ صامت هو الموت ، وهناك داعيتان ؛ داعية ناطق ، وداعية صامت ، ولعلي أظن أن الداعية الصامت أبلغ أثراً في هذه الأيام بالذات ، بعد أن كفر الناسُ بالكلمة ، بمطلق الكلمة ، من الداعية الناطق .
استقامتك دعوة ، وأمانتك دعوة ، صدقك دعوة ، إتقان عملك دعوة ، إنصافك دعوة، لا ينجذب الناس إلى الدين إلا بخُلُق قويم ، وبمسلم منصف ، وبمسلم صادق وأمين .
فلذلك مهما نشرَ مِن كتب ، ومهما أُلِّفَ من موضوعات ، ومهما أُلقِي من محاضرات ، فما لم يكن هناك مجتمع يعيش الإسلام كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام فلا يمكن أن تتوسّع دوائر الحق ، يبقى الإسلام في الكتب وفي رفوف المكتبات ، بينما الواقع بعيد عن الأرض بعد الأرض عن السماء .
أيها الأخوة ، هذا ملخص الخطبتين السابقتين ، وقد تحدثت أن كل مسلم ينبغي أن يكون داعية ، بشكل أو بآخر ، ناطقاً أو صامتاً ، وناطقاً فيما يعلم فقط ، وفيما تعلّم ، ومع مَن يعرف في الدائرة الضيقة التي تحيط به فقط ، عليك بخاصة نفسك ، وخاصة النفس أقرباؤك .
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
إنّ خاصة نفسك أصدقاؤك ، وزملاؤُك في العمل ، ومن يلوذ بك ، لست مكلفاً أكثر من ذلك ، أما أنت حينما تفعل هذا فقد أدَّيتَ الذي عليك ، ولستَ مسؤولاً عن الأهداف الكبرى التي تنتظرها كي تحقق للإسلام غايته البعيدة ، افعل ما تستطيعه ، أقم الإسلام في بيتك وفي عملك ، وهاتان المملكتان أنت مَلِك فيهما ، فإن لم تُقِم الإسلام في بيتك وفي عملك أُقيمتْ عليك الحجة .
أيها الأخوة الكرام ، تحدثت عن الداعية بالمفهوم الواسع ، وأن كل مسلم ينبغي أن يكون داعية ، كل مسلم ينبغي أن يكون صادقاً ، وكل مسلم ينبغي أن يكون أخلاقياً ومنصفاً .
تحدثت في الأسبوع الماضي عن الإنصاف ، وهأنذا أتابع هذا الموضوع .
من دعا إلى الله نطقاً ينبغي أن يعدل ويوازن :
أيها الأخوة ، هؤلاء الذين يدعون إلى الله ناطقين ، قد ينحرفون ، وقد ينجذبون إلى جهة في الدين ، ويهملون جهة أخرى فمثلاً : هناك من الدعاة من يُعنى بالنصوص التي تدفع الناس إلى اليأس الشديد ، أية خطيئة فيها نص يتمسك بهذا النص ، ويبطل نصوص الرحمة ، يورد نصوص الحساب الدقيق والشدة ، وهذا حق ، ولا بد من إيرادها ، أما أن يبطل نصوص الرحمة والعفو فهذا سلوك متطرف ، حينما يقول عليه الصلاة والسلام :
((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ))
هذا حق ، قاطع رحم ، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ))
وهذا حق ، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام :
((كُفْرٌ بِاللَّهِ تَبَرُّؤٌ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ أَوِ ادِّعَاءٌ إِلَى نَسَبٍ لَا يُعْرَفُ))
هذا حق ، لكن الحق أيضاً أن تقول :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾
الحق أن تقول :
﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
كيف دعا الأنبياء إلى الله عز وجل ؟ رغباً ورهباً ، خوَّفوا الناس ، ثم أعطوهم الأمل برحمة الله عز وجل ، لا بد من التوازن ، لا بد من أن توازن بين نصوص الرحمة وبين نصوص العذاب ، بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد ، أمّا
أن تختص بالوعيد ، وأن تهمل الوعد فليس هذا من قبِيل الإنصاف والعدل
وبالمقابل هناك من الدعاة من يطمع الناس في رحمة الله ، إلى درجة فيها سذاجة ، قل : لا إله إلا الله ، وافعل ما تشاء ! فما قال النبي كذلك، بل قال : مَن قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قيل وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ، إذا دعوت إلى الله نطقاً ينبغي أن تعدل ، وتوازن بين نصوص الرجاء ونصوص الخوف، بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد ، تذكر وعيداً ووعداً ، ورجاءً وخوفاً ، أما أن تختص بجانب ، وتهمل الجانب الآخر ، أما أن تأتي الخطبة كلها في الوعيد ، وتنسى أن الله رؤوف رحيم ، غفار الذنوب ، يستر العيوب ، فهذا ليس من الحكمة في شيء ، هذه واحدة أيها الأخوة فعليك أن تأخذ نصوص الوعد ونصوص الوعيد ، أن تأخذ آيات الرحمة وآيات العذاب ، وأن تأخذ مشاهد أهل الجنة ومشاهد أهل النار ، فلا بد من التوازن بين الطرفين .
الدعاة الصادقون يرفعون الناس إلى مستوى الشرع :
أيها الأخوة الكرام :
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾
هناك مِن الدعاة مَن يكثر مِن مديح الآخرين ، ولهم أخطاء ، ومخالفات ، وتجاوزات كثيرة ، وعندهم بدع لا تعد ، ولا تحصى ، وعندهم شرك خفي ، كل هذه الأخطاء في العقيدة والسلوك يتجاوزها ، ويجعل من كلمته ثناء عطراً للحاضرين ، فهذا الإنسان المسلم المقصر ، إذا رأى مَن يمدحه ، وهو في قمة العلم يرتاح ، ولا يشعر أنّه يحتاج لأيّة توبة ، أو أي عمل صالح ، فمِنَ الخطأ أن تجامل .
أقول لكم دائماً أيها الأخوة : الدعاة الصادقون ينبغي أن يرفعوا الناس إلى مستوى الشرع ، وهناك دعاة يحبون أن تكون لهم سمعة واسعة جداً ، فيهبطون هم إلى مستوى الواقع الذي لا يرضي الله عز وجل ، عن طريق الفتوى ، وعن طريق التجاوزات وما إلى ذلك ، لا بد من الإنصاف ، ولا بد أن تُطمّع الإنسان برحمة الله ، ولا بد أن تخيفه من عقاب الله ، لذلك ورد في بعض الآثار القدسية : " يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني وأحب من أحبَّني ، وحبَّبني إلى خَلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي " هنا الشاهد : ذكِّرْهم بآلائي كي يعظموني ، وذكِّرْهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكِّرْهم ببلائي كي يخافوني ، معنى ذلك أن قلب المؤمن ينبغي أن يكون مفعماً بتعظيم الله .
﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
الخط الأحمر تحت كلمة (العظيم) ، الحروف العريضة تحت كلمة (العظيم) ، هو آمن بالله كما آمن إبليس قال : ربي خلقتني ، ربي فبعزتك لكن ما آمن بالله العظيم ، ذكِّرْهم بآلائي كي يعظموني ، وذكِّرْهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكِّرْهم ببلائي كي يخافوني .
فقلب المؤمن ينبغي أن يكون مفعماً بتعظيم الله بلا حدود له ، وبخوف الله عز وجل خوفًا صحيحًا ، وهناك خوف مرضي ، هناك وسواس ، ومحبة لله عز وجل ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي))
أيها الأخوة الكرام ، ينبغي أن تكون متوازناً إنْ تكلمتَ عن الله عز وجل ، لا ينبغي أن تأخذ جانب الخوف وتخفي جانب الرجاء ، فهناك جانب الرحمة وجانب العقاب ، هناك من يحدثك عن بلاء الله فقط ، فأين رحمته ولاسيما في هذه الأيام ؟ تجلس في جلسة ، تجد فيها مَن يئس مِن رَوْح الله ، ومِن نصر الله ، ومِن أن تقوم للمسلمين قائمة . أنا أقول لهؤلاء في هذا المسجد : تحدثوا ما شئتم ، وحلِّلوا كما شئتم ، وتشاءموا ما شئتم ، لكن لا تنسوا أن الله موجود ، وأن الله بثانية واحدة يقلب كل موازين القوى .
مِنَ العدل في النصوص أن يجمع الإنسان بين الكليات والجزئيات :
أيها الأخوة الكرام ، مِنَ العدل في النصوص أن تجمع بين الكليات والجزئيات ، ترى إنساناً همُّه الجزئيات ، قضايا كبرى ، وشرك كبير ، يأس من رحمة الله ، أخطاء في العقيدة ماحقة ، ومهلكة ، ويهتم بالأشياء الجزئية .
وأنا متأكد وموقن أن ليس في الإسلام لبٌّ وقشور ، حاشا لدين الله أن يكون فيه قشور ، لكن هناك أولويات ، وهنا النقطة الأساس .
هناك مَن يعنى بالجزئيات فقط كأن ترى مركبة محركها محترق ، وتعتب على صاحبها ، أن هناك خللاً في شيء ثانوي فيها ، هذا الخلل خلل ، لكن هناك خللاً أخطر بكثير مِنْ أنّ محركها محترق ، هي واقفة ، وليست سيارة ، فما الذي يعنيك من مرآة فيها لم تكن مناسبة؟
أيها الأخوة الكرام ، لا يمكن أن نقبل أنّ في الإسلام لباً وقشورًا أبداً ، الإسلام هو دين الله ، وكل شيء جاءنا عن الله هو أساسي ، ولكن عندنا أولويات ، وهذه الأولويات ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح قلَّما ينتبه إليه المسلمون ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ :
((إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - شهادتا التوحيد والرسالة - فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ - إنْ قَبِلوا هذه العقيدة ؛ أنه لا إله إلا الله ، ولا معبود بحق إلاّ الله ، وأن هذا الإنسان هو رسول الله - فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))
معنى هذا أنه ليس من الحكمة إذا كنت داعية من دعاة فرض العين ، أنا أسمي كل مسلم داعية فرض عين ، إذا كنت داعية من دعاة فرض العين ، ودخلت إلى بيت ، ورأيت صورة معلقة على الجدار ، وهم لا يصلون ، فليس من الحكمة أن تقيم النكير عليهم لهذه الصورة ، وهم لا يصلون ، ليس من الحكمة أن ترى خاتم ذهب في إصبع رجل ، وهو مشرك بالله عز وجل ، وتعنِّفه ، فلا بد أن تبدأ بأصل العقيدة ، لا بد أن تبدأ بأصول الدين ، وبعدئذ تأتي إلى فروعه ، أما أن تبدأ بالفروع ، وتجعل كل دعوتك في الفروع ، وأن تقيم النكير على آلاف المخالفات ، وآلاف البدع التي لا يعبأ مَن يفعلها ، لا على أنها بدعة ، ولا على أنها سنة، المهمّ أصل التكليف معرفة الله ، ومعرفته به مهزوزة جداً ، فنحن لا نقول في الإسلام لُبٌّ ، وقشور ، هذا مستحيل أن يكون هذا ، ولكن نقول : في الإسلام أولويات .
وإليك هذا المثل الصارخ : إنسان يساق للإعدام ، وعليه مخالفة سير ، فهل مِن الحكمة أن تذكِّره بهذه المخالفة ؟ ما قيمة هذه المخالفة ؟ وستنتهي حياته بعدَ حين ، فلا بد أن نبقى في الأولويات ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا اطمأننتَ إلى عقيدة هذا الإنسان فادعُه إلى الفرائض الخمسة ، وإن اطمأننتَ أنه يؤدِّيها فادعُه إلى السُّنَن ، وإنْ اطمأننتَ أنه يؤدِّيها فادعُه إلى المستحبات ، وهكذا .
الجمع بين الترغيب و الترهيب عند الدعوة إلى الله :
أيها الأخوة الكرام ، الذي أتمناه على كل مَن ينطق بالحق أن يجمع بين الترغيب والترهيب ، والكليات والجزئيات ، وأن يجمع بين الأولويات والثانويات ، علماً أنه كما قلت مرتين: ليس في الإسلام قشور نهملها بل هناك أولويات نبدأ بها.
مثلاً : لو دخلنا في إحدى الجزئيات ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :
((بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ قَالُوا رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا أَوْ قَالَ أَذًى وَقَالَ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا))
وكانت أرضُ المسجد مِنَ الحصى .
شيء آخر أحد أصحاب النبي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يصلي وقد وضع نعليه عن يساره ، وما صلى فيهما ، وفي حديث صحيح أنه صلى فيهما ! وفي حديث ثالث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا ، وَيُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا ، وَيَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ))
وفي حديث آخر : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ نَعْلَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ فَتَكُونَ عَنْ يَمِينِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَنْ يَسَارِهِ أَحَدٌ وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ))
وعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ ))
هذا الأمر على التوسعة ، فملخص هذه الأحاديث : يقول بعضهم بكراهة الصلاة بالنعلين ، ويقول بعضهم بالاستحباب ، ويقول بعضهم بالجواز ، ويقول بعضهم بشروط الصلاة بالنعلين ، ألاّ يكون فيهما أذى .
أنا ما أردت التفصيل في هذا الموضوع ، ولا أردت أن أقحمكم في موضوعات جزئية تحتاج إلى درس فقه ، لكن أردت أن أضع بين أيديكم أنّ الأمر على التوسعة أحياناً ، لا على التشديد ، أما حينما تغدو هذه الخلافيات مصدر قلق ومشاحنة وبغضاء واتهام بالشرك والتقصير فهذه هي مصيبة المسلمين ، بأسهم بينهم وعداواتهم بسبب جزئيات لا بسبب كليات .
لذلك نحن نريد أن نرتب الأولويات ، وأن نتعاون فيما اتفقنا ، وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ، أو أن ينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا .
الإسلام كلّ لا يتجزأ فلابد من التوازن بين الكليات و الجزئيات :
أيها الأخوة ، قد تحيق بالأمة الإسلامية أحداث كبار ، وتجد بعض الدعاة غارقًا في جزئيات الدين ، وكأن هؤلاء الذين
أمامه - كما يبدو له - ليسوا مهتمين مثله بما يحيط بالعالم الإسلامي
فلا بد أن تعالج أيُّها الداعية الأخطار الداهمة أوَّلاً ، فَمَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، ينبغي أن تبيِّن لهم الحكمَ الشرعي فيما يجري ، وينبغي أن تربط ما في القرآن والسنة مع ما يشاهدونه ويسمعونه ، أما أن تبقى أيّها المسلم نهبةً لإعلام مضلل ، أو نهبة ليأس قاتل ، أو نهبة لتفاؤل ساذج ، عاش المسلمون بعد الحادي عشر من أيلول تفاؤلاً ساذجاً في أول مرحلة ، ثم عاشوا يأساً قاتلاً ، وكلا الحالتين مرض ؛ التفاؤل الأبله ، ثم اليأس القاتل ، ينبغي أن تعلِّم الناس من حين إلى آخر هذا الحدث ، وماذا يعني ، وما تحليله ، وما هي سنة الله في خلقه ؟أيها الأخوة الكرام ، سيدنا عمر عملاق الإسلام - كما يقولون - الخليفة الراشد ، فهناك من ينظر إليه كخليفة مِن عمالقة الخلفاء في الإسلام ، وهناك من ينظر إليه وقد فُتِحَتْ له البلاد ، وهناك من ينظر إليه وقد أقام العدل ، وهناك من ينظر إليه أنّه كان مِن أرحم الخلفاء، دخلوا على الصديق رضي الله عنه يأخذون عليه أنه ولَّى عليهم عمر ، وهو شديد في نظرهم ، فقال الصديق : " أتخوِّفونني بالله ؟ إن لقيت الله فسأقول : يا ربي وليت عليهم أرحمهم"، قال مرة عمر : "والله لو علموا ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه" ! هذا الخليفة العظيم هناك من ينظر إليه فقط أنه كان مطبقاً لجزئيات السنة ، لا ، بل كان يطبِّق كل السنة ، وله حجم كبير ، فينبغي أن نأخذ من الشخصية جانبها الكبير ، وكذلك جزئيات شخصياتها الصغيرة ، لا أن نكتفي بجزئيات صغيرة ، ونُعرِض عن كليات كبيرة .
سيدنا عمر لما جاءه عقبة بن عامر رضي الله عنه يبشره بفتح الشام ، وقد ركب إليه أسبوعاً ، من الجمعة إلى الجمعة حتى وصل المدينة ، وأخبره بالفتح ، فَكَبَّرَ المسلمون ، وسُرُّوا بهذا النصر المؤزر ، فهذه كلية كبيرة ، فُتِحَتْ بلاد بأكملها ، نحن في آخر أيام المسلمين لا يستطيعون أن يسترجعوا شبراً من أرض ، ومِن قَبلُ فتحت بلاد بأكملها ، سيدنا عمر نظر إلى كفي عقبة وقال : متى لبستهما ؟ قال : منذ أسبوع وأنا أمسح عليهما ، فقال له عمر : أصبت السنة ، دقق : جاءه خبر بفتح البلاد ، ما شغلته هذه القضية الكبرى عن جزئية في الدين.
شيء آخر : سيدنا عمر حينما طعن سأل مَن حوله بعد أن طُعِن : أَصَلَّى المسلمون الفجر ؟ ما شغله هذا الخطر الذي داهمه والذي ينهي حياته عن حرصه على أداء شعائر الله ، هل صلى المسلمون الفجر ؟
وفي رواية أنه وهو مطعون قال : ما تقولون في مسألة إرث الجد مع الأخوة ؟ فتحدثوا ، فقال عمر : إني كنت رأيت في الجد رأياً ، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه ، قال عثمان : إن نتبع رأيك فإنه رشد ، وإن نتبع رأي الشيخ أبي بكر قَبْلَك فلنِعْمَ الرأيُ كان ، رجل مطعون كان يبحث في قضية فقهية ، هذه من رحمته ، ومن توازنه بين الكليات والجزئيات .
أنا أدعو إلى التوازن ولا أدعو إلى نبذ الجزئيات ، حاشا لله ، كما أني لا أدعو لأن نكتفي بالكليات ، حاشا لله ، هذا إسلام كامل ، كلٌّ لا يتجزأ ، لكن هناك أولويات .
النظر إلى شمولية الإسلام فهو يشمل الدنيا و الآخرة :
أيها الأخوة الكرام : ينبغي أن نكون كدعاة إلى الله عادلين في النظر إلى شمولية الإسلام ، فهو يشمل الدنيا والآخرة ، هناك مَن يكتفي بالجانب الأخروي من الدين ، لذلك رجلٌ مِن أعداء الدين جلس يومًا مع جماعة مِنَ المسلمين يتحدثون عن الآخرة فقط ، وعن قلوبهم ، وأذكارهم فقط ، فقال : هؤلاء لا خطر منهم ، هؤلاء إمّا أنّهم تحت الأرض ، أو فوق
السماء ، أما هذه الدنيا فلا تعنيهم أبداً ، وهذا خطأ منهم
وينبغي أن تعنيك الدنيا كما تعنيك الآخرة ، ينبغي أن تعتني بجسمك كما ينبغي أن تعتني بنفسك ، ينبغي أن تلبِّي الحاجات الضرورية ، وأن تلبي القيم الأساسية في حياتك ، لا بد من التوازن ، لماذا كان الإسلام متألقاً ؟ سيدنا عمر رأى جملاً مصاباً بجرب ، فسأل صاحبه : ماذا تفعل ؟ قال : أدعو الله ! قال له عمر : لو جعلت مع الدعاء قطراناً ، هذه مشكلة المسلمين ، فقط يكتفون بالدعاء : اللهم دمِّرهم وأهلكهم ، ماذا تفعل أنت ؟ ماذا فعلت في بيتك يا مَن تدعو عليهم ؟ هل فعلت شيئاً ؟ هل أقمت أمراً لله ؟ هل تركت منكراً ؟ هل ألزمت نفسك بالوفاء تمامًا بالعبادات الأساسية ؟ هل أمرتَ أهلك بالصلاة واصطبرت عليها ؟ هل أدَّيتَ حقًّا ؟ هل ألغيت مُلهياً من مُلهيات الدنيا في البيت ؟ ماذا فعلت ؟ تدعو فقط قال : أدعو الله أن يشفيه قال : هلا جعلت مع الدعاء قطراناً ، هكذا أيها الأخوة .
إذاً : ما الذي تجده ؟ تجد جماعة من المسلمين مهتمين بالفكر الإسلامي فقط ، يؤلفون الكتب ، ويلقون المحاضرات ، أما الجانب السلوكي ، والجانب الجمالي ، والجانب النفسي فجميعها مهملة ، فكر نامٍ ، وضمور في قلوبهم ، وفي علمهم الفقهي
تجد أناساً آخرين نما عندهم الفقه إلى درجة غير معقولة ، أما اتصالهم بالله ، وإقبالهم عليه ، وإخلاصهم فضعيف فاتر ، تجد أناساً آخرين يهتمون بالجانب النفسي في الدين ، وهم منعزلون عن الحياة عزلاً تاماً، هم في واد والناس في واد ، والطرفة التي تسمعونها من حين لآخر إنّ بعض الخطباء كان يدعو للسلطان عبد الحميد في خطبه ، وقد أصبح جسمه تراباً ، وينسى أنه يقرأ من كتاب قديم ، فحينما تبتعد عن الأحداث ، وتنسلخ منها ، ولا تهتم بها ، فقد ابتعدتَ عن الناس أيضاً .
يا أيها الأخوة ، الذي أردته من هذه الخطبة التوازن والوسطية والاعتدال ، فالإسلام هو الإسلام بكلِّ فصوله ، لذلك مِن أدقِّ تعريفات العبادة أنّها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، طاعة طوعية ؛ فلو أنك أطعتَ الله مُكْرَهاً فهذه ليست عنده عبادة ، أطعته ولم تحبه ليست عبادة ، أحببته ولم تطعه ليست عبادة ، أساسها معرفة يقينية ، لا بد من طلب العلم ، تفضي إلى سعادة أبدية ، هذا الجانب الجمالي في الإسلام ، في الدنيا منه جزء ، وفي الآخرة أجزاء .
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
أيَّة جهةٍ خدم الإنسان بها الإسلام هي طريق إلى الجنة :
أيها الأخوة الكرام ، إن أردتَ أن تكون داعية إلى الله ناطقاً صامتاً فالقضية سهلة جداً ، وأنا أرجّح أن تكون صامتاً ، لأن الدعوة الصامتة الآن هي وحدها التي تفعل فعلها ، أما إذا وهبك الله لساناً ناطقاً ، وقلباً حافظاً ، وحكمة بالغة ، فلتكن داعية صامتاً وناطقاً .
أيها الأخوة ، الإسلام واسع جداً ، فهذا سيدنا خالد لم يُروَ عنه حديث واحد ، لكنه فتح البلاد ، وتفَوَّق في هذا الجانب ، ولم ينكر عليه أحد ، وهناك من أصحاب رسول الله من روى عنه أكثر الأحاديث عددًا ، كسيدنا أبي هريرة ، ولم ينكر عليه أحد ، هناك أساسيات في الدين ، وهناك تفوقٌ في جانب ، فلا مانع ، أما هذا الذي تفوق في جانب فلا ينبغي أن يزدري الجوانب الأخرى .
لا ينبغي للفقيه أن يزدري علماء الحديث ، ولا ينبغي لعلماء الحديث أن يزدروا الفقهاء ، ولا ينبغي للمفسرين أن يعرضوا عن رواة الحديث ، الدين هو ما جاءنا عن الله عز وجل في الكتاب والسنة ، هذا هو الدين ، فمِن تعظيمك لله أن تعظِّمَ كل جوانب الدين ، هناك أناس يبنون المساجد ، ولولا أنهم لم يبنوا تلك الصروح فأين نقيم دروس العلم ؟ وأين نصلِّي ؟ هؤلاء لهم شأن عند الله ، هناك من يقدِّم للمسجد كل مرافقه الأساسية ، وكل حاجاته ، هناك من يخطب فيه ، هناك من يدعو إلى الله فيه .
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾
وهذه مِن أوسع الآيات فهماً ، فالذي حضر إلى المسجد هو الذي عمّر مساجد الله، والذي بنى المسجد له سهم في عمارة بيوت الله ، والذي زينه بالثريات له سهم في عمارة بيوت الله ، والذي دفأه والذي كيفه والذي أقام فيه المرافق والذي دعا فيه كلُّ هؤلاء مِن عمَّار المساجد.
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾
وربنا عز وجل كرمه واسع ، فأيَّةُ جهةٍ خدمتَ بها الإسلام فهي طريق إلى الجنة .
هناك طبيب يخدم المسلمين بنصحه ، وإتقان عمله ، ورحمته ، فهذا طريق إلى الجنة ، هناك تاجر صدوق مع النبيين والصديقين يوم القيامة ، هناك قاضٍ عدل ، هناك مدرِّس يعلم أبناءَنا أمورَ دينهم ، فرحمة الله تشمل كل المسلمين ، فكما أقول دائماً : الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، الأمُّ المثالية باب إلى الجنة ، الزوجة المثالية باب للجنة ، الأب المثالي طريق للجنة ، والصانع الذي لا يكذب طريق للجنة ، " إنما أهلك الصنعة قول : غد ، وبعد غد " الصانع المتقن لعمله طريق إلى الجنة ، بشكل أو بآخر عملك الذي ترتزق منه إذا كان في الأصل مشروعاً ، وسلكت به الطرق المشروعة ، ولم يكن هناك غش ، أو كذب ، أو احتيال ، وأردتَ به كفاية نفسك ، وأهلك ، وخدمة المسلمين ، ولم
يشغلك عن فريضة ، أو عن واجب فهذا العمل المهني انقلب إلى عبادة
بل إن عادات المؤمن عبادات . زواجه ، عمله ، إكرام أهله ، كلها عبادات من نوع آخر ، بينما المنافق عباداته الشعائرية سيئات ، يرائي بصلاته ، وصيامه ، وحجه ، فبين أن تكون أعمالك العادية عبادات لأنك مؤمن ، وبين أن تكون عبادات المنافق سيئات لأنه منافق ، والمسافة بينهما سحيقة .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا نفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
شرح قوله تعالى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا :
أيها الأخوة ، حينما وصف اللهُ القرآنَ بأنَّ فيه شفاء للناس ، شفاء للصدور ، فقد تستمع إلى بعض الأخبار ، أو ترى بعض الأحداث فتضطرب ، وتتمزق ، وتحتار ، لكنك إذا قرأت القرآن اطمأن قلبك ، واللهِ آية قرأتُها البارحة ، وكأنني أقرأها أول مرة في حياتي :
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ﴾
وكأين : من ألفاظ التكثير ، تعني كم مِن ؟ قد تقول : كم كتابًا عندك ؟ هذا سؤال، و أنا أجيب : عندي ثلاثون كتاباً ، أما قد تقول : كم من كتاب عندي ؟ فهذه كم التكثيرية تشبهها وكأين .
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾
أي : قوةُ بطشٍ ، غنى ، سيطرة إعلام ، طيران ، مكر .
﴿أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾
ثم أخذتها ، ولم يقل : فأخذتها ، (ثم) تفيد التراخي .
﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
سوف تحاسب عن كل قطرة دم سفكتها ، عن كل خوف أصاب مسلماً خاف ، عن كل مشكلة حصلت ، من هو الذكي ؟ هو الذي في طاعة الله ، والله - أيها الأخوة - الذي لا إله إلا هو إن أغبى الناسِ الذين يبنون مجدهم على أنقاضِ الآخرين ، ويبنون حياتهم على قتل مئات الألوف ، كما تمَّ في شرق آسيا ، والشعوب لا علاقة لهم بما جرى ، لا مِن قريب ، ولا من بعيد ، بل الصراع بين طغاةٍ متشاكسين ، يتغطرسون ، ويعرضون عضلاتهم ، ويهددون ، اقرأ هذه الآية :
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾
قويتْ ، لها علم ، وقوة ، وبنيان ، ومال ، ومعامل ، وسلاح ، وإعلام ، وسيطرة .
﴿أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾
الله في السموات العليا يقول :
﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾
واللهِ الذي لا إله إلا هو لن تستمر هذه القوة الغاشمة في بناء مجدها على أنقاض الشعوب .
على الإنسان أن يكون واثقاً من حكمة الله و عدله المطلق :
والله أيها الأخوة إيماني هذا لا يتناقض مع عدل الله ، لكن الآن الحبل مرخى ، لحكمة أرادها الله ، لكن ينبغي أن تكون واثقاً من حكمة الله ، ومن عدله المطلق ، ومن رحمته ، لا بد أن نكون في الداخل أعزة ، لا بد أن تعتز بهذا الدين ، ولو جاءت الأخبار على خلاف ما تريد ، ولو جاءت الأخبار ورأيت الصور التي يدمع لها القلب والعين ، فلا تنسَ أن الله موجود ، وأن هذه الدنيا لو أنها تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء .
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
هذه الآيات أنا أرددها كثيراً :
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
لا تيئس من رحمة الله ، ولا من عدله ، لأن دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان .
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾
أيها الأخوة ، هذه الآية احفظوها :
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا﴾
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾
(ثم) تفيد التراخي ، لم يأخذها فوراً ، يأخذها بعد حين .
﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
هذا الأعرابي الذي سأل النبي أن يعظه ولا يطيل قال : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، إن فرعون علا في الأرض ، فرعون العصر وحيد القرن .
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
دقق الآن :
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك
اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تأخذنا بالسنين ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وأذل الشرك والمشركين بجبروتك يا رب العالمين ، اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى ، اللهم وحد شملهم ، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .