المذيع :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أيها الأخوة المشاهدون ؛ أيتها الأخوات المشاهدات : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في هذا البرنامج الذي يطل علينا فيه سماحة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي في فضاء وسماء فلسطين من شاشة فضائية معن .
أهلاً وسهلاً بك سماحة الشيخ .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
جزاك الله خيراً ، والله سبحانه وتعالى أراد من هذه الأمة أن تكون أمة داعية للخير عن طريق نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله لرسوله :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46)﴾
وقال لأمته :
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾
وقال الله سبحانه وتعالى على لسانه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
فالدعوة إلى الله من صلب النبوة ، ومن صميم الوحي الإلهي ، فكيف هي علاقة الإنسان المسلم بهذه الدعوة داعياً ومدعواً ؟
أفضل إنسان من دعا إلى الله وعمل صالحاً :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
بادئ ذي بدء : يقول جل جلاله :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
ليس على وجه الأرض بنص هذه الآية إنسان أفضل عند الله ممن دعا إلى الله دقيقة ؛ دعا إلى الله بلسانه ، بعمله ، بلقاءاته ، بأمسياته ، بنزهته ، دعا إلى الله ، لفت الأنظار إلى الله ، إلى عظمة هذا الإله العظيم ، إلى خلقه المحكم ، إلى ، إلى ، إلى ، ( دَعَا إِلَى اللَّهِ ) لا يكفي ( وَعَمِلَ صَالِحاً ) حركته في الحياة جاءت موافقة لدعوته ، أي كسب ماله ، إنفاق ماله ، اختيار زوجته ، تربية بناته ، تربية أولاده ، اختيار حرفته ، التعامل في حرفته مع الأصول أم مع الأشياء غير المقبولة ؟
الحقيقة هناك عبادات شعائرية ؛ الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، وهناك عبادات تعاملية ، تبدأ من أخص خصوصيات الإنسان ، من علاقاته الأسرية ، وتنتهي بالعلاقات الدولية ، هذا المنهج ، ما لم تصح العبادة التعاملية لا نستطيع أن نقطف ثمار العبادة الشعائرية .
المذيع :
بعد إذنك طبعاً ، نأخذ الصورة الأخرى ، الداعية الذي يوافق قوله عمله ، والداعية الذي لا يوافق عمله قوله .
الدعوة الناجحة يكون العمل فيها مقترناً بالقول :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هذا محترف ، ولا شأن له لا عند الله ، ولا عند الناس .
المذيع :
﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
(( عن أبي وائل رحمه الله قال : قال أسامةُ رضي الله عنه : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ' يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُلْقى في النار ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ ، فَيَدُورُ بها كما يدُور الحمار في الرَّحَى ، فيجتمع إِليه أَهلُ النار ، فيقولون : يا فُلانُ مالك ؟ أَلم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ، كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأَنْهَى عن المنكر وآتيه . ))
أي فشل الدعوة عندما يكون العمل يخالف القول ، ونجاحها عندما يكون العمل يصادق القول .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
سيدي ؛ تعليق لطيف على هذا الكلام الطيب : أنا أنتفع من الطبيب ولا تعنيني صلاته ولا قيامه في الليل ، أنتفع من المحامي كذلك ، أنتفع من المهندس ، لكن لا يمكن للمسلم أن ينتفع من عالم ما لم يتأكد أنه يفعل ما يقول دون أن يشعر .
أذكر تماماً ، لي درس في جامع تحدثت عن الله ، يوجد قسم للنساء ، وابنتي كانت صغيرة عمرها ثماني سنوات ، امرأة عرفت أنها ابنتي فأشارت إليها : أبوكِ في البيت مثلما يتكلم؟
الناس لا ينتفعون من الداعية أو العالم إلا إذا تأكدوا أنه يفعل ما يقول ، هذه المصداقية .
التقيت مع الإمام الشعراوي ثلاث مرات تقريباً ، سألته مرة نصيحة إلى الدعاة ، أي يستطيع أن يتكلم ساعة ، من الدعاة الكبار الكبار ، أو نصف ساعة ، أو عشر دقائق ، جملة واحدة قال لي : ليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعو .
هذه المصداقية ، ولا يقنع الإنسان بداعية إلا إذا علم يقيناً أنه يفعل ما يقول .
المذيع :
( دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ) الآن تفضلت وذكرت أن درسك كان للنساء ، هل المرأة أيضاً مخاطبة بهذا القول ؟ داعية إلى الله ؟ تكون المرأة كذلك داعية إلى الله ؟
أسلوب التغليب في القرآن الكريم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
سيدي ؛ بالتغليب ، هذا بحث باللغة دقيق جداً ، بالتغليب ، حينما يكون في صف معين سبع وثلاثون فتاة وشاباً ، أقول : دخل الشباب ، للتغليب .
الآيات 260 آية يا أيها الذين آمنوا ، قطعاً ويا أيتها المؤمنات ، بالتغليب ، دخل إلى الصف ثلاثون بنتاً وشاب واحد ، نقول : دخل الطلاب ، لا نقول : الطالبات ، دخل الطلاب هذا التغليب .
فكل الآيات 260 آية بالقرآن يا أيها الذي آمنوا ، أي ويا أيتها المؤمنات الفاضلات .
المذيع :
بارك الله فيك سماحة الشيخ ؛ الحكم الشرعي للدعوة ، نعرف أن الصلاة فرض ، وتفضلت في الشعائر التعبدية الناس يحبون الصيام ، هناك بعض الناس يصومون ولا يصلون ، يعرفون أن الصيام فرض ، وهذه الصلاة فرض ، ما حكم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ؟
حكم الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا سألت شخصاً سؤالاً محرجاً : لماذا تصلي ؟ فغضب ، قال لي : لأن الصلاة فرض ، قلت له : إذا أقنعتك أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ؟ شيء دقيق جداً ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي هذا أفضل إنسان عند الله ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) طبعاً دعا إلى الله بلسانه ، أو بقلمه ، أو بلقاءاته ، أو ببيعه وشرائه ، أو ، أو واسعة جداً .
المذيع :
بسلوكه ، نعم .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الآن : ( وَعَمِلَ صَالِحاً ) الآن حركته في الحياة ، كسب ماله ، إنفاق ماله ، اختيار زوجته ، تربية بناته ، تربية أولاده ، اختيار حرفته ، التعامل في حرفته وفق الشرع ، أو بخلاف الشرع ، موضوع طويل .
سيدي كلمة دقيقة : عندنا عبادة شعائرية ، الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، والشهادة ، التعاملية تبدأ من أخص خصوصيات الإنسان ، من علاقاته الزوجية ، وتنتهي بالعلاقات الدولية ، هذا الإسلام ، لما طبقنا العبادة التعاملية فتحنا العالم ، لما اكتفينا بالشعائرية بحال نحن الآن لا نحسد عليه .
المذيع :
الآن المسلمون ذكوراً وإناثاً يظنون أن الدعوة إلى الله هي من وظيفة العلماء والمشايخ والمتخصصين ، وربما لم يجربوا هم أن يقوموا بهذه الدعوة إلى الله ، يظنون أنها بحاجة إلى نوع من العلم والزاد الوفير ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
ألا تريد دليلاً قطعياً ؟ ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) على بصيرة بالدليل والتعليل ( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) أي إنسان لا يدعو إلى الله ليس متبعاً لرسول الله .
المذيع :
أي إنسان ، مسلم .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أي إنسان ، لكن هذه الدعوة كفرض عين لها شروط ، في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، فقط .
المذيع :
فكيف يزيد المؤمن علمه ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
دقيقة ؛ أنا حضرت خطبة جمعية ، أنا لست مختصاً بالشرع ، لكن تكلم الخطيب آية تأثرت بها ، أنقلها إلى زوجتي ، فقط ، بسهرة ، بأمسية ، أذكرها أمام من حضر ، هذه الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، فرض عين على كل مسلم ، كالصلاة الدليل : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) بالدليل والتعليل ( أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله .
المذيع :
صلى الله عليه وسلم .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
واضحة تماماً ؟
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
هذه الآيات تؤكد أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم كفرض الصلاة ، ولكن في حدود ما يعلم ، ومع من يعرف .
المذيع :
كيف يزيد علمه حتى يصبح أهلاً لهذه الدعوة ؟
طلب العلم فريضة على كل مسلم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
لابد من طلب العلم ، دقيقة .
هذه الطاولة جماد ، لها وزن ، وحجم ، وطول ، وعرض ، وارتفاع ، كل الجمادات هكذا وزن ، وحجم ، وطول ، وعرض ، وارتفاع ، أما النبات فيزيد على الجماد بالنمو فقط ، الوردة تنمو ، وأما بقية الحيوانات فتزيد عليهما بالحركة ، أما الإنسان فله من الجماد وزن ، حجم ، طول ، عرض ، ارتفاع ، له من النبات النمو ، ومن بقية المخلوقات الحركة ، بماذا فضله الله ؟ بقوة إدراكية ، هذه القوة الإدراكية يتميز بها عن كل المخلوقات ، غذاؤها العلم ، فالذي طلب العلم حقق إنسانيته ، والذي عزف عن العلم ، اسمع القرآن الكريم ، شيء مخيف :
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
لكن نبضه 80 مثالي ، ضغطه 8 ـ 12 ـ عند الله ميت ، ما دام عزف عن طلب العلم ، عزف عن إنسانيته ، عزف عن سر وجوده في الدنيا ، وغاية وجوده ، ميت ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) وصف قرآني .
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾
الثالثة :
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)﴾
الرابعة مزعجة كثيراً للشاردين :
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
هذا كلام خالق الأكوان ، فنحن خيارنا مع العلم ليس خياراً تحسينياً ، إنه خيار وجودي ، أؤكد إنسانيتي بطلب العلم ، يوجد قوة إدراكية نتميز بها عن بقية المخلوقات ، هذه القوة الإدراكية تلبى بطلب العلم .
فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
المذيع :
حتى يكون الإنسان داعية عليه أن يكون طالباً للعلم ، سواء كان ذكراً أو أنثى .
الآن عندما يأتي الناس يجهزون للفرحة ، فرحة حياتهم هي الزواج ، يحضرون الذهب والمأذون الذي يكتب العقد ، والملابس ، والكسوة ، والشقة ، والحفلات ، إلى آخره ، وتجد المطبخ عامراً ، والصالون عامراً ، وغرفة النوم عامرة ، ولا تجد في تحضيرهم كتاباً ، الأمة التي طلب الله منها أن تقرأ ، وأمرها بالقراءة ، لماذا تفتقد الكتاب والقراءة من حياتها ؟
بطولة الإنسان أن يجمع بين تأليف القلوب وتأليف الكتب :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
العبد الفقير ، كل من حولي في دعوتي إلى الله أنصحهم بتقديم هدية في الأعراس وعقود القران بكتب معتمدة ، أنا أوزع كتباً بكل حفل ، هذا الكتاب يبقى ، طبعاً الطعام يؤكل ، وأي شيء آخر يستهلك ، الكتاب يبقى ، الكتاب الحقيقة شيء مهم جداً في حياة الإنسان ، يمكن أن تؤلف القلوب ، أو أن تؤلف الكتب ، تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً ، وتأليف الكتب أطول أمداً وأقصر أثراً ، والبطولة أن تجمع بينهما .
عفواً ؛ الإمام الغزالي كان يحضر درسه خمسمئة عمامة ، علماء ، قال بعضهم : من هو الغزالي لولا إحياؤه ؟
المذيع :
لولا كتاب إحياء علوم الدين .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إما أن تؤلف الكتب ، أو أن تؤلف القلوب ، تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً ، تأليف الكتب أقل أثراً وأطول أمداً ، أما البطولة فأن تجمع بينهما .
المذيع :
الآن هناك بعض الناس الذين تخصصوا في الدعوة إلى الله سواء من العلماء ، أو من الدعاة ، ولكن الزاد عندهم ربما غير كاف لكي يبدعوا في التأثير ، الإبداع في التأثير على العوام الآن سماحتك لو سمحت لي أنت من النماذج المؤثرة ، سواء في العلم ، أو في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ، فكيف يبني الداعية نفسه من تجربتك الشخصية ؟
كيفية بناء الداعية نفسه :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله الحقيقة يوجد موقف مع الذات ، أنت إذا نصحت الناس بشيء لا تفعله أما تستحي من الله ؟! كأن الله يعاتبه ، أنت كذلك يا عبدي ؟! حينما تُسأل أجب بالإجابة الصحيحة ولو كنت مطبقاً لها أو غير مطبق ، أما أن تبدأ بالحديث عن شيء لا تفعله أنت فهذا فيه حياء من الله أنت كذلك يا عبدي ؟ أما تستحي مني ؟
المذيع :
كيف بدأت حياتك الدعوية ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله أنا بدأت بسن مبكرة جداً ، أنا كنت مع أناس دعاة إلى الله رغبت في الدعوة إلى الله من خلالهم طبعاً ، رأيتها عملاً عظيماً ، وأنا بالتعليم ، أنا عملي بالتعليم ، التعليم أساسه دعوة إلى الله .
المذيع :
تعليم بالمدارس ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
بالمدارس ، أنا مدرس ، أنا حياتي كلها بالتدريس ، علمت بالابتدائي ، والثانوي ، والجامعي ، الجامعي 33 سنة ، جامعة دمشق ، في كلية التربية بجامعة دمشق ، أنا كل عملي بالتعليم ، التعليم صنعة الأنبياء .
(( عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ، وقوم يذكرون الله تبارك وتعالى ، وقوم يتذاكرون الفقه ، فقال صلى الله عليه وسلم : كلا المجلسين على خير ، أما الذين يذكرون الله تعالى ، ويسألون ربهم فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وهؤلاء يعلمون الناس ويتعلمون ، وإنما بعثت معلماً ، وهذا أفضل . ))
[ أخرجه الحارث ، وأبو داود الطيالسي ]
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .))
[ أخرجه البزار في مسنده والإمام أحمد ]
كأن فحوى دعوة النبي نقل الحقيقة إلى الناس ، والتخلق بأخلاق الله عز وجل ، أي يوجد جانب كمالي ، وجانب علمي ، معلومات دقيقة ، نصوص صحيحة ، فهم للقرآن صحيح ، فهم للحديث صحيح ، فهم لصحة الحديث ، ثم فهم لأقوال الصحابة ، والتطبيق .
عموم الناس ممكن أن ينتفعوا من المهندس ، من معلوماته فقط ، لا يعبؤون بقيامه في الليل ، وقد ينتفعون من المحامي ، ومن الطبيب ، لكنهم بعقلهم الباطن لا ينتفعون من الداعية إلا إذا كان مطبقاً لما يقول .
أنا ذكرت أني التقيت مع الشعراوي ثلاث مرات تقريباً ، في المرة الأخيرة سألته عن نصيحته للدعاة ، فاجأني بجملة واحد ، يستطيع أن يتكلم ساعة ، نصف ساعة ، ربع ساعة ، عشر دقائق ، خمس دقائق ، جملة واحدة ، قال لي : ليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعو ، فقط ، فقد المصداقية ، إذا فقدها فقد دعوته .
المذيع :
الآن المدعو أنواع ، يسمونها في التربية : الفروق التربوية ، ربما يكونون أطفالاً ، ربما يكونون شباباً ، عرباً ، أجانب ، مسلمين ، غير مسلمين ، كهولاً ، كباراً في السن ، فكيف يكون خطاب الداعية متناسب مع هذا التنوع الموجود في البشرية ؟
نجاح الإنسان الأساسي في اختيار حرفته وزوجته :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
من بطولة الداعية أن يكون حكيماً في دعوته ، ما الحكمة ؟ هذا الذي أمامه طفل هل يوجد دعوة له ؟ الصلاة ، التاجر ؟ له دعوة ثانية ، الاستقامة ، المحامي ؟ الصدق ، أنت حينما تكون داعية هذا الذي أمامك ماذا يعمل ؟ أولاً : ما سنه ؟ ما حرفته ؟ يوجد دعوة خاصة له ، وأنا من عادتي في دعوتي في الشام أجمع الأطباء في ليلة واحدة ، يأتون الساعة العاشرة إلى المسجد ، أنهوا عياداتهم ، الأطباء لهم دعوة خاصة ، وهناك جلسة مع المهندسين ، مع المحامين ، الحرفة الواحدة فيها خصائص ، فالإنسان الحقيقة ألصق شيء بحياته زوجته وحرفته ، لأنهما شيء دائم ، البيت يغيره ، المركبة يغيرها ، أما زوجته عنده أولاد منها ، وحرفته مهندس ، فإذا أتقن حرفته ، ونجح في زواجه تقريباً نجح بحياته ، زوجة صالحة ، تسره إن نظر إليها ، تحفظه إذا غاب عنها ، تطيعه إن أمرها .
فأنا أقول للأخوة المستمعين والمشاهدين : نجاح الإنسان الأساسي في اختيار حرفته ، يوجد حرفة أساسها فيها بطل ، وحرفة أساسها فيها إيذاء للناس ، أنت حينما تختار حرفة في خدمة المجتمع ترقى إلى الله ، طبيب مثلاً ، يوجد حرف كثيرة ، التعليم ، التعليم أرقى حرفة صنعة الأنبياء .
لذلك الناس يعزفون عنها لقلة دخلها ، أما لعظم أجرها فهذا شيء لا يقدر بثمن ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .
المذيع :
حتى الذين ينظفون الشوارع هذه حرفة ، وفيها أجر عظيم ، درجة من درجات الإيمان : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
(( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإيمان بضع وسبعون شُعبة ، والحياءُ شُعْبَةٌ من الإيمان ، وأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق . ))
[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ]
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الله كريم ، هذا الإنسان إذا عمل عملاً يبتغي به وجه الله ، أي عمل مهما بدا صغيراً أو كبيراً ارتقى عند الله .
المذيع :
الآن الداعية في بيته ، ولا شك أن التحدي الأكبر في داخل البيت ، لأن الإنسان قد يستطيع أن يمثل عشر ساعات ، واثنتي عشرة ساعة ، وأربع عشرة ساعة ، لكن في داخل البيت يظهر بمظهره الطبيعي ، الداعية في بيته كيف يستطيع أن ينجح في هذا التحدي ؟
التحدي الأكبر داخل البيت :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله أنا أقول : لا يستطيع داعية أن يؤثر في الآخرين فيما بينه وبين نفسه فقط ، لا أحد يعلم عن داخله ، يسمع عتاباً من الله بطريقة أو بأخرى : أنت كذلك يا عبدي ؟ أما تستحي مني ؟ أنت كذلك ؟ أنا حينما أُسأل أُجيب الجواب الصحيح لأي سائل ، أما أنا فأبدأ الحديث وحديثي عن وضعي مع الله وأنا لست كذلك ! والله يوجد جرأة مع الله عز وجل ، أما تستحي منا ويكفيك ما جرى ؟
المذيع :
لا إله إلا الله ! التحدي الكبير الذي تواجهه الأمة في هذه الأيام انتشار التواصل الاجتماعي ، والانترنيت في كل يد ، الطفل ، والشاب ، والفتاة ، والمرأة ، والرجل ، والكبير ، والصغير ، هناك هجوم أخلاقي على الأمة غير الغزو الثقافي ، والاحتلال العسكري ، هناك هجوم أخلاقي ، انفتاحية ، إباحية ، خلال هذه الشاشة الصغيرة التي في أيدي الناس .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا أقول حقيقة مرة ، والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح : ثلاث شاشات يوجد بالبيت ، شاشة الحائط ، وشاشة الآيباد ، والهاتف ، إن لم تضبط بالبيت لا يوجد توبة ، من الرأس إلى الأسفل ، الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ، شاشة الحائط ، سيدي القنوات الإباحية بالآلاف ، والهاتف ، والآيباد ، إن لم تضبط هذه الشاشات بمواقع إخبارية ، أو إسلامية بالبيت لا يوجد توبة ، وهذه حقيقة مرة أنا أعتقد أنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح .
المذيع :
الآن مثلما تكلمت في أيدي الشباب ، والأطفال ، والبنات ، هذه الشاشة الصغيرة أي الداعية ماذا يفعل ؟ المربي ؟
أعظم تجارة التجارة مع الله عز وجل :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هنا يحتاج إلى توعية ، الأب الذي يأتي بعد نوم أولاده ، ويغادر قبل استيقاظهم ، هذا ليس أباً ، إذا لم تخصص وقتاً مديداً لتربية أولادك ، هؤلاء أولاد ، حجمك عند الله بحجم إيمانهم .
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾
سيدي أكبر تجارة بالأرض 15 % بالعالم كله أي كتجارة عادية ، أي شراء وبيع ، الاحتكار موضوع ثان ، شراء وبيع أعلى ربح بالعالم 15 % لا يوجد احتكار طبعاً ، والصناعة 25 % أما التجارة مع الله فمليار بالمئة ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ألحقنا بهم أعمال ذريتهم .
هذا الطفل الصغير ثماني سنوات محمد الفاتح ، أمه قالت له : أنت تفتح القسطنطينية ، وفتحها ، وفي صحيفة أمه ، ما الأم ؟ الأم كائن عظيم جداً ، الأم أمة ، فنحن إذا ربينا بناتنا إلى أن يكونوا أمهات فاضلات ، ويعتقدن أن تربية الأولاد أكبر تجارة مع الله ، والله أنا عملت بالتعليم خمسين سنة ، ما رأيت طالباً أديباً ، متفوقاً ، أنيقاً ، نظيفاً إلا وله أم عظيمة قطعاً ، ما رأيت طالباً هندامه نظيف ، لطيف ، مؤدب ، عنده حياء ، متفوق ، إلا وراء هذا الابن أم عظيمة ، أي أكبر تجارة مع الله للنساء أن يكن أمهات صالحات ، وكأن كل أعمال أبنائها في صحيفتها .
المذيع :
لذلك اختيار الزوجة أمر خطير ، اليوم يبحثون عن أناقة الزوجة أكثر ما يبحثون عن تربيتها .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله سيدي أنا لي رأي لكن رأيي أحتفظ به لنفسي ، الخطأ بالزواج خطأ مدمر ، هذا البيت إن لم يعجبك تبعه ، وهذه المركبة ما أعجبتك تبيعها ، وهذه الأرض لا يوجد فيها ماء تبيعها ، زوجتك هذه أم أولادك ، وحرفتك لا تعرف غيرها ، فالبطولة أن تحسن اختيار زوجتك وحرفتك حتى الحرفة في أحيان كثيرة فيها معصية .
المذيع :
الآن تزوج ، الذي يختار يمكن أن يبحث عن الزوجة الصالحة ، لكن تزوج كيف يصلح شأنه وشأن زوجته ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله هو الدعاء مخ العبادة ، إذا علم الله منك صدقاً في إصلاح زوجتك ألهمك الأسلوب المؤثر بها ، زوج أخطأ في اختيار زوجته ، علم منه إخلاصاً في طلبه ألهمه أساليب الدعوة ، دعوة زوجتك .
أنا أعرف شخصاً ، هو كان متفلتاً بالأساس ، قبل أن يأتي إليّ ، وزوجته أكثر تفلتاً منه ، ثم عرف الله ، والتزم الدروس ، عنده مشكلة كبيرة جداً ، زوجته بالقصير ، بالثياب المتفلتة ، هو كان هكذا يريد ، الآن لا يوجد طريقة لإقناعها بتغيير ما ترتدي فلا تقبل ، وأهلها معها ، ولا يستطيع أن يطلقها عنده أولاد منها ، أنا دللته على طريقة الإحسان ، كل يوم يأتي لها بهدية ، ستون يوماً هو ينفذ تعليماتي الدقيقة ، أي شيء استثنائي كل يوم يوجد هدية معه ، والله بعد ستين يوماً أخذها إلى أهله فإذا هي محجبة حجاباً كاملاً ، وما قال لها والله ، الإحسان له أثر كبير جداً .
المذيع :
ليس من غير الدعاء طبعاً .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هو عادي ، شخص تاجر .
المذيع :
الدعاء .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الدعاء له موضوع ثان .
المذيع :
الدعاء مع الإحسان .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
(( الدعاء هو العبادة . ))
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : الدُّعاءُ مُخُّ العبادةِ ))
الدعاء أصل العبادة ، إنسان ضعيف ، شهواني ، بخيل ، يحب ذاته ، أناني ، اتصل بأصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، اتصل بالذات الإلهية ، منحه الله الحلم ، منحه الحكمة ، منحه الرحمة ، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، الخلق الحسن سيدي شيء يؤثر ، سيدي النبي أعطاه الله مئة ألف خاصة ، ليس أنه تميز بها ، انفرد بها ، ومع كل ذلك أثنى عليه ، على خلقه العظيم .
المذيع :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 )﴾
العكس ، المرأة المؤمنة قد تبتلى بزوج فاسق ، ومثلما تفضلت بخيل ، ولئيم ، ماذا تفعل ؟
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هي لها مهمة أولى ؛ أن تحبب إليه الإيمان ، إذا خدمته خدمة عالية جداً ، ورآها تصلي ، ورآها محتشمة في ثيابها أمام الآخرين ، لما رآها ملتزمة وتصلي ، وهي زوجة صالحة جداً ، هذا أسلوب ذكي جداً ، لم تدعه إلى الإسلام ، لكنها قدمت له خدمات عالية جداً ، بطعامه ، بشرابه ، بثيابه ، بحاجاته الأساسية الزوجية ، ثم رآها على وضع آخر خلاف وضعه هذا درس بليغ جداً ، سيدي ؛ للدعوة مليون طريق ، الله واحد ، أما الطرق إليه فمليون طريق .
شخص يحب أن يخدم الأمة ، هو كان بائع أقمشة ، تأتي امرأة فقيرة جداً بالعيد يوجد معها ولدان أو ثلاثة ، قال لي : أبيعها الشيء بعشر قيمته دون أن تشعر ، هي دفعت ثمنهم كلهم ، تأخذ لكل أولادها ثياباً برقم مستحيل أن يكون مقبولاً ، خدمها ، أبقى لها كرامتها ، وعزتها ، وأولادها ألبستهم بالعيد ، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
أذكر إنساناً في بلد عربي ، أنشأ أربعة أبنية ، البناء عبارة عن عشرة طوابق ، كل طابق ست شقق ، ست شقق بعشرة طوابق يكون الناتج ستين ، ستون بأربعة 240 بيتاً ، كل طالب علم يأتي بوثيقة من عالم رباني أنه على وشك الزواج ، كم بنت زوجها ؟ هذا الغنى ، كم بيت فتحه ؟ كم أسرة أنشأها ؟ الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
العمل الصالح علة وجودنا في الأرض :
أنا عندما أوقن يقيني بوجودي أن علة وجودي في الأرض العمل الصالح ، الدليل :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
وسمّي العمل صالحاً لأنه يصلح للعرض على الله ، ومتى يصلح ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
فأنا علة وجودي ، عفواً ؛ لو سألنا شخصاً بلندن ، أرسله أبوه إلى بريطانيا لينال دكتوراه في إدارة الأعمال ، أكبر مدينة بأوروبا هي باريس ، أكبر مدينة على الإطلاق ، فيها متاحف ، فيها ملاه ، فيها دور دعارة ، فيها جامعات ، فيها حدائق ، علة وجود هذا الطالب في هذه المدينة العملاقة الدراسة ، هذا لا يمنع أن يأكل في مطعم ، أو أن يجلس في حديقة ، أو أن يقتني مجلة متعلقة باختصاصه .
فأنا حينما أعلم علة وجودي في الدنيا الحقيقية من قبل الله :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )﴾
العبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
العلة العبادة ، أنت مخلوق ضعيف ، شديد الخوف ، شديد الشهوة ، شديد الأنانية ، اتصلت بأصل الجمال ، والكمال ، والنوال ، بالله رب العالمين ، بالذات الكاملة ، بصاحب الأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، لابد من أن تشتق من هذه الذات شيئاً من صفاتها ، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، أنا لا أصدق مؤمناً يكذب ، مستحيل ! مؤمناً يحتال ، مستحيل ! والله يوجد حوالي مئة صفة تستحيل أصلاً أن تكون عند المؤمن ، المؤمن صادق ، أمين ، رحيم ، عفيف ، لطيف ، عنده حنان ، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً .
أقول لك كلمة دقيقة : المؤمن إن لم تعشقه ليس مؤمناً ، من أدبه ، من تواضعه ، من رحمته ، من حكمته ، إن لم تعشقه ليس مؤمناً .
المذيع :
الآن التحدي الموجود في العالم كله ، الكفر عنده قوة ، وعنده ثراء ، وعنده سياسة ، وعنده أشياء كثيرة يفتقدها الإنسان المؤمن ، فهذا فتنة للإنسان المؤمن ، كيف يتعامل الإنسان المؤمن مع هذه الفتنة ؟
كيفية تعامل المؤمن مع الفتن :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الجواب : أنا حينما أُدخل الموت في حساباتي تنعكس كل المعادلات ، نحن ما سمعنا من خمسين سنة كلمة الدار الآخرة بكل الإعلام ، خمسون سنة ، دنيا فقط ، طبعاً يحتاج إلى مال ، والمال يحتاج أحياناً إلى الكذب ، يحتاج إلى النفاق ، يحتاج إلى الاحتيال ، يحتاج إلى الغش ليأتيه المال ، أما الدار الآخرة فللأبد ، ما هو الأبد ؟
سيدي ؛ سؤال : الأرض تبعد عن الشمس 156 مليون كيلو متراً ، ليس كل كيلو متر صفراً ، كل ميلي صفر ، واحد بالأرض وأصفار إلى الشمس ، كل ميلي ما هو هذا الرقم ؟ هذا الرقم إذا نُسب إلى اللانهاية صفر .
المذيع :
لا يساوي شيئاً .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنت مخلوق للانهاية ، أنا أضيع جنة إلى أبد الآبدين بستين أو سبعين سنة فيها معاص وآثام ؟ أبلغ من ذلك ، ما من شيء أنت بحاجة إليه إلا له في هذا الإسلام قناةً نظيفة طاهرة ، ما من شيء - أعني ما أقول- قطعاً أنت بحاجة إليه إلا له قناة نظيفة طاهرة ، بحاجة إلى امرأة ؟ يوجد زواج ، أقسم لك بالله ولا أبالغ سعادة الزوج المؤمن بزوجته المؤمنة والله مليون ضعف عن العلاقة التي لا ترضي الله ، مليون ضعف ، أنت مع الله ، ممكن إنسان يكون له لقاء زوجي ، ويصلي قيام الليل ، ويبكي بالصلاة ، هو وفق منهج الله ، الله ما منعك من شيء ، كل الحاجات الأساسية بالدين محققة ، تتزوج يوجد أولاد ، أحفاد ، أقارب ، والدان ؛ الأب والأم لهما حق ، والزوجة لها حق ، والعمل له حق ، فأنت تنسق في الحاجات بالتكاليف ، والواجبات ، والحقوق ، أنت تمشي بنور .
النقطة دقيقة قليلاً ؛ نحن لو فرضنا غرفة لا يوجد فيها نوافذ إطلاقاً ، وأطفأنا الكهرباء ، ففي هذه الغرفة الأعمى كالبصير ، شخص بصره ستة من ستة ، هذا أعلى رقم ، والثاني لا يرى ، عندما ألغينا النور نفس الشيء .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾
كما أن لهذه العين شمساً أو كهرباء يتوسط بين العين وبين المرئيات ، كذلك العقل يحتاج إلى نور إلهي يتوسط بينه وبين الحقائق ( اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ) للدنيا والآخرة ( وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) فالمؤمن يمشي بنور الله .
المذيع :
ماذا تقول لهؤلاء المفتونين بالحضارات الأخرى الحضارات المبنية على المدنية ؟
من لم يطلب العلم فطريقه مسدود :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
سيدي ؛ إذا الإنسان لم يطلب العلم فالطريق مسدود ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، الذي تتعرف إلى الله به ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، إلا أن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً ، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً .
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ 46 ﴾
جنة في الدنيا هي جنة القرب ، وجنة في الآخرة هي جنة الخلد .
المذيع :
الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى ، الآن البيوت فيها كل أنواع الثراء ، ومشغولة ، الناس مشغولون وساعة العلم مفقودة ، هل يفرغ الإنسان ساعة للتعلم ، يقرأ كتاباً ؟ يستمع إلى درس محاضرة أو أي شيء ؟
التفكر بالموت جزء من الدين :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
أنا اجتهادي المتواضع ، جزء من الدين أن تتفكر في الموت ، الموت ينهي كل شيء ، ينهي البيت الفخم ، ينهي الزوجة ، ينهي العمل ، ثلاث مركبات ، بيت بالمصيف ، بيت على البحر ، بيت بالعاصمة ، دخل فلكي ، مات انتهى كل شيء .
عفواً ! لماذا لم تأتِ كلمة إيمان في القرآن إلا معها الدار الآخرة ؟ هذا لفت نظر لنا ، إذا بقيت في الدنيا المال كل شيء ، والقوة كل شيء ، والمنصب كل شيء ، والثروات كل شيء ، إذا أدخلت الآخرة في حساباتنا أقسم لك بالله تنعكس كل مقاييسنا ، العمل الصالح كل شيء ، والاستقامة كل شيء ، وبر الوالدين كل شيء ، عندما لا يكون هناك نور الإنسان أعمى ، العمل الحقيقي عمل القلب ، لا يرى إلا الدنيا ، لا يرى إلا المال الآن سيدي .
أقول لك كلمة دقيقة ومؤلمة : العالم كله ؛ المرأة ، والجنس ، والمال ، بالقارات الخمس الجنس ، والمال ، وكل شيء متعلق بالجنس والمال هو رائج ، بالإعلام ، بالفضائيات لا يوجد كلمة آخرة إطلاقاً .
المذيع :
للأسف ، في الدقائق الأخيرة كيف يستطيع الإنسان أن يكون داعية ناجحاً ؟
الدكتور محمد راتب النابلسي :
والله أنا أقول أهم كلمة : أنت حينما تطبق هذا الدين تطبيقاً كما أراد الله تجد عندك رغبة أن تنشر هذا الحق دون أن تشعر ، قد تكون داعية وأنت في مكانك التجاري ، وأنت صادق ، أمين ، بضاعتك جيدة ، لا يوجد كذب أبداً ، لا يوجد تدليس ، أنت محام ، يا بني هذه الدعوة لا ترضي الله لا أخذها ، قال لي محام : والله دفعوا لي ثلاثة ملايين ، وأنا قادر أن أقيم دعوى لصالحهم ، لكن لا أفعلها ، أنا عندما أُدخل الله في حسابي ، إذا لم تنعكس كل مقاييسك 180 درجة أنا مسؤول ، لأنك أدخلت الله بالحساب ، الله يحاسبني ، يوجد موت ، يوجد قبر ، يوجد سؤال وجواب ، يوجد جهنم إلى الأبد ، عندما أدخل الآخرة بحسابي ، أنت افتح القرآن الإيمان بالله واليوم الآخر ، لم ترد الإيمان بالله إلا مع اليوم الآخر ، لماذا هذا الاقتران ؟ كي تفكر باليوم الآخر ، إذا الآخرة لم تدخل في حساباتنا كل مقاييسنا غلط .
المذيع :
الشهية للعلم ، لطلب العلم تكاد تكون مفقودة عند الناس ، كيف يستطيع الإنسان أن يكون عنده رغبة للتفرغ ؟
على الدعاة أن يرغبوا الناس بطلب العلم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
هذا خطأ من الدعاة ، يجب على الدعاة أن يرغبوا الناس بطلب العلم ، الآن يعملون دعايات للبضاعة ، العلم ينقلك من الضياع إلى الوجود ، من الخطأ إلى الصواب ، من الشقاء إلى السعادة ، أنا لا أصدق بالأرض إنساناً يسعد في بعده عن الله ، لا يمكن ، يوجد لذائذ ، كلام دقيق ، اللذة غير السعادة ، اللذة تحتاج إلى وقت ، وإلى مال ، وإلى وقت ، وقت ، ومال ، وصحة ، في البداية يوجد صحة ووقت ومال ، بالوسط يوجد مال وصحة ولا يوجد وقت ، بالنهاية يوجد مال ووقت ، لكن لا يوجد صحة ، هذه الدنيا ، ما سمح الله للدنيا أن تمدك بسعادة ، اللذة ، اللذة آنية ، أما السعادة المستمرة المتنامية فهي بالآخرة .
المذيع :
الآن ولو نثقل عليك بدقيقة أخرى ؛ أصحاب العقول والمعدلات العالية في الثانوية العامة يذهبون لدراسات معينة ، وقلة منهم من يذهب للدراسة الشرعية ، وبعض الكليات الشرعية تكاد تغلق من قلة الوافدين إليها .
كل الاختصاصات تنتهي عند الموت إلا الإيمان بالله يستمر بعد الموت :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
جوابي دقيق سيدي : الاختصاصات كلها على علو مقامها ؛ فيزياء نووية ، فيزياء ، كيمياء ، رياضيات ، طب ، هندسة ، بيولوجيا ، كل هذه الاختصاصات تنتهي عند الموت ، إلا الإيمان بالله يستمر بعد الموت .
المذيع :
من يريد الله به خيراً .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
عفواً يوجد خط بياني ، ولد ، الآن تزوج ، أو دخل ابتدائي ، إعدادي ، ثانوي ، جامعي ، تخرج ، ثم تزوج ، اشترى بيتاً ، دخله كبير ، أخذ سيارة ، أخذ بيتاً على البحر ، وبيتاً بالجبل ، طالع ، طالع ، طالع ، وصل إلى هنا ، جاء أبو العز ، من أبو العز ؟ ملك الموت ، قال له : تفضل ، صفر ، لا يوجد بيت ، ولا سيارة ، ولا زوجة ، ولا مصيف ، ولا شيء إطلاقاً ، من دنيا عريضة مذهلة إلى قبر ، إذا ما دخلت الآخرة بحسابك اليومي الساعي لن تستقيم على أمر الله ، يوجد موت ، من أين لك هذا ؟
المذيع :
نقول طبعاً نحب أن نستزيد منك ، والحديث الطيب أغلى من كل شيء ، لكن الوقت يحاصرنا ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في كلامك الأثر ، وأن يتقبل منك دعوتك ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج عن هذه الأمة ، ودائماً في حلقاتنا ندعو الله سبحانه وتعالى في جرحنا العميق للأسرى المسجونين أن يفرج الله عنهم ، وأن يطلق سراحهم ، وأن يردهم إلى أهلهم سالمين غانمين ، وندعو الله سبحانه وتعالى للمسجد الأقصى المبارك أن يرفع الله عنه الحصار ، وأن يمكننا وكل المسلمين بالصلاة فيه آمنين غير خائفين صلاةً مقبولة يا رب العالمين ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر الحج والعمرة لكل أمة الإسلام ، وأن يتقبل منا ، وأن يجعلها مبرورةً يا رب العالمين .
ونهاية هذا اللقاء لا يسعنا إلا أن نشكر سماحة الشيخ محمد راتب النابلسي جزاك الله خيراً على ما أعطيتنا من وقتك .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
وأنا أشكر لكم حكمتكم في الأسئلة ، ورحابة صدركم إن شاء الله .
المذيع :
جزاكم الله خيراً ، طبعاً تحية من كل أهل فلسطين لسماحتك ، ونسأل الله أن نلتقي بك على بلاط المسجد الأقصى المبارك .
الدكتور محمد راتب النابلسي :
إن شاء الله ، المؤمن أمله كبير من الله .
المذيع :
نستودعكم الله على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته