- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخــطــبـة الأولــى :
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وآل بيته الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين .
الزمن بعد حركي و هو البعد الرابع للأشياء :
أيها الأخوة الكرام ، مضى عام وأقبل عام ، وماذا يعني أن يمضي عام وأن يأتي عام ؟ إنه الزمن في حركته ، ما حقيقة الزمن ؟ إنه البعد الحركي للأشياء ، فالطول والعرض بعدان سطحيان ، طول وعرض ، والعمق أو الارتفاع بعد حجمي ، الزمن بعد حركي ، هناك نقطة فإذا تحركت شكلت ، إذا تحرك الخط شكّل سطحاً ، فإذا تحرك السطح شكّل حجماً ، فإذا تحرك الحجم شكّل زمناً ، هو البعد الرابع للأشياء .
وهل تصدق أيها الأخ الكريم أنك زمن ، من أدق أدق تعريفات الإنسان إنه زمن، كما قال الإمام الجليل الحسن البصري : الإنسان بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
أيها الأخوة ، الحركة المطلقة في الكون هي حركة الضوء ، يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، وأي جسم سار مع الضوء أوقف الزمن ، هذا الجمع الغفير ـ جزاكم الله خيراً ـ هناك موجات ضوئية تصعد إلى العالم الخارجي ، لو قدر لإنسان أن يسير معها لكان هذا المنظر إلى أبد الآبدين ، إذا سار الجسم مع الضوء أصبح ضوءاً وتوقف الزمن، فإذا سبق الضوء تراجع الزمن ، وإذا قصَّر عن الضوء تراخى الزمن ، هذا بحث دقيق جداً يحتاج إلى جامعة لا إلى جامع ، هنا نريد الحقائق المبسطة .
أيها الأخوة الكرام ، قال تعالى :
﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ﴾
الشمس تتحرك والحركة هي البعد الرابع ، والأرض تتحرك حول نفسها حركة ، وحول الشمس حركة ، حول نفسها الليل والنهار ، وحول الشمس الفصول الأربعة التي تجمعها السنة الشمسية .
الزمن في التصور الإسلامي :
الإنسان أيها الأخوة لو بحث عن الزمن في التصور الإسلامي ، فالحقيقة الله عز وجل يقول :
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾
خسارة الإنسان تتأتى من أن مضي الزمن يستهلكه ، سبت ، أحد ، اثنين ، ثلاثاء، أربعاء ، خميس ، مضى أسبوع ، أول أسبوع ، ثاني أسبوع ، ثالث أسبوع ، رابع أسبوع، مضى شهر ، أول شهر ، ثاني شهر ، ثالث شهر ، مضى فصل ، أول فصل ، ثاني فصل ، ثالث فصل ، رابع فصل ، مضى عام ، أول عشرة أعوام عقد ، فالأيام تمضي والزمن لا يتوقف ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
أي إن مضي الزمن يستهلكه، أنت بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، لذلك أنت بضعة أيام أي أنت زمن ، أو لك أن تقول : إن رأسمالك الوحيد هو الزمن ، و لك أن تقول : إن أثمن شيء تملكه هو الزمن ، هذا الزمن كيف تنفقه ؟ إما أن تنفقه كما ينفقه معظم أهل الأرض ، يأكلون، ويشربون ، ويتمتعون ، ثم يفاجؤون بالموت ، أو أن تنفقه إنفاقاً يمكن أن نسميه إنفاقاً استثمارياً ، بمعنى أنك تفعل في هذا الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن ، لذلك ما الذي يدخل معك إلى القبر ؟ أعمالك الصالحة فقط ، لا يدخل معك إلا أعمالك ، أما بيتك ، مركبتك ، محلك التجاري ، مكتبك الفخم ، كل دنياك تتركها وتذهب إلى القبر .
على الإنسان أن ينفق الوقت في التفكر في خلق السماوات و الأرض من أجل معرفة الله :
أيها الأخوة الكرام ، لذلك الإنسان من أجل أن ينفق الزمن إنفاقاً استثمارياً ، من أجل أن يفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً يجده بعد انقضاء الزمن ، ينبغي أن يتفكر في خلق السماوات والأرض من أجل أن يعرف الله ، فالأقدام تدل على المسير ، والماء يدل على الغدير ، أفسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟ وأن هذا الخالق عظيم في خلقه ، كامل في أفعاله ، ومن لوازم كماله ألا يدع عباده من دون تعريف ، ولا تبيين ، ولا منهج من أمر ، ونهي ، وإعذار ، وإنذار ، ووعد ، ووعيد ، لأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف ، هذا الكون يشف عن خالق عظيم ، رحمن رحيم ، حكيم قدير ، غني شفوق ، هذه الأسماء الحسنى التي تستشفها من خلق الله ، ومن أفعاله ، ومن كلامه ، لذلك هناك آيات كونية ، وآيات تكوينية ، وآيات قرآنية .
بعض مظاهر الإعجاز العلمي :
الآن أنت حينما تعرف الله عز وجل من خلال هذا الكون تجد أمامك كتاباً من عند الله ، ما الدليل على أنه كلام الله ؟ قال بعضهم : الإعجاز العلمي
1 ـ الظلام في الفضاء الخارجي :
رائد الفضاء حينما صعد إلى القمر في أول رحلة ، و بعد أن تجاوز طبقة الهواء التي يبلغ سمكها خمسة وستين ألف كيلو متر ، وانتقل إلى الفضاء الخارجي ، إلى مكان ليس فيه هواء صاح هذا : لقد أصبحنا عمياناً لا نرى شيئاً ، لماذا ؟ لأن في الأرض ظاهرة اسمها أشعة انتثار الضوء ، لأن أشعة الشمس حينما تسلط على الهواء فذرات الهواء تعكس بعض الأشعة على ذرات أخرى ، ما دمت في الهواء هناك ضياء وهناك أشعة شمس ، فإذا تجاوزت الهواء انعدم التناثر فأصبح الجو مظلماً ، فصاح هذا الرائد : لقد أصبحنا عمياناً ، نفتح القرآن الكريم وهو قبل ألف وأربعمئة سنة فنقرأ قوله تعالى :
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾
2 ـ المخترعات المذهلة التي تلفت النظر :
إنسان يركب طائرة حديثة جداً ، وأسرع طائرة ، تفتح القرآن الكريم وأنت في الطائرة ، تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (8) ﴾
الآن يوجد طائرة ، و قطار ، و مركبات ، و حوامات ، و يخوت ، و بواخر، و سيارات ، تابع الآية :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ﴾
القرآن الكريم كلام الله يؤكده وقوع الوعد والوعيد :
هذا الكون يدل على إله عظيم موجود ، وواحد ، وكامل ، ذي الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، وهذا القرآن الكريم أكبر دليل فيه الإعجاز العلمي الذي تؤكده أكثر من ألف وثلاثمئة آية ، وهذا القرآن الكريم كلام الله يؤكده وقوع الوعد والوعيد ، نظام مالي عالمي عمره مئات السنين قائم على الربا ، وعلى المحرمات ، والنظام العالمي متين جداً ، كيف انهار هذا النظام ؟ انهيار النظام المالي العالمي ، أكثر من مئة وخمسة وخمسين مصرفاً أعلن إفلاسه ، انهيار هذا النظام تحقيق الوعيد الإلهي :
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
ما الدليل على أن هذا القرآن كلام الله ؟ إعجاز علمي وتحقق الوعد والوعيد ، وما الدليل على أن هذا الإنسان محمد بن عبد الله صلوات الله عليه هو رسول الله ؟ إنه جاء بالقرآن .
الله عز وجل كامل كمالاً مطلقاً وكمال الخلق يدل على كمال التصرف :
إذاً الله عز وجل أعطاك كوناً ينطق بوجود الله ، ووحدانيته ، وكماله ، أعطاك قرآناً من خلال إعجازه ، ومن خلال وقوع الوعد والوعيد ، يتأكد لك أنه كلام الله أرسل لك نبياً عظيماً دليل نبوته هذا القرآن الكريم ، لذلك لأن الله عز وجل كامل كمالاً مطلقاً ، ولأن كمال الخلق يدل على كمال التصرف فلابدّ تحقيقاً لكمال الله من أن يرسل على عباده الأنبياء والمرسلين ، ويعرفهم بحقيقة الكون ، والحياة ، والإنسان ، ويعرفهم أنهم خلقوا لجنة عرضها السماوات والأرض ، وأن هذه الحياة التي نحياها هي حياة دنيا وبعدها هناك حياة عليا فيها:
(( ما لا عين رأت ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
أعطاك كوناً ، أعطاك عقلاً ، أعطاك فطرة ، أعطاك تشريعاً ، أعطاك شهوة ، أعطاك حرية ، أعطاك عمراً وزمناً .
أيها الأخوة الكرام :
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19) ﴾
يوم القيامة :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ﴾
الله عز وجل يقسم بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول الذي هو في حقيقته زمن :
أيها الأخوة الكرام ، أقسم الله بمطلق الزمن ، بالعصر ، لهذا الإنسان المخلوق الأول رتبة ، الذي هو في حقيقته زمن ، أقسم له وقال :
﴿ وَالْعَصْر (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾
قال الإمام الشافعي : "لو تدبر الناس هذه السورة لكفت" .
والذي بعد إلا ،
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ﴾
، هي أركان النجاة ، أي في اليوم الذي لا تزداد فيه علماً ، ولا تزداد فيه طاعةً ، ولا تزداد فيه دعوة إلى الله ، ولا تزداد فيه صبراً على معرفته ، وعلى طاعته ، وعلى الدعوة إليه ، فهذا يوم أنت فيه خاسر ، والله يقسم وهو أصدق القائلين .
أكبر خسارة للإنسان أن يخسر الأبد و يخسر نفسه التي خلقها الله ليسعدها وليرحمها :
ثم يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
أي أكبر خسارة أن تخسر الأبد ، أكبر خسارة أن تخسر الجنة ، أكبر خسارة أن تخسر نفسك التي خلقها الله ليسعدها وليرحمها :
﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ (105) ﴾
الآيات الكونية خلقه ، والتكوينية أفعاله ، والقرآنية كلامه :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) ﴾
لا خير في العيش إلا لعالم ناطق أو مستمع واعٍ :
أيها الأخوة الكرام ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته :
(( أيها الناس ، لا خير في العيش إلا لعالم ناطق ، أو مستمع واعٍ ، أيها الناس! إنكم في زمن هدنة ، وإن السير بكم لسريع ، وقد رأيتم الليل والنهار يُبليان كل جديد ، ويُقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود . فقال له المقداد : يا رسول الله ، وما الهدنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكــم الأمور ، طروحات لا تعد ولا تحصى ، ضلالات ، شهوات ، تحزبات ، انحرافات ، تكهنات ، كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفَّع ، وشاهد مصدق ، فمـن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق ، ومن عمل به أُجر ، ومن حكم به عدل))
أيها الأخوة الكرام ، الآن الحديث عن الوقت ، مضى عام وأقبل عام ، جاء يوم وذهب يوم ، لذلك الله عز وجل في أية آية يقول :
﴿وسارعوا ﴾
، هذه الآية فيها إشارة إلى الوقت ، وفي أي آية يقول سابقوا ، هذه الآية فيها إشارة إلى الوقت ، قال تعالى :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) ﴾
خصائص الوقت :
1 ـ سرعة انقضائه :
أيها الأخوة ، الوقت من خصائصه ، سرعة انقضائه ، فهو يمر مرَّ السحاب ، ويجري جري الرياح ، سواء أكان زمن مسرةٍ أو فرح ، أم كان زمن اكتئاب وترح ، وإن كانت أيام السرور تمرُّ أسرع ، وأيام الهموم تسير أبطأ ، لا في الحقيقة ، ولكن في شعور صاحبها ، ومهما طال عمر الإنسان ، فهو قصير ، مادام الموت نهاية كل حي ، كل مخلوق يموت ولا يبقَ إلا ذو العزة والجبروت :
والليل مهما طال فلابدّ من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابدّ من نزول القبر
***
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حمــلت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها مــحمول
***
قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(45) ﴾
أول خصيصة سرعة انقضائه ، كل واحد منا إذا كان عمره ثلاثين عاماً مثلاً يقول : كيف مضت هذه الثلاثون ؟ عمره أربعون كيف مضت هذه الأربعون ؟ كلمح البصر ، يقول لك البارحة كنت طالب ابتدائي ، اليوم يحمل دكتوراه مثلاً ، كل إنسان يشعر أن الزمن الماضي مضى سريعاً ، ويقاس على ذلك وأن الزمن الذي بقي أيضاً يمضي سريعاً ، الإنسان أحياناً يفاجأ بالموت .
2 ـ ما مضى منه لا يعود ولا يُعوض :
الخصيصة الثانية : أن ما مضى منه لا يعود ولا يُعوض ، لذلك قال الحسن البصري : " ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد ، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ".
يا بن آدم إنما أنت أيام مجموعة ، كلما ذهب يوم ذهب بعضك .
القرآن الكريم ذكر في الآيات التالية موقفين ؛ الأول ساعة الاحتضار والثاني في الآخرة :
الإنسان أيها الأخوة الكرام ، إذا جهل قيمة الوقت فسيأتي عليه حينٌ يعرف قيمته و نفاسته ، ولكن بعد فوات الأوان ، وقد ذكر القرآن موقفين ، الأول ساعة الاحتضار :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) ﴾
الجواب :
﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ﴾
الموقف الثاني في الآخرة ، قال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) ﴾
النذير :
النذير هو القرآن الكريم ، والنذير هو النبي صلى الله عليه وسلم ، والنذير هو سن الأربعين ، من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، والنذير هو سن الستين ، والنذير هو الشيب .
(( عبدي كبرت سنك ، وانحنى ظهرك ، وضعف بصرك ، وشاب شعرك ، فاستحِ مني فأنا أستحي منك ))
والنذير المصائب :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) ﴾
خير الناس من طال عمره و حَسُن عمله :
لذلك أيها الأخوة الكرام ، قضية النذير :
﴿ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ (37) ﴾
النبي هو النذير ، والقرآن هو النذير ، والأربعون هي النذير ، والستون هي النذير ، والمصائب هي النذير ، وموت الأقارب هو النذير ، لذلك يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله : " إياك والتسويف فإنك بيومك ولست بغدك ، احذروا سوف فهي جند من جنود إبليس ".
تريد أن تتوب الآن ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك ))
أيها الأخوة الكرام ، و النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( خيركم من طال عمره وحسن عمله ))
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :
((لا بورك لي في طلوع شمس يوم ، لم أزدد فيه من الله علماً ، ولا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قُرباً))
قال صاحب الحكم : "رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آماده ، وقلَّت أمداده ، ورُبَّ عُمُرٍ قليلةٌ آماده ، كثيرة أمداده ، ومن بورك له في عمره ، أدرك في يسير من الزمن من المنن ما لا يدخل تحت دائرة العبارة ، ولا تلحقه وَمضةُ الإشارة " .
كلما اتسعت رقعة العمل الصالح و امتد أمده كان العمل أعظم :
الآن بعد الإيمان بالله علة وجودك العمل الصالح ، الآن كلما اتسعت رقعة العمل الصالح ، فشملت أعداداً كبيرة من البشر حتى دخلت فيه الأمم والشعوب كان العمل أعظم .
إنسان واحد جاء إلى البشرية نبياً ورسولاً ، فالإسلام من مشارف الصين إلى مشارف باريس ، كلما اتسعت رقعة العمل كان العمل أعظم .
شيء آخر وكلما امتد أمد العمل ، من ألف وأربعمئة عام والإسلام في كل مكان ، وكلما تغلغل العمل الصالح في أعماق النفس كان العمل أعظم ، لذلك الحديث الشريف :
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ـ والوقف من الصدقات الجارية ـ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ )) .
ازدياد قيمة العمل في ميزان الحق حينما يظهرُ المنكرُ ويختفي المعروفُ :
أيها الأخوة الكرام ، تزداد قيمة العملِ في ميزان الحقِّ حينما تَفْسُدُ المجتمعاتُ ، وتضطرب الأحوالُ ، ويجور الأمراء ، ويتجبّرُ الأقوياءُ ويترفُ الأغنياءُ ، ويداهِن العلماءُ ، وتشيع الفاحشةُ ، ويظهرُ المنكرُ ، ويختفي المعروفُ .
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )) .
إذا عبدت الله في زمن الكاسيات العاريات المائلات المميلات ، في زمن يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، في زمن يصدق فيه الكاذب ، ويكذب فيه الصادق ، في عصر يؤتمن الخائن ، ويخون الأمين :
(( عبادة في الهرج كهجرة إلي )) .
أيها الأخوة ، هناك حديث دقيق يتضمن تفصيلات دقيقة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ )) .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وصحبه أجمعين .
النعم التي منّ الله بها على الإنسان :
أيها الأخوة الكرام ، نحن في أول عام جديد ، عام ميلادي ، بعضهم ذكر هذه الحقائق قال : إذا كان هناك بيت يؤويك ، ومكان تنام فيه ، وطعام في بيتك ، ولباس على جسمك ، فأنت أغنى من خمسة وسبعين بالمئة من سكان العالم .
بيت طابق مرتفع ، تحت الأرض ، كبير ، صغير ، معك مفتاح بيت .
بيت يؤويك ، ومكان تنام فيه ، وطعام في بيتك ، ولباس على جسمك ، فأنت أغنى من خمسة وسبعين بالمئة من سكان العالم .
وإذا كان لديك مال في جيبك ، واستطعت أن توفر منه شيئاً لوقت الشدة ، فأنت واحد من ثمانية بالمئة من سكان العالم ، إذا معك وفر قليل ولو ألف ليرة في الشهر .
وإذا كنت قد أصبحت في عـافية هذا اليوم فـأنت في نعمة عظيمة ، فـهناك مليون إنسان في العالم لم يستطيعوا أن يعيشوا سوى أسبوع بسبب مرضهم .
وإذا لم تتجرع خطر الحروب ، ولم تذق طعم وحدة السجن ، ولم تتعرض لشدة التعذيب فأنت أفضل من خمسمئة مليون إنسان على سطح الأرض .
وإذا كنت تصلي في المسجد دون خوف ـ والحمد لله ـ من تعذيب ، أو تنكيل ، أو اعتقال ، أو موت ، فأنت في نعمة لا يعرفها ثلاثة مليارات إنسان في العالم .
يجب أن تعرفوا النعم التي منّ الله بها علينا .
إذا كان والداك على قيد الحياة ويعيشان معاً غير مطلقين ، فأنت نادر في هذا الوجود ، أبوك وأمك حيان يرزقان يعيشان معاً .
إذا كنت تبتسم وتشكر المولى عز وجل فأنت في نعمة ، فكثيرون لا يستطيعون ذلك و لا يفعلون .
هذه الرسالة لو أرسلتها لكم وقرأتموها فإنك أفضل من مليارين من البشر يعرفون القراءة والكتابة .
لذلك أيها الأخوة الكرام ، قبل أن تسأل ماذا أفتقد انظر ماذا عندك ؟
﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .