وضع داكن
19-11-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة النبأ - تفسير الآيات 1-17 الإيمان باليوم الآخر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

الإله العظيم إذا قال عن شيء إنه نبأٌ عظيم فهو حقّاً نبأ عظيم:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من الجُزء الثلاثين، والسورة اليوم سورة النبأ.

﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)﴾

[ سورة النبأ  ]

كلمة (عمَّ) أساسها "عن" حرف جر، و"ما" الاستفهامية، فإذا أُضيفت ما الاستفهامية إلى حروف الجر تحذف ألفها، أما إذا أضيفت إلى ما المصدرية فتبقى ألفها، لو أنني سألت واحداً متفوقاً: بِمَ نلت هذا النجاح المتفوِّق؟ يقول لي: بما بذلت من جهدٍ، فـ (ما) الأولى استفهامية، أما الثانية فهي مصدرية، فإذا جاءت حروف الجر مع ما الاستفهامية تُحذف ألفها، هذه قاعدة؛ عمَّ؟ إلامَ؟ فيمَ؟
 يقول الله عزَّ وجل: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ﴾ الإله العظيم إذا قال: إنه نبأٌ عظيم، لو أن طفلاً قال لك: أنا معي مبلغ كبير، كم تقدِّر هذا المبلغ؟ لو أن رجلاً غنياً جداً قال لك: ثروتي كبيرة، إنك تقدِّر كلمة كبيرة بالنسبة للقائل، فالطفل إذا قال لك: معي مبلغ كبير غير إنسان تاجر كبير جداً، مليونير، قال لك: ثروتي كبيرة، فحجم الكِبَر هنا يؤخذ بحسب القائل.
 

خسارة الآخرة نبأٌ عظيم يصعق فيه الناس:


ربنا عزَّ وجل العظيم، سبحان ربي العظيم.

﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)﴾

[  سورة الواقعة ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾

[ سورة الحاقة ]

الإله العظيم يقول لك: هو نبأٌ عظيم، هذا اليوم يوم الفصل، الإنسان يُصْعَق:

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

الإنسان يصعق في هذا اليوم؛ لأنه يكتشف أنه خسر الآخرة، الإنسان حينما يخسر خسارة كبيرة في الدنيا يُصعق، إذا ذهبت ثروته كلُّها، أو صُودِرَت أمواله كلها، أو فَقَدَ بيته الوحيد، أُعطِي أمر بإخلائه لخللٍ في البناء، ولا يملك مأوىً غيره، شيء من الدنيا إذا كان مهماً وفَقَده الإنسان فجأةً يصعق، فكيف إذا اكتشف في ساعة يوم القيامة أنه خسر الآخرة؟

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]

 

الغنى والفقر بعد العرض على الله:


الخسارة الحقيقية حينما نخسر الأبد، نربح الدنيا المحدودة، القصيرة، ونخسر الأبد، فهذا نبأٌ عظيم يُصعق فيه الناس.
لذلك المؤمن حينما يربح الآخرة يقول: لم أرَ شراً قط، كل ما ساقه الله له من مصائب في الدنيا لا يراها شيئاً أمام هذا الفوز العظيم، وكل شيءٍ تَنَعَّم به الكافر في الدنيا حينما يرى مكانه في جهنم يقول: لم أرَ خيراً قط.
فالغنى والفقر بعد العرض على الله، العقل كل العقل، النجاح كل النجاح، الذكاء كلّ الذكاء، التفوق كل التفوق أن تربح الأبد، وأن تربح جنةً عرضها السماوات والأرض، الإنسان في الدنيا مُرْخى له الحبل، له أن يفعل ما يشاء، له أن يصلي أو لا يصلي، له أن يأكل المال الحرام أو أن يكسب المال الحلال، له أن يُطلق بصره أو يغضَّ بصره، له أن يصدق أو أنْ يكذب، له أن يُخْلص أو أن يخون، له أن يقسو أو أن يرحم، افعل ما تشاء:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾

[ سورة فصلت ]

كل شيء له حساب، في يوم الفصل تقاس الأشياء بمقياسٍ واحدٍ إلهي، فهؤلاء يتساءلون.

زعم المنجِّم والطبيب كلاهـمـا        لا تُبعث الأموات قـلت: إليكـما

إن صحَّ قولكما فلست بخاسـرٍ        أو صحَّ قولي فالخسار عليكمـا

[ أبو العلاء المعري ]

* * *

هذا التساؤل سوف يُحْسَم يوم القيامة.

  ما من حدثٍ أشد واقعية من النبأ العظيم:


﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)﴾

[ سورة النبأ ]

والبشر الآن مختلفون؛ هناك من يؤمن بالمادَّة فقط ولا شيء آخر بعد المادة، الدنيا هي كل شيء، والمال هو كل شيء، وطاعة الأقوياء هي كل شيء، هكذا، وهناك إنسان عرف الله فرأى الحقيقة الدينية هي كل شيء، ورأى أن الله عزَّ وجل هو كل شيء، السعادة كل السعادة في معرفته، وطاعته، والقرب منه، والشقاء كل الشقاء في الغفلة عنه، ومعصيته، والبعد عنه، فهذا النبأ العظيم واقعٌ لا محالة، بل ما من حدثٍ أشدّ واقعية من النبأ العظيم، من يوم القيامة، من يوم الفَصْل، من يوم الطَّامة:

﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)﴾

[ سورة النازعات ]

من يوم القارعة.

﴿ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)﴾

[ سورة القارعة ]

﴿ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)﴾

[ سورة الحاقة ]

أسماء يوم القيامة كثيرةٌ جداً؛ يوم الفصل، ويوم الدين، ويوم الجزاء، والحاقَّة، والقارعة، وما إلى ذلك، لكن هذا الاختلاف لا يستمر، يحسمه الله عزَّ وجل عند الموت.

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[  سورة ق ]

أكفر كفَّار الأرض حينما جاءه الموت قال:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾

[ سورة يونس ]

أيْ هذه الحقائق الكبرى التي جاء بها الأنبياء سوف يكشفها كل الخلق، لكن عند الموت، وبعد فوات الأوان.
 

خيار الإيمان خيار وقت:


إذاً خيار الإيمان خيار وقت، إما أن تؤمن في الوقت المناسب فتنتفع بإيمانك، وإما أن تؤمن في الوقت غير المناسب فتشقى بإيمانك، أما الإيمان حاصل لا محالة، ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ عند الموت ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ يوم البعث والنشور. 
الآن هذا اليوم يوم الفصل، هذا اليوم يوم الدين، هذا اليوم يوم الجزاء، هذا اليوم يوم تسوية الحسابات، ما سبيل الإيمان به؟ هو إيمانٌ تحقيقي أم إيمانٌ تصديقي؟ هناك من يقول: هو إيمان تصديقي لأن الله أخبرنا أن هناك يوماً عظيماً يُحاسب فيه الناس عن كل أفعالهم.

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[ سورة الكهف ]

 

الإيمان بالله واليوم الآخر متكاملان:


أنت حينما تؤمن أيها الأخ الكريم أنه:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[  سورة الزلزلة ]

يجب أن تكتفي بهذه الآية، لأن أعرابياً لقي النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله عظني ولا تطل. فتلا عليه قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ قال: كُفيت، آية واحدة.
أيها الأخ الكريم؛ أنت حينما تؤمن أن كل كلمةٍ، وكل حركةٍ، وكل سكنةٍ، وكل عطاءٍ، وكل منعٍ، وكل ابتسامةٍ، وكل صلةٍ، وكل قطيعةٍ، وكل غضبٍ، وكل رضا، وأيّ موقفٍ، وأيّ عملٍ تعمله مسجلٌ عليك وسوف تُحاسب عنه، هذا هو الإيمان.
لذلك الإيمان بالله لا يكفي، لابدَّ أن تؤمن مع الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر، فرعان من فروع الإيمان أساسيان اقترنا معاً في أكثر آيات القرآن، آمن بالله واليوم الآخر، الإيمان بالله واليوم الآخر متكاملان، أي أنت إن لم تؤمن أن الله موجود، وكامل، وواحد، ويعلم، وسيحاسب، وسيعاقب لن تستقيم على أمر الله.

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق ]

 

الإيمان باليوم الآخر إيمان تصديقي:


حينما تؤمن أن علمه يطولُك، وأن قدرته تطولُك لا يمكن أن تعصيه، هذا النبأ العظيم يوم القيامة، يوم الدين، يوم الفَصْل، يوم الجزاء، يوم الدينونة، القارعة، الحاقّة، الطامّة، الغاشية، إن آمنت باليوم الآخر أصبحت مَلَكاً، وهذا الذي يعصي، وهذا الذي يعتدي على أعراض الناس، وهذا الذي يقع في المعاصي والآثام، وهذا الذي يبني حياته على العدوان، هذا إنسان لا يمكن أنه آمن باليوم الآخر، لو آمن لما فعل، إنك إن آمنت بإنسانٍ قوي يفعل ما يقول لا يمكنك أن تعصيه، من بني البشر، من بني جلدتك، إذا كنت موظفاً في دائرة، ولك مديرٌ قويُّ الشخصية يعلم ما يفعله موظَّفوه بالتفاصيل، ويحاسب، ويعاقب، تستقيم على أمره، تستقيم على أمر بشر فكيف بخالق البشر؟!
هذا الإيمان باليوم الآخر إيمان تحقيقي أم تصديقي؟ الحقيقة هو عند جمهور العلماء إيمان تصديقي، لأن الله أخبرنا أن هناك يوم دين، يوم جزاء سوف نحاسب فيه، ولكن لو أعْمَلْتَ عقلك في الموضوع، ممكن بلد ينشئ جامعة تكلِّف ألوف الملايين، ويستغرق بناؤها خمسين عاماً، وبعد افتتاحها بسنتين يؤمر بتهديمها؟ عمل غير معقول، قس على ذلك إنساناً عاش ستين سنة، أربعون سنة إعداد؛ درس حتى نال الدكتوراه، تزوّج، اشترى بيتاً، فرش البيت، صار له عمل، هذا كله بالأربعين، معترك المنايا بين الستين والسبعين في أحسن الأحوال، وأحياناً بالثامنة والخمسين يموت الإنسان، بالخامسة والخمسين، بالثانية والأربعين، وبالثالثة والأربعين، بالتاسعة والخمسين، بالخمسين، معقول هكذا الحياة؟ سنتان، ثلاث، أربع، عشر، وانتهى الأمر؟! 
واحد قوي، وواحد ضعيف، وتنتهي الحياة هكذا، القوي قوي والضعيف ضعيف، والغني غني والفقير فقير، والصحيح صحيح والمريض مريض، والمعمِّر معمِّر والقصير العمر قصير العمر بلا تسوية حسابات؟!! هناك ظالم وهناك مظلوم، هناك مُستغِل وهناك مُستغَل، هناك قاهر وهناك مقهور، هناك إنسان تمتَّع بصحة رائعة طوال حياته، عاش مئة سنة، وإنسان آخر كله عللٌ وأمراض، وتنتهي الحياة هكذا بلا شيء؟! المعتدي نجا والمعتدى عليه سُحِق، الظالم نجا والمظلوم هُضِم حقه، بلا يوم حساب؟! العقل لا يقبل ذلك.
لذلك بعض العلماء الكبار منهم ابن القيِّم قال: الإيمان باليوم الآخر عقلي، وتفاصيله نقليَّة، التفاصيل؛ ما سيجري في هذا اليوم، الصراط المستقيم، الحوض، العذاب، الصُحُف نُشِرَت، الميزان نُصِبْ، تفاصيل هذا اليوم نقلاً، أما أصل هذا اليوم نؤمن به عقلاً:

﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)﴾

[ سورة النبأ  ]

 

من عظمة الله سبحانه أنه جعل هذه الأرض ممهَّدة لنا:


الآن أيها الأخوة قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)﴾

[ سورة النبأ  ]

ما العلاقة بين قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً﴾ إلى آخر الآيات وبين قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ ؟ أيْ هذا الخالق العظيم الذي جعل هذه الأرض ممهَّدةً لنا، لو جعلها كلها صَخْرِيَّة كيف نعيش عليها؟ جعلها تُرْبَةً تُنبت الزرع والزيتون.
 

 الأرض الممهَّدة كل شيء فيها خُلق خصيصاً للإنسان:


من فجَّر الينابيع؟ من أنزل الأمطار؟ من حرَّك السحُب؟ من قَنَّنَ هذه القوانين؟ بخار الماء، والتبخُّر، والهواء يحمل بخار الماء، وكل درجة حرارة يستوعب الهواء من بخار الماء ما يستوعب، فإذا انتقل بخار الماء إلى جبهةٍ باردة تخلى عن بعض ما فيه فكان المطر، ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾ هذه الأرض الممهَّدة؛ فيها معادن، فيها أشباه معادن، فيها نباتات، فيها أطيار، فيها أسماك، فيها حيوانات، فيها أنعام، كل شيء فيها خصيصاً للإنسان.

﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)﴾

[ سورة النحل ]

فهذه الآيات الدالة على عظمته: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً﴾ مهاداً لكم، فالأرض مستقرة لو أنها مضطربة هل يُبنى عليها بناء؟

﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾

[  سورة النمل ]

﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾

[  سورة النازعات ]

 

كل ما في الكون ينطق بآيات الله سبحانه:


أيها الأخوة؛ هذا موضوع كبير: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً﴾ مستقرَّة، ومتحركة، وذات حجم معتدل، وكثافة معتدلة، والجاذبيّة معتدلة، الإنسان إذا كان وزنه في الأرض ستين كيلو، لو كان على سطح القمر فوزنه عشرة كيلو فقط، وزن معتدل، كثافة معتدلة، حجم معتدل، دورة معتدلة، دورة على محور مائل، لولا هذا المَيْل لما كانت الفصول، لولا أن الدوران على محور لا يتوازى على مستوى الدوران لما كان ليل ولا نهار، الليل والنهار آية، الشمس والقمر آية، والفصول آية، والاعتدال في الحرارة والبرودة آية، الأمطار آية، الرياح آية، الجبال آية، الصحارى آية، البحار آية، الأنهار آية، الينابيع آية، ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ الأرض تدور، الأرض لها طبقات، كل طبقة لها كثافة، كل كثافة لها عطالة، والكثافات متفاوتة، إذاً الأرض حينما تدور يجب أن تضطرب، ائتِ ببيضةٍ ليست مسلوقةً دوّرها تضطرب، لأن فيها عناصر متفاوتة في الكثافة، فيها صفار وفيها بياض، والكثافة تَعني أن العطالة مختلفة، والعطالة ما هي؟ العطالة أن الجسم المتحرِّك يرفض السكون، والساكن يرفض الحركة، فالجسم الكثيف عطالته عالية جداً، والجسم القليل الكثافة عطالته بسيطة، فالبيضة غير المسلوقة لا تدور بل تضطرب، أما المسلوقة فقد تجانست، فالعطالة أصبحت واحدة، الأرض فيها طبقات متفاوتة، الجبال أوتاد، الجبال ربطت هذه الطبقات بعضها ببعض، لذلك الجبل يُرى منه ثلثه فقط، والثلثان تحت الأرض، الجبال أوتاد، هناك آية تذكر أنّ الجبال رواسٍ، وآية أخرى الجبال مَصَدَّات، أما هنا فالجبال أوتاد.
 

الذكور شيء والإناث شيء وكل جنسٍ خصائصه وقُدراته كاملة لمهمَّته:


﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)﴾

[ سورة النبأ ]

نظام الزوجية، نظام الذكر والأنثى، شخصان متشابهان، لكن الرجل له بُنْيَة جسمية خاصة، أجهزة خاصة، له عقلية خاصة، الجانب العقلي مختلف، الجانب النفسي مختلف، الاجتماعي مختلف، القُدرات مختلفة. 
والله قرأنا كتاباً في الجامعة "الفروق بين الجنسين" كتاب مشهور جداً، ثمانمئة صفحة، بعد أن تقرأه وتقرأ قوله تعالى:

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)﴾

[ سورة آل عمران ]

تسجد لله تعظيماً لخلقه، بمئات القدرات الذكور شيء والإناث شيء، وكل جنسٍ خصائصه وقُدراته كاملةٌ لمهمَّته، معنى قول الإمام الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان، فكل خصائص المرأة؛ الجسمية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية كمالٌ لمهمتها، أما حينما تختلط الأوراق، وتتشبَّه النساء بالرجال، ويتشبَّه الرجال بالنساء، ويأخذ كلّ جنسٍ دور الجنس الآخر، يصير هناك معاناة كبيرة جداً، أما المرأة بكل خصائصها كاملةٌ لأداء مهمَّتها، ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً﴾ يقول لك بعضهم: المرأة كالرجل تماماً، لا، هذا كلام غير صحيح، هي كالرجل؛ تشريفاً، وتكريماً، وتكليفاً، ومسؤوليةً، مكلَّفة أن تؤمن كما هو مكلف أن يؤمن، مكلفة أن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والكتاب، والملائِكة، والنبيين، مكلَّفةٌ بأركان الإسلام؛ بالصلاة، والصيام، والحجِّ، والزكاة، مشرَّفةٌ كما هو مشرَّف، مسؤولةٌ كما هو مسؤول، ومع كل ذلك: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ .
 

 من آيات الله الدالَّة على عظمته أن الله عزَّ وجل جعل البشر أزواجاً:


قدراتها، وخصائصها، وبُنْيَتُها، ونفسيّتها، وعلاقاتها، وعقليتها أكمل شيءٍ لأداء مهمتها، إن زوجي تزوجني وأنا شابة؛ ذات أهلٍ ومالٍ وجمال، فلما كبرت سني، ونثر بطني، وتفرَّق أهلي، وذهب مالي قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، لها دور التربية وله دور القيادة.
لذلك قالوا: ما زاد في عقل الرجل ونقص في عاطفته كمالٌ في مهمته، وما زاد من عاطفة المرأة الجيَّاشة وضَعُفت قيادتها كمالٌ بحقِّها، هي أسرة، مركب يحتاج إلى قائد، القيادة للزوج، والرعاية للزوجة، ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً﴾ من آيات الله الدالَّة على عظمته أن الله عزَّ وجل جعل البشر أزواجاً.

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)﴾

[ سورة الروم ]

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾

[ سورة الروم ]

 

النوم والليل من آيات الله الدالة على عظمته:


﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً(9)﴾

[ سورة النبأ ]

 ما هذا النوم؟ لك أعصاب، ولك منافذ؛ العينان منفذان من العالم الخارجي إلى عالمك الداخلي، والأذنان منفذان من العالم الخارجي إلى عالمك الداخلي، وأعصاب الحِس منافذ، والأنف منافذ، والفم منافذ، هذه المنافذ ماذا يحصل لها في النوم؟ قال العلماء: الطريق العصبي عبارة عن خلايا عصبية، خلية واستطالة، وهناك تباعد بينها وبين الخلية الثانية، في النهار الخلايا متقاربة، فالسيَّالة العصبيَّة تستمر في سيرها، في الليل تتباعد، فإذا تباعدت انقطعت السيالة العصبية فكان النوم، ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً﴾ النائم كالميت تماماً، ترتاح أعصابه، ترتاح عضلاته، يرتاح نشاطُه الفكري، يستيقظ ليستعيد نشاطه مرةً ثانية، ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً*وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً*وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً *وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً *وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً﴾ الليل سَتر، وقت الراحة، وقت النوم، وقت اللقاءات، وقت الركون إلى البيت والأهل، كله في الليل.
 

النهار والكون من آيات الله الدالة على عظمته أيضاً:


﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)﴾

[ سورة النبأ ]

النهار طبيعته طبيعة عمل، بالعكس الإنسان يوجد عنده ساعة بيولوجية، هذه الساعة البيولوجية في النهار ترتفع ضربات القلب، ويعلو الضَغط، وبعض الغُدَد الصمَّاء تفرز كميَّات مضاعفة، هناك برنامج دقيق جداً متعلِّق بأجهزة القلب، والدوران، والرئتين، والغدد الصماء كله في النهار فإذا جاء الليل هبطت ضربات القلب إلى الثُلثين، والضغط هبط، والإفراز قَلّ.
إذا سافر الإنسان لبلد بعيد يقول لك: مضى عليّ يومان لم أنم، لأنه مبرمج على البلاد القديمة التي سافر منها، إلى أن تأخذ الساعة البيولوجية خطَّتها الثانية تحتاج إلى يومين، فالنهار معاش، والليل لباس، قلبك، وشرايينك، وضغط الدم، والرئتان، والهضم، الهضم في الليل أضعف بكثير، والغدد الصمَّاء، هذه كلها نشاطها يزداد في النهار ويضعف في الليل، لذلك الذي يسهر الليل وينام النهار هذا إنسان غير سوي، هذا يعاكس بُنْيَة جسمه.

﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)﴾

[ سورة النبأ ]

قد تكون كلمة (سبعاً) للتكثير فقط، أما يوجد مئة ألف مليون مجرَّة، ومجرَّتنا مجرة معتدلة جداً، فيها مئة ألف مليون نجم، وهناك مجرَّة اسمها المرأة المُسَلْسَلَة، تزيد عن مجرَّتنا بثمانيةٍ وعشرين ضعفاً، وتبدو في المناظير نجماً واحداً كلها، كل شيء ترونه في السماء هو درب التبانة، مجرتنا فقط، يوجد نجم متألِّق جداً اسمه المرأة المُسلسلة، هو في الحقيقة مجرةٌ بأكملها، ويزيد حجمها عن حجم مجرتنا بثمانيةٍ وعشرين ضعفاً، ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ ، الآن الرقم وصل إلى عشرين مليار سنة ضوئيَّة، أي بُعْد بعض المجرات عنا عشرون مليار سنة ضوئيَّة.
 

آيات أخرى دالة على عظمته سبحانه:


الضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، إذا كل ثانية قطع الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر كم قطع الضوء في هذا الدرس؟ النجم الذي يبعد عنا عشرين مليار سنة، وصلنا ضوءه بعد عشرين مليار سنة، أين هو الآن؟ النجم يسير بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر بالثانية، الله عزَّ وجل قال:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾

[ سورة الواقعة ]

﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)﴾

[ سورة النبأ ]

هذه الشمس من خمسة آلاف مليون سنة مُتَألِّقة، مشتعلة، ويُقدِّر علماء الفلك أنها تبقى متألِّقة إلى خمسة آلاف مليون سنة أخرى، وترسل من الطاقة ما لا يوصف، سطحها تزيد حرارته عن ستة آلاف درجة، حرارتها في مركزها عشرون مليون درجة، لو أُلقيت الأرض فيها لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة، جوف الشمس يتسع لمليون وثلاثمئة ألف كرة أرضية، لسان لهبها يزيد عن مليون كيلو متر، من مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر لو حدَّقت في قرص الشمس لاحترقت شبكية العين، ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً* وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾ هذه الأمطار، قد ترى على الأرض مِن القمر الصناعي لطعةً رمادية اللون فوق الشرق الأوسط، هذه كانت بالقُطر كلّه ببلدنا الطيب، وفي الأردن، وفلسطين، ولبنان، وتركيا، وشمال السعودية، منخفض، هي رحمة الله عزَّ وجل، مئة وتسعون ميليمتراً في الأربعة والعشرين ساعة، مئتان، مئتان وخمسون، خمسون، ستون، سبعون، خيرات لا يعلمها إلا الله، على القمر الصناعي لطعة رمادية اللون فوق الشرق الأوسط.

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾

[ سورة الحجر ]

 

كل شيء نأكله هو نبات أساسه الماء:


﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)﴾

[ سورة النبأ ]

 لا يعرف كلمة ﴿المعصرات﴾ إلا علماء الجغرافيا، هذا الهواء يحمل بخار ماء، ممكن أنْ يحمل هذا الهواء بدرجة فرضاً ثلاثين كمية من بخار الماء معيَّنة، فلو مررنا هذا الهواء الحامل لبخار الماء، وعرَّضناه إلى برودة، الهواء ينكمش، فإذا انكمش الهواء تخلّى عن بعض الماء الذي فيه، لأن الهواء يستوعب بكل درجة كمية بخار ماء معيَّنة، وكأن هذا الهواء عَصَرَ ما فيه من بخار الماء وجعله مطراً: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً* لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً﴾ أساس الرزق هو الماء، فالأنهار والينابيع، والمزروعات والمحاصيل، والقمح والشعير، كل شيء تأكلونه هو نبات، هذا النبات أساسه الماء: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً*لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً﴾
 

الذي خلق هذا الكون العظيم لن يدع الإنسان سُدَىً بل سيحاسبه:


هذا الذي خلق السماوات والأرض جعل: ﴿الْأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً* وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً* وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً* وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً* لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾ هذا الإله العظيم خلَق الكون عبثاً؟!

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[ سورة المؤمنون ]

بلا هدف؟

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة ]

يَظْلِم فلا يُحاسَب؟ يعتدي فلا يُحاسَب؟ يزني فلا يُحاسَب؟ يأخذ ما ليس له فلا يُحاسَب؟ يستعلي فلا يُحاسَب؟ يتغطرس فلا يُحاسَب؟ يسحق الآخرين فلا يُحاسب؟ يبني مجده على أنقاض الآخرين فلا يُحاسَب؟ يبني حياته على موتهم فلا يُحاسَب؟ يبني أمنه على خوفهم فلا يُحاسَب؟!! لا، ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ هذا الجواب، الذي خلق هذا الكون العظيم لن يدع الإنسان سُدَىً، سيحاسبه.

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

لنسألنَّهم واحداً وَاحداً عما كانوا يعملون.
 

فرز الناس جميعاً يوم القيامة:


﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً(17)﴾

[ سورة النبأ ]

 لهم جميعاً، هذا المغزى، جامعة كلّفتْ خمسين ملياراً، ومخابر، وقاعات تدريس، وحدائق، وملاعب، وسَكَن للطلاب، وأساتذة كبار، ومناهِج عظيمة، ووسائل إيضاح رائعة، ولا يوجد امتحان؟! مستحيل، لابدَّ من امتحان، لابدَّ من فرز الطلاب، ناجح وراسب، الناجحون؛ متفوقٍ وغير متفوِّق، ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ .
 

الإيمان باليوم الآخر إيمانٌ عقلي وتفاصيله نقليَّة:


 الذي جعل: ﴿الْأَرْضَ مِهَاداً*وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً *وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً *وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً *وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً *وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً *وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً*لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً *وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾ هذا الذي فعل كل ذلك سوف يسألكم، وسوف يحاسبكم، وسوف يوقِفكم للحساب الدقيق.

﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾

[ سورة الطور ]

لابد من أن يصعق الإنسان حينما يكتشف الحقيقة، فكل البطولة أن تكشفها قبل فوات الأوان، أن تكشفها وأنت صحيحٌ معافىً، أن تكشفها وأنت في الدنيا، قبل أن تُكشَف وأنت بين يدي الله عزَّ وجل، فرعون الذي قال:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[ سورة النازعات ]

والذي قال:

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)﴾

[ سورة القصص ]

فرعون نفسه حينما أدركه الموت قال: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ فأهم شيء في هذا الدرس أن هذا الخالق العظيم، وهذا الكون يشهد بعظمته لن يُترك الإنسان سُدىً، ولم يُخلَق الخلق عبثاً، خلقهم ليحاسبهم، وخلقهم ليجزيهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، هذه العلاقة بين هذه الآيات وبين ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ إذاً الإيمان باليوم الآخر إيمانٌ عقلي، وتفاصيله نقليَّة، أصل الإيمان عقلي وتفاصيله نقليَّة.

النص مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور