الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الفوز بالنجاة من النار فوز عظيم:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة النبأ، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)﴾
الحقيقة أن الفوز بالنجاة من النار فوز عظيم.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
لمجرد النجاة من النار فهذا فوز عظيم، اتقوا النار ولو بشق تمرة، أحد علماء الحديث قال: قرأت حديثاً أغناني عن آلاف الأحاديث: اعمل للجنة بقدر مُقامك فيها، إلى أبد الآبدين، واعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، فترة محدودة، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واتقِ النار بقدر صبرك عليها، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ .
تقوى الله أن تذكره فلا تكفره وتطيعه فلا تعصيه:
اللهُ عز وجل سمَّى هذا الفوز فوزاً عظيماً.
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
هؤلاء الذين اتقوا ربهم لمجرد أن يفوزوا بالنجاة من النار فهذا فوز عظيم، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ المتقي هو الذي اتقى أن يعصي الله، اتقى غضب الله، اتقى سخط الله، اتقى عذاب الله في الدنيا، اتقى عذاب الله في الآخرة، الوقاية من شيء خطر، اتّقى من وَقَى، والوقاية من شيء خطر، هؤلاء الذين اتقوا ربهم وقفوا عند كلام الله، وقفوا عند الأمر، انتهوا عما نهى عنه الله، ائتمروا بما أمر الله، وجدَهم الله حيث أمرهم، افتقدهم حيث نهاهم، حرموا ما حرم الله، أحلُّوا ما أحلّ الله، بادروا إلى ما يرضي الله، هذا معنى المتقي.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
أي أن تشكره فلا تكفره، أن تطيعه فلا تعصيه، أن تذكره فلا تغفل عنه: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾.
ليس في الدنيا من حقيقة نعيم الآخرة إلا الأسماء:
الفوز مُسعِد، وكل إنسان بحسب فطرته يتمنى أن يكون فائزاً فوزاً عظيماً، الفوز العظيم في الدنيا أن تكون غنياً، أو أن تكون قوياً، أو أن تكون في مرتبة عالية جداً، هذا فوز أهل الدنيا، لكن فوز أهل الإيمان في طاعة الرحمن، فوز أهل الإيمان في العمل الصالح، فوز أهل الإيمان في معرفة الواحد الدّيان، هذا هو الفوز.
قل لي ما مقياس الفوز عندك أقلْ لك مَن أنت! أهل الدنيا فوزهم بالدرهم والدينار، أو بالمتع الحسية، أو بامتلاك الدنيا أو بمباهجها، لكن فوز أهل الإيمان في معرفة الله، وطاعته، والعمل الصالح، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ نجوا من النيران، وسَعِدوا بالجنان.
﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)﴾
والحقيقـة كل ما في الآخرة لا علاقة له بالدنيا، إلا بالاسم، فالله عز وجل تقريباً للأذهان ذكرنا بأشياء نعرفها في الدنيا، لكن:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ: قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر. قالَ أبو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. ))
لا في الدنيا من الآخرة إلا الاسم، نحن نرى في الدنيا بستاناً جميلاً، فيه أشجار وارفة الظلال، يوجد أرض خضراء ممتعة للعينين، يوجد ورود، يوجد أزهار، يوجد رياحين، يوجد ماء رقراق، يوجد عصافير مزقزقة، يوجد ورود متفتحة، يوجد نسيم عليل، يوجد مناظر جميلة، هذه مفهوماتنا عن الدنيا، فربنا عز وجل تقريباً للأذهان قال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ﴾ .
الفوز الدنيوي والفوز الأخروي:
أحياناً الإنسان يرى في مجلة حديقة جميلة جداً، يُعتَنَى بها كثيراً، بساط أخضر، حوله ورود، أشجار زينة جميلة جداً، جدول من المياه الرقراق، أو مجمع مياه صاف، يقول لك: منظر جميل جداً، يأخذ بالألباب، هذا كله تقريب لنا: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) كما أن النار مخيفة الجنة جميلة، كما أن النار خسارة ما بعدها خسارة الجنة فوز ما بعده فوز، لو أن كل مصائب الدنيا اصطلحت على إنسان، وانتهت به إلى الجنة فهو الفائز الأول، ولو أن كل نعيم الدنيا كان بيد إنسان، وانتهى به الأمر إلى جهنم هذا ليس بشيء إطلاقاً.
فلينظر ناظر بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حينَ زوى عنه الدنيا، فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا.
﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾
من أدقِّ ما قرأت عن هذه الآية أنّ المُلْكَ ليس القصرَ الجميل، وليس المال الوفير، الملْك أنه ملَك نفسه عند الشهوة، ضبط نفسه، حملها على طاعة الله، قال:
﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)﴾
هذا هو الملْك العظيم، أما الملْك المادي فإنّ اللهَ يعطيه لمن يحب ولمن لا يحب، ليس مقياساً.
الملْك أن تملك نفسك عند الغضب والشهوة وأن تتماسك عند الضغوط:
أن تملك نفسك عند الغضب، أن تملك نفسك عند الشهوة، أن تملك نفسك عند المغريات، أن تتماسك عند الضغوط، هذا هو الفوز العظيم: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً﴾ الحديقة لها سوار يحدق بها، تحيط بها، حديقة ليست عامة ولكنها خاصة لك، وهذا يزيد في متعتها أنها لك وحدك، لا تُنازع فيها، المكان العام قد يكون فيه ازدحام، هو لكل الناس، أما الحديقة الخاصة فهي لصاحبها حصراً: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً﴾ .
أيضاً الفواكه تُعرف بالطعم ومن الصعب أن تصفها، لكل فاكهة طعم خاص متميزة به، أنا أقول لك: لن تستطيع أن تصف طعم العنب دون أن تقول: هذا عنب، لن تستطيع أن تصف طعم الكُمَّثْرى دون أن تقول: كمثرى، لكل فاكهة طعم متميز، وهو محبب، فالتفاح أنواع منوعة، والكمثرى أنواع منوعة، والبرتقال أنواع منوَّعة، فهذه الحدائق وتلك الأعناب، حدائق لإمتاع الحس، وأعناب لإمتاع الذوق.
﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)﴾
حوريات كاملات الخَلق، وهذا أيضاً مما أودعه الله في الإنسان، قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
في الآخرة الحور العين من أكمل ما خَلَق الله عز وجل:
لكن التكليف يوم القيامة انتهى، في الدنيا قد يعجبك خَلْق إنسانة ولا تعجبك أخلاقها، وقد تعجبك أخلاقها ولا يعجبك خَلقها، الكمال لله وحده، أما في الآخرة فالحوريات من أكمل ما خَلَق الله عز وجل، لذلك قال بعض أصحاب النبي لزوجته وقد أَلَّحَتْ عليه في شيء من الدنيا، قال: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نورُ وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهْونُ من أن أضحي بهن من أجلك".
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)﴾
كواعب أي شابات، مكتملات الخَلق، وهناك معانٍ تفصيلية لمعنى الكواعب.
﴿أَتْرَاباً﴾ أيْ في سن متقارب، الفتاة قد لا تألف مَن هو أكبر منها بكثير، والرجل أيضاً لا يألف من هي أكبر منه بكثير، مِن دواعي كمال المتعة بين الزوجين أن يكونا في عمر متقارب.
﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)﴾
أي مترعة، ممتلئة، طبعاً في الجنة أنهار من عسل مصفى، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من ماء غير آسن، شراب مِن أعلى مستوى، والكأس مترعة ممتلئة، وهذا كله تقريب للأذهان، لأن اللغة لابدّ لها من مرتكز، كلمة بحر هذه الكلمة تثير عندك خبرة، لو أنك ذهبت إلى البحر، وركبت البحر، ورأيت هياج البحر، ورأيت جمال البحر، وعدت إلى بلدك الداخلي ثم سمعت كلمة بحر، هذه الكلمة تثير عندك كل الخبرات.
ربنا عز وجل قرّب إلينا مفهوم الجنة بأسماء معلومة في الدنيا:
مرة أستاذ في الجامعة ذكّرنا أن الكلمة كأنها مشجب يُعلق عليها كل إنسان ما في نفسه، يُعلِّق عليها خبرته، فلو أن أستاذاً جامعياً يحمل أعلى شهادة، ولم يتح له أن يكون أستاذاً ذا كرسي في الجامعة، وسمع كلمة (كرسي) يبقى ساعات طويلة شارداً، متألماً لأنه لمَ لم يكن هو الأستاذ ذو الكرسي مع أن زميله ليس في كفاءته؟ هو الأولى بهذا المنصب، مشى ذهنه في منصب جامعي اسمه: أستاذ ذو كرسي، ووازن بين شهادته العالية من دولة ذات سمعة عالية في العلوم، وبين أستاذ آخر يحتل هذه المنزلة، وليست شهادته في المستوى المطلوب، يتألم، فساعة أو ساعتين يفكر في كلمة كرسي، أنا أولى بهذا المنصب من فلان.
يسمع كلمة (كرسي) إنسان حلاق، عنده في الدكان كرسيان، يحتاج إلى كرسي ثالث، هل يشتري كرسياً ثالثاً، هناك ضريبة مالية، يحتاج إلى موظف ثالث، مشى بطريق آخر، كلمة كرسي إذا سمعها حلّاق يفكَّر في موضوع آخر ساعات طويلة، وقد يسمع كلمة (كرسي) إنسان يحتاج إلى كرسي حمام، تُرى من أين أشتري هذا الكرسي؟ وماذا أشتريه مِن خشب أم من نوع آخر؟ يفكر تفكيراً ثالثاً، وقد يسمع كلمة (كرسي) إنسان متعب، يقول: آه، لو أستريح على كرسي ساعة أو بعض الوقت، إذاً الكلمة تُعلق عليها كل خبراتك أيضاً.
فربنا عز وجل تقريباً لنا لمفهوم الجنة نحن في الدنيا عندنا حديقة، وبستان، وأشجار باسقة، وأشجار زينة، وأشجار جميلة جداً، وأشجار دائمة الخضرة، وأشجار كالكرة، وأشجار مستطيلة، وعندنا ورود آلاف مؤلفة، وعندنا رياحين، وعندنا نباتات ذات رائحة عبقة، وعندنا أنهار، وعندنا ينابيع، وعندنا شلالات، هذه الدنيا، هذه خبراتنا في الدنيا، وعندنا نساء جميلات، وعندنا عصافير مزقزقة، وعندنا أطيار جميلة، فربنا عز وجل قرّب إلينا مفهوم الجنة قال: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً﴾ الكأس مترعة، والفتاة مكتملة الخَلق، وهي في سنِّ مَن في الجنة، والحدائق لها معنى خصوصية، وفيها من الفواكه ما لذّ وطاب: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ .
أسعدُ أناسِ الدنيا أرغبهم عنها وأشقاهم فيها أرغبهم فيها:
إله عظيم، خالق السماوات والأرض يُغْرينا بما أعدَّ لنا في الآخرة، فهل ننصرف عن دعوته؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
أغرانا بهذه الجنة التي نعيش فيها إلى أبد الآبدين، لا مرض، ساعة انقراض بالفقرة أصبحت حياته جحيماً، ساعة التهاب بالمفاصل، ساعة ضعف في الرؤيا، ساعة ارتفاع نسب الشحوم الثلاثية في الدم، ممنوع أن يأكل طعاماً لذيذاً، هذه حياتنا الدنيا، كلها متاعب، كلها هموم، كلها أحزان، الإنسان يتقدم بالعمر تضعف قوته على الاستمتاع بالحياة، ملّ الأكل، ملّ الشرب، ملّ الذهاب، والسفر، والاختلاط، فهذه الحياة الدنيا، فيها هموم، فيها موت الأقارب، فيها أمراض شديدة جداً، فيها ذل، فيها قهر، فيها خوف، فيها حزن، أمّا هذه الجنة أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قد تكون غنياً لا تنجب أولاداً، وقد تنجب الكثير من الأولاد وليس معك المال الكافي كي تنفق عليهم، وقد تنجح في زواجك ولا تنجح في تربية أولادك، وقد تنجح في تربية أولادك ولا تنجح في زواجك، وقد تنجح فيهما ولا تنجح في عملك، وقد تنجح في عملك ولا تنجح في صحتك، هكذا الدنيا، شاء الله أن تكون ذات إيجابيات وسلبيات، كي لا نتعلق بها، كي نتخذها مطية لا قبلة، كي نتخذها ممراً لا مقراً، كي نتخذها وسيلة لا غاية، إنّ أسعدَ أناسِ في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها همّاً، ومَن أخذ مِن الدنيا فوق ما يكفيه أَخَذ مِن حتفه وهو لا يشعر، ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً*حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً* وَكَأْساً دِهَاقاً﴾ هناك متعة للعين بالحدائق، ومتعة للفم بالأعناب، ومتعة حسية بالكواعب الأتراب، ومتعة غذائية بالكأس الدهاق.
من سعادة المرء أن يعيش مع أناس صادقين:
الآن يوجد صفاء!
﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)﴾
اللغو كلام لا معنى له، كلام كله كذب، كلام غير واقعي، كلام فيه دجل ، كلام مجاملات، كلام فيه تزوير: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً﴾ ،لا يكذبون، ولا يُكذَب عليهم، واللغو الكلام الذي لا معنى له.
مرة كنت في مركبةٍ عامة –قصة قديمة-والحافلة مزدحمة بالركاب، والساعة الثالثة بعد الظهر، صديق السائق يدعوه إلى تناول الغداء معه في البيت، قال له: تفضل تغدى معنا، كلام لا معنى له، أيعقل أن يترك السائق هذه المركبة ممتلئة بالركاب وينزل معه إلى الغداء؟! هذا نمط، هناك مجاملات، هناك كلام لا معنى لها، هناك كلام فارغ، هناك مجاملات فارغة، هناك كذب، هناك دجل، هناك تعبيرات لا تعني شيئاً، هذا الذي في الدنيا كذب كثير، هناك أناس يكذبون كلما تنفسوا، مع النفس يكذب، وقد تجلس مجلساً كله كذب بكذب بكذب، كله نفاق بنفاق بنفاق: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً﴾ لا كلام لا معنى له، ولا كلام فيه كذب، لا يكذبون، ولا يستمعون إلى الكذب، أي لا يُكذب عليهم.
إخواننا الكرام: مجتمع الصدق مجتمع مقدس، أن تلتقي بإنسان صادق يعبِّر لك عن الواقع دون أن يزيد، دون أن يحذف، دون أن يكثر، دون أن يقلل، هذا من سعادة المرء أن يعيش مع أناس صادقين.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً. ))
الفوز الكبير هو الجنة والكأس الدهاق والبُعْد عن اللغو والكذب:
هذه الجنة التي هي في الحقيقة فوز كبير، مع الحدائق الغنّاء، والأعناب المنوعة، والكواعب الأتراب، والكأس الدهاق، والبُعْد عن اللغو والكذب.
﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)﴾
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
كل ما في الدنيا له حساب دقيق في الآخرة:
كل شيء بحساب دقيق، صلواتك محفوظة عند الله، غض بصرك محفوظ عند الله، صِدْقك محفوظ عند الله، إعراضك عن النميمة والغيبة محفوظ عند الله، برك لوالديك محفوظ عند الله، كل صغيرة وكبيرة مسجلة لك أو عليك، حساب دقيق، ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً﴾ ، حساباً: أي عطاءً كبيراً، قال علماء اللغة: عطاء إلى أن تقول: حسبي اكتفيت، خذ ما شئت.
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام، ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً﴾ .
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ أما الدنيا، تصور الآن سباقاً في الدنيا، طريق عريض جداً، طويل جداً، ينتهي بحفرة مالها من قرار، عمق الحفرة مئة متر، والسيارات تتسابق على هذا الطريق، أول سيارة السبّاقة الأولى سقطت والثانية سقطت والثالثة سقطت والرابعة سقطت، ما هذا السباق؟ هذه الدنيا هكذا، أغنى إنسان يموت، يوضع في القبر، أقوى إنسان يموت، يوضع في القبر، الصحيح يموت، المريض يموت، الوسيم يموت، الدميم يموت، القوي يموت، الضعيف يموت، من أصل عريق يموت، صعلوك يموت، كل هؤلاء الناس إلى الموت، والموت قَطْعٌ للدنيا، نهاية قطع، ما هذا السباق؟!!
يوم الحساب سيشهِد علينا كلُّ شيءٍ:
أما في الآخرة: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾ .
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)﴾
هذا اليوم العصيب، والله الإنسان في الدنيا حينما يُستدعَى للتحقيق في موضوع ما، قد لا ينام الليل أياماً عديدة، وسيسأله إنسان، وبإمكانه أن يخفي عليه الشيء الكثير، أما إذا وقفنا بين يدي الواحد الديان ليحاسبنا على كل ما اقترفت أيدينا :
﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾
كل نفس معها سائق وشهيدٌ، ملَكٌ يسوقها، ومَلَكٌ يشهد عليها، هذا العطاء الكبير، قال بعضهم: بغير حساب، وقال بعضهم: حتى تقول: حسبي.
يوم القيامة لا يملك إنسان أن يقول كلمة واحدة:
﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً﴾ هذا من الله ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ﴾ الرب هو الممد، أي هو الذي يدبر أمر السماوات والأرض، يُمدّ المخلوقات بما يحتاجون، ويربِّيهم، ويقودهم إلى طريق سلامتهم وسعادتهم، الموقف رهيب، الموقف عصيب، اليوم عسير، ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً﴾ في الدنيا الإنسان يتوسط، يعترض، ينتقد، يترجى، أما في هذا اليوم العصيب فلا يملك إنسان أن يقول كلمة واحدة.
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾
﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)﴾
اختلف علماء التفسير في تفسير كلمة الروح، ماذا تعني؟ قال بعضهم: جبريل، وقال بعضهم: مَلَكٌ عظيم يأتي بَعد العرش اسمه الروح، وقال بعضهم: الروح الملائكة، ومن أدق ما قرأت عن هذه الكلمة الروح هي القرآن الكريم، هو المنهج، الملَك معه عملك، والميزان إلى جانبك، العمل والميزان.
عملك بأيدي ملائكة كتبوا كل شيء والمقياس في تقييمك هو القرآن الكريم:
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ الملائكة كتبتْ على هذا الإنسان كل حركاته وسكناته، كتبت عليه كل أنفاسه، سجلت عليه كل شيء، وأعماله تُقوّم بمنهج الله عز وجل، بهذا القرآن الكريم الذي فيه الأمر والنهي، وفيه الحلال والحرام، وفيه الفرض والواجب، وفيه الحق والباطل، وفيه الخير والشر، هو المنهج، هو المقياس، هو الميزان، فعملك بأيدي ملائكة مقربين، كتبوا عليك كل شيء، والمقياس في تقييمك هو القرآن الكريم:
﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)﴾
أي لا يتكلمون بالشفاعة إلا من أذن لهم بالشفاعة ﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ .
﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)﴾
أي هذا اليوم واقع لا محالة، ونحن معه على موعد، وما هو إلا وقت يسير حتى نجد أنفسنا في هذا اليوم العصيب، ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ كل متوقع آت، وكل آت قريب، في حياتنا اليومية سيأتي رمضان، جاء رمضان وانتهى رمضان، سيأتي عيد الأضحى على أبوابه، سيأتي الصيف على أبوابه، يأتي الصيف وينتهي الصيف.
إذا استعنت بعمل صالح خالص لله عز وجل نَقَلَك هذا العمل إلى رحمة الله:
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ هذا اليوم الموعود، يوم مفقود ويوم موعود ويوم مورود ويوم ممدود، وأخطر أيامك كلها اليوم المشهود الذي نحن فيه، ما مضى فات والمُؤمّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً﴾ يمكن أن تتخذ عملاً صالحاً يُرجِعك إلى رحمة الله، العمل الصالح مصيره إلى الله، فأنت إذا استعنت بعمل صالح خالص لله عز وجل هذا العمل ينَقلك إلى رحمة الله.
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ﴾ من أراد النجاة، من أراد سعادة الدنيا والآخرة، من اراد هذا الفوز العظيم، من أراد أن يكون في جنات الله عز وجل يوم القيامة: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً﴾ اتّخذَ إلى الله عز وجل وسيلة يرجع بها إلى الله سالماً وغانماً.
الإنسان بين الدعوة البيانية والتأديب التربوي والإكرام الاستدراجي ثم القصم:
من لم يشأْ:
﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)﴾
قال علماء التفسير: قريباً في الدنيا، وقال بعضهم: في الآخرة، وقد نجمع بين القولين، فإنْ لم يستجب الإنسان يقول الله لنبيه الكريم:
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)﴾
ذرني وإياه، أنا سأعالجه، فالإنسان إن لم يستجب للدعوة البيانية ساق له الله التأديب التربوي، وإن لم يستجب بالتأديب التربوي، إن لم يتب ساق الله له الإكرام الاستدراجي، وإن لم يتأثر بالإكرام الاستدراجي قصمه الله عز وجل، فنحن بين الدعوة البيانية، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، ثم القصم، ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً﴾ اتخذ عملاً صالحاً يبتغي به وجه الله، ينفق مما أعطاه الله، ينفق من ماله، أو من وقته، أو من علمه، أو من خبرته، أو يقدم خبرة للمسلمين، أو يزيل الكرب عن المسلمين، أو يحل مشكلات المسلمين: ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً﴾ .
المؤمن ينظر إلى عمله الذي بين يديه وهو نور يضيء أمامه الطريق:
إن لم تشأْ أيها الإنسان:
﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)﴾
المؤمن ينظر إلى عمله الذي بين يديه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾
المؤمن عمله الصالح بين يديه يسعى، عمله الصالح نور يضيء له الطريق أمامه، ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ قدم عملاً، قدم دعوة إلى الله، ترك كتابَ علمٍ، ترك ولداً صالحاً، أنشأ مسجداً، أنشأ ميتماً، أنشأ معهداً شرعياً، أَمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، تعلّم القرآن، علّم القرآن، تعلَّمَ السنة، علَّم السنة، بَذَلَ جُهدَه، أطعم الفقراء والمساكين، رعى الأيتام، والبائسين، رعى النساء الفقيرات والأرامل، أنشأ جمعية خيرية، عمل عملاً طيباً يرجو به رحمة الله عز وجل، هذا العمل الطيب يراه المرء يوم القيامة بين يديه.
إنسان فقير جداً، يعمل مستخدماً في مدرسة، ورث أرضاً، عُرِض عليه ثمنُها بضعة ملايين، فلما قبض الدفعة الأولى قيل له الدفعة الثانية عند التنازل، قال: لمّ التنازل؟ قال: لأنها سوف تغدو مسجداً، قال: لا، لا أوافق، إذا كانت ستغدو مسجداً لا أوافق، أنا أَولى أنْ أقدمها لله منكم، على فقره الشديد قدمها مسجداً في أحد أحياء دمشق، هذا المسجد نور له، إنسان يُنشئ معهداً شرعياً، إنسان يُنشئ مسجداً، إنسان يؤلف كتاباً شرعياً، إنسان يخدم الناس، إنسان يطعم الفقراء: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ .
من قدّم مالَه أمامه سرَّه اللحاقُ به:
أن تضع اللقمـة في فم زوجتك هي لك صدقة، لقمة تطعمها فقيراً يوم القيامة تراها كجبل أحد، ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ لذلك من قدّم مالَه أمامه سرَّه اللحاقُ به، ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ﴾ لماذا قلنا: المرء المؤمن؟ بالمقابل يوم ينظر المرء المؤمن ما قدمت يداه من خير، يسعد بهذا الخير، ويرقى بهذا الخير، ويدخل الجنة بهذا الخير، ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً﴾ .
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)﴾
المؤمن الصادق يقيسُ أيَّ شيء يُعرض عليه بمقياس الآخرة:
هذه حقائق أيها الأخوة؛ هذا كلام ربنا عز وجل، نحن في مثل هذه الدروس نُشحن شحنة إلى الله عز وجل، يجب أن تحملنا هذه الشحنة على طاعة الله، وأن تحملنا على طلب الجنة، وعلى الاستعاذة بالله من النار، هذه الشحنة يجب أن نجعل الجنة هدفاً لنا.
إخواننا الكرام؛ لو أن أحدكم أراد أن يسافر إلى بلد بعيد، دخل إلى السفارة وأخذ التأشيرة، معنى هذا أن السفر أصبح جاهزاً، ومعه ثمن البطاقة، لمجرد أن أخذ الموافقة على السفر لبلد بعيد عاش في هذا البلد في نفسه، هو لا زال في الشام، لكن أين سأنزل؟ إلى أيّة ولاية سأزور؟ في أيّ مكان سأنام؟ ماذا سأشتري هناك؟ عاش هناك وهو لا يزال في بلده، والمؤمن الصادق حينما يؤمن بالجنة وبالنار يعيش مع أهل الجنة، كلُّ عمل يفعله يرجو به رحمة الله، يرجو به ثواب الله، يرجو به القربة من الله عز وجل، يرجو به مقعدَ صدقٍ عند مليك مقتدر.
أنت حينما تكون من أبناء الآخرة تعيش في الآخرة قبل أن تصل إليها، وهذه من علامة المؤمن الصادق، المؤمن الصادق أيَّ شيء يُعرض عليه يقيسه بمقياس الآخرة، هل هذا يرفعني عند الله أم لا يرفعني؟ هل يقرِّبني أم لا يقربني؟ هل يرضى الله عني بهذا العمل أو لا يرضى؟ هذا هو المؤمن، يعيش بمقياس الآخرة.
بمقياس الدنيا القرض الربوي أكثر ربحاً، بالآلات الحاسبة أقرضت مئة ألف عادت إليك مئة وعشرين ألفاً، هكذا الحساب، أما ربنا عز وجل فيقول:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
بمقياس الآخرة القـرض الحسن هو الذي يرضى الله عنه، هو الذي يعين على أن يزداد المال، فلذلك المؤمن يؤمن بوعد الله ووعيده، ويعيش في الآخرة قبل أن يصل إليها، وهذه مشاهد مِن الجنة والنار.
الأمس الدرس الماضي كان عن أهل النار:
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً *لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً *لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً *إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً *جَزَاءً وِفَاقاً *إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً *وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً* وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً *فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً﴾ .
المشهد الآخر:
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً *حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً *وَكَأْساً دِهَاقاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً *جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً *رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً* يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً *إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً﴾ .
كل شيء يصحَّح في الحياة قبل فوات الأوان:
نحن أحياء أيها الإخوة، كل شيء يصحَّح في الحياة، نحن أحياء، القلب ينبض، نتحرك، لنا أيدٍ نعطي بها، لنا عينٌ نغض بها طَرْفَنا، نحن أحياء، كل شيء الآن يصحَّح قبل فوات الأوان، قبل أن يقول الإنسان: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً﴾ قبل أن نصل مع الله إلى طريق مسدود، قبل أن يأتي ملَك الموت، تتوقف التوبة.
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)﴾
أيها الأخوة؛ هذا كلام فيه شحْنة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع بها جميعاً، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تحملنا على مزيد من الاستقامةِ، والعمل الصالحِ، حتى نستحقَّ أن نكون في جنّة الرحمنِ ، في: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً *وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً *وَكَأْساً دِهَاقاً *لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً﴾ .
الملف مدقق