- ٠4كتاب مقومات التكليف
- /
- ٠1تمهيد و لمحة عن الكتاب
أوّلاً: الكونُ:
هذا الكونُ بمجرَّاته، بكواكبِه , بمذنّباتِه، بأبراجِه، بسماواتِه، بأرضِه، وبما فيها من جبالٍ وأنهارٍ، وأسماكٍ وأطيارٍ، وأنواعٍ لا تُحصى من النباتاتِ، وأنواعٍ لا تُحصى من الحيواناتِ، هذا الكونُ ينطقُ بثلاثِ كلماتٍ ؛ ينطقُ بأنّ اللهَ موجودٌ , و بأنّ اللهَ واحدٌ , و بأنّ اللهَ كاملٌ.
هذا الكونُ مَظْهَرٌ لأسماءِ اللهِ الحسنى، وصفاتِه الفضلى، وإذا أردتَ أنْ تعرفَ اللهَ فالكونُ يَدُلُّكَ عليه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
وقال سبحانه:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾
وقال عزوجل:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
وقال:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾
والحديثُ يطولُ عن آياتِ اللهِ في الكونِ، ولكنّنا نضربُ أمثلةً على تلك الآياتِ العظيمةِ.
اكتُشِفَت حديثاً مجرّةٌ تبعد عنا ثلاثمئة ألفِ بليون سنةٍ ضوئيّةٍ , وإذا أردتَ أنْ تصلَ إلى أقربِ نجمٍ ملتهبٍ إلينا يبعدُ عنا أربعَ سنواتٍ ضوئيةٍ فإنك تحتاجُ إلى خمسين مليونَ عامٍ بمركبةٍ أرضيّةٍ، فكيف بك إذا أردتَ أنْ تصلَ إلى مجرّةٍ تبعد عنا ثلاثمئة ألفِ مليون سنةٍ ضوئيّةٍ ؟ قال تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
نجمٌ صغيرٌ اسمُه قلبُ العقربِ، يتّسعُ للشمسِ والأرضِ مع المسافة بينهما، قال تعالى:
﴿ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
وقال:
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
وقد لفت اللهُ جلّ جلاله نظَرَنا إلى آياته، ونهانا أنْ نمرَّ عليها من دونِ تفكُّرٍ وتأمّلٍ، فقال جلّ مِن قائلٍ:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾
وبيّنّ اللهُ تعالى أنّ آياتِه العظيمةَ ستظهرُ للناسِ تِباعاً، فقال تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
وإذا بدأَ الإنسانُ التفكّرُ في جسمِه فسيجدُ العجبَ العجابَ , قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾
ذلك أنّ في شبكيةِ العينِ مئةً وثلاثين مليونَ مخروطٍ وعصيّةٍ، وفيها تسعمئة ألفِ عصبٍ، لكل عصبٍ وريدٌ وشريانٍ، ولكل عصبٍ أغمادٌ ثلاثةٌ.
الكونُ أحدُ مقوّماتِ التكليف، وقد سخرّه الله لنا تسخيرين، تسخيرَ تعريفٍ، وتسخيرَ تكريمٍ , وقد جاء في الحديثِ الشريفِ
(( أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ))
(6)
(( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))
أي: إنه ينفعُنا، ويرشدُنا إلى ربّنا، وقِسْ على ذلك كلَّ شيء، قِسْ على ذلك طعامَك وشرابَك، أنواعَ النباتاتِ، أنواعَ الأطيارِ , أنواعَ الأسماكِ , تضاريسَ الأرضِ، وما فيها من بحارٍ وجبالٍ، وأنهارٍ وأغوارٍ، وقفار وبحيراتٍ وسهولٍ، قِسْ على ذلك كلَّ شيء، إذاً:
(( هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))
، أي: إنّ الكونَ مسخَّرٌ لنا تسخيرين، تسخيرَ تعريفٍ، وتسخيرَ تكريمٍ.
الموقفُ الأمثلُ من تسخيرِ التعريفِ أنْ تؤمنَ، والموقفُ الأمثلُ من تسخيرِ التكريمِ أنْ تشكرَ، وإنْ آمنتَ وشكرتَ فقد حقّقتَ الهدفَ الذي مِن أجلِه خُلقتَ، قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
ثانياً - العقلُ:
لقد ذكرَ اللهُ سبحانه وتعالى العقلَ وفروعَه في القرآنِ الكريمِ قريباً من ألفِ آيةٍ، فيصرِّحُ بذلك ويقول:
﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
وقال:
﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
وقال:
﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾
وقال عزوجل:
﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾
لأنّ العقلَ أداةُ معرفةِ اللهِ، ولأنّ مبادئَه تتوافقُ مع مبادئِ الكونِ، فالعقلُ مثلاً لا يفهمُ شيئاً بلا سببٍ، وهذا مبدأُ السببيّةِ، والعقلُ لا يفهمُ شيئاً بلا غايةٍ، وهذا مبدأُ الغائيّةِ , والعقلُ لا يقبلُ الشيءَ ونقيضَه، وهذا مبدأُ عدمِ التناقضِ.
إذاً مبادئُ العقلِ تتوافقُ مع أنظمةِ الكونِ، والعقلُ أداةُ معرفةِ اللهِ، وهنيئاً لمن أعملَ عقلَه فيما خُلق له، والويلُ لمن أعملَ عقلَه في غيرِ ما خُلق له، في المكرِ، والخداعِ، والتضليلِ، والتكذيبِ، والاحتيالِ.
هؤلاء الذين وصلوا إلى منجزاتٍ تقتربُ من حدّ الخيالِ، وصلوا إلى هذه المنجزاتِ عن طريقِ عقولهم، ولو أنهم استعملوا عقولَهم ولو بجزءٍ يسيرٍ ممّا ـ
يستعملونه في إنجازاتِهم العلميةِ لعرفوا اللهَ عز وجل لسعدِوا بقربه في الدنيا والآخرةِ، قال تعالى:
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾
فالعقلُ البشريُّ أداةٌ فعّالةٌ في معرفةِ اللهِ عز وجل.
ثالثاً - الفطرة الإنسانية:
لقد فطرَ ربّنا سبحانه وتعالى الإنسانَ فطرةً عاليةً، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
الفطرةُ تعني أنك تحبُّ الحقَّ، وتكرهُ الباطلَ، تحبُّ الخيرَ، وتكرهُ الشرَّ، تحبُّ العدلَ، وتكرهُ الظلمَ، تحبُّ الرحمةَ، وتكرهُ القسوةَ، على هذا فُطر الناسُ جميعاً.
وهناك فرقٌ بين الفطرةِ والصبغةِ كما سيأتي معنا , الصبغةُ أنْ تكونَ عادلاً، وأن تكونَ رحيماً، وأن تكون منصفاً، أما الفطرةُ فأنْ تحبَّ العدلَ والإنصافَ، وأن تحبَّ الرحمةَ والإحسانَ، والنفسُ البشريّةُ متوافقةٌ مع الدينِ توافقاً تامًّا، فهي لا ترتاحُ، ولا تركنُ، ولا تطمئنُّ، ولا تستقرُّ، ولا تسعدُ إلاّ إذا عرفتْ ربَّها، وانطوتْ تحت ظلِّه تعالى.
ومن الآياتِ التي تؤكِّدُ الفطرةَ أنّ اللهَ سبحانه وتعالى أخبرَ عن أصحابِ نبيِّه الكرامِ، بأنهم يفرحون بما أُنْزِلَ إليهم، قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾
ما الذي جعلهم يفرحون ؟ إنه توافق أنفسهم مع شرع الله عز وجل.
ومن الآياتِ الدالّةِ على الفطرةِ:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾
المعنى الأول: أي: إنها إذا فَجَرَتْ تعلمُ أنّها فَجَرَتْ من دونِ أنْ يُعلِمَها أحدٌ، قال عزوجل:
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
ولو اتَّقَتْ لعلِمَتْ أنها تتّقي اللهَ من دونِ أنْ يُعلِمَها أحدٌ، لذلك فإنّ الحجّةَ قائمةٌ على كلِّ إنسانٍ بالفطرةِ وحْدِها.
والمعنى الثاني: أَلْهَمَهَا طريقَ تقواها، وأَلْهَمَهَا طريقَ فجورِها، وإذا كان العقلُ يصلُ بك إلى اللهِ فإنّ الفطرةَ تكشفُ لك الخطأَ والصوابَ.
عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ e عَنْ شَيْءٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:
(( الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ))
وهذه هي الفطرةُ.
عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ لِوَابِصَةَ:
(( جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ، وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ، ثَلَاثًا، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ،وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ،وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ،وَأَفْتَوْكَ ))
لو أنّ الإنسانَ حقّقَ نجاحاً اقتصاديًّا، وكان من أغنى الناس، فإن في نفسِه فراغاً لا يملأه المالُ، ولو أنه وصلَ إلى أعلى المناصبِ، فإنّ في نفسِه فراغاً لا تملأه القوّةُ، ولو أنه بلغَ أعلى مستوى من الصحّةِ، فإنّ في نفسِه فراغاً لا تملأه الصحّةُ، ولو كان له أتباعٌ كثيرون، فإنّ في نفسِه فراغاً لا يملأه الأتباعُ، في النفسِ فراغٌ لا يملأه إلا الإيمانُ بالله، وطاعتُه، والقربُ منه، وهذه هي الفطرةُ.
السيّارةُ مثلاً مصمَّمَةٌ كي تسيرَ على طريقٍ معبَّدةٍ مستوٍٍ، فإذا سارت على طريقٍ وعرةٍ اضطربتْ، وسمعتَ منها أصواتاً مزعجةً، ولكنْ ليس العيبُ في
صانعِها، ولكنّ العيبَ في أنك استخدمتها في غيرِ ما صُنعت له، أما إذا جعلتَها تسير على طريقٍ سويٍّ فإنك تشعرُ بالراحةِ، ذلك لأنها توافقتْ مع ما صُنعتْ له.
إنّ اللهَ يعطي الصحّةَ للكثيرين من خَلْقه، ويعطي القوّةَ للكثيرين من خَلْقه، ويعطي الجمالَ للكثيرين من خَلْقه، ويعطي المالَ للكثيرين من خَلْقه، أمّا السكينةُ فلا يعطيها إلاّ لأصفيائه المؤمنين.
السكينةُ شيءٌ لا يوصفُ، إذا تجلّى اللهُ على عبدٍ بالسكينةِ كان أقوى الناسِ، وكان أغنى الناسِ، وكان أسعدَ الناسِ، وكان أكثرَ الناس صبراً، وأكثرَهم اطمئناناً، وأكثرَهم إقبالاً، وأكثرَهم توازناً.
رابعاً - الشهوات:
الحقيقةُ الأُولى:ما أودعَ اللهُ فينا الشهواتِ إلاّ لنرقى بها إلى ربِّ الأرضِ والسماواتِ، فالشهواتُ سُلَّمٌ نرقى به، أو دركاتٌ نهوي بها، إنها حياديّةٌ، يمكن أن ترقى بك إلى اللهِ، ويمكن أن تهويَ بك ـ لا سمح الله ـ إلى أسفلِ سافلين.
الحقيقةُ الثانيةُ: ما أودعَ اللهُ فينا من شهوةٍ إلا وجعلَ لها قناةً نظيفةً تسري خلالَها , فليس في الإسلامِ حرمانٌ , بل فيه ضبطٌ وتنظيمٌ.
حبُّ النساءِ مثلاً، قناتُه النظيفةُ هي الزواجُ، فإن تحرّكتَ بدافعٍ من هذه الشهوةِ ضمنَ هذه القناةِ سعدتَ، وأسعدتَ، وإن تحرّكتَ بدافعٍ من هذه الشهوةِ في قناةٍ أخرى ما شرَعَها اللهُ عز وجل شقيتَ، وأشقيتَ، كالوقودِ السائلِ في السيارةِ، إنْ وُضِعَ في المستودعاتِ المحكَمَةِ، وسالَ في الأنابيبِ المحكَمَةِ، واحترقَ في المكانِ المناسبِ، وفي الوقتِ المناسبِ ولَّد حركةً نافعةً، أمّا إذا خرجَ الوقودُ عن مسارهِ، وأصابَ المركبةَ شرارةٌ احترقتِ المركبةُ ومَن فيها، لذلك " ما كان اللهُ ليعذّبَ قلباً بشهوةٍ تركهَا صاحبُها في سبيل الله "
و" مَا تركَ عبدٌ شيئاً للهِ إلاّ عوّضَهُ اللهُ خيراً منه في دينِه ودنياه "
(( ثلاثةٌ لا تَرى أعينُهم النارَ: عينٌ حرستْ في سبيلِ اللهِ، وعينٌ بكتْ من خشيةِ اللهِ، وعينٌ كفَّتْ عن محارمِ اللهِ))
خامساً - التشريع:
إذا كان العقلُ مقياساً علمياً، وكانت الفطرةُ مقياساً نفسيًّا، فإنّ التشريعَ مقياسٌ على مقياسَي العقلِ والفطرةِ
فالحسَنُ ما حسّنَه الشرعُ، والقبيحُ ما قبَّحه الشرعُ، فإنْ توافقَ عقلُك مع الشرعِ فأَنعِمْ بهذا العقلِ، وإنْ لم يتوافقْ عقلُك مع الشرعِ فهذا العقلُ منحرفٌ، لأنّ الأصلَ هو الشرعُ، قال تعالى:
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾
لقد خلقَ اللهُ سبحانه وتعالى الكونَ لنعرَفه به، وأنزلَ التشريعَ لنعبدَه به، ولا سبيلَ إلى عبادةِ اللهِ إلاّ بما شرعَ اللهُ، فإنْ أردتَ أنْ تتقرّبَ من اللهِ عز وجل فالشرعُ الحنيفُ هو الذي يوصلك إلى اللهِ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾
سادساً - حرية الاختيار:
لقد منحَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ حريّةَ الاختيارِ، قال تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَاإِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾
هاتان الآيتان أصلٌ في أنّ الإنسانَ مخيَّرٌ.
وقال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وقال:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾
وقال:
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
بل إنّ مجرّدَ الأمرِ يقتضي الاختيارَ , ومجرّدَ النهي يقتضي الاختيارَ.
ولو أن اللهَ أَجْبَرَنَا على الطاعةِ لبطَلَ الثوابُ، ولو أَجْبَرَنَا على المعصيةِ لبطَلَ العقابُ، ولو تَرَكَنَا هملاً لكان هذا عجزاً في القدرةِ، لذلك فإنّ اللهَ أَمَرَ عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً، ولم يكلِّفْ عسيراً، وأعطى على القليلِ كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مُكْرَهاً، ولم يُرسِل الأنبياءَ عبثاً، ولم ينزلِ الكتبَ لعباً.
جاء رجلٌ إلى سيدنا عمرَ وقد شربَ الخمرَ، فقال رضي الله عنه: " أقيموا عليه الحد، فقال الرجلُ: واللهِ يا أميرَ المؤمنين إنّ اللهَ قَدّرَ عليَّ ذلك، فقال رضي الله عنه: أقيموا عليه الحدَّ مرّتين، مرةً لأنه شربَ الخمرَ، ومرةً لأنه افترى على الله، ثم قال له: ويحك يا هذا، إنّ قضاءَ اللهِ لم يخرجْك من الاختيارِ إلى الاضطرارِ.
الإنسانُ مخيّرٌ، والحجّةُ قائمةٌ عليه، مخيّرٌ فيما كُلِّفَ به، ومُسَيَّرٌ في غيرِ التكليفِ، لكنّ هذا التسييرَ لصالحه , وسيأتي تفصيلُ ذلك في بحثِ التخييرِ والتسييرِ.
سابعاً - الزمن:
وهو عمر الإنسان الذي منحه الله تعالى له , وحدد مددته وفق حكمته المطلقة المتعلقة بالخير المطلق ليكون هذا العمر وعاء لعمله وليستثمره في التعرف إلى ربه وفي العمل الصالح والدعوة إلى الله , قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الخلاصة:
الإنسانُ هو المخلوقُ المكرَّمُ، والمخلوقُ المكلَّفُ، وهو مكلَّفٌ أن يزكّيَ نفسَه، وتزكيةُ النفسِ تحتاجُ إلى كونٍ مُسَخَّرٍ لتعرفَ اللهَ، وإلى أداةٍ لتعرفَ اللهَ بها، وهي العقلُ، وإلى فطرةٍ متوافقةٍ مع أحكامِ الدِّينِ، وإلى شهواتٍ مُحرِّكةٍ دافعةٍ، وإلى اختيارٍ مثمِّنٍ، وإلى تشريعٍ ضابطٍ