- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أسباب سقوط الجماعة عن الفرد المسلم :
1 ـ المطر الشديد :
أيها الأخوة المؤمنون، هناك فصل عنوانـــه: "متى تسقط الجماعة عن الفرد المسلم؟" كلكم يعلم أن صلاة الجماعة أفضل عند الله بسبعة وعشرين ضعفاً، أولاً: المطر، طبعاً المطر الشديد ويجوز الآن هذا الشرط أن يكون ملغياً، الإنسان الآن عنده سيارة والطرقات كلها معبدة لا يشعر بشيء، ولكن يبدو أن هذا الشرط في ظرف معين كان يعيق الحركة.
2 ـ البرد الشديد و الخوف :
البرد الشديد والخوف، فمن خاف من عدوه فخوفه يسقط عنه حضور صلاة الجماعة.
3 ـ الظلام الدامس و الحبس و العمى و المرض و الوحل و الشيخوخة :
ظلمة ظلام دامس، وحبس، طبعاً إذا كان مسجوناً فهذا شيء بديهي، وعمىً، أعمى وليس له دليل، وشلل، وقطع يد أو رجل، وسقام أي مرض، وإقعاد، ووحل شديد، وزمانة أي مرض مزمن، وداء عضال، وشيخوخة.
4 ـ تكرار فقه لجماعة تفوته :
وتكرار فقه لجماعة تفوته، إذا اعتاد أن يحضر مجلس علم ثابت وما غاب عنه إطلاقاً فإذا فاتته صلاة الجماعة ليحضر مجلس علم لا شيء عليه.
5 ـ حضور طعام تتوق إليه النفس و السفر :
وحضور طعام تتوق إليه نفسه، وإرادة سفر، لأنه يستعد للسفر فيهيئ أغراضه، وإذا كان مجمعاً للسفر فيمكن أن يصلي في بيته.
6 ـ القيام بمريض :
وقيامه بمريض، ممرض، إنسان والدته مريضة تحتاج كل نصف ساعة إلى دواء فهذا يصلي في بيته.
7 ـ شدة ريح ليلاً لا نهاراً :
وشدة ريح ليلاً لا نهاراً، وإذا انقطع المسلم عن الجماعة لأحد هذه الأعذار المبيحة يحصل له ثواب الجماعة، أشياء كلها منطقية، مطر، برد، خوف من عدو، ظلمة حبس، عمى، فالج، قطع يد أو رجل، إقعاد، وحل، زمانة شيخوخة، يمكن أن يمشي والطريق وعر، يوجد إنسان تقدمت به السن لا يقوى على حمل نفسه، أو احتمال أن يقع فينكسر وكسر الشيخ يصعب التئامه، و تكرار فقه لجماعة تفوته، لو إنسان بيته فرضاً في الميدان وصلى فرضاً معين في بيته حتى يلحق درس علم هذا مباح له أن يصلي في بيته بهدف حضور مجلس العلم، وحضور طعام تتوق إليه نفسه، طبخة معينة فقال في نفسه: آكل معهم حتى لا تذهب حصتي من الطعام، وإرادة سفر، وقيامه بمريض.
قواعد دقيقة لاختيار الإمام :
1 ـ أن يكون صاحب منزل أو وظيفة :
الآن وقف المسلمون ليصلوا جماعةً من هو الإمام؟ يوجد عندنا قواعد دقيقة جداً، قال: إن لم يكن بين الحاضرين صاحب منزل، ولا وظيفة، ولا ذو سلطان، فصاحب المنزل أحق أن يصلي إماماً وصاحب الوظيفة دخلت إلى مسجد له إمام، أخي سوف نصلي بهم، لماذا تصلي بهم أنت؟ هذه وظيفته أدباً، دعه يصلي، كثير من الأشخاص يسافرون ومسجد له إمام يريد أن يصلي عنه، لماذا؟ هذا صاحب وظيفة أولى من كل الناس، إلا إذا قدمك هو شيء آخر، إذا عرفك وقدمك لفضلك فهذا أجازك، أما صاحب الوظيفة فأحق أن يصلي بالناس.
2 ـ صاحب منصب رسمي :
إن لم يكن بين الحاضرين صاحب منزل ولا وظيفة ولا ذو سلطان إذا صاحب منصب رسمي قاضٍ مثلاً، والقاضي أولاً إذا كان هناك جماعة في بيت وفيهم القاضي الشرعي الأول مثلاً يصلي القاضي، وأمير مثلاً، طبعاً هنا المقصود بالأمير التقي والنقي، قاض مطبق تعاليم الدين، إذا لم يكن بين الحاضرين صاحب منزل ولا وظيفة ولا ذو سلطان، أحد هؤلاء الثلاثة أحق بالصلاة من أي إنسان آخر، صاحب البيت، أو صاحب وظيفة الإمامة، أو ذو سلطان، و منصب رسمي؛ أمير، قائم مقام مثلاً، مدير الناحية، أي صاحب وظيفة، وهذه إشارة لطيفة، أي كل هؤلاء ينبغي أن يكونوا أتقياء مصلين صائمين.
3 ـ الأعلم :
الآن فالأعلم أحق بالإمامة أول شيء الأعلم، أكثر الناس يظنون الأقرأ، لا، الأعلم أحق بالإمامة.
4 ـ الأقرأ ثم الأورع ثم الأسن ثم الأحسن خلقاً ثم الأحسن وجهاً :
ثم الأقرأ، ثم الأورع، ثم الأسن، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن وجهاً، ثم الأشرف نسباً، ثم الأحسن صوتاً، ثم الأنظف ثوباً، إلى هنا انتهى المتن، وفي الحاشية يوجد تفصيلات فالأكبر سناً.
المقصود بالأعلم أي الأعلم بالفقه، بأصول الصلاة، بشروطها، وبأركانها، وبواجباتها، وبمكروهاتها، و بآدابها، ثم الأقرأ الذي يتقن أحكام التجويد، ثم الأورع، ثم الأسن، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن وجهاً، ثم الأشرف نسباً، ثم الأحسن صوتاً، ثم الأنظف ثوباً، إلى هنا انتهى المتن، وفي الحاشية يوجد تفصيلات فالأكبر سناً، فإذا استووا يقرع بين المصلين، وليس من المعقول أن يستووا لابد من التمايز، و هذه هي المقاييس، فإن لم يقرع بين هؤلاء فالخيار للمصلين، هم قدموا فلاناً، فإذا اختلفوا فالعبرة لمن اختاره الأكثــرون، الأكثرية قدموا فلاناً، وغلب رأيهم رأي الأقلية، وإن قدموا غير الأولى فقد أساؤوا جميعاً، قدموا رجلاً لا يستحق الإمامة ولكن خوفاً منه، أو نفاقاً له، فقد أساؤوا جميعاً، وكره إمامة العبد، والأعمى، والجاهل، والفاسق، والمبتدع، هؤلاء جميعاً كره أن يكونوا أئمةً يؤمون الناس في الصلاة.
من دخل المسجد ليصلي فليصلِّ خلف أي إمام :
هنا يوجد موضوع دقيق إذا دخل إنسان إلى المسجد يجب أن يصلي خلف أي إمام دون التحقق من استقامته أو بره أو فجوره، فليس هذا من وظيفته، لكن إذا حصل له علم مسبق أن هذا صاحب بدعة أو صاحب عقيدة زائغة، أو صاحب عقيدة فاسدة، إن حصل لك هذا مسبقاً فلا تصلِّ خلفه، أما إذا دخلت إلى مسجد لتصلي صلِّ وراء كل بر وفاجر.
هذا الموضوع موضوع الأحق بالإمامة، وموضوع متى تسقط صلاة الجماعة عن الفرد المسلم، ويحصل له ثوبها كما لو صلاها، هذان الموضوعان هما الفصلان المختاران لهذا اللقاء.
* * *
آداب تلاوة القرآن الكريم :
1 ـ الترقي :
والآن إلى فصل مختار من إحياء علوم الدين، لازلنا في موضوع آداب تلاوة القرآن، تحدثنا عن الآداب الظاهرة، ثم تحدثنا عن الآداب الباطنة، ووصلنا في الدرس الماضي إلى التأثر، وها نحن أولاء ننتقل منه إلى أدب آخر وهو الترقي، فما هو الترقي؟ نعني بالترقي أن يسمع القارئ الكلام من الله تعالى لا من نفسه، فدرجات القراءة ثلاث هناك أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرأ على الله عز وجل، أي يقرأ القرآن في حضرة الله عز وجل، واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه، مستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال، والتملق، والتضرع، والابتهال، وهذه درجة من درجات قراءة القرآن الكريم.
والدرجة الثانية أن يشهد بقلبه كأن الله سبحانه وتعالى يراه، ويخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه مقام الحياء، والتعظيم، والإصغاء، والفهم، إما أن تقرأ القرآن في حضرة الله عز وجل، وإما أن تسمعه من الله عز وجل، وكأن الله عز وجل يخاطبك بكلامه، والدرجة الأعلى أن يرى في الكلام المتكلم، اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه درجة، وهذه أعلى مرتبة إنها الإحسان، أن يرى في كلام المتكلم وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلق الإنعام به، من حيث إنه مُنعَم عليه، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وهذه درجة المقربين، فالإنسان يقيس نفسه إذا قرأ القرآن أين هو من هذه الدرجات الثلاثة؟ هل تقرأ القرآن بحضرة الله عز وجل وكأنك تبتهل إليه وتدعوه وتناجيه وترجوه؟ أم أنك تسمع القرآن من الله عز وجل وكأنه يخاطبك بكلامه؟ أم أنك غبت عن كل شيء واستغرقت بالله عز وجل وكأنك تراه وهذه درجة المقربين؟ الأولى درجة أصحاب اليمين، والثانية أصحاب اليمين، والثالثة المقربين، وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين، يقرأ القرآن وهو غافل، ما شعر أنه يقرؤه في حضرة الله عز وجل، و لا شعر أن الله سبحانه و تعالى يخاطبه بكلامه، ولا غاب عن كلام الله و استغرق في ذات الله، لا هذه و لا هذه و لا تلك إذاً هذه قراءة الغافلين.
و عن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: "و الله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه و لكنهم لا يبصرون"، و قال أيضاً: "و قد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه فلما سري عنه قيل له: ماذا أصابك؟ فقال: ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها"، رددها و رددها حتى سمعها من الله عز وجل، و من أراد أن يحدث ربه فليقرأ القرآن، ألا تحب أن أجلس معك؟ فصعق سيدنا موسى، و كيف ذلك يا رب؟ قال له: أما علمت أنني جليس من ذكرني، و حيثما التمسني عبدي وجدني، إذا أردت أن تناجي ربك فاقرأ القرآن، قال: "ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها"، ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة و لذة المناجاة.
قراءة القرآن علامة دقيقة على استقامة الإنسان و طيب عمله :
أقول لكم: الإنسان إذا كان عمله طيباً جداً أمتع شيء في حياته أن يقرأ القرآن، اقرأ القرآن إذا شعرت بضيق فاعلم أنه يوجد تقصير، أو مللت فكذلك يوجد تقصير، لم تجد شيئاً قرأت و قرأت و فتحت لا على التعيين لم تتأثر، فإذا الإنسان لم يتأثر، و لم يشعر بانشراح، و لم يتمنَّ أن يقرأ ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً، و لا شعر بسرور، فليعلم أنه يوجد خلل بالعمل، و بالاستقامة، أو تقصير، أو لا يوجد عمل صالح، أو لا يوجد تطبيق، فكأن قراءة القرآن علامة دقيقة على استقامة الإنسان و طيب عمله، مستحيل أن تقرأ القرآن وأنت ذو حال طيبة إلا وتحس بأنك مستمتع به إلى أقصى الحدود، حتى إنني أقول لكم: إن الذي يقرأ القرآن وله حال طيب يهبه الله سبحانه وتعالى صوتاً قد يقول لك وهو صادق: لم أسمع في حياتي أجمل من صوتي.
الإنسان عندما يستغرق ساعة أو ساعتين ما معنى هذه الحالة؟ عمله طيب جداً، فربنا عز وجل سمح له أن يقرأ كلامه، وسمح له أن يتلقى التجلي الإلهي، وسمح له أن يتنعم ويطرب بصوته، قال: فبمثل هذه الدرجة تعظم حلاوة المناجاة، ألم يقل له يا ربي لقد عصيتك ولم تعاقبني؟ قال له: عبدي لقد عاقبتك ولم تدرِ ألم أحرمك لذة مناجاتي، هذا لا يعرف ما نقول إلا إن اقتفى أثر الرسول.
هذه المعلومات لا يتذوقها المستمع إلا إذا عاش المناجاة، وشعر بقرب الله عز وجل، و إلا غابت عنه هذه الأحوال، وشعر بالجفاء، والوحدة.
فـأحبابنا اختاروا المحبة مذهباً وما خالفوا عن مذهب الحب شرعنا
فمـا حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قلنا له قـد جهلتنــــا
فأيسر ما في الحب بالصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنـا
***
تلاوة القرآن عبادة عظيمة :
من مناجاة رابعة العدوية رضي الله عنها أنه: "يا ربي لقد خلا كل حبيب بحبيبه"، هذا مع أصدقائه يلعبون ورقاً، وهذا سهر يأكل، وهذا سهر مع زوجته، وهذا سهر مع صديقه يعملون حسابات نتائج ربح العام، فكل إنسان استهلك الحياة بشيء، وهذا سهر مع الله عز وجل فخلا بحبيبه.
قال بعض الحكماء: "كنت أقرأ القرآن فلم أجد له حلاوة حتى تلوته وكأنني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فما الذي صار معه؟ صار معه ارتباط نفسي برسول الله، ولما تصور نفسه يسمعه من رسول الله توجهت نفسه نحوه، ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم به، فعندما وجدت له لذةً ونعيماً لا أفتر عنه كان يقول لي إنسان: أنا إذا لم أقرأ قرآناً في اليوم لا يهنأ لي عيش.
قال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما: "لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن"، والآن يوجد أخبار تقرؤونها، و الإنسان يستغرب يقول لك: صلى وقرأ البقرة بركعتين فتعب، وتقول: البقرة جزآن ونصف الجزء تقريباً أما تعب من الوقوف؟ الآن إذا الإمام قرأ ثلاثة أرباع الصفحة يقولون له: لقد أطلت يا أخي، لا يجوز أن تطيل الصلاة يا أخي، كيف كانوا يقرؤون البقرة وآل عمران، كيف كانوا يقرؤون هذه السور الطويلة؟ معنى هذا أنه كان هناك استغراقاً شديداً جداً لتلاوة القرآن في الصلاة.
قال ثابت البناني: "كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعمت به عشرين سنة"، كابده أي تعلمه، وتعلم قراءته، وطبق أوامره، وانتهى عن نواهيه، حتى صار في مستوى كلام الله عز وجل عندئذٍ تنعم به عشرين عاماً أخرى، ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر، قال: فمن لم يره في كل شيء فقد رأى غيره، يجب أن تشاهد الله عز وجل في كل شيء، فهذا الذي آذاك الله سمح له، و الذي أكرمك الله ألهمه، إن شاهدت نباتاً فقل: سبحان من خلقه، وإذا قدم إنسان لك شيئاً فقل: سبحان الملهم، و إذا رأيت الله في كل شيء فأنت مؤمن، وإذا رأيت هذا الشيء من فلان وفلان وقلت: آذاني، فهذا هو الإشراك.
كلما التفت العبد إلى ما سوى الله ففي التفاتته هذه شرك خفي، و التوحيد الخالص ألا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل، وهذا هو الأدب التاسع الترقي، أن تسمع القرآن من الله عز وجل، وأقل من هذه الدرجة أن تناجي به ربك، و أعلى من هاتين أن ترى الله عز وجل من خلال كلامه، اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ولذلك تلاوة القرآن عبادة عظيمة فليست قراءة بل عبادة.
2 ـ التبري :
آخر أدب من آداب القرآن الكريم التبري ونعني به أن يتبرأ من حوله وقوته، التفاته إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا قرأ آيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك، فهناك أشخاص مغرورون، يقرأ عن المؤمنين هو مؤمن واثق من نفسه، وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، يجب أن تكون في مقام الخوف والأدب لا في مقام الطمأنينة، من اطمأن في الدنيا خاف في الآخرة، ومن خاف في الدنيا اطمأن في الآخرة، لا يوجد إنسان في الأرض يستحق الطمأنينة أكثر من رسول الله صلى الله عليه، ومع ذلك دخل على أحد الصحابة وقد توفي وهو مسجى على الفراش فسمع امرأة تقول: "هنيئاً لك أبا السائب فقد أكرمك الله، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام وقال لها: وما أدراكِ أن الله أكرمه؟ قالت: ألم يجاهد معك؟ قال: قولي: أرجو الله أن يكرمه وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي".
الإنسان لا يعرف، طبعاً الله كريم، أما أن يعتبر نفسه مؤمناً فلعله في خلل في استقامته، ولعله في شرك في نياته، فإذا الإنسان قرأ القرآن يجب أن يتبرأ من نفسه، و لا يكون معجباً بها، أو معجباً بإيمانه، بل معجباً بعمله الطيب، كلما قرأ آية عن المؤمنين الصالحين الأتقياء قال: أنا منهم، أنا من هؤلاء ولست من هؤلاء، بل يشهد ويتشوق أن يلحقه الله عز وجل بهم، وإذا قرأ آيات المقت وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً، ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري، فقيل له: هذا الظلم فما بال الكفر فتلا قوله عز وجل:
﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾
وأحياناً ينظر إلى الطعام وينسى المطعم، وينسى المنعم، وينتبه إلى هذا الطعام وإتقان الصنعة وينسى أن هذه المواد كلها من الله عز وجل، وهذا أحد أنواع الكفر المخفف، أي إن الإنسان لظلوم كفار هكذا قال سيدنا ابن عمر.
على الإنسان أن يفتقر إلى الله عز وجل و إلى معونته :
تلاحظ أن المؤمن الصادق يخاف على نفسه، فهل من المعقول أن نبياً يعبد أصناماً سيدنا إبراهيم قال: قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾
هل من المعقول سيدنا يوسف أن يقع بالفاحشة؟ قال تعالى:
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
فهذا هو الافتقار إلى الله عز وجل، و إلى معونة الله، قال تعالى:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
أما المتمكن من نفسه كثيراً فما تزل قدمه ويهوي في المعصية.
وقيل لأحدهم: إذا قرأت القرآن بماذا تدعو؟ قال: أستغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة، فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كانت رؤيته سبب قربه، والشعور بالتقصير سبب القرب، و لذلك فربنا عز وجل أحياناً يحجب الأحوال الطيبة عن المؤمن حتى لا يطمع، ولو أنه بعث له أحوالاً طيبة وتجليات دائماً فيجوز أن يركن إلى هذه الحالة فلا يتقدم، وعندما يقع فتور في الأحوال تكون المعالجة من الله عز وجل، عملية تعطيش حتى يتابع الترقي ولا يتابع الاستقرار والسكون.
المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري من النفس وعدم الالتفات لها :
قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: "وعد ابن شيبان أخاً له أن يفطر عنده، فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه في الغد فقال له: وعدتني أنك تفطر عندي فأخلفت، فقال: لولا ميعادي معك ما أخلفتك للذي حبسني معك، إني لما صليت العتمة - العشاء - قلت أوتر قبل أن أجيئك لأني لا آمن ما يحدث من الموت فلما كنت بالدعاء من الوتر رفعت إلي روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت"، الله كشف له عن بصيرته، عامة الناس صلاتهم شكلية يقول لك: ارتحنا منها، الحمد لله صليت العشاء، لكن إذا الإنسان التفت بكليته إلى الله عز وجل كانت الصلاة عنده أعظم متع الحياة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أرحنا بها يا بلال".
وهذه المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري من النفس، وعدم الالتفات لها، و الصوفيون قالوا: هناك حالة اسمها حالة الفناء، يغيب عن ذاته، فيوجد شخص ذاته صارخة، وإحساسه بذاته قوي جداً، يقول لك: أنا فعلت، تركت، أنجزت، ولولاي ما صار شيء، هذا إحساسه بذاته قوي، ولم يبلغ حال الفناء بعد، لكن حال الفناء حال راقٍ جداً، وهو حال الأنبياء، و حال كبار المؤمنين، ما عاد ينظر إلى ذاته نظره إلى الله عز وجل.
والعلماء شبهوا هذا الحال بإنسان نزل في البحر فما حجمه و هو شاهد أنه لا يوجد نهاية للماء؟ فإحساسه بعظمة البحر حجبه عن ذاته، أحياناً يلتقي طبيب ناشئ بطبيب جراح قلب درجة أولى في العالم جاء زائراً فينسى نفسه أنه الطبيب الناشئ، وإحساسه بذاته يتضاءل كثيراً، ويرجع كأنه تلميذ أمامه، وإذا ذهب إلى قرية وهو الطبيب الوحيد في القرية يشعر أنه طبيب متميز، إحساسه بذاته يتعاظم، أما إذا جلس أمام أستاذه بالطب مثلاً، فيصغر كثيراً، إذا جلس تويجر صغير مع أكبر تاجر في البلد مثلاً تراه يصغر ويصبح مثل الصانع أمامه، هو تاجر ولكنه تاجر أمام التجار، أما أمام التاجر الكبير فلا شيء، وهذه أمثلة أقربها لكم للفناء، فلما يشهد الإنسان عظمة الله عز وجل يغيب عن نفسه، فتجد السابقين حديثهم عن الله عز وجل، من أنا لأتحدث عن نفسي؟ لا شيء، وكلما ارتقت منزلتك عند الله تضاءل إحساسك بذاتك، وكلما كانت مرتبة الإنسان منخفضة كان عنده تضخم بالإحساس في ذاته، فهو مالئ الدنيا، وشاغل الناس، والناس لا يعنيهم أمره، وهذه قضية مهمة جداً، كلما شاهدت من عظمة الله أكثر غبت عن ذاتك أكثر، وهذه المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري عن النفس، وعدم الالتفاف إليها.
أقنعة الحياة كثيرة جداً من يلتفت إليها تصبح حجاباً بينه و بين ربه :
أحياناً الإنسان يلتفت إلى شهاداته أي معه بورد، فإذ وجد إنساناً وليس دكتوراً يزوره، أو نسي أن يقول له: أستاذ يشعره أن يجب أن تناديني بلقبي العلمي، وهذا الإنسان بعد أن نال الدكتوراه عاش ثلاثين سنة ملتفتاً إلى ذاته، ومحجوباً عن الله عز وجل، فهذا ملتفت إلى ماله، وحالته المادية جيدة جداً، فإذا الإنسان عامله كأنه إنسان وسط تراه ينزعج لالتفاته لماله، وأحياناً الله عز وجل يعطي الإنسان شكلاً و طولاً وبياضاً وجاذبية فتراه يلتفت إلى شكله معجباً به، ودائماً يشاهد أنه متميز عن الناس، وأحياناً الإنسان يكون منتسباً إلى أسرة عريقة أيضاً وهذا النسب الرفيع يجعله يلتفت إلى هذا النسب، ويستعلي على الناس، فيوجد أقنعة في الحياة كثيرة جداً، قناع المال، وقناع الشهادات، وقناع القوة، والسلطة، والنسب والحسب، فالإنسان عندما يلتفت إلى هذه الأشياء تصبح حجاباً بينه وبين الله عز وجل، فتراه مقطوعاً عن الله، ولا يوجد له وجهة إلى الله عز وجل، ولا يؤثر في الناس.
سبحان الله مرة حضرت حفلاً فقام إنسان وألقى كلمة، الكلمة بمنتهى الذكاء، دقيقة، وفيها نصوص، وهو فصيح اللسان، متكلم، ولكن يوجد روحانية، فلم يتأثر أحد، لأنه ملتفت إلى إمكاناته العالية، وهذا الالتفات إلى قدراته العالية كانت حجاباً بينه وبين الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى مصدر كل شيء، العطاء منه والإنسان عندما يأتيه من باب الاستغناء فالله يحجبه عنه، فهو مقطوع عن الله، فيا أخوان هذه نقطة دقيقة جداً لا يوجد إنسان إلا وله ميزة، هذا ابن فلان، وهذا غني، وهذا متعلم معه ماجستير،... فالإنسان عندما يكون بعيداً عن الله عز وجل، ويلتفت إلى هذه الميزة، وقع في الحجاب، وانتهى، أما إذا استغرق الإنسان في تعظيم الله عز وجل فيقع في حالة اسمها الفناء، وهذه الحالة من أرقى الحالات، تتضاءل نفسه أمامه.
من يلتفت إلى ذاته يعالجه الله عز وجل :
دخل رجل أصابته رعدة لعند رسول الله:
(( فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
لما فتح مكة اذكر لي قائداً في العالم فتح بلدة ولم يستعلِ على أهلها إلا النبي عليه الصلاة والسلام؟ دخل وهو يفتح مكة مطأطئ الرأس تواضعاً لله وشكراً، حالة الفناء قائمة فيه، كأنه سبحان الله كلما علوت عند الله عز وجل يتضاءل إحساسك بذاتك، ويتعاظم إحساسك بعظمة الله عز وجل، وكلما الإنسان صغر في نظر الله يكبر في نظر نفسه، ولذلك فمن أجمل الأدعية: "اللهم أرني بعين نفسي صغيراً وأرني بعين الناس كبيراً".
الناس الآن يرون أنفسهم كبراء وهم في أعين الناس لا شيء، أمام نفسه منفوخ نفخة كبيرة جداً، وأمام الناس لا قيمة له، والعبرة ابتغوا الرفعة عند الله، آية أو آيتان في القرآن الكريم، قال تعالى:
﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾
إنسان ليس له وزن عندنا أبداً، لهم صغار عند الله، أن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، كأني أريد أن أركز في هذا الكلام على حالتين؛ حالة الاستغناء، القطيعة مع الله عز وجل مبنية على الإحساس بالذات، وحالة الفناء، الفناء أنت غائب بمشاهدة من تحب عن ذاتك.
سبحان الله الإنسان عندما يلتفت إلى ذاته الله يعالجه، أعرف طالباً مرشحاً أن يكون الأول على القطر دخل إلى الامتحان فيبدو أن مراقباً وجه له ملاحظة فتوقف وتطاول عليه، وهذا المراقب كتب به تقريراً فتطاول فأعطوه صفراً في هذه المادة فتفاجأ أنه لم ينجح، عنده استعلاء من أعلى درجة، وعلى أتفه سبب رسب، وكل إنسان يتكبر فليلتفت إلى ذاته.
المتكبر يقصمه الله عز وجل وتأتيه ضربات قاسية :
هناك طبيب بلغت شهرته الآفاق وبعد هذا اشتغل بالعمار، يعطي وصفة لمريض قال له: حبتان قبل الطعام وحبتان بعد الطابو، نسي أنه طبيب، وكان يجري عملية جراحية لامرأة - وهو طبيب نسائي مولد- تجاوز الرحم وقطع الأمعاء، وكاد المجلس الطبي الأعلى أن يسحب منه الشهادة لولا أنه أخذ هذه المريضة إلى المستشفى وأسعفها، وتولى الأمر بنفسه لسحبت منه الشهادة، وبلغت شهرته الآفاق، صار التفات للذات، فانقطع عن الله عز وجل ووقع في الكبر، ولذلك فالمتكبر يقصمه الله عز وجل وتأتيه ضربات قاسية، وأحياناً الإنسان يمشي بأناقة مفرطة، بدلة بيضاء، والحذاء، والجوارب، وربطة العنق، والعطورات، فيتزحلق على رصيف رطب، فالكبر علاجه ضربة قاسية، وهناك إنسان معتز بعلمه فيأتي من يغلبه يسأله سؤالاً ليس مهيئاً للإجابة عنه، رجل في التدريس، أو في المحاماة، أو في الطب، وأحياناً يعطي الطبيب دواء قاتلاً، ولذلك يوجد أطباء مؤمنون وكلما بدأ بمعالجة مريض يغمض عينه ويطلب من الله المعونة، وهذا المريض يشفى على يده، لأنه مفتقر إلى الله.
ومالي سوى فقري إليك وسيلةٌ فبالافتقار إليك فقري أدفع
ومالي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرع؟
***
العاقل من طلب من الله أن يعينه :
كل منا له عمل، إذا كان موظفاً يقول: يا رب استر، فقد يلبسونك تهمة أنت بريء منها، فإذا دخلت مفتقراً إلى الله عز وجل فكلهم يحترمونك، ويحتفلون بك، وأعمالك يقدرونها لك، ويعطونك مكافآت، وإذا شاهدت نفسك تملك منصباً دقيقاً فالله عز وجل يلهم من هم أعلى منك أن يتجاهلوا كل أعمالك الطيبة، ويحاسبونك حساباً دقيقاً.
قال لي رجل : دخلت إلى الوظيفة فاشتغلت من الثامنة وحتى الثانية عشرة ما رفعت رأسي فتعبت، فخرجت إلى الممر، ووقفت فخرج المدير العام وقال: ما هذا أنت جالس هنا كفى إهمالاً لأنه ملتفت، ولو أنه توكل على الله عز وجل فالله يري رؤساءه أطيب عمل وإذا ما توكل يريهم أسوأ عمل، ويكون دائماً عمله منضبطاً، في هذه الدقيقة يأتي المفتش فيراه غائباً، ومنذ سنة لم يغب، والآن غاب فجاء المفتش، فالإنسان عندما يكون له صلة بالله عز وجل الله يدافع عنه، وييسر أموره، ولو أن إنساناً تكلم عنه بغيابه فالله يسخر إنساناً آخر يدافع عنه ويمحق ما قاله الأول وهو لا يدري.
وهذه جربوها وهذه وصفة مجربة، أي عمل لك إن كان في الزراعة، أو في التجارة، أو الصناعة، أو الوظيفة، أو التدريس، أو الطب، أو المحاماة أي عمل قبل أن تبدأ به اطلب من الله عز وجل أن يعينك، يا رب إني تبرأت من حولي وقوتي والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين.
كم من طبيب ينزع الكلية الصحيحة، ومع المريض واحدة متوقفة عن العمل فيفتح البطن وينزع الكلية الصحيحة والثانية واقفة، فانتهى المريض، وهذه غلطة قاتلة، ومحامٍ ينسى موعد الجلسة أو ينسى مادة هامة في القانون، فمادام متكبراً ملتفتاً إلى نفسه فالله عز وجل يدفعه أثماناً باهظة، حتى في الصناعة قد يرتكب غلطاً فاحشاً يدفعه أثماناً باهظة، وكل إنسان يلتفت إلى ذاته، وإلى علمه، ومكانته، وخبرته، وشهاداته، وقوته، ونسبه، وحسبه، وشكله، فالله عز وجل يتولى تأديبه، فمؤتمر برلين ما كان يذكر أين عقد هذا المؤتمر؟ إذ قد ينسى فقرة في السؤال وهذه كلها من علاجات الاعتزاز بالنفس، أما الافتقار إلى الله فشيء جميل، فإذا افتقرت إلى الله فالله عز وجل إنه يتولى عنك كل الأمور، يسدد لك أعمالك، يلهمك، ويذكرك.
وإذاً نحن أطرقنا بالأدبين الأخيرين الترقي والتبري، فالإنسان لا يعتز بنفسه، لا ينظر إلى ذاته، ولا يكون إحساسه بذاته مضخماً.
* * *
قصة سعيد بن عامر الجمحي :
والآن إلى قصة أحد الصحابة الأجلاء، فهذه القصة هي قصة سعيد بن عامر الجمحي، واحد من الألوف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة بدعوة من زعماء قريش ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي، أحد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه سلم بعد أن ظفروا به غدراً، النبي صلى الله عليه وسلم أرسل صحابياً بمهمة فظفر به زعماء قريش غدراً، وأخذوه، وأرادوا أن يشفوا غليلهم منه، فدعوا سكان مكة إلى منطقة التنعيم، فإذا الإنسان ذهب إلى مكة المكرمة هذه المنطقة يحرم منها من هو في مكة، منطقة سهلية منبسطة في شرقي مكة.
خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة، بدعوة من زعماء قريش ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي، أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، بعد أن ظفروا به غدراً، وهذا سعيد بن عامر الجحمحي وقد مكنه شبابه الموفور، وفتوته المتدفقة من أن يزاحم الناس بالمناكب، حتى حاز شيوخ قريش من أمثـال أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهما ممن يتصدرون الموكب، وقد أتيح له أن يرى أسير قريش مكبلاً بقيوده، و أكف الصبيان والنساء والشبان تدفعه إلى ساحة الموت دفعاً لينتقم من محمد في شخصه، وليثأروا لقتلاهم في بدر بقتله، ولما وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المعد لقتله وقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته الممدودة يطل على خبيب، وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة وهو يقول: إن شئتم أن تتركوني أن أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، ثم نظر إليه وهو يستقبل الكعبة، ويصلي ركعتين يا لحسنهما ويا لتمامهما، ثم رآه يقبل على زعماء القوم ويقول: والله لولا أن تظنوا أني قد أطلت الصلاة جزعاً من الموت لاستكثرت من الصلاة، على قدر ما شعر من السرور، ومن السعادة، ولولا أنه خاف أن يتهموه بالخوف لصلى طويلاً.
ثم شهد سعيد بن عامر الجمحي بعيني رأسه وهم يمثلون بخبيب حياً فيقطعون من جسده قطعة تلو القطعة، وهم يقولون له: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناجٍ؟ فيقول والدماء تنزل منه: والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها و يصاب محمد بشوكة، فيلوح الناس بأيديهم في الفضاء ويتعالى صياحهم أن اقتلوه اقتلوه، هذا كله تحت سمع وبصر سعيد بن عامر الجمحي.
ثم أبصر سعيد بن عامر خبيباً يرفع بصره إلى السماء من فوق خشبة الصلب ويقول: اللهم احشدهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة وبه ما لم يستطع إحصاءه من ضربات السيوف، وطعنات الرماح، هذه القصة ليست عن سيدنا خبيب، القصة عن سيدنا سعيد بن عامر الجمحي.
عادت قريش إلى مكة ونسيت في زحمة الأحداث خبيباً ومصرعه، لكن الفتى اليافع سعيد بن عامر الجمحي لم يغب خبيب عن خاطره لحظة، كان يراه في حلمه إذا نام، ويراه في خياله وهو مستيقظ، ويمثل به أمامه وهو يصلي ركعتيه الهادئتين المطمئنتين أمام خشبة الصلب، ويسمع رنين صوته في أذنيه، وهو يدعو على قريش فيخشى أن تصعقه صاعقة، أو تخر عليه صخرة من السماء، ثم إن خبيباً علم سعيداً ما لم يكن يعلم من قبل، علمه أن الحياة الحق عقيدةٌ وجهاد في سبيل هذه العقيدة حتى الموت، وعلمه أيضاً أن الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب، ويصنع المعجزات.
الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب ويصنع المعجزات :
فعلاً شيء عجيب، هذه الخنساء مات أخوها صخر موتاً طبيعياً، وكان شاباً، وكانت شاعرة نظمت ديواناً بأكمله في رثاء أخيها صخر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنــه علـــم في رأسه نار
حمّال ألـوية هبـّاط أودية شهّاد أندية للجيـــش جرار
***
فلما أسلمت استُشهد أولادها الأربع في معركة القادسية دفعةً واحدة، فلم تزد عن أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، الخنساء في الجاهلية بكت وأبكت، وفي الإسلام وهي امرأة قالت بصبر وشجاعة: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم.
فخبيب علّم سعيداً بن عامر الجمحي عن طريق الحياة، وعلّمه أيضاً أن الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب، ويصنع المعجزات، وعلمه أمراً آخر أن الرجل الذي يحبه أصحابه كل هذا الحب إنما هو نبي، ليس معقولاً يقطعونه من أول يد وقدم، وكلمتهم أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟ والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا ونعيمها وأن يصاب محمد بشوكة.
يقول أبو سفيان: عندها ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً، فالإنسان إن لم يكن بقلبه محبة لله ورسوله فليعلم أنه لا إيمان لمن لا محبة له، ألا لا إيمان لمن لا محبة له، ألا لا إيمان لمن لا محبة له، تسعة وتسعون وتسعة بالعشرة من الإيمان محبة، والباقي تطبيق، فإن طبقت بلا محبة فلا تؤثر بأحد.
وعند ذلك شرح الله صدر سعيد بن عامر إلى الإسلام، فقام في ملأ من الناس وأعلن براءته من آثام قريش، وأوزارها، وخلع أصنامها وأوثانها، ودخل في دين الله.
وهاجر سعيد بن عامر إلى المدينة، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات، ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راض عنه ظل من بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه -أبو بكر وعمر- وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس، وشهوات الجسد، وكان خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفان لسعيد بن عامر صدقه وتقواه ويستمعان إلى نصحه ويصغيان إلى قوله.
اختيار سعيد بن عامر الجمحي لولاية حمص :
دخل على عمر بن الخطاب في أول خلافته فقال: "يا عمر أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وألا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه العمل، يا عمر أقم وجهك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخذ الغمرات إلى الحق، ولا تخف بالله لومة لائم"، وسيدنا سعيد ينصح سيدنا عمر.
فقال عمر: ومن يستطيع هذا يا سعيد؟ قال: يستطيعه رجل مثلك ممن ولاهم الله أمر هذه الأمة وليس بينه وبين الله أحد - أي أعلى رجل بالأمة ليس بينه وبين الله أحد - كل إنسان يحاسب، أما أعلى إنسان من يحاسبه؟ الله سبحانه وتعالى، هذا معنى وليس بينه وبين الله أحد، الأب في المجلس، والابن يتحاسب تحاسبه أمه، والأخ يحاسبه أخوه الأكبر، والزوجة يحاسبها زوجها، أما الزوج فمن يحاسبه؟ الله عز وجل إذا ظلم.
وعند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيداً إلى مؤازرته وقال: يا سعيد إنا مولوك على أهل حمص، فقال: يا عمر ناشدتك الله لا تفتني، فغضب عمر وقال: ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني؟ ألا تنصحني؟ تعال وساعدني، والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص وقال له: ألا نفرض لك رزقاً؟ - أي أتحب أن نعمل لك راتباً؟ - قال: وما أفعل به يا أمير المؤمنين؟ فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي ثم مضى إلى حمص.
وما هو إلا قليل حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم، فرفعوا له كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد؟ قالوا: أميرنا هذا أيضاً فقير، قال: أميركم فقير؟ قالوا: نعم فو الله إنه ليمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينارٍ فجعلها في صرة وقال اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
فجاء الوفد لسعيد بالصرة، ونظر إليها، فإذا هي دنانير فجعل يبعدها عنه، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كأنما نزلت به نازلة، أو حلّ بساحته خطب، فهبت زوجته مذعورةً وقالت: ما شأنك يا سعيد أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: هل أصيب المسلمون بوقعة؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: وما أعظم من ذلك؟ قال دخلت عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي وحلت الفتنة في بيتي، قالت: تخلص منها، وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً، قال: أو تعينيني على ذلك؟ قالت: نعم، فأخذ الدنانير فجعلها في صرر ووزعها على فقراء المسلمين، وعمل مع زوجته حيلة ووزع الأموال.
قصة سعيد بن عامر الجمحي مع أهل حمص :
ولم يمضِ على ذلك أمر طويل حتى أتى عمر بن الخطاب بنفسه إلى بلاد الشام يتفقد أحوالها فلما نزل في حمص وكانت تدعى الكويفة وهو تصغير الكوفة، وتشبيه لحمص بها لكثرة شكوى أهلها من عمالهم وولاتهم، فلما نزل فيها لقيه أهلها بالسلام عليه وقالوا: كيف أميركم؟ فشكوه إليه وذكروا له أربعاً من أفعاله كل واحد منها أعظم من الآخر، قال عمر: فجمعت بينه وبينهم، ودعوت الله ألا يخيب ظني به فقد كنت عظيم الثقة فيه، فلما أصبحوا عندي وهو أميرهم قلت: ما تشكون من أميركم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، فقلت: وما تقول يا سعيد؟ فسكت ثم قال: والله إني أكره أن أقول ذلك ولكن لابد منه إنه ليس لأهلي خادم فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس، قال عمر: وما تشكون منه أيضاً؟ قالوا: إنه لا يجيب أحداً بالليل، قال: ما تقول يا سعيد؟ قال: والله أكره أن أعلن هذا أيضاً إني قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل، قال: وما تشكون أيضاً؟ قالوا: إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر قال: ليس لي خادم، وليس عندي ثياب غير التي علي فأغسلها، ثم قال: وما تشكون أيضاً؟ قالوا: تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عن مجلسه – إغماء- قال: وما هذا يا سعيد؟ قال: شهدت مصرع خبيب وأنا مشرك ورأيت قريشاً تقطع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك؟ فيقول: والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، وأن يصاب محمد بشوكة، وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لن يغفر لي.
من تلك الساعة إلى الآن، دخل في الإسلام، وخاض معارك، وحارب مع رسول الله، وجاهد، وهو يظن أن الله لن يغفر له ذلك الموقف، و كان قادراً على نصرته وما نصره، فأصابتني تلك الغشية، عند ذلك قال عمر: "الحمد الله الذي لم يخيب الله ظني فيك".
فكلما تذكر موقفه من سيدنا خبيب وحينما صرعه زعماء قريش ولم ينصره تصيبه غشية من الله عز وجل، فهو يظن أن الله لن يغفر له، عند ذلك قال عمر: "الحمد الله الذي لم يخيب الله ظني فيك".
ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته فلما رأتها زوجته قالت: الحمد لله الذي أغنانا، اشتر لنا مؤونةً، واستأجر لنا خادماً، قال لها: وهل لكِ فيما هو خير من ذلك؟ قالت: وما ذاك؟ قال: ندفعها إلى من يأتينا بها، قالت: وما ذاك؟ قال: نقرضها الله قرضاً حسناً، قالت: نعم وجزيت خيراً، فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر وقال لواحد من أهله انطلق بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين آل فلان، وإلى فقراء آل فلان، فوزعها.
طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب:
إذا ظن الرجل أن الجنة تأتي وهو في نعيم مقيم، وهو في بحبوحة، يأكل ويشرب ويتنعم، ولا يفعل خيراً، فهذا ذنب من الذنوب، طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وأصحاب رسول الله فتحوا البلاد ورفع الله ذكرهم، وشأنهم، وسعدوا في الدنيا والآخرة، بفضل جهادهم، وأعمالهم الطيبة.
وأقول لكم هذا الكلام: الله سبحانه وتعالى هو هو، وأبواب العمل الصالح مفتوحة هي هي، وطريق البطولة سالك هو هو، وما بقي علينا إلا أن نسير، فالحق واحد، والحياة مؤقتة، والموت على الأبواب، و الجنة آمنا بها، وجهنم أيقنا بوجودها، فماذا بقي علينا؟ قال رجل لرسول الله: جئتك لتعلمني من غرائب العلم؟ قال: فماذا صنعت في رأس العلم؟ قال: وما رأس العلم؟ قال: وهل عرفت الرب؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت في حقه؟
اسأل نفسك هذا السؤال، إذا قال لك أحد هل تعرف الله؟ طبعاً حضرت مجالس العلم، إنها تفسير، وحديث، وسيرة، وشيء جميل، فماذا صنعت في حقه؟ قال له: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فماذا أعددت له إن كنت بطلاً فاسأل نفسك هذين السؤالين وعندك الجواب، هل عرفت الله؟ فإذا قلت: لا فماذا تنتظر؟ وإن قلت نعم فماذا صنعت في حقه؟ وهل عرفت الموت؟ فإن قلت: لا، فأنت في ضلال كبير، وإن قلت: نعم، عرفت أني سأموت، أقول لك: ماذا أعددت له؟
أما عرفت الله وفي بيتك خمسون مخالفة، وأنت مقيم على خمسين معصية، وعلاقاتك المالية كلها ربوية، وأنت مسلم محب لله، هذا كلام فارغ، وهذه زعبرة وتلبسة، فإن قلت:عرفت الموت فماذا أعددت له؟ ومن منا يذهب في سفر من دون زوادة؟ إلى أين تذهب؟ إلى فرنسا؟ تحتاج إلى فرنك فرنسي، إلى أمريكا؟ تحتاج إلى دولار، إلى روسيا؟ تحتاج إلى روبل، إلى العمرة؟ تحتاج إلى ريال، والآخرة عملتها: العمل الصالح، والآن الأسعار رخيصة جداً، وبعد هذا يرتفع ثم يفقد نهائياً بعد الموت، فاستغل أن أسعار العملات النادرة في الآخرة الآن متوافرة، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، أن تميط الأذى عن الطريق هو لك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة، و أن تعود مريضاً، وأن تبر والديك، فأبواب العمل الصالح مفتحة على أبوابها، فإذا الله عز وجل أكرمك بها فستعرف ما نقول، والغنى هو غنى العمل الصالح، قال تعالى:
﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾