- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخــطــبـة الأولــى:
الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، وينادي: هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ ويقول: عبدي لا تعجز منك الدعاء وعلي الإجابة، منك الاستغفار وعلي المغفرة، منك التوبة وعلي القبول، من أحبنا أحببناه، ومن عصانا أمهلناه، ومن رجع إلينا قبلناه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا رب لك العبادة وإليك التوجه، ومنك الخشية وعليك الاعتماد، لا احتكام إلا إليك، ولا سلطان إلا لشريعتك، ولا اهتداء إلا بهديك، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين. عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
الصيام عبادة كبرى من العبادات الشعائرية:
أيها الأخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، بعد أيام عدة يطل علينا شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، شهر الطاعة والإحسان، شهر الذكر والحب، شهر التقوى والقرب، قال عليه الصلاة والسلام:
(( رغم أنف عبد ـ أي خاب وخسر ـ أدرك رمضان فلم يغفر له، إن لم يغفر له فمتى ))
ينبغي للمرء في رمضان وفي غيره أن يخرج من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، ومن مدافعة التدني إلى مدافعة الترقي.
موضوع الخطبة اليوم محاولة متواضعة لفهم آيات الصيام في القرآن الكريم، وقبل الحديث عن حكم الصيام وعن أسراره لا بد من وقفة قصيرة عند حقيقة العبادة وجوهرها، لان الصيام عبادة كبرى من العبادات الشعائرية.
أيها الأخوة المؤمنون في كل مكان، الإسلام دين الله الذي ارتضاه لعباده، والمنهج القويم الذي اختاره الله لخلقه، فينبغي للإنسان أن يسير عليه، وتطبيق هذا المنهج عن إيمان وإخلاص هو جوهر العبادة التي هي علة وجودنا، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
من العبادات ما هو تعاملي كالأمر بالصدق، والأمانة، والعفاف، وإنجاز الوعد، والوفاء بالعهد، وتحري الحلال، وضبط الجوارح والأعضاء، هذه العبادات التعاملية تقوم أصولها على حسن العلاقة مع الخلق، وأما العبادات الشعائرية كالصلاة والصوم والحج فتقوم أصولها على حسن العلاقة مع الله عز وجل إقبالاً واتصالاً واستنارة وطمأنينة.
الآية التالية لخصت شطري الدين:
أيها الأخوة الكرام، لا تصح العبادات الشعائرية ومنها الصيام إن لم تصح العبادات التعاملية:
(( ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط. ))
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ))
ولقد لخصت الآية الكريمة شطري الدين فقال تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ ﴾
حسن العلاقة مع الحق.
﴿ والزَّكَاةِ ﴾
حسن العلاقة مع الخلق.
﴿ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
لكن حينما يقبل المصلي على تطبيق أمر تكليفي لعلة فيه تتفق مع مصلحته، أو لما فيه من أسرار وحكم، يكون إيمان هذا المرء بالأمر لا بالآمر، والمفروض أن يكون الإيمان بالآمر، والقصد عبادة الله، وطلب مرضاته، لا الوصول إلى السلامة، وبلوغ السعادة في الدنيا.
علة كل أمر إلهي أنه أمر إلهي:
المؤمن بالله يقبل على امتثال أمره، لأنه أمر من خالقه ذي القدرة المقتدرة، والحكمة البالغة، والكمال المطلق، يقبل على الائتمار بالأمر، لأنه أمر من خالقه وكفى، فهمت العلة أم لم تفهم، والمهم أن يكون الدافع إلى فعل الأمر وترك النهي هو عبادة الله وطاعته لا جني ثمار الأمر واجتناب تبعات النهي، وإن كان هذا يحصل ممن يطيع الله عز وجل، لكن الله جلت حكمته حينما يرى عبداً من عباده المتقين يقبل على الطاعات لأنها أوامر خالقه، حينما يراه كذلك يكشف له بعد تطبيق الأمر علته المعجزة، وحكمته البالغة، وأسراره العظيمة، وبهذا يحقق العبد عبوديته لربه وتفقهه لعلة الأمر وحكمته وأسراره، أما الذي يعلق تطبيق الأمر على فهم حكمته ورؤية ثمرته فهو لا يعبد الله ولكن يعبد ذاته.
علة كل أمر إلهي أنه أمر إلهي، هذه اللفتة من أجل أن يرتقي صيامنا من سلوك ذكي إلى عبادة خالصة، يقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
لقد جرت سنة الله في خطابه أن يخاطب الناس جميعاً بأصول الدين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، بينما يخاطب المؤمنين الذي آمنوا بوجوده، وكماله، ووحدانيته، يخاطبهم بفروع الدين، كالأمر، والنهي، والحلال، والحرام، فكأن الله جل في علاه في هذه الآية الكريمة يرقق الأمر بالصيام، كأنه يقول: يا من آمنتم بي، يا من آمنتم بعلمي وحكمتي، يا من آمنتم برحمتي ومحبتي، يا من أحببتموني، لقد كتبت عليكم الصيام، وحينما يأتي الحكم ممن آمنت به، وممن وثقت برحمته وحكمته تثق أن هذا الأمر تأتي منه فائدة لك، لكن لا ينبغي أن تقيس هذا الأمر بمقياس عقلك المحدود، بل ينبغي أن تقيسه بعلم خالقك وحكمته ورحمته، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.
مبدأ الصوم هو ركن تعبدي موجود في الشرائع السماوية السابقة للإسلام:
قد يقول الأب الرحيم: يا بني ألست والدك ؟ ألا تثق بخبرتي المزيدة، ورحمتي الأكيدة، وحرصي على سلامتك وسعادتك ؟ دع هذا الأمر، ولا تقسه بعقلك الفتي، ولا بخبرتك المحدودة، ولا بنظرك القاصر، بل قِسْهُ بعقل أبيك وخبرته ومحبته، لعل في هذا الشرح توضيحاً من ارتباط قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
الصيام إمساك عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات من الفجر حتى الغروب بنية العبادة والطاعة، ولأن هذا النهي عن شهوة الطعام والشراب وشهوة أخرى، شهوات مباحة وفق منهج الله عز وجل ومحببة للإنسان، ورد في الحديث القدسي:
((كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))
وفي رواية:
(( يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ))
أما قوله تعالى:
﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (183) ﴾
تشير هذه الآية إلى أن مبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فهو ركن تعبدي موجود في الشرائع السماوية السابقة للإسلام، إنه منهج الله في تربية الإنسان، أما قوله تعالى:
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) ﴾
أي لعلكم تدعون المعاصي وتلزَمون الطاعات، لا في شهر رمضان فحسب بل في كل أشهر العام.
معنى الصيام الحقيقي:
ليس القصد أن ننتصر على أنفسنا في رمضان ثم نتخاذل أمامها بقية العام، ولكن الصيام الحقيقي أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران وتقلبات الزمان والمكان، ليس القصد أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة، والنميمة، وقول الزور، ثم نطلقها بعد رمضان إلى الكذب والبهتان، ولكن الصيام الحقيقي أن تستقيم منا الألسنة وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان.
ليس القصد أن نغض أبصارنا عن محارم الله، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولكن الصيام الحقيقي أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان حتى نلقى الواحد الديان.
ليس القصد أن نتحرى الحلال خوفاً من أن يرد علينا صيامنا، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان، على أنه عادة من عاداتنا، ونمط شائع من سلوكنا، ولكن الصيام الحقيقي أن يكون الورع مبدأً ثابتاً وسلوكاً مستمراً في حياتنا.
ليس القصد أن نبتعد عن المجالس وعن المشاغب التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان، ثم نعود إليها، وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام.
ليس القصد أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا ما دمنا صائمين، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا، مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة حبسها أهله، ثم أطلقوها فلا تدري لا لما عقلت ولا لما أطلقت.
الشيء المهم الذي ينبغي أن نستوعبه هو أن الله تعالى لم يصطف رمضان من بقية الشهور ليكون شهر الطاعة والقرب، فحسب بل أراده شهراً يتدرب فيه الإنسان على الطاعة، حتى يذوق حلاوة القرب، وعندها تنسحب هذه الطاعة وذاك القرب على كل شهور العام، فيكون رمضان عندئذ قفزةً نوعية مستمرة في مجال الطاعة والقرب.
الحكمة من الاصطفاء:
الحكمة من أن الله تعالى أمرنا بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غياب الشمس هي أن الإنسان حينما يدع ما هو مباح امتثالاً لأمر الله لا يستطيع ولا يتوازن مع نفسه أن يقترف ما هو محرم في هذا الشهر، فترك المحرمات أولى من ترك المباحات، فحينما يصطفي الله شهراً من الشهور لتصفو فيه العلاقة بالله يصطفيه من أجل أن يشيع هذا الصفاء مع الله في كل الشهور، لأن الله مع المؤمن في كل زمان، وحينما يصطفي الله مكاناً كبيته الحرام، ويدعو المؤمنين إليه ليذوقوا حلاوة القرب فيه، يريد أن ينسحب هذا القرب على كل الأمكنة، لأن الله مع المؤمن في كل مكان، وحينما يصطفي الله إنساناً فيكشف له الحقائق، إنما يصطفيه ليكشف من خلاله الحقائق لكل الناس، وحينما يصطفي الله إنساناً ليوحي إليه الأمر والنهي والمنهج القويم، إنما يصطفيه ليكون هذا المنهج مطبقاً لدى كل الناس.
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
إن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين، وحينما يصطفي الله إنساناً ليسعده سعادة أبدية، إنما يصطفيه ليسعد بدعوته كل الناس.
مجمل القول، حينما يصطفى الله زماناً كرمضان، ومكاناً كبيته الحرام، وإنساناً كسيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، إنما شاء الله جل جلاله أن يشيع اصطفاء الإنسان في كل الناس، واصطفاء المكان في كل الأمكنة، واصطفاء الزمان في كل الأزمنة.
الله جل جلاله يعطي الرخصة للإفطار عندما يكون التكليف فوق الوسع:
ثم يقول الله تعالى:
﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ (184) ﴾
إنها أيام قليلة تعد على الأصابع، أياماً معدودات، إنها أيام قليلة اصطفاها الله لتكون أيام طاعة وقرب، فلعل الطاعة والقرب تستغرق كل أيام العام، ثم يقول الله تعالى:
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (184) ﴾
الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وسع النفس لا يستطيع أي إنسان أن يقدره بعقله لكن الله وحده الذي خلق، والذي صنع بعلمه، وخبرته، وحكمته، ورحمته هو وحده الذي يقدر الوسع، فهو جل جلاله يعطي الرخصة عندما يكون التكليف فوق الوسع، وتحديد المرض الذي يبيح الفطر يكون بغلبة الظن أو بإخبار طبيب مسلم ورع حاذق، وكذلك السفر الذي تقصر فيه الصلاة يعد علةً للإفطار في رمضان، لذلك لا يقبل في الدين أن يقول إنسان من خلال تحكيم عقله في موضوع تكليفي: هذا الأمر لا أقدر عليه، والله لن يؤاخذني على تركه إلا أن ترد في هذا الأمر رخصة من الذي خلق الإنسان، ويعلم حقيقة وسعه في أحد الوحيين الكتاب أو السنة، وحينما يطيق المسلم الصيام مع السفر أو المرض فالأولى أن يصوم، لقول الله عز وجل في سورة البقرة:
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ﴾
هذا وجه من وجوه تفسير الآية، لأن القرآن حمال أوجه.
الإهتداء إلى الله والتزام منهجه و الوصول إليه والتنعم بقربه ثمرة يانعة من ثمار الصيام:
أيها الأخوة المؤمنون:
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ﴾
تتمة الآيات، الشريعة رحمة كلها، مصلحة كلها، عدل كلها، فكل قضية خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، فليست من الشريعة، ولو أُدخلت عليها بألف تأويل وتأويل. ويقول الله عز وجل:
﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (185) ﴾
العدة أيام رمضان:
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكَمْ ﴾
الاهتداء إلى الله، والتزام منهجه، والوصول إليه، والتنعم بقربه ثمرة يانعة من ثمار الصيام، عندئذ تقتضي فطرة الإنسان التي فطر عليها شكر المنعم على نعمه، وهل من نعمة أجل وأبقى من نعمة الهدى ؟ فماذا وجد يا رب من فقدك ؟ وماذا فقد من وجدك ؟
فطرة الإنسان تقتضي بعد أن هداه الله إليه أن يتوجه إليه بالشكر و الدعاء:
ما دام الصائم قد ذاق حلاوة القرب في شهر الصيام، فهو سيتجه بحكم فطرته بالشكر لله عز وجل على ما أولاه من نعم المعرفة والقرب، وهنا من المناسب جداً أن يقول الحق جل جلاله عقب آيات:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ ﴾
، ولم يقل: إن سألك، لأن (إذا) في اللغة تفيد تحقق الوقوع، بينما (إن) تفيد احتمال الوقوع، قال تعالى:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ﴾
وقال:
﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا (6) ﴾
فالفاسق قد يأتي وربما لا يأتي، لكن نصر الله محقق، فرق كبير بين (إذا) وبين (إن)، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي (186) ﴾
أي فطرة الإنسان تقتضي بعد أن هداه الله إليه أن يتوجه إليه بالشكر والدعاء:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) ﴾
حقيقة التوحيد:
من لوازم معرفة الله والوصول إليه والتنعم بقربه التوجه إليه وحده بالسؤال والدعاء، وهذه هي حقيقة التوحيد وهي جوهر الدين وكل دين سماوي. قال عليه الصلاة والسلام:
((ثلاثة لا ترد دعوتهم ؛ الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، يقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين))
لو تأملتم في آيات القرآن مادة السؤال لوجدتم أن كل سؤال ورد في القرآن ورد في جوابها كلمة (قل):
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (219) ﴾
وقال:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105)﴾
إلا في هذه الآية:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) ﴾
لم ترد كلمة (قل) بين السؤال والجواب، لذلك يقول العلماء: إن عدم ورود كلمة (قل) في هذه الآية هي إشعار من الله لعباده المؤمنين بأنه ليس بين العبد وبين ربه في سؤاله له ودعائه إياه وسيط:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
العبد الذي جمعه عبيد هو عبد القهر لكن العبد الذي جمعه عباد هو عبد الشكر:
(( سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب".))
وقفنا عند إذا، وعند السؤال، أما هنا كلمة عباد غير كلمة عبيد، فكل من في الأرض من البشر هم عبيد لله، لأنهم مفتقرون في وجودهم وفي استمرار وجودهم، وخصائصهم، وحاجاتهم، ومقهورون في هذا الوجود إلى الله، لكن العباد هم الذين تعرفوا إليه، والتزموا منهجه، وتقربوا منه مبادرةً منهم وبمحض اختيارهم، فالعبد الذي جمعه عبيد هو عبد القهر، لكن العبد الذي جمعه عباد هو عبد الشكر، قال تعالى:
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) ﴾
العبيد جمع عبد قهر، لكن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) ﴾
هؤلاء الذين عرفوني والتزموا منهجي وشكروا نعمائي. لماذا قال الله تعالى:
﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) ﴾
ليشعر المؤمن أن الله معه في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل حال، وأنه ما عليه إلا أن يدعوه مؤمناً ومخلصاً فيجيب دعوته، لكن الإنسان لضعف إيمانه، أو لضعف توحيده يدعو غير الله، لذلك يقول الله عز وجل:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
حظ المؤمن من الدعاء الإجابة أو التعبد:
سؤال آخر، لماذا لا يستجيب الله أحياناً لمن يدعوه ؟ هذا السؤال أجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه قال:
((إن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ؟ ))
لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ﴾
﴿وَلْيُؤْمِنُوْاْ بِي﴾
، تؤمن به، وتستجيب لأمره، فيجيب دعاءك،
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
، يرشدون إلى الدعاء المستجاب، أو إلى سعادة الدنيا والآخرة.
حينما لا يستجاب الدعاء يعزى ذلك إما إلى فساد الداعي وانحرافه عن منهج الله، أو أنه ليس من الرحمة والحكمة أن يستجاب له، فلو كشف الغطاء لاخترتم الواقع، وعلى كل فحظ المؤمن من الدعاء الإجابة أو التعبد، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام:
((هو العبادة ))
لقول الله عز وجل:
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ﴾
* * *
الخــطــبـة الثانية:
فوائد التمر:
أخوتنا الكرام في دنيا العروبة والإسلام، قال العلماء: إن الصيام يخفف العبء عن جهاز دوران القلب والأوعية، حيث تهبط نسب الدسم والحموض في الدم إلى أدنى مستوى، الأمر الذي يقي من تصلب الشرايين، وعمر الإنسان بحسب قول الأطباء من عمر شرايينه، والصيام أيضاً يريح الكليتين، وجهاز الإفراز، حيث تقل نواتج استقلاب الأغذية إلى أدنى مستوى، عندها يكون هذا وقاية من آلام المفاصل، ويتحرك سكر الكبد، ويحرك معه الدهن المخزون تحت الجلد، ويحرك معه بروتين العضلات، إذاً صيام رمضان يعد عند الأطباء دورة وقائية سنوية تقي من كثير من الإمراض، ويعد دورة علاجية أيضاً بالنسبة لبعض الأمراض، وإنه يقي من أمراض الشيخوخة التي تنجم عن الإفراط في إرهاق العضوية، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((صوموا تصحوا))
وشيء آخر:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على تمرات قبل أن يصلى، فإن لم تكن تمرات حسا حَسَواتٍ من الماء))
عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء طهور))
هذان الحديثان من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
الحكمة من تناول التمر في رمضان:
العلماء قالوا: التمر الذي يتناوله الصائم مع الماء فيه خمس وسبعون بالمئة من جزئه المأكول مواد سكرية أحادية، سهلة الهضم، سريعة التمثل، إلى درجة أن السكر الذي فيها ينتقل من الفم إلى الدم في أقل من عشر دقائق، وفي الحال يتنبه مركز الإحساس بالشبع في الجملة العصبية، فيشعر الصائم بالاكتفاء، فإذا أقبل على الطعام بعد صلاة المغرب أقبل عليه باعتدال، وكأنه في أيام الإفطار، بينما المواد الدسمة الدهنية والبروتينية يستغرق هضمها وامتصاصها أكثر من ثلاث ساعات، فمهما أكثر الإنسان من الطعام الدسم لا يشعر بالشبع، ولكن يشعر بالامتلاء، وفرق كبير بين أن تشعر بالشبع بلقيمات في معدتك وبين أن تشعر بالامتلاء فقط بعد أن تكتظ المعدة بالطعام، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، ويصلي المغرب ثم يجلس إلى الطعام، ومن لم يطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في إفطاره فاته خير كثير من صيامه.
أيها الأخوة في كل مكان، تتركب التمور من السكريات الأحادية، وهذا النوع من السكر هو أسرع السكاكر امتصاصاً في جسم الإنسان، حيث ينتقل سكر التمر من الفم إلى الدم في أقل من عشر دقائق، وتتركب التمور أيضاً من الألياف السليلوزية التي لها آثار مدهشة في عملية الهضم، وفي وقاية الأمعاء من الأمراض الوبيلة، وتتركب التمور أيضاً من المواد البروتينية المرممة للأنسجة ومن نسب ضئيلة من الدهون، وتحتوي التمور على خمسة أنواع من الفيتامينات الأساسية التي يحتاجها الإنسان، وتحتوي التمور على ثمانية معادن، ومئة غرام من التمور فيها من نصف إلى خمس حاجة الجسم من المعادن، ويحتوي التمر على اثني عشر حمضاً أمينياً، وفيه مواد قابضة وملونة، وهناك خمسون مرضاً يسببها الإمساك، والتمر يقي من الإمساك، وله آثار إيجابية للوقاية من فقر الدم، ومن ارتفاع الضغط، ويعين على التئام الكسور، وهو ملين، ومهدئ، وقد أثبتت الأبحاث أن التمر لا يتلوث بالجراثيم، حتى في أيام الإفطار ينبغي أن تقدم الفاكهة إن وجدت، لما فيها من سكاكر أحادية على وجبات الطعام الدسمة التي تحوي غالباً مواد يطول هضمها، استنباطاً ظنياً من قوله تعالى وهو يصف أهل الجنة:
﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) ﴾