الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الترابط بين مقاطع السورة في القرآن الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلنا في الدرس الماضي في سورة الغاشِية إلى قوله تعالى:
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾
بيَّنْتُ لكم في الدرس الماضي أنَّ القرآن الكريم أُحْكِمَت آياته ثمَّ فُصِّلَتْ فلا بدَّ من ترابطٍ بين مقاطع السورة مقْطَعاً مقْطَعاً، وذَكَرْتُ وَقْتَها أنَّ الله -سبحانه وتعالى- صوّر في المقْطَع الأوَّل أحْوال أهْل النار، وصوّر في المقْطع الثاني أحْوال أهل الجنَّة، وبَيَّنَ في المقْطع الثالث أنَّك إذا أردْتَ أنْ تفوز بالجنَّة وتنْجُوَ من عذاب النار فَعَلَيْك بالإيمان، وطريق الإيمان التَّفَكُّر في آيات الله -عزَّ وجلَّ-، والله -سبحانه وتعالى- ضَرَبَ بعض الآيات كَمَثَل لا على سبيل الحصْر بل على سبيل المثال:
﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى ٱلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾
المقْطَعُ الأخير، ما علاقته بالمقاطع الأولى؟ لو أنَّ أهْل الجنَّة كما وَصَفَهم الله -عزَّ وجلَّ-يسْعدون إلى أبد الآبدين، وأهْل النار كما وَصَفَهم الله -عزَّ وجلَّ- يشْقَوْنَ إلى أبد الآبِدين، وأنَّ الآيات مَبْثوثةٌ في كُلِّ مكان، في أنْفسكم، وفي طعامكم، وفي شرابكم، وفي النبات من حولكم، وفي الحيوانات الأهْلِيَّة وغير الأهْلِيَّة، وفي الجِبال والبحار، وفي السُّهول والصحارى، وفي الطيور والأسماك، إذا كان أهل الجنَّة كذلك وأهْل النار كذلك والآيات كذلك وهذا الإنسان لا يُفَكِّرُ فيها، فماذا يجب عليك أنْ تفْعَلَهُ أنت؟!﴿فَذَكِّرْ﴾ ، هناك حالات أن الآيات موجودة ولكن الإنسان لا يفكّر، هل تتْرُكُهُ على حاله؟ لا ﴿فَذَكِّرْ﴾ ، ما معنى فَذَكِّرْ﴿فَذَكِّرْ﴾ ؟! حينما تقْرأ صفْحَةً من كتاب قد لا تذْكُرُها فإذا جاءَكَ صديقٌ أو زميل وذَكَّرَكَ بها تذْكُرُها، لا بدَّ من أن تكون قد قرأتها، فَفِعْلُ (ذَكِّر) يسْتلزم أنَّ في النَّفْس شيئاً كامِناً إذا ذَكَّرْتَ به الإنسان يذْكُرُهُ، فلولا هذا الشيءُ الكامن لا معنى من قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ﴾ لم يقُل له: (عَلِّمْ) إنما قال: (ذَكِّرْ)، معنى ذلك أنَّ شيئاً كامِناً جئتَ أنت أيها النبيّ فَذَكَّرْتَهُ به فَذَكَرَهُ، ما هو هذا الشيء الكامن؟ الفِطْرَة، حينما خلق الله الإنسان خلقهُ بِفِطْرَةٍ لا ترْتاحُ إلا إذا عَرَفَتْهُ، مثلاً السَّمَكة؛ طبيعتها وشَكْلُها وزعانِفُها وأكْياسُ الهواء فيها، بُنْيَةُ السَّمَكَة من ألفها إلى يائِها مُهَيَّأةٌ لِتَكون في الماء فإذا وَضَعْتَها في الماء ترْتاح، وإذا خَرَجَت من الماء تحَرَّكتْ واضْطَرَبَتْ وماتت، فالإنْسان إذا عرف الله -عزَّ وجلَّ-عاد إلى فِطْرَتِهِ، ربنا -عزَّ وجلَّ- خلق الإنسانَ ضعيفاً فإذا عرف الله -عزَّ وجلَّ- اِطْمَأنَّ وإذا انْقَطَع عنه اضْطَرَبَ، فَحَياةُ الذين لا يسْتقيمون على أمْر الله مُضْطَرِبِة، وحياتُهم قَلِقَة وفيها نَغَص.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾
إذاً كلمة ﴿فَذَكِّرْ﴾ معناها: يوجد في النَّفْس شيءٌ كامِنٌ، وهو تلك الفِطْرة السليمة التي فطَرَ الناس عليها، وهو تلك الاسْتِعْدادات والإمْكانات والخصائص التي إذا عرفْتَ الله -عزَّ وجلَّ- عَمِلَتْ وتفاعَلَتْ وأبْدَعَتْ و أنجزت، فعندما يكون الإنسان غير مُسْتقيم وبعيداً عن الله -عزَّ وجلَّ- تُصبحُ حياته قَلِقَة، وفيها اضْطِرابٌ، ورُدود فعله عنيفةٌ جداً وغير منطِقي، يُحبُّ أنْ يأخذ ما له وما ليس له، يكْرَهُهُ الناس، يخافُهُ الناس ويبتعدون عنه، فإذا عرف الله -عزَّ وجلَّ- وهو الضعيفٌ اِطْمَأنَّتْ نفسه بِقُوَّة الله، وإذا عرف الله -عزَّ وجلَّ- وهو الهلوع توازَنَتْ نفْسُهُ بِعَدالة الله، إذاً ربنا -عزَّ وجلَّ- لما قال لِنَبِيِّهِ الكريم: ﴿فَذَكِّرْ﴾ ، معناها أنَّ في النفْس البشَرِيَّة شيئاً كامناً مُهَيَّئاً للإيمان، ومن كان صادِقاً يعْرفُ ما نقول، قال ابن عطاء الله الإسكندري: "لا يعْرفُ ما نقول إلا من اقْتفى أثر الرسول" ، من آمن إيماناً صحيحاً يقول لك: كنت في جَهَنَّم فأصْبَحْتُ في الجَنَّة، يقول لك: ليس في الأرض أسعد منِّي! يقول لك: أنا مُطْمَئِنّ، لا يرى إلا الله ولا يخْشى إلا الله، يُصْبِغُ الله عليه طُمأنينةً وسكينةً وتوازُناً وهُدوءاً وحِلْماً وبصيرةً وحِكْمَةً وفِراسَةً؛ هذه صفات المؤمن؛ لذلك من علامات الإيمان أنَّ المؤمن يكْرَهُ أنْ يعود في الكُفْر كما يكْرَهُ الرَّجُل أنْ يُلْقى في النار؛ هذه بعْضُ علامات الإيمان، فالنبي الكريم الله -سبحانه وتعالى- قال له: ﴿فَذَكِّرْ﴾ أي خلقت العباد كلَّهم على فِطْرةٍ سليمة ووفق بُنْيَةٍ واحدة لا فرق بينهم، ولا فرْق بين أبْيَضِهم وأسْوَدِهم، ولا غَنِيِّهم وفقيرِهم، كلُّهم يخاف، فإذا عرف الله اطْمَأنَّ، كُلُّهم له قلْبٌ هَلوعٌ فإذا عرف الله أصبح جسوراً، كُلُّهم يُحِبُّ المادَّة فإذا عرف الله زَهِدَ فيما سِواها.
﴿ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا ٱلْمُصَلِّينَ (22)﴾
الأمر المُوَجَّه إلى النبي الكريم هُوَ مُوَجَّهٌ للمؤمنين بالتَّبَعِيَّة:
كلمة (فَذَكِّر) تعْني أنَّ شيئاً في النَّفْسِ مُسْتَقِرّ، مُهِمَّةُ النبي أنْ يكْشِفَ عنه، أنْ يُفَجِّرَهُ -كما يقول علماء النَّفْس-، في الإنسان أشْياءٌ كامنة البيئَة الراقِيَة تُفَجِّرُها: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ ، قبل أنْ نصِل إلى كلمة ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ ، الأمْرُ لِمَن؟ بِحَسَبِ ظاهِرِ الآية الأمْرُ مُوَجَّهٌ إلى النبي-عليه الصلاة والسلام-، يا محمّد ذَكِّر، يا داود ذَكِّر عبادي بِإنْعامي عليهم فإنَّ النفوسَ جُبِلَتْ على حُبِّ من أحْسن إليها، وبُغْض من أساء إليها، ولكِنَّ علماء التفْسير قالوا: اِستِناداً إلى قَوْل النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].... ))
[ أخرجه مسلم عن أَبِي هريرة ]
فإذا كان النبي الكريم مأموراً أنْ يُذَكِّر فَنَحْنُ أيْضاً مأمورون أنْ نُذكِّر، فإذا فَهِمْنا أنَّ الفِعْل ذَكِّر أنه للنبي -عليه الصلاة والسلام- والنبي قِمَّةُ العِلْم، ما من إنْسانٍ على وَجْه الأرض أعْلم من رسول الله، الآن تجد شَخْصاً يأخذ خمسين حديثاً ويَتَعَمَّق فيها فإذا به يأخذ دُكْتوراة بالشَّريعة، إذا فَهِمْتَ كلام النبي فأنت تَحْتَلّ أعلى مكانة عِلْمِيَّة في الأرض، إذاً فَمَن هو النبي؟ سيِّدُ العلماء، والعُلماءُ كُلُّهم عالَةٌ عليه، فإذا كان هذا الأمر مُوَجَّهاً إلى النبي-عليه الصلاة والسلام- وهو قِمَّة العِلم فَهُوَ مُوَجَّهٌ للمؤمنين بالتَّبَعِيَّة، إذاً يجب عليك أنْ تتعَلَّم قبل أنْ تُذَكِّر، إذا كان هذا الأمر مُوَجَّهاً إليك أيها المؤمن فينبغي أنْ تكون عالِماً وينبغي أنْ تفْهَمَ كتاب الله وهو أصل العِلْم، وينبغي أنْ تفهم سنَّةَ رسول الله وهي أعْلى تفْسيرٍ وفَهْمٍ لِكَلام الله، فإذا فَهِمْتَ آيةً وذاكَرْت بها في البيت وتأثَّرْتَ بها اُنْقُلْها إلى الآخرين، ولا تجْعل حَدِيثَكَ في أمورٍ سخيفة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها ))
[ رواه الطبراني، وابن عدي وغيرهما، وصححه الألباني الحسين بن علي بن أبي طالب ]
راقب نفْسَكَ، ما الموْضوعات التي تخوضُها مع أصْدِقائِكَ وزُملائِك وجيرانك ومع أرْباب مصْلحتك، في بيْتِكَ مع أوْلادك وَزَوْجَتِك.
ما اجتمع قومٌ ثمَّ تفرَّقوا عن غيرِ ذكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وصلاةٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا قاموا عن أنتنِ جِيفةٍ
أخرجه النسائي، والطيالسي واللفظ له، والبيهقي عن جابر بن عبد الله
إذاً كَلِمَة (فَذَكِّر) تَنْطَوي إذا وُجِّهَتْ للمؤمنين على دَعْوَةٍ للتَّعَلُّم؛ تعلّمْ كتاب الله، والتعلّم غير الاسْتِماع فقد يأتي رجُلٌ إلى مجْلس العِلم ويسْتمع إلى الدرْس ويخرج من المسجد ونفْسه مُمْتَلئةٌ تقديرًا بهذا الدرس، ولكن قُلْ له بِرَبِّك: ماذا تَكَلَّم المُدَرِّس؟ هل تذْكُر أيةً واحدة أو تَوْجيهاً واحِداً؟ ما الذي اسْتَفَدْتَهُ؟ إنْ كنت تسْتَمِعُ العِلْم ولا تحْفَظُهُ، ولا تُرَكِّزُه، ولا تتعَمَّقُ في فهْمِهِ فَكَيْفَ تسْتطيعُ أنْ تنْقُلَهُ للناس؟! فكَلِمَة (فَذَكِّر) في الأساس مُوَجّهة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولأنَّ النبي الكريم قال: (وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ) إذاً هي أيضاً مُوَجَّهَةٌ لِكُلِّ مؤمن، فالمؤمن يجب أنْ يتعلَّم قبل أنْ يُذَكِّر، وأصْل العِلْم كتاب الله، والأصل الثاني سُنَّةُ رسول الله أعْلى فَهْمٍ لِكِتاب الله، وأدَقُّ تفْسير لِهذا الكِتاب.
﴿فَذَكِّرْ﴾ المقْصود بِهذا الأمر النبي – صلى الله عليه وسلم- أوَّلاً، وكل مؤمن ثانياً؛ لذلك قد تُسأل هذا السؤال: أنت كم رجل؟ تقول: ما هذا السؤال؟! أنا رجل واحد، نقول لك: إنْ هَدَيْتَ إنساناً فأنت رجلان، وإنْ هَدَيْتَ رجلين فأنت ثلاثة.
﴿ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (120)﴾
كم شخصًا هديت؟ بِهذا العُمُر المديد كم إنْسانًا تأثَّر باتِّجاهِك وبأفْكارك وبمعتقدك وبأخْلاقك وبِقِيَمِك؟ أقرب الناس أوْلادك وزَوْجَتُك.
(( خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي، وإذا ماتَ صاحبُكُم فدَعوهُ ))
[ أخرجه الترمذي عن عائشة أم المؤمنين ]
(( لَأَنْ يُؤدِّبَ الرَّجُلُ ولَدَه خيرٌ مِن أن يتصدَّقَ بصاعٍ. ))
[ ضعيف الترمذي عن جابر بن سمرة ]
خيرُ كَسْبِ الرَّجُل وَلَدَهُ، ﴿فَذَكِّرْ﴾ هل ذَكَّرْتَ أوْلادك؟ هل ذَكّرْتَ زَوْجَتَك؟ وما الموضوعات التي تخوضُها مع زَوْجَتِك أثناء الطعام، وفي السَّهْرة، عند الاسْتِيْقاظ، وعند النوم؟ دُنيا، أثاث المنزل، مشاكل الجيران، فُلان وعِلان؟ فَذَكِّر للنبي أوَّلاً ولكل مؤمن ثانِياً، فهذا الأمر مُوَجَّهٌ إلينا أيْضاً، من الذي يُذَكِّر؟ كلَّ إنْسانٍ، هل في الأرض كُلِّها إنْسانٍ أبعد عن الدِّين من الذي قال: "أنا ربكم الأعلى"، والذي قال: "ما علمت لكم من إلهٍ غيري"! ومع ذلك:
﴿ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)﴾
هذا الكلام له أبعاد وهو أنَّ كُلّ إنسان له إمْكانِيَةُ الهُدى بِما فيهم فِرْعَوْن فلا تيْأس من الناس، الإمام مالك -رضي الله عنه- رأى رَجُلاً في الطريق مُلْقًى على قارعة الطريق وزبد الخمر على شَفَتَيْه ويقول: الله، هذا الإمام الكريم أبى وكَبُرَ عليه أنْ يخرجَ هذا الاسم من فَمٍ مخْمور! والقِصَّة مُطَوَّلَة... فقد أكرمه ومَسَحَ فمَهُ وأخذهُ إلى البيتْ، وعالجَه معالجة ما، فلما آوى إلى فِراشِه رأى في المنام أنّ الله -سبحانه وتعالى- قال له: يا مالك، طَهَّرْتَ فمه من أجلنا فَطَهَرْنا قلبه من أجلك، وذَهَبَ إلى المسجد فجراً فرأى رجُلاً يصلي صلاة خاشعة ويبْكي في صلاته ولم يألَف هذا الوجه من قبل، فقال له: من أنت يا أخي؟! قال: إنَّ الذي هداني أخْبَرَك بِحالي، لا تيْأس من الناس، ولا تيْأس من شارب الخمر ذَكِّرْهُ، ولا منْ آكل الرِّبا وذكّره، كُلُّ إنسانٍ عنده إمْكانِيَةُ الهُدى بما فيهم فِرْعَون، فذكّر لكن بالحِكمة وليس بالقسْوة، قال أحدهم للآخر: أريد أنْ أنْصَحَك بالقَسْوة، فأجاب: ولِمَ القسْوة يا أخي؟! لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مِنِّي، أرسل موسى إلى فرعون وقال له: ﴿ فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ ، إذًا ﴿فَذَكِّرْ﴾ الأمر مُوَجَّهٌ للنبي أوَّلاً ولنا ثانِياً، وحجْمُكَ عند الله بِحَجْمِ الذين اهْتَدَوا على يَدَيْك، وما أحْدَثَ رجلٌ أخاً في الله إلا أحْدث الله له دَرَجَة في الجنَّة، والكلام لا يؤثِّر الفعل هو الذي يؤثِّر، قدِّم خدماتك للناس، عاونهم في شؤونهم، قدِّم لهم خبراتك، أعطهم من مالك أو أقرضهم إذا اضطر الأمر، قدِّم لهم شيئاً من خبراتك في الحياة، عندئذٍ إذا ذكَّرتَهم يذكرون وقد يبكون ويتأثَّرون، الكلام وحده لا يساوي شيئاً، كله كلام بكلام، لكن المؤمن الصادق يحاول أن يبذل ممَّا آتاه الله حتَّى يستميل قلوب الناس، يجب أن تفتح قلب أخيك قبل أن تفتح عقله، افتح قلبه بالإحسان ثم افتح عقله بالحقائق، ﴿فَذَكِّرْ﴾ أنت المعني بهذه الآية وكل إنسان على وجه الأرض معنيٌّ بالتذكير.
فأول موضوع في درسنا كلمة (ذكِّر) ، فـأول شيء كلمة (ذكِّر) -كما قلت قبل قليل- تعني أن في الإنسان فطرةً كاملة، كما أن السمكة فيها كل مقوِّمات الحياة في الماء، فإذا وضعتَها في الماء استقرَّتْ وارتاحت وسُرَّتْ، فإذا أخرجتَها من الماء اضطربتْ وماتت، فحينما يقول الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَذَكِّرْ﴾ يعني في الإنسان فطرة سليمة، فإذا أيقظتَ كوامنها وذكَّرته بأصله وعرّفتَه بربِّه عاد إلى فطرته فسعِد سعادةً كبرى، الأمر موجَّهٌ إلى النبي أوَّلاً وإليكم بالتبعية، من يُذكِّر؟ كُلَّ إنسان بالحِكْمة والموعظة الحَسَنة، من أمر بالمعْروفٍ فَلْيَكُن أمره بالمعْروف، كيفَ نُذَكِّر؟ الكلمة من الثلاثي المُضَعَّف (مضعف العين) مثلاً: غَلَقَ الباب، لكن غَلَّقَ الباب: أرْصَدَهُ، كسر العود مرة واحدة، أما كَسَّر العود: بالغ في كسْره، قطع اللَّحْم أما قطَّع اللَّحْم: بالغ في التقْطيع، مزَّق الورق: جعلها قِطَعاً صغيرة، فالفِعْل الثلاثي إذا ضَعّفْنا عَيْنَهُ يُفيدُ المُبالغة، فَلما رَبُّنا -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَذَكِّرْ﴾ أيْ أكْثِرْ من الذِّكْر، لا إسراف في التَّذْكير والخير ولا خير في الإسراف، التُّؤَدَة خيرٌ في كُلِّ شيء إلا في عَمَلِ الآخرة.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾
﴿ وَجَٰهِدُواْ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ َلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ (78)﴾
﴿فَذَكِّرْ﴾ ذَكِّره صباحاً ومساءً ولَيْلاً ونهاراً، في أيام الرَّخاء وفي أيامِ الشِّدَّة، في الضائقة وفي البحْبوحة، في الصِّحَة وفي المرض، هذه الشَّدَّة تعْني المُبالغة في التَّذْكير، معنى التذكير: من الذي تُذَكِّر؟ ومن يُذَكِّر؟ وكيف تُذَكِّر؟
ما موضوعات التَّذْكير؟ ذكِّر الإنسان بأصْله.
﴿ أَوَلَمْ يَرَ ٱلْإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن نُّطْفَةٍۢ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77)﴾
ذَكِّرْهُ بأنَّ هذا الجِسْم وهذه المكانة وهذه القُوَّة وهذا المال شيءٌ منَّ الله به عليك، ألمْ يأتِ عليك حينٌ من الدَّهْر لم تَكُن شيئاً مذْكوراً؟
﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًٔا مَّذْكُورًا (1)﴾
كُلٌّ منا له تاريخُ ميلاد، في سنة 1930 من أنت؟ لا أحد يعرفك، أنت لا شيء، في سنة 2500 أنت ذِكرى، إنْ كنت ممن عرف الله -عزَّ وجلَّ- قد تبْقى ذِكْراك في القلوب وإلا فلا، مرَّةً سألْتُ طُلابي فقُلْتُ لهم: من يذْكُر لي اسم غَنِيٍّ كبير عاش في الشام سنة 1836؟ فَكَّروا وفكَّروا حتى عجَزوا عن الجواب، فقُلْتُ لهم: وأنا مثْلُكُم لا أعْرف، يا بُنَيَّ ماتَ خُزان المال وهم أحْياء والعلماء باقون ما بَقِيَ الدَّهْر، أعْيانهم مفْقودة وأمْثالهم في القلوب موجودة، إذاً الموضوعات: ذَكِّرْهُ بِأصْلِهِ لِمَ التكَبر؟ من أنت؟! ذَكِّرْهُ بِمَصيره كيف سيَكُون تحت الثَّرى، يا ابن آدم إنَّك تسير على ظَهْري، وسوف أضُمُّك إلى بطني - الأرضُ تقول لبني آدم-، ذَكِّرْهُ بآلاء الله فالإنسان مُحاط بآيات مُذْهِلَة، ليستْ الآيات التي حَوْلَهُ بُرْهاناً مُقْنِعاً لكنها برهان قاطع على عظمة الله، الماء يعطيك درساً، من جعله عذباً فراتاً وكان من قبلُ مِلحاً أُجاجاً؟ الله -سبحانه وتعالى-، من نصب الجبال وأقام السهول وفتَّت التربة وجعلها ممتلئة بالأحياء الدقيقة كي ينبت النبات؟ من جعل هذا الماء يتمدَّد إذا تجمّد كي يعين على تشكيل التربة؟ من جعل البحار ومن جعل القطبين والصحارى والسهول؟ من خلق النبات؟ من أعطانا مليون نوع من السمك؟ ومن صمَّم آلاف الأنواع من الطّيور، وبثَّ فيها من كل دابة؟ ذكِّرهم بآلاء الله وبأصلهم كي يتواضعوا وبمصيرهم كي يخافوا، وذكِّرهم بآلاء الله كي يعظِّموه، وذكِّرهم بنعمه كي يحبُّوه، ذكِّرهم بالمثانة، فلولا المثانة لاحتاج الرجل إلى فوط طوال النهار فكل عشرين ثانية ينزل من كليتيه نقطتان بالضبط، ولولا المثانة لكان الأمر متعبًا ومزعجًا، فأين كرامتك، إن كانت للإنسان رائحة قبيحة فأين الكرامة؟ وإفْراغ المثانة؛ ربنا -سبحانه وتعالى- جعل لها عَضَلات ضاغِطَة فإذا أردْتَ أنْ تُفْرِغَها تفْرغها في دقيقةٍ أو نصْفُها، ولولا هذه العضلات لاحْتَجْتَ إلى عشْر دقائق كي تُفرغها، من أعطى هذه العضلة القابضة التي تمنع كل شيء يخرج من المُستقيم لا رائحة و لا أي شيء؟ من أعْطاك السمْع والبصر؟ من أعطاك هذه الذاكرة والقُدْرة على المُحاكمة وتذكّر الأشياء؟!
﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَٰهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَٰعُواْ مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)﴾
رجل دخل عليه ابنه فقال له: منْ أنت؟! فَقَدَ ذاكِرَتُهُ، الإمْكانات الفِكْرية هل هي قليلة؟! هذه المفاصل والجلد والعضلات والعِظام، من الذي جعل عظم الحَوْض يرْتَكز عليه عظم الفخِذ؟ ومن جعل لِعَظم الفخذ عُنُقاً؟ ومن جعل هذه القطعة في عظم الفخذ أقْسى مكان في الإنسان؟ هذه القطعة الأفقية في عظم الفخذ الأخيرة تحْتمل وزن 250 كغ، فالإنسان لو وُضِع فوقه 500 كغ فإنَّ هذه العظمات تحْتمِلُها! ذَكِّرْهم بآلاء الله، وبِهذا الطِّفْل الذي أمامك كان من نطفَةً من ماءٍ مهين، من أعْطاهُ هذه الصورة الحَسَنَة، وألْهَمَهُ هذا الكلام اللَّطيف، علماء نفْس الأطْفال اكْتَشَفوا صِفات للطُّفولة منها: البراءة، الذاتية، الصفاء، الانْفِعال، الخيال الخلاق، وقد شاهدت طفلة ممسكة بوسادة وأحضرت زجاجة حليب لترضعها، وجدتها فارغة ففتحتها وأرادت تعبئتها من الهواء ثم أغلقتها وتابعت؛ هذا دليل الخيال حيث أخذت دور الأم، كذلك الطفل يستخدم العصا ليركب عليها يمشي بها، إذاً هناك تخطيط إلهي ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ ، ذكّر بالآلاء(الموضوعات) فإذا رأيْتَ أحدهم أشْرك بالله فقل له: أن الأمر كله بيد الله.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
قل له:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
قل له:
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾
ذكّر وقل له:
﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
ذكّر:
﴿ لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ (63)﴾
﴿ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ (66)﴾
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ (79)﴾
ذكّر الشخص المشرك بالتوحيد، إذا رأيْتَه مائلاً إلى الدنيا ذكّره بالموت، رأيْتَهُ لا يعرف عظمة الله فذكّره بآلاء الله، رأيْتَهُ ليس مُحِباً لله ذَكِّرْهُ بنعم الله، رأيْتَهُ لا يخاف الله ذَكِّرْهُ بعقاب الله -عزَّ وجلَّ- بعذاب الله، ذكّره بالأمراض الوبيلة والفقر المدقع، وبالشِّقاق الزَّوْجي، هناك مصائبٌ لا يعْلمها إلا الله ﴿فَذَكِّرْ﴾ .
أصبح التَّذْكير ينطوي على الفطرة، وعرفت لمن الأمر مُوَجَّهٌ، ولمن يجب أنْ تُذَكِّر؟ وكيف تُذَكِّر؟ وما الموضوع الذي تُذَكِّرُ به؟ ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ أي أن النبي مذكِّر وقد يكون بيده الأمر، مذكِّر وبيده الأمر، مذكِّر وبيده النفع والضُّرُّ، أمَّا حينما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ أي أنت مذكِّر فقط؛ هذا هو القصر، فحجم النبي الكريم أنه يذكِّر الناس بالله فقط، فإذا عاملوه وأحبُّوه شعروا بالسعادة؛ هذا كل ما في الأمر، أما أن تقول: وليٌّ من الأولياء يصلي العصر في مكَّة، والعشاء في المدينة، والغداة في الأقصى، وينام في دمشق، لِمَ لمْ يهاجر النبي هكذا وانتقل فجأة؟! سُئِل الجنيد: "منْ وليُّ الله، أهو الذي يمشي على وجه الماء أم هو الذي يطير في الهواء؟" قال:" لا هذا ولا ذاك، وليُّ الله تجده عند الحلال والحرام" ، وقَّافاً عند الحرام ملتَزِماً بالحلال هذه هي الولاية، أمَّا أن تنسب لأشخاص أعمالاً خارقة للعادات فوق إمكانات البشر وتظن أن الولاية هكذا!
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا (110)﴾
(( صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فإمَّا زاد وإمَّا نقص قال إبراهيمُ وإمَّا جاء نسيانَ ذلك من قبلي فقلنا: يا رسولَ اللهِ أحدثَ في الصلاةِ شيٌء قال: وما ذاك قلنا: صلَّيتَ قبل كذا وكذا قال: إنَّما أنا بشرٌ أنسى كما تنسوْنَ فإذا نسيَ أحدكم فليسجدْ سجدتينِ ثم تحوَّلَ فسجد سجدتينِ ))
[ أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن عبد الله بن مسعود ]
﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ ۚ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍۢ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
﴿ قُلْ إِنِّىٓ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍۢ (15)﴾
﴿ قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾
هذا نبي لا يعلم الغيب، ويخاف إن عصى الله عذاب يوم عظيم، ولا يملك لنا ولا لنفسه نفعاً ولا ضرّاً.
﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)﴾
هذا هو الحجم؛ سيِّد الخلق وحبيب الحق ولكن الفعل بيد الله -عزَّ وجلَّ-، إنما أنت مذكِّر هذا حجمك، أكثر من هذا صار تأليهاً، لذلك غلاة النصارى قالوا: المسيح ابن الله، وكل فئة تُغالي وتتجاوز الحدَّ الذي نصَّ الله عليه تنسب بعض صفات الأُلوهية للبشر، ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ فقط، لذلك قال الصوفيون: "لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ومن لا يدلُّك على الله مقاله" ، هذا هو حجم المرشد وأكثر من هذا لا يوجد، يذكِّرك بالله فإذا حصل احتكاك ومعاملة تحبُّه؛ لأنه ملتزم ومطبِّق.
(( ألَا أُنبِّئُكم بخِيارِكم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: خياركم الذين إذا رُؤوا ذُكر الله -عزَّ وجلَّ- ))
[ صحيح ابن ماجه عن أسماء بنت يزيد أم سلمة الأنصارية (صحيح لغيره) ]
فإذا رأيت النبي الكريم في المنام تبقى شهراً غارقاً في السعادة، فهذه النفس اشتبكَت مع نفسٍ عالية جدّاً تتلقى من الله تجلِّيات كبيرة جداً؛ هذا بعض معاني ما يحدث للمؤمن من سرور إذا جلس في مجلس العلم، النبي الكريم- عليه أتم الصلاة والتسليم- جاءه سيدنا الصديق مع سيدنا حنظلة، فقال سيدنا حنظلة:
(( أنَّ حَنْظَلةَ الأُسَيْديَّ -وكان مِن كُتَّابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أَنْتَ يا حَنْظَلَةُ؟ قالَ: قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحَانَ اللهِ! ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ))
[ صحيح مسلم عن حنظلة بن الربيع الكاتب الأسيدي ]
ففُهم من الكلام أن المؤمن في حضرة النبي الكريم يحس بمشاعر لا يحسُّها وهو بعيد عنه؛ هذه وظيفة من وظائف النبي والدعاة إلى الله، فأحوال المؤمن طيبة إذا اقتربت منه شعرتَ بالسعادة وإذا استمعتَ إليه يملؤك علماً، أمَّا أنه يمشي على الماء أو طار في الهواء، أو يعلم من خلف الباب فلا يعْلم الغيب إلا الله، ربما قد تواعد مع شخص فيقول لك: افتح لفلان، ما شاء الله يعرف من خلف الحائط!! لا يوجد شيء من هذا القبيل، هذا كلام فارغ، الوليُّ من تجده عند الحلال والحرام ، هو كالبشر وليس فوق البشر، وليس عنده إمْكانات فوق البشر، فإذا كان سيدنا رسول الله ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾
(( ...إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ؛ أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَة ))
[ صحيح مسلم عن أنس بن مالك ]
﴿قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ ، ﴿وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ﴾ ، ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ﴾ انظر هذه الآيات فإذا جَمَعْتَها تعْرفُ حجم النبي الحقيقي-اللهم صلّ عليه-.
(( لَا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فإنَّما أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ))
[ صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب ]
أشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله وأشْهد أنَّ سيدنا محمَّداً عبده ورسوله، أعلى مقامٍ للإنسان أن يكون عبداً لله لذلك:
﴿ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ ۚ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلْقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ ۚ ٱنتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ سُبْحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌ ۘ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا(171)﴾
فحتى لا يقع الإنسان بِمُبالغات ويعْطي للأنبياء والأولياء حجماً أكبر بِكَثيرٍ من حجْمِهِم الحقيقي، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ فالإنسان مُخَيَّر ومُسْتَقِلّ في اخْتياره عن النبي، قال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ (56)﴾
قد تقرأ قصة أن الولي الفلاني نظر إلى شَخْصٍ فاهْتَدى!! هذه ليْسَت لِرَسول الله فلماذا تبالغ؟! هل يقدر الولي أن يهدي إنساناً؟ إذا أقنعه فهذا معقول، بيّن له الحق وذكر له أدلّة منطقيّة، ذكّره بالجنّة وحذّره من النار، وذاك قام بمحاكمة اختار فيها الهدى فاهتدى، أما أن ينظر إليه فيهتدي فهذه ليست لرسول!! لو أنَّ النبي يمْلكها لَنَظَر إلى عَمِّهِ أبي لَهَبٍ فاهْتَدى، ولكنه ما اهتدى.
﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍۢ وَتَبَّ (1) مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ (2)﴾
أدلة تؤكد أن الإنْسان مُخَيَّر:
(( قَامَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِينَ أنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا ، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا ))
[ أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة ]
(( ما من رجلٍ يَسلُكُ طرِيقًا، يَطلُبُ فيه عِلْمًا إلَّا سَهَّلَ اللهُ لهُ طريقَ الجنةِ، ومَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ ))
[ أخرجه أبو داود، والدارمي، وابن حبان عن أبي هريرة ]
﴿لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ ، ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ هذا يعْني أنَّ الإنْسان مُخَيَّر، ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ﴾ ، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ﴾ الهداية.
﴿ إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا (19)﴾
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ الله -عزَّ وجلَّ- طمْأنَ رسول الله أن الهدى ليس عليك، بل عليك التَّذْكير فقط، وعَلَيْك أنْ تُبَيِّن لهم كُلَّ شيء حتى يخْتاروا هم الهِداية، أما إذا ظَنَنْتَ أنَّكَ سَتُجْبِرُهم على شيءٍ ما فهذا ليس بِإِمْكانك ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ ، الإنسان مُخَيَّر ولا يعْني أنَّهُ مُخَيَّر ليس له تَبِعَةٌ لِعَمَلِهِ، هذا اِهْتدى وذاك ما اهْتَدى حُرٌّ، لكي لا تقع في هذا الوَهْم ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ*لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ لكن من تولى وكفر لا يُعفى من المسؤولِيَّة، هناك سَوف يلْقى تَبِعَة عمَلِهِ.
التلازُم بين الكُفْر وبين الإعراض عن الحقّ:
﴿إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَر﴾ هناك تفسيرات لهذه الآية: ﴿مَن تَوَلَّىٰ﴾ أي من أدار ظهْره للحق؛ هذا هو الكُفْرُ، والكفر أن تدير ظهرك للحق، وهناك تلازُمٌ بين الكُفْر وبين أنْ تُعْرِضَ عن الحقّ فالكفر إعراض، أحياناً طالب في صف والمُدَرِّس يُلْقي درْساً قَيِّماً، هذا الطالب مشْغولٌ بِرَسم خُطوط سخيفة على دفْتَرِه، هذا الطالب مُوقِن بِوُجود المُدَرِّس، وصورة المُدَرِّس وحجمه يملأ سمعه وبصره، ومع ذلك يُعدّ هذا الطالب كافراً بالمُدَرِّس؛ ليس معنى كافر أنَّهُ أنْكَرَ وُجوده ولكنه زاهِدٌ بِعِلْمِهِ ومُعْرِضٌ عنه، فصار معْنى الكُفْر هو الزُّهْد بما عند الله والإعْراض عن الله؛ لذلك ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّآ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ (54)﴾
يُصَلي ويُنفِقُ من ماله ومع ذلك وَصَفَهم الله -عزَّ وجلَّ- بِأنَّهُم كفروا بالله ورسوله، إذًا الكُفْر هو الإعْراض وأنْ تُديرَ وجْهَكَ لله -عزَّ وجلَّ- لشرعه، لِعِقابه ووعيدِهِ لوعْدِهِ ولجَنَّتِه ولناره، تريد الدنيا؛ هذا هو الكفر إعراض، فلذلك ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ ولكن من تَوَلى وكَفَر لا ينْجو من تَبِعَة عَمَلِهِ، (إلا) هنا بمعنى بَيْدَ، بَيْدَ أنّه من تَوَلى وَكَفَر.
﴿فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ﴾ هناك عذابٌ أليم، وهناك عذابٌ عظيم، وهناك عذابٌ مهينٌ، وهناك عذاب مديد إلى أبدِ الآبِدين، هناك مَسٌّ بالعذاب، أحياناً يضَعُ الإنسان تياراً كهربائيًا على يَدِهِ مَسّاً فيُمَسّه العذاب:
﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (83)﴾
المَسُّ غير العذاب المُسْتَمِر، فالإنسان الذي لا يخاف الله أحْمَقٌ وغَبِيٌّ وعديمُ الإدْراك، الله -سبحانه وتعالى- قال:﴿إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَر* فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ﴾ فمن عاش وكأنَّ الحياة هي كُلُّ شيء، ولا شيءَ بعد الحياة، لا حِساب ولا عذاب ولا سُؤال ولا جَهَنَّم، يعيشُ في الدنيا على أهْوائِهِ، يُعْطي نَفْسَه هَواها ويَتَمَنى على الله الأماني، هذا الإنسان بالذات عَمَلُهُ لا يُصَدِّقُ كتاب الله، قد يكون في لِسانه مُصَدِّقاً ولكن عَمَلَهُ لا يُصَدِّق، لذلك ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَر* فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ﴾
ما هي العَذابات في الدنيا؟ الإنسان يفْقِدُ سمْعَهُ وعقْلَهُ ويدخلُ إلى مُسْتَشْفى الأمراض العَقْلِيَّة، وهذا يفْقِدُ أهلهُ، وذاك مرضٌ عُضال، أو يفْتَقِر يشتهي رغيف الخُبز، هذا حدث في الحُروب السابقة، يكون له ابنٌ عاق، كٌلُّ هذه العذابات معْقولة ومقْبولة ومُحْتَمَلَة، لكنَّ ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَر* فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ﴾ كُلَّما فَكَّرْتَ في عذاب الله فهو أكبر، لذلك قد يُطِلُّ الإنسان حين مَوْتِهِ فيُفْتَحُ له بعضُ أبواب النار، فَيَقول: لم أرَ خيراً قطّ، كُلُّ هذا العُمُر المديد الذي أمْضاهُ في النعيم والمباهج والمَسَرات والترف والطعام الفاخر، حينما يُفتَح له بعض أبواب النار يقول: لم أر خيراً قط في حياتي، وإذا فُتِح باب من أبواب الجنة للمؤمن يقول: لم أرَ شرّاً قط، تكون حياته كلها عذابات وابتلاء وأمراضاً وتعب وفقر، هذه الحياة الأبدية التي لا نهاية لها يُستغنَى عنها ويُزهَد بها ويُستخفُّ بحقِّها؟! لا يستخفُّ بها إلا أحمق، كلام الله خالق الكون الذي خلقنا من نطفة ولم نكن شيئاً يقول: ﴿فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ﴾ ، واللهِ إذا عاملت إنساناً قاسياً جدّاً وأبصرت عقابه الأليم فإنك تخاف من معْصِيَتِه؛ من إنسان لإنسان في الدنيا!! إذا كان لك خِبْرة مع إنْسانٍ قاسٍ لا يَرْحَم إذا قال فَعَلَ، فلا تُعانِد من إذا قال فَعَل هل تعْصِي أمْره؟ بل تُطيعُهُ طاعَةً عَمْياء فلو قال لك: اللّبن أسْود، تقوُل له: أسْود فاحِم، لأنَّك رأَيْت عقابه الأليم وبطشه، فإذا كُنْتَ تُعامِل إنْساناً من جِلْدَتِك ومن بني آدم وسوفَ يموت وهو بِيَد الله -عزَّ وجلَّ-، إذا حَذَّرك وأنْذَرَك وبَطَشْ تُطيعُهُ طاعَةً عَمْياء، ألا يسْتَحِقُّ الله -عزَّ وجلَّ- خالقُ هذا الكَوْن وخالقُ الشَّمْس والقمر، خالقُ البِحار والجِبال، ألا يسْتحِقُّ الله -عزَّ وجلَّ- أنْ تُطيعَهُ وأنْ تُصَدِّقَ كِتابه، وهذا الكونُ كُلُّهُ شهادَةٌ له؟!
شدة الوعيد في هذه الآيات:
﴿إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾
ليس في القرآن الكريم آياتٌ أشَدُّ وعيداً من هذه الآيات، قد تهدد أم ابنها وتتوعده بحساب عسير عندما يكون عندها ضيوف فتشير له بيدها، ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾ سوف يعود الناس إلى الله -عزَّ وجلَّ- ويُسْألون عن كُلِّ حَرَكَةٍ وسَكنةٍ وعن كُلِّ دِرْهَمٍ كيف اكْتسبوه وفيما أنْفَقوه، عن عمرهم فيما أفنوه، وعن شبابهم فيما أبْلَوهُ، عن مالهم مما اكتسبوه وفيما أنفقوه، عن عِلْمِهم ماذا عَمِلوا به ﴿إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾ الحِساب على الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا كان الإنسانُ في مَحَلٍّ وخالفَ تعْليماتٍ مُعَيَّنة، ثمَّ يؤْخَذُ مخفورًا إلى الجِهَة التي خالفَ تعْليماتها، ويُعْرَضُ عليه شريطٌ صورة وصَوْت بِكُلِّ حركاته وسكناته وخياناته، ماذا يَحِلُّ به؟ يتمنى الأرض أنْ تنْشَقَّ وتبتلعَه.
الملف مدقق