الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أحاديث شريفة وردت عن فضل هذه السورة والسورة التي تليها:
أيها الإخوة الأكارم، سورة اليوم هي سورةُ الفلق، قال تعالى:
﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام قال لبعض أصحابه:
(( أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. ))
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( اقْرَأْ يَا جَابِرُ، قُلْتُ: وَمَاذَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ اقْرَأْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقَرَأْتُهُمَا فَقَالَ اقْرَأْ بِهِمَا وَلَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا. ))
[ النسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ]
أحاديث كثيرة وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام تتحدَّث عن فضل هذه السورة والسورة التي تليها، أمَّا كلمة: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾ فالفعل (قُلْ) تحَدَّثْنا عنها في الدَّرس الماضي؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام مأمورٌ أن يقول نصَّ هذه الآية، وأن القرآن الكريم من عند الله حرفاً بحرف، وحركة بحركة، ونصّاً بنصٍّ، وترْتيباً بِتَرْتيب، وكُلُّ شيء في القرآن الكريم إنما هو مُنْزَل من عند الله بِنَصِّه.
كلمة (الْفَلَقِ) ذهب العلماء في تفْسيرها مذاهب شتى:
قال تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾ في هذه الآية مركز ثِقَل، وهي كلمة (الْفَلَقِ) ، فقد ذهب العلماء في تفْسيرها مذاهب شتى، ولكنَّ أرجح هذه التأويلات والتفسيرات أنَّ (الْفَلَقِ) هو الكون كُلُّه، كان الله ولم يكن معه شيء فخلق الكَوْن، أي ظهر الكون، فالكون هو الفلق، والسماء تنشَقُّ عن المطر، والمطر هو الفلق، والأرض تنشَقُّ عن النبات، والنبات هو الفلق، والمرأةُ تلِدُ طِفْلاً، والطفل هو الفلق، والشجرة تُنْبِتُ بُرْعُماً، والبُرْعم هو الفلق، والبُرْعم يُنْبــِتُ زَهْرَةً، والزهرة هي الفلق، والزهرة تنْعَقِدُ ثَمَرَةً والثمرة هي الفلق، وأُنثى الحيوان تلِدُ ومَوْلودها فلق، كُلُّ شيءٍ خرج إلى حَيِّز الوُجود، كان غائباً عنا فَظَهَر، اِنْشَقَّ فَظَهَر هو الفلق، لكنَّ بعض المُفَسِّرين قالوا: سورة الفلق اِسْتِعاذة بالله سبحانه وتعالى من شَرِّ ما خلق، وسورة الناس اِسْتِعاذة بالله سبحانه وتعالى من شرِّ الوسواس الخناس.
﴿ قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ (1)مَلِكِ ٱلنَّاسِ (2)إِلَٰهِ ٱلنَّاسِ (3)مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ (4)﴾
الشيء الذي لا قِبَل لك بدفعه استعذ منه بسورة الفلق، والشيء الذي تُخْطِئ فيه فَيُصيبُك ثمن خطئِك اسْتَعِذ منه بِسورة الناس، فالأشْياء التي تُصيب الإنسان، والتي لا يستطيعُ الإنسانُ دَفْعَها كالتي تُسَمَّى قضاءً وقَدَراً اِسْتَعذ منها بِسورة الفلق، والأشياء التي هي من أعْمال الإنسان، ومن أخْطاء الإنسان، والتي تُسَبِّبُ متاعب للإنسان فَلْيَسْتَعِذ منها بِسُورة الناس، على كُلِّ معنى ﴿أَعُوذُ﴾ أَلْتَجئُ وأحْتَمي وأسْتَغيثُ وأسْتَنْجِد وأستجير، كُلُّ هذه المعاني مُسْتفادة من كلمة ﴿أَعُوذُ﴾ نقول: عاذَ الطِّفْلُ بِأُمِّه، أيْ اِلْتَجأ إليها، واحْتَمَى بها، وأوى إليها، ورجا عندها الأمن، اِحتمى بها من أعْدائِهِ ومن وَحْشٍ مُخيف، فَسُبْحانه وتعالى له مخْلوقاتٌ شِرِّيرة ومخْلوقات من نوع الجَماد، الصواعِق والبراكين والزلازل والأمراض، ومخاطر من نوع الإنسان، إنْسانٌ شِرِّير يُحِبُّ الأذى، ويُحِبُّ أنْ يوقِعَ بك ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾
أطِعْ أمْرَنا نرْفَع لِأَجْلك حُجْبنا فإنا منَحنا بِالرِّضى من أحَبَّنا
ولُذ بِحِمــــانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــا لِنَحْميك ممِّا فيه أشْرار خَلْقِنا
الله سبحانه وتعالى أراد بِكَلِمة الفلق الكَوْنَ كُلَّهُ:
﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾ معنى أعوذ أي أحْتمي، ألْتَجِئ، أستجير، أستنجد، أطلب الأمن والسلام، والفلق -كما قلت قبل قليل- الكون كُلُّه، وكُلُّ شيءٍ ظهر إلى حيّز الوجود هو فلق، السماء تنشق عن الأمطار، والأرض تنشق عن النبات، والمرأة تلد، والبرعم يُنبِت الزهرة، والزهرة تُنبت الثمرة، وكل شيء تقع عليه عيْنُك إنما ينطوي تحت كلمة الفلق.
قال بعضهم: الفلق هو الصبح، لكنَّ الفلق أعمّ من الصبح، في الاسْتِعاذة هناك المُسْتَعيذ، والمُسْتعاذ به، والمُسْتَعاذ منه، فالمُؤمن مأمور أنْ يستْعيذ، والمؤمن مُتواضِعٌ لله عز وجل، وليس في قلبه كِبَر، يخاف عذاب الله وبطْشَهُ، يسْتعيذ بالله فهُو مُسْتعيذ، وأخْطار الحياة من شَرِّ ما خلق يُسْتعاذ منها، والله سبحانه وتعالى يُسْتعاذ به، فلما يسْتَعيذ الإنسان بِغَير الله فقد أشْرك، إنْ اسْتعاذ بِقُوَّتِه، أو استعاذ بِقَرابته فقد أشْرك، إنْ احتمى بِماله، وقال: المال يصنع كُلَّ شيء فقد أشْرك: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾ طبعاً الفلق على وَزْن فَعَل، كَقَوْلِك قَصَص، بِمَعْنى مَفْعول، أي مقْصوص، فَكُلُّ شيء أظْهره الله تعالى على حَيِّز الوُجود هو الفلق، فكأنَّ سبحانه وتعالى أراد بِكَلِمة الفلق الكَوْنَ كُلَّهُ، كُلُّ ما وقَعَتْ عليه عَيْنُك وما لم تقع، وكُلُّ ما رأيته وما لم ترهُ، وكُلَّ ما أحْسَسْتَ به وما لم تُحِسّ به إنما ينْطوي تحت كلمة الفلق، فَخالقُ الفلق ربُّ الفلق، هو وحْدَهُ أهْلٌ أنْ تسْتعيذ به لأنَّهُ القوِيّ المُبْدع الخالق، وهذا الذي تخاف منه هو بِيَد الله الذي بِيَده ملكوت كلِّ شيء، قال تعالى:
﴿ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ فَٱعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ وَكِيلٌ (102)﴾
الله سبحانه وتعالى ربُّ الفلق وهو وحده أهل أنْ تسْتعيذ به:
قال تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
قال تعالى:
﴿ وَٱللَّهُ يَقْضِى بِٱلْحَقِّ ۖ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(20)﴾
قال تعالى:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55)﴾
قال تعالى:
﴿ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ(56)﴾
فالله سبحانه وتعالى ربُّ الفلق وهو وحده أهل أنْ تسْتعيذ به، وإذا اسْتَعَذْتَ بِمَخْلوقٍ دونه فقد وَقَعْتَ في الشِّرْك، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بي من دون خلقي أعرف ذلك من نِيَّتِهِ فَتَكيد له أهل السماوات والأرض إلا جعَلْتُ له من بين ذلك مَخْرَجاً، وما من مخْلوقٍ يعْتَصِمُ بِمَخْلوقٍ دوني أعرف ذلك من نِيَّتِه إلا جَعَلْتُ الأرض هَوِياً تحت قَدَمَيْه، وقَطَّعْتُ أسباب السماء بين يَدَيْه، فاسْأل نفْسك هذا السؤال: إذا ألَمَّتْ بك ملِمَّة فأنت تسْتعيذ بِمَن؟ أتَفْزَعُ إلى قريبٍ لك من ذَوي الحَول والطَّول! أتفْزَعُ إلى واسِطَةٍ تُرَجِّحُ المَوْقف! أتفْزَعُ إلى مالك تدْفَعُهُ للناس؟ أم تفْزَعُ إلى الله عز وجل؟ كان عليه الصلاة والسلام إذا حَزَبَهُ أمرٌ بادر إلى الصلاة، ومن علامة الإيمان أنْ تسْتعيذ بالله عز وجل، وتلجأ إليه، وأنْ تكون في حِماه وظِلِّه، فَـ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ هذا أمرٌ مُوَجَّهٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فَمَن أنت؟! وإنَّ الله أمَرَ المؤمنين بِما أمر به المُرْسلين، مما يُؤَكِّدُ هذا التفْسير ويَدْعَمُهُ قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ(95)﴾
آيةٌ أُخْرى، وهي قوله تعالى:
﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96)﴾
مُجَرَّد أنْ تسْتعيذ بغير الله فقد أشْرَكْتَ:
الله سبحانه وتعالى وَحْدَه أهلٌ للاسْتِعاذة به إنْ كنت مؤمناً به، وإذا اسْتَعَذْتَ بِسِواه فإنَّ في إيمانك خَلَلاً، وفي إيمانك شِرْكاً، قال تعالى:
﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)﴾
بِمُجَرَّد أنْ تسْتعيذ بغير الله فقد أشْرَكْتَ، لذلك فالدعاءُ النبوي الشهير إذا أقْدَمَ المرءُ على عمَلٍ قال: "اللهمّ إني تَبَرَّأتُ من حَوْلي وقُوَّتي والْتَجَأتُ إلى حَوْلك وقُوَّتِك يا ذا القوة المتين" ، وكلما لاحَ لك شَبَحُ مصيبة وتَوَهَّمْتَ من إنسانٍ قَوَّةً وتوهّمت أنَّهُ يُريدُك بهذه القوّة فَقُل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ أليس النبي عليه الصلاة والسلام قُدْوَةً لك في هذا؟ من علامة المؤمن الاسْتِعاذة بالله تعالى، وهناك من يرى لِنَفْسِهِ شأناً كبيراً، وأنّه أكبر من ذلك، هذا هو الكِبْر، والمُتَكبِّر دواؤُهُ القَصْم، وما من مُتَكَبِّر إلا قَصَمَهُ الله عز وجل.
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ. ))
[ مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ]
الشَّرُّ طارئٌ والأصل هو الخير:
قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ هنا نقطة دقيقةٌ جداً أتمنى أنْ تكون واضِحَة لدَيْكُم، الله سُبْحانه وتعالى لا يخْلق شَرّاً، وإذا سأل سائِلٌ من الذي خلق الشَرّ؟ طبْعاً في العَقيدة السليمة: آمنْتُ بالقَدَر خيره وشَرِّه من الله تعالى، ولكنَّ الشرّ كَشَرٍّ ما مَبْعَثُهُ؟ كُلُّ شيء خلقه الله سبحانه وتعالى خيرٌ لنا، ولكن من أين يأتي الشرّ؟ حينما يغفل الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وتتحَرَّكُ شهواته كي تُرْوى، وبِتَحَرُّكِهِ نحو إرواء ِشَهَوته من دون بصيرة من الله عز وجل ومن دون هُدى يقعُ له الشرّ، إذاً متى يصْدُر الشرّ من الإنسان؟ إذا غفل عن الله عز وجل، فهُوَ تعالى أمره ألاّ يغفل عنه، سيارة مُنْدَفِعَة ما دام فيها سائِق ماهر وحكيم، والأدوات كلها بِيَدِهِ، وتحت سَيْطَرَته، ومعه ضَوْءٌ كاشِف يقع الخير، وتنْقُلُه إلى مُبْتغاه، أما إذا كان سائِقُ السيارة ثملاً، مُدْمِنَ خَمْرٍ، قد يقعُ الحادث المُفْجِع، وإذا انْطَفَأ مصْباحه يقع الحادث كذلك، فالشَّرُّ طارئٌ والأصل هو الخير، فالإنسان إذا أقبل على الله عز وجل كانَ خَيِّراً، فإذا حُجِبَ عن الله عز وجل، وانْقَطَع عنه وأعرَض، وكانت في نفسه شهَوات سوف يرويها من دون هُدى من الله عز وجل هنا يقعُ الشرّ، فلا يصْدُر الشرّ من الإنسان إلا إذا تحَرَّك وهو في عَمى، أما إذا تحَرَّك لِقَضاء حاجاته وشَهَواته وَفْقَ ما أمر الله عز وجل، وَوفْقَ الهُدى الإلهي فلا يقعُ الشَرّ، يتَزَوَّجُ فَيَقَعُ الخير، يسْكُنُ إلى زَوْجَتِه وتسْكُنُ إليه، ويُنْجِبُ أوْلاداً أبْراراً، يُرَبِّيهم على حُبِّ الله ورسوله، وله عملٌ ينْفَعُ به المسلمين، فأيّة حَرَكَة تتحَرَّكُها ما دامت وفق الشريعة، ووَفق الهدى الإلهي لا ينتج عنها إلا الخير، إلا أنَّ هناك نقطة دقيقة وهي أن الإنسان الشرير مع أنَّهُ شِرِّير بِحُكْمِ بُعْدِه عن الله عز وجل، وانْقِطاعه عنه، وبِحُكْم العمل الذي وقع فيه، فهذا الإنسانُ الشِرِّير ليس طليقاً، بل هو بِيَد الله عز وجل، يسوقه لِمَن يسْتحقّ أنْ يوقِعَ الأذى به، الظالم سوط الله ينْتقم به ثمَّ ينْتقم منه، إذاً قال بعضُ علماء التوحيد: إنَّ الشرَّ ليس له وُجودٌ إلا في النُّفوس، أما في العالم المادِّي فإنَّ شرّ الإنسان يُوَظِّفُه الله سبحانه وتعالى في مصْلَحَة الإنسان، فهذا السارق يُحِبّ أن يسرق، والسَرِقَةُ شرّ ورَغْبَةٌ في الحُصول على المال من دون هُدىً من الله عز وجل، هذه السرقة شرّ، لكنَّ الله سبحانه وتعالى آخِذٌ بِيَد السارق، يسوقه إلى مالٍ حرام يُؤَدِّبُ به المسْروق؛ هذا هو الشّرّ الذي يصدر عن الإنسان.
أنواع الشرور:
أما الشرّ الذي يصدر عن الحيوان فَحينما يتجاوَزُ حُدوده يقع، فالأفْعى حَيَوانٌ نافِعٌ إذا بَقِيَتْ في باطن الأرض، فإذا خَرَجَت تُصْبِحُ ِشرِّيرة، وأُمِرْنا بِقَتْلها، وكذا العَقْرب، وعلى مُستوى الإنسان إذا غفل عن الله عز وجل، وانْقَطَعَ يُصْبِحُ شِرِّيراً، وَشَرُّهُ مُقَيَّد لا يسْتطيع أنْ يوقِعَ أذاهُ إلا بِمَن يشاء الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الشرّ الصادر عن الإنسان، أما الشر الصادر عن الحيوان إذا تجاوز حدوده يصبح شراً، وقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بِقَتْل الفَوَيْسِقات؛ الفأرة والعَقْرَب والحَيّة، لأنَّها تجاوَزَتْ حُدودها، أما إذا تتبَّعْتَها إلى وَكْرِها فَقَتْلُها حرام، لأنها تُقَدِّمُ خِدْمَةً ثابِتَة، فقد اكتشف العلماء أنَّ هذه الحيوانات التي تعيش في باطن الأرض لها دَوْر خطير في تَهْوِيَة التربة، وفي إنْبات المزروعات، أما الشرّ الصادر عن المواد، الجمادات ففي سوء استعمالها، فالله سبحانه وتعالى خلق المواد كلَّها، فإذا اسْتعملتها في غير مَوْضِعها تصبح ضارة، كمن يضع السكر في الطبخ! الطبخ لا يؤكل، والملح في الشاي! الشاي لا يشرب، كمن يضع المنظِّف في الطبخ! والوَقود في الحليب! الوقود السائل نافع، والحليب نافع ولكن سوءُ اسْتعمال المواد يُسَبِّبُ ضَرَراً، فكما تُلاحِظون أنَّ الشرّ طارئ، وهو سَلْبي، وليس إيجابياً، قال تعالى:
﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(26)﴾
الخنزير مُحَرَّمٌ أكله، شر، لكنَّ الله سبحانه وتعالى خلقه لِوَظيفَةٍ، والضبعُ كذلك، لتنْظيفُ البَرِيَّة من الجِيَف، لأنّ هذه الجيفة إذا ماتت تملأُ الفضاء بِنتن ريحِها، فتأتي مثل هذه الحيوانات فَتُريحُنا منها، أما أنْ تأكلها فهي شرّ، فَكُلُّ أنواع الشرور إما أنها تنْتج عن غفلة الإنسان، وقد أُمِرَ أنْ يكون مع الله سبحانه وتعالى، وإما أنْ تنتُجَ عن تجاوز الحيوان حَدَّهُ، أو اسْتِعماله في وَظيفَةٍ لم يُخْلَق لها، كأن تأكله وقد حَرَّم الله تعالى أكْلهُ، أو أن تستخدم المواد التي خلقها الله عز وجل كلها لِمَصْلَحة الإنسان، أنْ تسْتَخْدِمها في غير مَوْضِعِها، فهذا هو الشرّ.
التملك لا يكون إلا بعد التذليل:
رَبُّنا عز وجل قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ طبعاً من شرِّ ما خلق على معنى أنَّ هذه المواد إذا أُسيء اسْتِخْدامها، وهذه الحيوانات إذا تجاوزَتْ حَدَّها، وهذا الإنسان إذا غفل عن الله يُصْبِحُ مُؤْذِياً، وقد تأتي النكبات والزلازل والبراكين والفَيضانات والأوْبِئَة والأمراض السارية، كل هذا من شرّ ما خلق: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ هناك نقطة صغيرة تتعلق بالحيوانات، فمثلاً الجمل مُذَلَّل، والغنم مُذَلَّل، والبقر مُذَلَّل، والدجاج مُذَلَّل، والإنسان يأنسُ به، ويرْتاحُ له، ويَقْتَنيه، ويَتَمَلَّكُه، قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71) وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)﴾
من معاني هذه الآية: متى تَمَلَّكوها، ومتى تنافَسوا على تَمَلُّكِها؟ لأنَّ الله سبحانه وتعالى ذَلَّلَها لهم، أما الضبعُ والذِّئب والحيَّة والعقرب، هذه لم تُذلَّل، فهل تُملَّك؟ لا، ﴿وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ﴾ فكأن الله سبحانه وتعالى بتذليل بعض الحيوانات، وعدم تذليل بعضها الآخر أراد أن يُعرِّفنا نعمة التذليل، لولا أنه ذلَّل هذا الحيوان، ولولا أنه ترك هذا الحيوان مُخِيفاً لَما عرفتَ نعمة التذليل، نعمة التذليل ناتجة من وجودِ حيوانٍ غيرِ مُذلَّلٍ، ولذلك التملك لا يكون إلا بعد التذليل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ .
أيَّةُ سيِّئَةٍ على الإطلاق مهما كانت صغيرةً فمن نفسك:
هناك حيوانات غير مذللة، فلدغة عقرب وأفْعى قد تُميتُ الإنسان، هناك حيوانات مُفْتَرِسَة، الماءُ قد يُغْرِقُه، وبعض الأدوية قد تُفْقِدُهُ الحياة، وبعض الأعْشاب قد تُفْقِدُه الحركة ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ .
شيءٌ آخر أُحِبُّ أنْ تَقِفوا عنده وَقْفَةً مُتَأنِّيَة، سأقْرأُ على مسامِعِكم طائِفَة من الآيات الكريمة، القرآن كما يقول عُلماؤُه قَطْعِيُّ الثبوت، قطْعِيُّ الدلالة، فَقَطْعِيُّ الثبوت أنَّ القرآن كلام الله تعالى قَوْلاً واحِداً، وقَطْعِيُّ الدلالة أنَّ المعنى المُستفاد من هذه الآية حقيقةٌ ثابتة يقينِيَّةٌ لا مجال لِرَدِّها، اِسْتَمِعوا قوله تعالى:
﴿ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍۢ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا(79)﴾
سَيِّئَةٍ نكِرَة وهو تنْكيرُ شُمول، فأيَّةُ سيِّئَةٍ على الإطلاق ما كانت صغيرةً وما كانت كبيرةً، وما كانت مُباشِرَة أو غير مُباشِرَة، مُؤلِمَةً أو طفيفة الألم، ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍۢ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ ،
(( فَمَن وجد خيراً فَلْيَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفْسَه. ))
وهل تسْتطيع إنْ كنت مؤمناً بالله وبِكِتابه الكريم أنْ تقول: إذا أصابَتْكَ مُصيبة، وأنا ماذا فَعَلْتُ؟ هذا الإنسان لا يستحق.
آيات قرآنية تؤكد أن الشر من عند الإنسان:
اِسْمَعِ الآية: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍۢ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ قَوْلاً واحداً، آيةٌ ثانِيَة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ(30)﴾
آية ثالثة، قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165)﴾
(( ما مِن عَثْرةٍ أو اخْتِلاج عِرْقٍ ولا خَدْشِ عودٍ إلا بِما قَدَّمَتْ أيديكم، وما يعْفو الله أكثر. ))
النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول:
(( اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِك من شرِّ نفسي ومن شرِّ كلِّ دابَّةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتِها إنَّ ربِّي علَى صراطٍ مستقيمٍ. ))
هناك دِقَّةٌ بالغة في أقْوال النبي عليه الصلاة والسلام، لم يقُل عليه الصلاة والسلام: اللهم إنِّي أَعُوذُ بك مِنْ شَرِّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها ومن شَرِّ نفْسي، فلما قَدَّمَ من شَرَّ نفْسي على من شَرِّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها أَكَّدَ أنَّ الدواب كُلَّها بِيَد الله عز وجل، وأنَّهُ إذا أطْلق دابَّةً من هذه الدواب لِتُصيبَ إنْساناً ما بِأذى فبِسَبَبِ شرٍّ في نفْسه، وهذا الدعاءُ تعْليمي لنا، (اللهم إنِّي أعوذ بك من شَرِّ نفْسي ومن شَرِّ كلِّ دابَّةٍ أنت آخِذٌ بناصِيتها) .
إذا اسْتَحقَّ العبدُ مُعالَجَةً سَلَّطَ الله عليه من لا يرْحَمُهُ:
لذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "لا يخافَنَّ العبدُ إلا ذَنْبه، ولا يرْجُوَنَّ إلا ربَّهُ" لأنك إذا رَجَوْتَ الله سبحانه وتعالى، وإذا خِفْتَ الله سبحانه وتعالى خافَكَ كُلُّ شيء، وإذا لم تخَفِ الله تعالى أخافك من كلِّ شيء، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوٓاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ(11)﴾
فحينما يكون الإنسان مع الله عز وجل يَكُفُّ عنه أيدي الأشرار، وهناك شيءٌ في التَّوْحيد يُسَمُّونه التَّسْليط، وهو من الله عز وجل، فإذا اسْتَحقَّ العبدُ مُعالَجَةً سَلَّطَ الله عليه من لا يرْحَمُهُ، وإذا اسْتَحقَّ إكْراماً كّفَّ الله سبحانه وتعالى عنه يد الأشرار، لذلك قال بعض العارِفين:
أطِعْ أمْرَنا نرْفَع لِأَجْلك حُجْبنا فإنا منَحنا بِالرِّضى من أحَبَّنا
ولُذ بِحِمــــانا واحْتَمِ بِجَنابِنـــا لِنَحْميك ممِّا فيه أشْرار خَلْقِنا
تَذَكَّر دائماً أنَّك إذا لم تسْتَقِم على أمر الله، ولم تلْتجِئ إليه، ولم تسْتَعِذ به، فالأشْرار كثيرون، والجِهات التي تُخيفُ الإنسانَ عديدة، فَمَصادِرُ القلق والخوف بالحياة الدنيا لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وإذا عرَفْتَ الله سُبحانه وتعالى، واسْتَقَمْتَ على أمره، والْتَجأتْ إليه، واسْتَعَذْتَ به دَخَلْتَ في الأمْن، قال تعالى:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)﴾
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ الأصل هو الخير أما الشرّ فهُوَ طارئ، الخير إيجابي يحْتاجُ إلى خالق، والشرّ سَلْبي ناتِجٌ عن غفلة الإنسان، أو عن تجاوُز الحيوان، أو عن سوء اسْتِخْدام الجمادات، والشَّر عِلاجي، وهو بِيَد الله عز وجل، آمنتُ بالقَدَر خيره وشَرِّه من الله عز وجل.
الحكمة من خلق الشر والخوف في الأرض:
شيءٌ آخر: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ لماذا خلق الله سُبحانه وتعالى أشْياء تُخيفُنا؟ سؤال، لماذا خلق الأفعى والعقرب، وأشْخاصاً مُخيفين شِرِّيرين؟ قال علماء التوحيد: لو لم يجْعل الله سبحانه وتعالى في الأرض مصادر للخَوْف لاسْتَغْنَيْتَ عنه، وبِهذه الأشياء المُخيفة تبْقى مُلْتَجِئاً إليه، وإذا الْتَجَأتَ إليه سَعِدْتَ بِقُرْبِه، من أجل أنْ يُسْعِدَك، فالطِّفْل إنْ ترك أُمَّه شقِيَ، فإذا كان هناك حيوان مُخيف للطفل في الطرف الآخر، فهذا الطفل يبْقى مع أُمِّه، فهذه الأشْياءُ المُخيفة التي بثَّها الله في الأرض من حيوانات، وجمادات، وأشْخاص شِرِّيرين، ومن جهات مخيفة، هذه الأشياء كلها تَصْنَعُ الوِجْهَة إلى الله، والالْتِجاء إليه، وتحملك على أن تلوذَ به، وتحْتمي بِحِماه، وتُقْبِلَ عليه، وتسْتَعيذَ به: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ حِكْمَةٌ بالغة، فلولا وجود مخْلوقاتٍ شِرِّيرة في الأرض لاسْتَغْنى الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، ولو نام أحدكم بِخَيْمَة فإنه يخْطُر بِباله عقْرب، أو حَيَّة، فيقرأ آية الكرسي كي يحفظه الله تعالى، فلو لم يكن هناك خطر لنام دون أن يقرأها، أما هذه الأشياء المُخيفة تدْعوه للالْتِجاء إلى الله، هناك أشياء مُخيفة تُشابِهُها، فالأشياء المُخيفة هي في خِدْمَة الإنسان، صار الشرُّ إذاً نِسْبياً، يا ترى لو أُصِيب الإنسان بالزائِدَة والْتَهَبَتْ ألَيْسَ شقُّ البطن، ونُزول الدم منْظَراً يدعو للخَوْف، ومع ذلك هذه العملِيَّة من أجل راحَتِهِ، ألَيْسَ حفْرُ السِنِّ مُؤلماً، من أجل راحَةٍ أكبر منه فصار الشرّ نِسْبياً.
إيتاءُ المُلك ونَزْعُ المُلك والإعْزازُ والإذْلال كُلُّها خير عند الخبير والعليم والحكيم والمُعالج:
الآية الكريمة: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾ بنظر الناس خير، وقوله: ﴿وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾ ، بِنَظَر الناس شرّ، ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ﴾ خير، ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ مهان، ﴿بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ﴾ إيتاءُ المُلك ونَزْعُ المُلك، والإعْزازُ والإذْلال كُلُّها خير عند الله سبحانه وتعالى، عند المعالج، عند العليم والحكيم، عند الذي خلقك للآخرة، وعند الذي أعدَّ لك ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خطر على قلب بشر، وعند الذي خلقك من أجْله، فآثَرْتَ أنْ تكون من أجل عباده، فأذاقَكَ الله بأسَهُم، فإما أنْ تكون عَبْداً لله، وإما أنْ تكون عَبْداً لِعبد لئيم، فاخْتَرْ! ولا بد من العُبودِيَّة، إما أنْ تكون عَبْداً لله، فَعَبْدُ الله حُرٌّ وعزيزٌ وكريم، وإما أنْ تكون عبْداً لِعَبْدٍ لئيم، "واللهِ والله مرَّتَيْن لَحَفْرُ بِئْرَيْن بِإبْرَتَيْن، وكَنْسُ أرض الحِجاز في يوْمٍ عاِصفٍ بِريشَتَين، ونقْلُ بَحْرَيْن زاخِرَيْن إلى أرض الصعيد بِمِنْخَلَيْن، وغَسْلُ عَبْدَيْن أسْوَدَيْن حتى يصيراَ أبيَضَيْن أهْوَنُ عليَّ من طلب حاجَةٍ من لئيمٍ لِوَفاءِ دَيْن" ، إما أنْ تكون عَبْداً لله، وإما أن يجعلك عَبْداً لِبشرٍ لئيم؛ إنْ أحْسَنْتَ لم يقْبل، وإن أسأتَ لم يقْبل، إنْ رأى خيراً دَفَنَهُ، وإن رأى شَرّاً أذاعه: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ من هؤلاء، ولَعَلي أتيْتُ على بعض النواحي الدقيقة في هذا الموضوع، الشرّ نِسْبي، هو عندك شرّ، أما عند الله فهو خير، كما أنَّ الطِّفل يبْكي ويضْطرب إذا علِمَ أنَّ الطبيب سَيُعْطيه إبرة، مع أنَّ هذه الإبرة لِصالِحِه ولِتَسْكين ألَمِه، ولإزالَةِ الالْتِهاب، فَعِنْدَ الطفل هذه الوخزة شرّ، أما عند الأب فهي خير، فالشر نسبي.
المصائِبُ نِعَمٌ باطِنَة :
الخير إيجابي، وأما الشرّ فهو طارئ، والشرّ ناتِجٌ عن غفلة، وتجاوز حُدود، وعن سوء اسْتِعمال، لذلك قال بعْضهم في قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ(20)﴾
المصائِبُ نِعَمٌ باطِنَة، رَجُلٌ أُصيبتْ ابنته بِمَرَضٍ عُضال، بذل من أجل عِلاجها المٌستحيل، فباع بيْتَهُ، وبعد سَنَواتٍ طويلة فكَّر ساعَةً، وقال: لو أنَّني تُبْتُ إلى الله أنا وزوجتي لَعَلَّ الله يشْفِيَها، فبدأ يُصلي هو وزوْجَتُهُ، حَجَّب زوْجَتَهُ، وابْتَعدا عن المُنكر، فَشَفاها الله عز وجل، فَبَيْعُ بَيْتِهِ، وهذه السنوات السـتِّ التي أمْضاها في ألمٍ لا يُحْتمل من جراء مرضٍ عضالٍ أصاب ابنتَه، ثمَّ انْتهى هذا كُلُّهُ بِهُداه، وتوبته واصْطِلاحه مع الله سبحانه وتعالى، أَيُعَدُّ هذا المرض شرّاً؟ أَيُعَدُّ بيْعُ بيْتِهِ شرّاً؟ لا والله.
ولو أنَّ تاجِراً اِحْتَرَقَ متْجَرُهُ، ثم تاب عن التعامل بالربا، كما قال أحدهم: والله اِحْتَرَقَ لي ملْيونين من البضاعة، وكان احْتِراقُ هذه البِضاعة سبباً لِتَوْبَتِهِ، وترْكِهِ الرِّبا، أَيُعَدُّ هذا شراًّ؟ لا والله، لكنّ الله سماهُ شراًّ بِحَسَبِ مفْهومِنا نحن، وبِحَسَب مصطلحنا بيننا: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ .
الإعراضُ ظُلمة وأكبر هؤلاء المُعْرِضين هو الشيطان:
ثمَّ قال تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ قال بعضُهم: الغاسِق هو الليل، وقال بعضهم: الشيطان، لماذا هو غاسِق، أي مُظْلم؟ لأنَّهُ بعيدٌ عن الله تعالى، فبُعْدُهُ عن الله تعالى أوْقَعَهُ في ظُلْمة، وإذا أَقْبَلْتَ على الله عز وجل صِرْتَ في نورٍ، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا. ))
[ مسلم عن أبي مالك الأشعري ]
الإعراضُ ظُلمة، وأكبر المُعْرِضين هو الشيطان، في ظلامٍ دامِس، وفي غَسَقٍ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ غاسق يعْني الشيْطان إذا وقب، ومعْنى وَقَب أيْ دخل في الوَقْب، والوَقْب الكُوَّة، وهي كِنايَةٌ عن صَدْر الإنسان، فإذا دخل الشيطان في الإنسان فالعِياذ بالله! قبل أيامٍ عديدة اثْنان في حالة سُكْرٍ شديد أرادا أنْ يفْعَلا الفاحِشَة بِغُلامٍ، فاخْتَلفا، فأطْلَقَ أحدهما النار على الآخر بالمُسَدَّس، فأرْداهُ قتيلاً، وأُخِذ الثاني إلى السِّجْن، أنا قلتُ: هذا من عَمَلِ الشيطان، وهذا هو ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ هؤلاء الذين يُعْدِمونهم في الساحة العامة كُلَّ يومٍ أو يَوْمَيْن، من هم؟ هؤلاء دخل فيهم الشيطان فَسَوَّل لهم ارْتِكاب جريمَةٍ، أو سَرِقَة حانوتٍ، أو قتْلَ إنْسانٍ، أو سَرِقَة مرْكَبَةٍ، أو اغْتِصابَ فتاةٍ، فكان مصيرُهم ما كان: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ .
إذا قُلتَ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) نجوت منه:
في مُقَدِّمة هذه الشرور الشيطان الغاسِق إذا وَقَب، إذا دخل في نفْس الإنسان جَعَلَهُ شِرِّيراً، يُحِبُّ شَهْوَتَهُ ولو كانت على حِساب الآخرين، يُحِبُّ قضاء لَذَّتِهِ ولو أدَّتْ إلى تحْطيم امرأة وجَعْلِها مُومِساً، يُحِبُّ اكْتناز المال ولو كان سلْباً أو سَرِقَةً، يحِبُّ أنْ يحْيا ويموت الناس، أن يأكُلَ ويجوع الناس، يُحِبُّ أنْ يبْنِيَ مَجْدَهُ وحياته على موتِهِم، أنْ يبْني أمْنَهُ على قَلَقِهِم، أنْ يبْني مَجْدَهُ وعزّه على ذُلِّهِم: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ لكن معك سِلاحُ ضِدَّ الشيطان، وهو فعالٌ جداً، إذا قُلْتَ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنه سلاح خطير تُصَوِّبُهُ عليه فَتَجْعَلُهُ يَهْمَد، إذا قُلتَ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نجوت منه، وربُّنا قال:
﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (98)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ(97)﴾
قال تعالى:
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ(200)﴾
إنْ جاءك خاطِرٌ شرير، عمل لا يُرْضي الله، كأنْ تأخُذَ شيئاً ليس لك، أن تكذب، أن تَحْتال، أو أنْ تُدَلِّس، أو أن تخْدَع، أو أن تُخْفي عَيْبَ البِضاعة، أو تكذِب في رأسمالك، أو تُزَوِّر، إن جاءتك مثل هذه الخواطر فاسْتَعِذ بالله من الشيطان الرجيم، لأنّ هذه وساوِسُ الشيطان الذي دخل إلى صَدْرِك، فقُل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا دَخَلْتَ إلى بيْتٍ، وَسَوَّلَتْ لك نفْسُك أنْ تُلْقي نظْرةً على مَن فيه من دون أنْ يكون مُباحاً لك هذا،
(( لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. ))
يسَوِّل له فِعْلَ المُنْكر.
على الإنسان أنْ يُعينَ أخاهُ على الشيطان وليس أنْ يُعين الشيطان على أخيه:
قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ وفي رأس الأشرار ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ الآن هناك مَعْنيان: المعنى الأول: الشيطان إذا دخل إلى نفْس الإنسان. والمعنى الثاني: إذا دخل الشيطان إلى نفْس شخص آخر يُصْبِحُ مُجْرِماً، فاسْتَعِذ بالله أنْ يدخل الشيطان إلى صَدْرك فَيُوَسْوِس إليك، واسْتَعذ بالله أنْ يدْخُل الشيطان إلى صَدْر إنسانٍ آخر تتعامل معه فينْقلب أمامك شِرِّيراً، قال تعالى:
﴿ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍۢ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِۦ ۖ فَٱسْتَغَٰثَهُ ٱلَّذِى مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِى مِنْ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۖ إِنَّهُۥ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ(15)﴾
هذه مُشاحنة بين القِبْطي والإسْرائيلي، هذا من عمل الشيطان، الشيطان دخل بينهما، فلذلك الإنسان عليه أنْ يُعينَ أخاهُ على الشيطان، لا أنْ يُعين الشيطان على أخيه، فإذا غضِبَ أخوك فاسْكُت، فإذا رَدَدْتَ عليه بِكَلِمَة قاسِيَة أعَنْتَ الشيطان عليه، فإذا سَكَتَّ أعَنْتَهُ على الشيطان، رَجُلٌ تلفَّظَ بِكَلماتٍ قاسِيَة بِحَقِّ صحابيٍّ جليل، ما فعل هذا الصحابي شيئاً إلا أنْ قال: "غفر الله لك إنْ كُنتَ مُخْطِئاً، وغفر الله لي إنْ كنتُ مُخْطِئاً"، وانتهى الأمر، علاقتك مع زوْجَتِك، ومع أوْلادك، وجيرانك، وأصْحابك، وزُملائِك، أعِنْهُم على الشيطان، ولا تُعِن الشيطان عليهم، إذا اسْتَفْزَزْتَهُم، وقَسَوْتَ معهم، وأخَذْتَ حقَّهُم فقد أعَنْتَ الشيطان عليهم، أما إذا تسامَحْتَ معهم وأحْسَنْتَ إليهم فقد أعَنْتَهم على الشيطان: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾.
ثمَّ قال تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ﴾ النفاثات هي النفوس الساحِرَة، والسِّحْرُ أصْلُهُ التمْويه بالحِيَل والتَخايُل، كالسراب تراهُ ماءً، وهو انْعِكاسٌ شُعاعي على الأرض، سَحَرْتُ الصبِيّ أيْ خَدَعْتُهُ، وأصْلُهُ الخفاءُ والصَّرْف، فإذا صَرَفْتَ إنْساناً عن شيءٍ فقد سَحَرْتَهُ، وأصْلُهُ الاسْتِمالة، قالوا: محمدٌ صلى الله عليه وسلم سحر أصْحابه، أي مالوا إليه، والسِّحْرُ أنْ تُؤخَذَ بِلُطْفٍ، هذه تعريفات السحر، والسِّحْرُ عند بعض المذاهب الإسلاميَّة خِداعٌ لا أصْل له، وعند الشافِعي رضي الله عنه وَسْوَسَةٌ وأمْراض، وعند الأحْناف حقٌّ، وله حقيقة، ولكن هناك أشْياءٌ حتى الآن طبيعتها بَقِيَتْ مجْهولة، دَرَسْنا شيئاً في عِلْمِ النفْس اسمه التخاطر؛ امْرأةٌ في إيطاليا وهي في مطْبَخِها رأَت ابنها وهو في باريس، قد دهَسَتْهُ سيارة فصرَخَت، رأتْهُ بِأُمِّ عَيْنَيها، بعد أيامٍ ثلاثة جاء جُثْمان ابنها إلى البيت، مع تقْريرٍ يؤكِّدُ الدقيقة التي رأتْهُ فيها يُدْهَس، سماها عُلماءُ النفْس التخاطر النفسي، وهذا قائِدُ جيْشٍ في العِراق قال: أسْمَعُ صوتَ أمير المؤمنين يُحَذِّرُني، الجبلَ الجبلَ، هذه وَقَعَتْ كيف؟ لا نعْرف، العِلْمُ عاجِزٌ عن تفْسير هذه الخاطِرة التي سماها العُلماء التخاطر النفْسي، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾
وقال تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾
فالتخاطر معْلومٌ ومجْهول، هو حدثٌ وَقَعَ، ولكنَّ تفْسيرهُ مجْهول، كذلك السِّحْر، فالأحْناف قالوا: هو شيءٌ حقيقي، ولكنَّ طبيعته مجْهولة، والإمام الشافِعي قال: هذه وساوِسٌ وأمْراض، وبعض الفرق الإسلاميَّة قالوا: وهْمٌ لا أصْل له، لكنَّ النبي الكريم اسْتعاذ بالله من هؤلاء الذين يسْحَرون، هناك أشْياء دقيقة سَأورِدُها لكم في هذا الموضوع.
لا يسْتطيعُ الساحر أنْ يضُرَّ أحداً إلا بِإذْن الله:
هناك من السِّحْر ما يُكَفِّرُ صاحِبَه، ومَن فعل السِّحْر لِيَصْرِفَ الناس إليه فهذا كُفْرٌ، وبعضُ المذاهب الإسلامِيَّة أباحَتْ دمَ هذا الساحِر؛ لأنَّهُ يُضَلِّلُ الناس، ويصْرِفُهم عن الحقيقة الكُبرى إلى نفْسه، وربنا عز وجل قال:
﴿ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(102)﴾
لماذا كفروا؟ يُعَلِّمون الناس السِّحْر، قِصَّةٌ سخيفةٌ يَرْويها اليهود نفاها الله تعالى، فلا يسْتطيعُ الساحر أنْ يضُرَّ أحداً إلا بِإذْن الله، فالساحِر لا يسْتطيع أنْ ينْفذ بِسِحْرِهِ إلى إنْسانٍ إلا إذا كان غافِلاً عن الله سبحانه وتعالى.
العلاقات الإنسانِيَّة المتينة يأتي الساحر فَيَفْصِمُ بينها ويُحِلُّها ويجْعَلُها واهِيَة:
إذا قال الإنسان: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ* وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ*وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ بطل السِّحْر، ومعنى النفاثات في العُقَد، هذه العُقَد المتينة، العلاقة الزوْجِيَّة عُقْدة، وعلاقة الأخوّة عُقْدة، وعلاقة الأُبُوَّة عُقْدة، وعلاقة الشَّريكَيْن عُقْدة، وعلاقة الجِوار عُقْدة، فَرَبُّنا عز وجل قال: ﴿وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ﴾ فهذه العلاقات الإنسانِيَّة المتينة يأتي الساحر فَيَفْصِمُ بينها، ويُحِلُّها، ويجْعَلُها واهِيَة، فالخِلافُ الزوْجي يقع بِسَبَبِ زوْجَيْنِ غافِلَيْن عن الله عز وجل، ويأتي السِّحْر فَيَقْطَعُ هذه الصِّلَة.
الآية الأخيرة، هي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾.
قال العلماء: الحسدُ مذْمومٌ ومحْمود! هو مذْمومٌ إذا تمنَّيْتَ زوال النِّعْمة عن أخيك المُسلم، وأنْ تتحَوَّل إليك، هذا هو الحسد:
قل لِمَن باتَ لي حاسِـــداً أتَدْري على مَن أسأْتَ الأدَبَ
أسأْتَ على الله في فِعْلـِه إذْ لَمْ تَرْضَ لِــــي مَـا وَهَــبَ
الإمام الشافعي
اِصْبِر على حَسدِ الحَسودِ فإنَّ صـــــبْرَكَ قاتِلُــــــــــــه
فالنارُ تأكُـــــلُ بعضَهـــــا إنْ لم تجِـــدْ مَــــــــا تَأكُلُــــه
هذا هو الحسدُ المذْموم، لماذا؟ لأنَّهُ تسْفيهٌ للحق سبحانه وتعالى على إنْعام نِعْمَةٍ ظَنَنْتَ صاحبها لا يسْتحِقُّها، هذا شِرْكٌ بالله، وكُفْرٌ بأسماء الله الحسنى.
وأما المحْمود فما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ))
[ متفق عليه عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ]
إذا حَسَدْتَهما فهذا هو الحسد المحْمود، ولكنَّ العلماء سَمَّوْهُ غِبْطَةً، وسماهُ الله تعالى مُنافَسَةً، فقال تعالى:
﴿ خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ (26)﴾
وقال تعالى:
﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَٰمِلُونَ(61)﴾
فَسَماهُ الله مُنافِسَةَ، وسماهُ النبي غِبْطَةً، وفي الأثر عن الفضيل بن عياض: المؤمن يغْبِطُ والمنافق يحْسُد، قال عليه الصلاة والسلام:
(( العين تُدخِل الرجلَ القبر والجمل القِدر. ))
[ أبو نعيم في الحلية عن جابر بسند ضعيف ]
مرة ثانية الإنسان لا يتأثر بالحسد إلا إذا كان غافِلاً عن الله سبحانه، لن تتاثر بالسحر والحسد إلا إذا كنت غافلاً، فإذا تَلَوْتَ قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ*وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ*وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ فلن يصل إليك شِرِّير، ولا شيطانٌ يستطيع أنْ يدخل في صدْرك، ولا ساحِرٌ أنْ يؤثِّر فيك، ولا حاسِد يمكنه أنْ يحْسُدك، هذه هي المعوذة.
ثم إنّ الحاسِد أبْغَضَ النِّعْمة على غيره، وفي هذا شكّ في حِكمة الله سبحانه وتعالى، والحاسِد ساخِطٌ لِقِسْمة الله تعالى، والحاسد ضادَّ فِعْلَ الله عز وجل، لم يرده ولم يسْتَسْلم له، والحاسد خَذَلَ أوْلِياءَ الله تفوقوا عليه فَحَسَدَهم، وذَمَهُم بدل أنْ يَدْعَمَهُم، والحاسِد أعان الشيطان على أخيه، ولا ينال في المجلس إلا الندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا اللعنة، ولا ينال في الخلوة إلا الجَزَع والغَمّ، ولا ينال في الآخرة إلا الحُزْن والاحْتِراق، ولا ينال عند الله سبحانه وتعالى إلا بُعْداً ومَقْتاً، وقال بعضهم: أوَّلُ ذنْبٍ عُصِيَ الله به في السماء هو الحسد، قال تعالى:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾
قول إبليس، وأوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ الله به في الأرض أنَّ قابيل حسد هابيل، فالحسد شيء خطير، فَنَعوذ بالله من الحسد، ونرجو الله الغِبْطة والمنافَسَة، فالمنافسة في طاعة الله مطلوبة، وإذا غبطتم بعضكم على صلواتكم وعلى حِفْظكم لكتاب الله، على فهمكم لكتاب الله، على استقامتكم، على عملكم الطيب فهذا هو المطْلوب، فَهَذه السورة اِقْرأْها قبل أنْ تنام، ولن ترَ مناماً مُخيفاً: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ*وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ*وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ .
الملف مدقق