- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته، وإرغـاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسـلم رسول اللـه سـيد الخلق والبشر، مـا اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
بطولة المؤمن أن يكتشف حكمة الله في كلّ شيء :
أيها الأخوة الكرام: للخطبة مقدمة لا يعرف مدى ارتباطها بموضوع الخطبة إلا بعد نهاية الخطبة، فرنسا قبل خمسة وثلاثين عاماً أقامت في صحراء الجزائر تفجيراً نووياً، وهذا التفجير النووي هو لهيب حارق وضغط ماحق، لا يبقي شيئاً لا نباتاً ولا حيواناً ولا إنساناً، فجرت القنبلة قبل خمسة وثلاثين عاماً، وشكّل هذا الانفجار حفرة كبيرة جداً، وشكّل كرة من النار تعلو لمسافات شاسعة، وبعد نهاية الانفجار وسكون الأرض وجدوا عقرباً يمشي على أرض الانفجار، وقد عكف علماء الحيوان ربع قرن على دراسة هذا العقرب، فوجدوا أن العقرب يستطيع أن يبقى بلا طعام ولا شراب ثلاث سنوات متوالية، ووجدوا أن العقرب يستطيع أن يكتم أنفاسه تحت الماء لمدة يومين كاملين بلا تنفس! ووجدوا أنه إذا وضع في ثلاجة بدرجة عشرة تحت الصفر ثم نقل لرمل الصحراء المحرقة في درجة ستين فوق الصفر يتكيف مع هذا التبدل المفاجئ، ولا يتأثر إطلاقاً، ثم وضع في حمام من الجراثيم الفظيعة فلم يتأثر بها إطلاقاً، ثم عرضوه لأشعة نووية تزيد ثلاثمئة ضعف عما يتحمله الإنسان فتحملها، شرحوه ليس فيه دم بل فيه مصل أصفر ! ماذا يعلمنا هذا؟
يعلمنا أيها الأخوة أن الله وحده ذات كاملة، واجبة الوجود، وما سوى الله ممكن الوجود، ومعنى ممكن الوجود يمكن أن يوجد أو ألا يوجد، وإذا وجد يمكن أن يوجد على ما هو عليه الآن وعلى غير ما هو عليه، أليس الله قادراً على أن يخلق إنساناً لا يمرض؟ لا يمرض أبداً، لو أن كل عضو من أعضائه وكل جهاز من أجهزته أعطي احتياطاً يزيد ألف ضعف عن استعماله ألغي المرض إطلاقاً من حياة الإنسان، ولكن لماذا المرض؟ محور هذه الخطبة المؤمن يكتشف الإيجابيات في السلبيات، يكتشف النعم الباطنة فيما يسميها الناس مصائب، يكتشف حكمة الله ورحمته ثم يبدو للناس انتقاماً وبطشاً، يكتشف ما تنتهي إليه هذه المصائب من هداية وقرب وجنة عرضها السموات والأرض.
أيها الأخوة الكرام: لعل من بطولة المؤمن أن يكتشف حكمة الله عز وجل، وأن يكتشف في كل شيء يزعجه الجوانب الإيجابية فيه، أن يكتشف فيما يسميه الناس مصائب، الوجه الخيّر في المصيبة.
عدم وجود الشّر المطلق في الكون :
الحقيقة الأولى أيها الأخوة: الشر المطلق لا وجود له في الكون، بل الشر المطلق يتناقض مع وجود الله، فإما أن تؤمن بإله يوظف شر البشر للخير المطلق، وإما أن تؤمن بعقيدة فيها شر للشر وينتفي معها وجود الخالق، الشر المطلق لا وجود له في الكون، الشر الذي ترونه وما أكثره في هذه الأيام:
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾
ومع ذلك هذا الشر الذي أصاب المسلمين، وهم في محنة ما بعدها محنة، وفي وضع حرج ما بعده وضع، وفي ضعف ما بعده ضعف، وفي استكانة ما بعدها استكانة، لعل الله سبحانه وتعالى يخلق من الضعف قوة، ومن الضيق متسعاً، ومن الشدة رخاءً، ومن الشقاء سعادة، ومن المصائب نعيم الدنيا والآخرة.
أيها الأخوة الكرام: سألني أحدكم قال لي: في هذا العالم الإسلامي الذي يزيد تعداده عن مليار وثلاثمئة مليون ألا يوجد إنسان من هؤلاء مستجاب الدعوة؟ يدعو على هؤلاء الذين يتفننون في إذلال المسلمين؟ ويتفننون في قهرهم وفي استلاب ثرواتهم؟ بماذا أجيبه؟
في عرفات في أيام الحج، في أيام رمضان، في هذه الأيام الفضلى، ألا يوجد في العالم الإسلامي كله مؤمن واحد مستجاب الدعوة يدعو على هؤلاء الفجّار الذين ينكّلون بالمسلمين؟ بماذا أجيبه؟ قلت له: لو أن مريضاً تجرى له عملية جراحية دقيقة جداً، والذي يجريها له طبيب من أعلى مستوى، والبطن مفتوح، فجاء ابنه يصرخ ويترجى الطبيب أن ينهي العملية حرمة بأبيه هل يستجيب له الطبيب؟ حتى تنتهي العملية! نحن في عملية إن شاء الله تعود علينا بالخير، نحن في العناية المشددة، ينبغي أن تنتهي هذه الأحداث كي نتعاون على البر والتقوى، كي يحب بعضنا بعضاً، كي نرقى إلى الله عز وجل، كي نؤمن أن هؤلاء الطرف الآخر لا يحبوننا، وقد أخبرنا الله عز وجل قبل ألف وأربعمئة عام فلم نصغِ إليه.
﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ﴾
كي نؤمن أن المعركة بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية.
اكتشاف الإيجابيات في السلبيات :
أيها الأخوة الكرام: محور هذه الخطبة: يجب أن تكتشف الإيجابيات في السلبيات، اخترت المرض وقس عليه كل شيء! قس عليه الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي، قس عليه كل شيء يؤلم الإنسان، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
لأن الله عز وجل يقول:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
لأن الله عز وجل يؤكد فيقول:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾
لم يقل: صالحون! إن لم تكن مصلحاً لن تنجو من عذاب الله، إن كنت صالحاً ولم تعبأ بالمسلمين ولا بمصائب المسلمين ولم تحمل همّ المسلمين ولم تسهم في تخفيف الألم عنهم فالله سبحانه وتعالى سوف يؤدبك، قال الله لملائكته: اذهبوا إلى هذه القرية فأهلكوها، قالوا: يا رب إن فيها صالحاً؟ قال: به فابدؤوا، قالوا: لمَ يا رب؟ قال: لأن وجهه لا يتمعر إذا رأى منكراً !
أيها الأخوة الكرام: نحن في رحمة الله والدليل:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾
دققوا الآن:
﴿ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
تقتضي رحمة الله أن يسوق بأسه وعلاجه وشدته لهؤلاء الذين شردوا عنه، وعرفوه وعصوه، ومعهم وحي الله، وهم على منهج أعداء الله، لهؤلاء الذين ينتمون إلى سيد الخلق وهم يبعدون الناس عن هذا المنهج القويم .
أيها الأخوة الكرام: على المؤمن أن يصبر:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾
وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة.
((أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إَنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ))
الأضداد من أجل معرفة النعم :
أيها الأخوة الكرام: الله عز وجل خلق الأضداد، خلق الشيء وخلق ضده، يوم كان العالم الثالث يتمتع برخاء لأن في الأرض قوتين متكافئتين متنافستين وحرب باردة بينهما، كانت هذه نعمة لا تعدلها نعمة على العالم الثالث، لم ننتبه لهذه النعمة فلما أصبح العالم تحت قطب واحد وبأمر إنسان واحد.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
فيما يبدو للجهلاء ما كان الله ليسلم عباده لمخلوق.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
هذه حقيقة التوحيد، كيف يأمرك أن تعبده وحده وقد أسلمك إلى غيره؟ أتقبل من أب من عامة الآباء أن يرى ابنه يقتل إخوته ويضربهم وينكّل بهم على مرأى ومسمع الأب، والأب لا يتحرك؟ لا يمكن أن نقبل أن المسلمين أسلموا لجهة قوية تنكل بهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى استوعبت خطته خطة هؤلاء، فالأضداد من أجل معرفة النعم، ما عرفنا نعمة توازن القوى إلا الآن، كان شيئاً عادياً، أما الآن فقدرنا هذه النعمة التي كان ينعم بها العالم الثالث، لولا المرض ما عرفت الصحة، لولا الليل ما عرف النهار، لولا النهار ما عرف الليل، لولا الحر ما عرف البرد.
المشقة في الإسلام ليست مطلوبة لذاتها :
أيها الأخوة: هناك حقائق لابد من توضيحها، كل بلاء تقدر على دفعه ينبغي أن تدفعه، ولست مأجوراً بالصبر عليه، لأن المشقة في الإسلام وفي منهج الواحد الديان ليست مطلوبة لذاتها، الشدة ليست مطلوبة لذاتها. مثلاً: لو أن إنساناً استيقظ لصلاة الفجر وفي مكان الوضوء صنبور ماء ساخن معتدل، وصنبور ماء بارد لا يطاق، فإذا توهم هذا المصلي أن الثواب على قدر المشقة، وتوضأ بالماء البارد لا أجر له لأن هناك ماء ساخناً.فيا أيها الأخوة: الشدة ليست مطلوبة لذاتها، وأي بلاء مكنك الله من دفعه ينبغي أن تدفعه، ولا تؤجر على صبرك عليه إذا كان بالإمكان أن تدفعه، لكن عظيم الأجر حينما تصبر على بلاء لا يدفع، ولحكمة بالغة أرادها الله عز وجل أن الطغيان أحياناً يبلغ درجة لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يدفعه، لا يستطيع الأفراد متفرقين ولا مجتمعين أن يدفعوه وهذا ما حصل الآن، وقد عبر القرآن عن هذه الحالة:
﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾
ولعل هذه الحالة الميؤوسة من حل أرضي تدفعنا إلى الله، لعل هذه الحالة التي يشعر الناس أنه لا سبيل لدرئها إلا عن طريق السماء ليس لها حل أرضي، وكأن الله إن رأى من عباده تعلقاً بالأسباب على نوع من الشرك يغلق هذه الأسباب كلها، ويبقى لهم سبب واحد وهو السماء.
أيها الأخوة الكرام: هناك شيء لو حصل لكان نقمة! مثلاً: لو عرف الإنسان يوم أجله أو لو عرف كيد الناس له، لكن الله سبحانه وتعالى يغفله عن هذا كي يعمل، ويسارع لطاعة الله عز وجل، لذلك: علماء العقيدة يرون أن بعض أسماء الله الحسنى ينبغي أن تذكر مَثنى مثنى، فلا ينبغي أن تقول: الله ضار، وهو ضار، ينبغي أن تقول: الضار النافع، لأنه يضر لينفع، لا تقل: المانع، قل: المعطي المانع، يمنع ليعطي، لا تقل: الخافض، هو الخافض الرافع، يخفض ليرفع، لا تقل المذل، المعز المذل يذل ليعز، فهذه الأسماء الحسنى ينبغي أن تلفظها مَثنى مثنى، لأنه يضر لينفع، ويقدر ليبسط، ويخفض ليرفع، ويذل ليعز، ويمنع ليعطي.
ورد في بعض خطب النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))
فوائد المرض :
1 ـ المرض يدفع الإنسان إلى التوبة والرحمة والتعاون والبذل :
أيها الأخوة الكرام: اخترت المرض وقس عليه كل مصيبة، قس عليه الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم الإسلامي، يقول الله عز وجل:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
ورد في السيرة أن السيدة فاطمة اشتكت الحمى فسألها النبي عليه الصلاة والسلام: مالك يا فاطمة؟ قالت: حمى لعنها الله، قال: لا تلعنيها، فو الذي نفس محمد بيده لا تدع المؤمن وعليه من ذنب.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ))
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ))
وقال بعض الصالحين: " لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس"، المصائب دوافع إلى باب العبودية، وإلى التوبة والرحمة والتعاون والبذل.
هذه واحدة من فوائد المرض !
2 ـ يُعرف بقيمة الصحة :
أيها الأخوة الكرام: إنما يعقب المرض من صحة يعرف المرء قيمتها ما كان يعرف قيمتها قبل المرض، فالمرض تعريف بنعمة الصحة.
أيها الأخوة الكرام: المرض تعريف بنعمة الصحة وبضدها تتميز الأشياء. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ))
والنبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الترمذي عن جابر مرفوعاً يقول:
((يود الناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء))
أيها الأخوة الكرام: قبل يومين كنت في ندوة إعلامية فقلت عن الغرب إن عقله من ذهب وقلبه من حديد، فقال المحاور: وما يمنع أن يكون عقل الإنسان من ذهب وقلبه من حديد؟ فكان جوابي: لو أن للإنسان عقلاً من ذهب فأصبح به قوياً واستغل هذه القوة لمصلحته فبنى مجده على أنقاض البشر، وبنى حياته على موتهم، وبنى سعادته على شقائهم، وبنى
أمنه على خوفهم، وبنى حياته على موتهم، وحقق حياة مادية لا يحلم بها إنسان
إن لم يكن هناك آخرة فهو أذكى الناس، فإن كان هناك آخرة أبدية لا نهاية لها فهو أغبى الخلق قاطبة، هذا الذي لم يدخل اليوم الآخر في حساباته أغبى إنسان على وجه الأرض، وأنا أقول مرة ثانية: لو لم يكن هناك آخرة، لو أن الدنيا لا آخرة بعدها، فالذي يفعله الطغاة في الأرض عين العقل، وهم أذكى خلق الله قاطبة، ولكن لأن هناك إلهاً سوف يحاسبهم عن الكلمة، فهم هذه المسؤولية سيدنا عمر فقال: " والله لو تعثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها، لم لم تصلح لها الطريق يا عمر؟" هكذا فهمهم للمسؤولية!!
أيها الأخوة الكرام: حديث قدسي صحيح رواه الإمام مسلم من فقرات هذا الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي))
إذا أخذ الله بعض صحة الإنسان عوضه عنها أضعافاً مضاعفة من القرب الإلهي:
((...أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَه ...))
3 ـ يكسب العبد ثواب الصبر :
أيها الأخوة: من فوائد المرض أنه يكسب العبد ثواب الصبر.
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
كل عمل صالح له أجر محدد، إلا الصبر فله أجر غير محدد، يعبر عنه بلغة العصر شيك مفتوح، موقع ضع الرقم الذي تريده.
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
وهذا المرض يكشف حقيقة الإنسان، هذا المعنى:
سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد
***
المصائب محك للإنسان إما يصبر أو لا يصبر، إما يكفر وإما يشكر، إما يرضى وإما يسخط، وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه:" الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين"، إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ومن جزع فله الجزع، وإذا أحب الله عبداً أكثر غمّه، وإذا أبغض عبداً وسّع عليه دنياه وخصوصاً إذا ضيع دينه:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
إذا صبر العبد إيماناً وثباتاً كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له الرضا كتب في ديوان الراضين، وإن أحدث له الحمد والشكر كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيراً له.
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ))
4 ـ يلجئ الإنسان إلى التوحيد :
أيها الأخوة الكرام: من أدعية المؤمنين: "اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر، ومن لم ينعم الله عليه بنعمة الصبر والشكر فهو بحال".
أيها الأخوة: المرض أحياناً يلجئ الإنسان إلى التوحيد:
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ﴾
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾
أراد الله أن يسمع صوتك تدعوه، ويلجئك إليه، وتتوب من ذنبك، وهذه من نعم الله الكبرى.
5 ـ يلجئ الإنسان إلى عدم الشكوى إلا لله :
أيها الأخوة: المؤمنون إذا نزل بهم المرض سألوا الله وحده، وإذا استعانوا استَعانوا بالله وحده، وإذا استَغاثوا استغاثوا بالله وحده، سيدنا أيوب بماذا أثنى الله عليه؟ قال:
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾
لم يشتكِ لأحد، قال:
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
اشتكى إلى الله وحده، وطمع برحمة الله، فقال:
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾
ورد في بعض الآثار: أن البلاء يجمع بين العبد وربه، وأن العافية تجمع بين العبد والدنيا، إذا جاء البلاء اجتمعت مع الله، فإذا جاءت الدنيا مقبلة لعلك تنغمس فيها.
أيها الأخوة الكرام: كم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد وفراره إلى الله وبعده عن الغي؟ كم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته؟
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾
كم من إنسان كان المرض سبب توبته؟ سبب إقباله ومقربه ونجاته؟
أعود وأكرر أنه ينبغي أن تكشف الإيجابيات في السلبيات، اخترت المرض وقس عليه كل شيء.
أقول لكم أيها الأخوة: إذا وصل أحدنا إلى شفير القبر وقد غفر له فقد حقق كبر إنجاز يناله إنسان ! كيف أرحمه أكثر مما أنا به أرحمه؟
6 ـ يكسر الإنسان :
أيها الأخوة: ومن فوائد المرض أنه يكسر الإنسان، وقد قال الله تعالى في بعض أحاديثه القدسية: " أنا مع المنكسرة قلوبهم"، لأن الكبر حجاب بينك وبين الله، قد يتكبر الإنسان وهو لا يدري، لا مشكلة عنده، أكبر مشكلته أنه لا يشكو من شيء، عدم الشكوى من شيء تجعله يتوهم أنه مستغن عن الله.
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
فيأتي المرض ليعرفك بعبوديتك، وليذهب عنك الكبر، فخلل بسيط في أي جهاز من أجهزة الجسم يجعل الحياة جحيماً لا تطاق، قال بعض الصالحين وقد يأسه الأطباء من الشفاء: أجمع كل الأطباء على أنه مرضه لا شفاء له، فتوجه إلى الله وقال: "يا رب ما بقي لهذا المرض إلا أنت"، لو قلتها مبكراً لشفاك الله، أما حينما يتعلق الإنسان بالأسباب ويعلق عليها الآمال ويثق بها ويدعو الله فاتراً أو دعاء شكلياً فعلاجه أن تغلّق أمامه كل الأسباب، حتى يبقى أمامه سبب واحد هو الله عز وجل. لذلك معنى قوله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾
متى يتجه الإنسان إلى الله حقيقة بحرارة ما بعدها حرارة وبإخلاص ما بعده إخلاص وبتشبث ما بعده تشبث ؟ إذا يئس من حل أرضي !
أيها الأخوة: ما يعانيه المسلمون اليوم في شتى بقاعهم ليس له من دون الله كاشف، بلغ الطغيان درجة أن حلاً أرضياً لا يجده الناس أبداً، لابد من حل سماوي، والحل السماوي يحتاج لعودة إلى الله ولتوبة نصوح.
7 ـ المرض علامة على إرادة الله بصاحبه الخير :
من فوائد المرض أيها الأخوة: أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير، من يرد الله به خيراً يصب منه، هذا الإنسان عنده إمكانية في الشفاء، دقق - لو أن مريضاً معه مرض خبيث في درجته المتناهية لو سأل طبيباً ماذا آكل ؟ يقول له: كُل أي شيء، لا يقيده بشيء لأنه ميؤوس من شفائه، أما لو أصيب الإنسان بالتهاب في المعدة حاد يعطيه الطبيب عشرات الموانع ويشدد عليه، فما دمنا في بلاء فنحن في العناية المشددة، ونحن أفضل حال ألف مرة ممن أطلقت لهم الدنيا وقد ترك حسابهم للآخرة.
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
وكفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، وكفاك انتصاراً على عدوك أنك في طاعة الله.
أيها الأخوة: هناك نقطة دقيقة جدا: أنك إذا كنت صالحاً في الصحة وجاءك المرض كتبت كل عباداتك وكل أعمالك الصالحة وأنت مريض كما لو كنت صحيحاً ! إن كانت لك أعمال صالحة في وقت الصحة أو كان لك عبادات كتبت لك في أيام المرض، لأنك كنت قبل المرض صالحاً.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَابُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ إِلَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ فَقَالَ اكْتُبُوا لِعَبْدِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا كَانَ يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ مَا كَانَ فِي وِثَاقِي ))
إن كان للعبد منزلة في الجنة لا يبلغها بعمله ابتلاه الله بجسده، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ السَّلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ اتَّفَقَا حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ))
قال بعض الصالحين: "اللهم إن كنت بلغت أحداً من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية"، اعمل أعمالاً صالحة بدل أن يأتي المصاب وتصبر عليه، أنت بين خيارين إما أن تنهض لخدمة الخلق فتبلغ مرتبتك عند الله، وإما أن تكسل فتضعف فتأتي المصائب فإذا صبرت عليها بلغت المنزلة التي لك عند الله.
على الإنسان أن يسأل الله العافية :
أيها الأخوة الكرام: هذا الموضوع طويل وأكتفي بهذا القدر من المرض، وأسأل الله لي ولكم العافية.
أيها الأخوة: كتعقيب شرعي دقيق جداً لا يجوز لو قرأت عن فوائد المرض الشيء الكثير أن تسأل الله المرض، سلوا الله العافية، وسيد الخلق وحبيب الحق وهو في الطائف قال: " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي"، سلوا الله العافية هذا هو الموقف الشرعي، أما إذا ابتلاه الله بالمرض فينبغي أن يعلم أن هذا المرض للمؤمن نعمة باطنة لقوله تعالى:
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.