- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القصر في الصلاة للمسافر :
أيها الأخوة الكرام، تنفيذاً للوعد الذي وعدتكم به من أن مجموعة الأسئلة التي وردتني، والتي وجدناها في صندوق الأسئلة والفتاوى، سوف نجيب عن بعضها في دروس الأحد تباعاً، وقد وعدتكم في الدرس الماضي أن يكون موضوع هذا الدرس صلاة القصر، أو القصر في الصلاة للمسافر، وهذ ا الموضوع يحتاجه كل مسلم لأن طبيعة هذا العصر تقتضي كثرة الأسفار فما حكم الصلاة للمسافر؟
القصر جائزٌ في القرآن، و السنة، والإجماع، فالقصر هو اختصار الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين، في صلاة الظهر، والعصر، والعشاء، فالصلاة الرباعية تغدو ثنائية، فالقصر جائز في القرآن، والسنة، والإجماع، أما بالقرآن فلقول الله تعالى:
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
والحقيقة أن القصر جائز حتى في حالة الأمن، والآية تشير إلى أن الإنسان إذا خاف أن يفتن، أو خاف من عدوٍ قصر الصلاة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قصر الصلاة في الحج، والعمرة، والسفر، وفي الغزو، فسنة النبي عليه الصلاة والسلام مفسرة للقرآن الكريم، قال عز وجل:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام أقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وقد قصر الصلاة في السفر، و في الحج، و في العمرة، و في الغزو، فإذا قيّدت الآية بالخوف من فتنة العدو، فالنبي بسنته العملية أطلقها، وجعل مجرد السفر يجوز فيه قصر الصلاة.
الأسفار في عهد النبي أسفار غزو :
لعلماء التفسير أدلة على أن النبي عليه الصلاة والسلام فهِم من هذه الآية بأن أكثر السفر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام سفر غزوٍ، فهذا ليس قيداً، بل هو وصفٌ، وليس قيد احتراز، بل هو قيد صفة ثابتة، فقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
هذا قيد وصفي، لأن أكثر الأسفار في عهد النبي أسفار غزو، ومن شأن الغازي أن يخاف من عدوه.
وأحد أصحاب النبي عليهم رضوان الله سأل سيدنا عمر عن هذا، فعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
(( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمِ الَّذِينَ كَفَرُوا "، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ))
فالقصر جائز في حالة الخوف والأمن، وفي سفر الغزو والحرب والجهاد في سبيل الله، وفي سفر الحج والعمرة، وفي السفر المباح، أو لأي سفر آخر، ولو لزيارة الأصدقاء أو الأخوة، أو للسياحة.
أنواع من السفر يجوز فيها قصر الصلاة :
أما جواز القصر من السنة فقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى طِنْفِسَةٍ لَهُ فَرَأَى قَوْمًا يُسَبِّحُونَ قَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُصَلِّيًا قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا لأَتْمَمْتُهَا، صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ حَتَّى قُبِضَ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ كَذَلِكَ))
وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة سواء كان السفر واجباً، كسفر الحج إلى المسجد الحرام، والجهاد، والهجرة، والعمرة، أو مستحباً كالسفر لزيارة الأخوة، وعيادة المرضى، وزيارة أحد المسجدين؛ مسجد المدينة والمسجد الأقصى إن شاء الله تعالى، وزيارة الوالدين أو أحدهما، أو مباحاً كسفر النزهة، أو الفرجة، أو التجارة، أو مُكرهاً على السفر كأسيرٍ اقتيد من مكان لآخر، أو مكروهاً كسفر المفرد بنفسه، فإذا سافر الإنسان بمفرده فسفره مكروه من دون جماعة، ففي كل هذه الأنواع من السفر يجوز قصر الصلاة، فهذا إجماع أهل العلم بالقرآن والسنة والإجماع .
تعريف القصر :
أمّا تعريف القصر فهو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين، الذي يقصر إجماعاً الصلاة الرباعية من ظهرٍ وعصرٍ وعشاء، أما الفجر فلا يقصر، والمغرب لا يقصر أيضاً، فلدينا أحكام متعلقة بالسفر، وهذه الأحكام أساسية وسوف نأخذها إن شاء الله تعالى، فالجمع: جمع الظهر مع العصر تقديماً، أو جمع العصر مع الظهر تأخيرًا، والقصر، والمسح على الخف ثلاثة أيام، وإباحة الإفطار في رمضان، وهذه الأربعة تختص بالسفر الطويل، وحرمة خروج المرأة بغير محرمٍ، وسقوط الجمعة والعيدين، والأضحية، وإباحة أكل الميتة للمضطر، والصلاة على الراحلة، والتيمم، وإسقاط الفرض به، وهذه متعلقة بالسفر القصير، فهذه كلها أحكام السفر، واليوم نأخذ فقط حكم القصر في الصلاة.
آراء المذاهب في القصر :
1 ـ رأي الأحناف :
وهناك سؤال كبير يتردد بين المسلمين هل القصر رخصةٌ أم عزيمة واجبٍ؟ أيجب أن نقصر أم القصر رخصة نأخذ بها أم لا نأخذ؟ فعلى اختلاف المذاهب نعرض الآراء الثلاث؛ إما أنه فرض، وإما أنه سنة، وإما أنه رخصة يخير فيها المسافر، فالأحناف قالوا: القصر واجب، وهو عزيمة عليك فعلها، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن سها وصلاها أربع ركعات، فإن صلّى أربع ركعات وقعد بينهما إلى التشهد عدت الركعتان الأولى والثانية فرضًا، والثالثة والرابعة نافلة ويكون مسيئاً، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد بطلت صلاته لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها، هذا رأي الأحناف، وأدلتهم أحاديث ثابتة، منها حديثٌ عن السيدة عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ:
((فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ))
والدليل الثاني حديث ابن عباس قَالَ:
(( فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً))
فالقصر واجب عند الأحناف، فلو ذهبت إلى بيت الله الحرام وأنت مقيمٌ في الحج ولا عمل لك إلا العبادة، فالأحناف يقصرون الصلاة في الحج والعمرة وسفر التجارة والسياحة والغزو والجهاد وأي سفر، بل في مطلق السفر.
2 ـ رأي المالكية :
والمالكية يرون أن القصر سنة مؤكدة وليس واجباً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام الفعل فعله فهو سنة مؤكدة، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتمّ صلاته قط، فعند الأحناف القصر واجب، والواجب يقترب من الفرض، وعند المالكية قصر الصلاة سنة مؤكدة، كما في الحديث المتقدم.
3 ـ رأي الشافعية و الحنابلة :
وأما الشافعية والحنابلة فقالوا: القصر رخصة على سبيل التخيير، فللمسافر أن يتم أو أن يقصر، والقصر أفضل من الإتمام، حتى عند الشافعية مطلقاً، لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده، وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، فالقصر أولى من الإتمام.
فما دام العلماء قد اجتمعوا على القصر فهناك حكم معروف عندكم اسمه الخروج من الخلاف، فإذا قصرت الصلاة في السفر فقد خرجت من الخلاف كلياً.
أما أدلة السادة الشافعية فمنها قوله تعالى:
﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾
وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير على فعله وتركه كسائر الرخص.
والحديث السابق عن عمر:
(( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ))
وقوله عليه الصلاة والسلام:
((إنَّ اللَّهَ يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُه كَمَا يُحِبُ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُه))
وثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم القاصر، ومنهم المتم، منهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض، هذه أدلة الشافعية.
((عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ، وَأَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، قَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ وَمَا عَابَ عَلَيَّ))
فالشافعية معهم أدلتهم، والأحناف معهم أدلتهم، والقصر يتردد بين الواجب عند الأحناف، وبين السنة عند المالكية، وبين الإباحة على أنه رخصة يؤخذ بها أو لا يؤخذ عند الشافعية والحنابلة، واختلاف أمتي رحمة.
الأحكام المتعلقة بالقصر :
الأحكام المتعلقة بالقصر دقيقة جداً، فالحكم الأول: المسافة التي تقصر فيها الصلاة، والثاني: نوع السفر الذي يقصر فيه الصلاة، والثالث: الموضع الذي نبدأ فيه القصر في الصلاة، والرابع: الزمان الذي يقصر فيه الصلاة إذا أقام المسافر، هذه الموضوعات هي المتعلقة بقصر الصلاة.
1 ـ المسافة التي تقصر فيها الصلاة :
المسافة باختصار شديد ومن دون الدخول في تفاصيل أحكامها: ثمانية وثمانون كيلو متراً، أي مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة، تعلمون أن في القطب منطقةً يستمر فيها النهار ستة أشهر، ومنطقة أخرى يستمر فيها الليل ستة أشهر، فإذا نزلنا قليلاً فقد تغيب الشمس في الساعة الواحدة ليلاً، وتشرق في الساعة الواحدة والنصف، أما المنطقة المعتدلة كمنطقتنا فالنهار والليل يتقاربان، وفي وقتين في العام يتساويان، وفي الصيف والشتاء يختلفان، وأطول أيام الصيف سبع عشرة ساعة، والليل سبع ساعات، وأقصر الأيام في الشتاء كما تعلمون، على كلٍّ مسيرة أيام ثلاث بلياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة بسير الإبل، أو سير الأقدام، وهذه قدرت بثمانية وثمانين كيلو مترًا، وعند بعض المذاهب لا يضر أن تنقص أو تزيد، تقريباً أن تتجاوز ثمانين كيلو متراً فلك أن تقصر الصلاة.
فلو ركبت سيارة وقطعت المسافة إلى النبك بساعة واحدة تقصر الصلاة، إذْ ليس المقصود بسفر ثلاثة أيام أن تمضي في هذه المسافة ثلاثة أيام، بل المقصود أن تقطع مسافة كانت تمضى أو تقطع في ثلاثة أيام، فلو قطعت بسيارة في ساعة واحدة فلك أن تقصر إذا وصلت إلى النبك، أما الزبداني فلا داعي للقصر.
فلو أنّ الإنسان طاف الدنيا هائماً على وجهه لم يجُز أن يقصر من الصلاة، فالسفر المقصود تريد حلب أو حمص أو عمّان، فإذا أردت مكاناً معيناً وقصدته فأنت مسافر، أما إنسان خرج على وجهه هائماً دون أن يقصد مكاناً فهذا لا يجوز له أن يقصر،على كلٍّ هذه حالات نادرة جداً.
والمسافة في البحر أو الجبل أو الجو أو السهل كالمسافة في البر، والمهم أن تقطع ثمانين كيلو أو أكثر، يجوز حينئذٍ أن تقصر الصلاة، ولا يضر أن تقل هذه المسافة قليلاً أو تزيد، ويقولون أحياناً في بعض الصفقات: زائد ناقص عشرة بالمئة، فلا مشكلة.
والسادة المالكية استثنوا أهل مكة من هذه المسافة، فإذا ذهبوا من مكة إلى منى أو غيرها من المناطق قصروا الصلاة.
2 ـ نوع السفر الذي يقصر فيه الصلاة :
أما الأحناف فلهم رأي خاص، ولبقية المذاهب رأي آخر في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فالأحناف أيُّ سفر تقصر فيه الصلاة ولو كان سفراً مكروهاً، أو سفرًا فيه معصية، هذا رأيهم، فقاطع الطريق الذي ذهب ليزني عليه قصر الصلاة! أيّة صلاة هذه! والأئمة الثلاث يقولون: لا بد من أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعةٍ، فأنتم تبسمتم عندما أخبرتكم برأي السادة الأحناف لكن لهم تخريج دقيق، فإذا سافر الإنسان هل سفره حرامٌ لعينه؟ لا، فمثلاً: لحم الخنزير حرامٌ بذاته، فإذا دخلت المطعم وتناولت لحمَ ضأنٍ مذبوح على الشريعة الإسلامية ولم تدفع الثمن هل هذا حرام أم حلال؟ حرام، لا لأنه تناول لحم الضأن، بل لأنه لم يدفع الثمن، فأصبح بذلك حرامًا، نقول: أكل هذا الطعام حرامًا، لكن لا لذاته بل لغيره، فلو أن السفر محرم بذاته، حيث يمكن أن تعصي الله فيه أو تطيعه، فما دام السفر ينفك عن المعصية، وما دامت المعصية تنفك عن السفر إذاً ما نقوله: إن على المسافر أن يقصر من الصلاة، ولا علاقة لنا بحال المسافر، وقد يكون مقيمًا يعصي الله، أرادوا أنه لا ينبغي لنا أن نربط المعاصي بالعبادات، فكل عبادة لها أحكامها، والله أعلم، ولكن رأي الجمهور أنه لا يجوز أن تقصر الصلاة إلا في السفر المباح ، كالحج والعمرة والهجرة - من فرّ بدينه- فكم مِن سفر مباح اليوم؟ هناك أسفار كثيرة، هؤلاء الذين غادروا بلادهم فراراً بدينهم هذا سفرهم مباح، أو طلباً للعلم، أو قصداً للرزق، أو لزيارة الأهل؛ كأن تزور ابنتك التي هي في بلد بعيد، فهذا سفر مباح، أو لزيارة أخٍ في الله، أو صديق، لكن سفر المعصية كالإباق كعبد أبق من مولاه؛ أي هرب، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، فهذا السفر معصية، وهناك من يقصد السفر ليرتكب بعض الموبقات في بلد آخر، على كلٍّ عند الأئمة الثلاث لا يصح قصر الصلاة إلا في السفر المباح، لقول الله عز و جل:
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
فرخصة أكل لحم الخنزير بشرط ألا يكون باغيًا ولا عاديًا، فحينئذٍ لا إثم عليه، فإذا كان باغياً فعليه إثمٌ كبير، والعلماء قاسوا على هذه الآية.
3 ـ الموضع الذي نبدأ فيه القصر في الصلاة :
أما الموضع الذي يبدأ فيه القصر فنمثِّل له بإنسان يتوهم نفسه أنه اليوم مسافر، وسفره الساعة الواحدة، والظهر أذَّن الساعة الحادية عشرة والنصف، فصلى الظهر وقصر الصلاة، هذا حرام، إذْ لا يجوز القصر في الصلاة إلا بعد مباشرة السفر، لا بعد نيّة السفر، فالنيّة لا يعتد بها أبداً، فلا تستطيع قصر الصلاة إلا إذا خرجت من المدينة وتجاوزت ظاهرها، ونحن نرى أنه حول المدينة مرافق كالمقابر والبساتين، وكل بلد له ترتيبه، والمهم أن تتجاوز أبنية المدينة حتى يبدأ حكم القصر في الصلاة، ولا يجوز أن تتم الصلاة إلا إذا دخلت المدينة، فبخروجك منها يبدأ القصر وبدخولك إليها ينتهي القصر، فهذا الموضع الذي يبدأ فيه القصر.
4 ـ الزمان الذي يقصر فيه الصلاة إذا أقام المسافر :
أما مقدار الزمن الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر، فعند الأحناف إذا سافر الإنسان ونوى الإقامة أكثر من خمسة عشر يوماً فعليه أن يقصر الصلاة، سافر ليقيم تسعة أيام أو سبعة أو أربعة عشر يوماً، فإذا نوى الإقامة خمسة عشر يوماً فما فوق وجب أن يتم الصلاة، ولو بقي سنوات وسنوات دون أن ينوي الإقامة فعليه أن يقصر الصلاة، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما فتحوا بلاد أذربيجان قصروا الصلاة ستة أشهر متتابعة، فأنت تقصر الصلاة ما لم تنوِ الإقامة، فإذا نويت الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر عند الأحناف فعليك أن تتم الصلاة، أما المالكية والشافعية فإذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أتم الصلاة، والمالكية قالوا: عشرون صلاة فإذا نقصت قصر الصلاة.
فعند المالكية والشافعية والحنابلة إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة أتمّ الصلاة، أمّا عند الأحناف فخمسة عشر يوماً فما فوق، فإذا نويت الإقامة أتممت الصلاة، ويحسب يوم الدخول والخروج من المدة.
شروط القصر في الصلاة :
1 ـ أن يكون السفر طويلاً :
شروط القصر في الصلاة: أن يكون السفر طويلاً، ويبلغ مسافة ثمانين كيلو مترًا فما فوق، ويقولون: يأتي يوم على الناس -هذه كلمة قرأتها -يطوف الإنسان حول العالم في ثلاث ساعات وليس هذا ببعيد!
الآن يقطع الإنسان المحيط الأطلسي كله بطائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت بمدة يسيرة جداً، فيدور العالم في ثلاث ساعات، الأولى من بيته إلى المطار، والثانية حول العالم، والثالثة من المطار إلى البيت، واليوم الإنسان يذهب بساعتين من دمشق إلى جدة وينتظر في المطار أربع ساعات، فهذا يقصر، فأن يكون السفر طويلاً بمقدار مرحلتين كما تكلمنا من قبل، أي: ثمانون كيلو مترًا وما فوق هذا الشرط الأول.
2 ـ أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور :
الشرط الثاني أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور، فقد أمسكوا برجل يسرق في بيت الله الحرام، فلما حقق معه قالوا له: أنت في الحج؟ فقال: لا، فأنا عندما أحرمت أحرمت سارقاً، فمن المتوقع أن نشاهد حالات نشل وسرقة كثيرة في الحج.
وإذا سافر إنسان لقطع الطريق، أو ليسرق، أو ليزني، أو ليرتكب إثماً فهل ينعقد قصره لو قصر؟ يجب أن تقولوا: لا تنعقد صلاته أصلاً، لأن الإنسان عندما يرتكب ذنباً يضع حجاباً بينه وبين الله، والمعاصي تقطع وتحجب، فالشرط الأول أن يكون السفر طويلاً، والشرط الثاني أن يكون السفر مباحاً.
3 ـ تجاوز العمران من موضع الإقامة :
والشرط الثالث أن تجاوز العمران من موضع الإقامة كما بيَّنا.
4 ـ أن يقصد مكاناً معيناً في السفر :
والشرط الرابع أن تقصد مكاناً معيناً في السفر، أما أن تقول: دعوها على التيسير، فهذا هائم على وجهه، والعلماء عدُّوا تحديد الهدف شرطاً، أو البلد الذي تريد الذهاب إليه، فلا قصر ولا فطر لهائم، وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه.
5 ـ الاستقلال بالرأي :
والشرط الخامس الاستقلال بالرأي، فالجندي تابع لقائده، والخادم تابع لسيده، والطالب تابع لأستاذه، والزوجة تابعة لزوجها، فلو أن الزوج ما تكلم لها أن تقصر الصلاة لم يجز لها القصر، إذْ لا قصر للصلاة إلا إذا كنت مستقلاً بالرأي في السفر، فأنت صاحب القرار، أمّا التابع فإذا بلغه قائده: نحن نتجه للنبك، فيا أيها الجنود اقصروا الصلاة فيقصرون، أما جندي يتحرك مع قائده ولا يدري المناورة بعد خمسة كيلو مترات بالتل أم بالنبك وبما أنه تابع فلا يحق له قصر الصلاة، فالتابعون ليسوا أصحاب قرار في السفر
6 ـ ألا يقتدي المسافر بمتم أو مسافر يقيم الصلاة :
وشرط المسافر ألا يقتدي بمتم أو مسافر يقيم الصلاة، فرجل شافعي المذهب أراد أن يصلي الظهر أربع ركعات، فالحنفي المسافر لا يحل له أن يقتدي به إلا أن يتم معه، أما أن ينفصل عنه بعد صلاة ركعتين ثم يسلم فليس له ذلك، إذْ يشترط متابعة المقتدي للإمام في الصلاة.
فكل أخواننا الحجاج حتى العلماء لو صلوا في الحرم الظهر يصلون أربعًا، لأنه يقتدي بمقيم، إذا اقتديت بمقيم فعليك إتمام الصلاة، وإذا اقتديت بمسافر يتم صلاته وجب أن تتم الصلاة معه، لتحقيق شرط المتابعة في الصلاة، ولا يجوز أن تقتدي بمشكوك السفر.
دخلت المسجد فوجدت الإمام يصلي صليت خلفه، هل تعرف حاله؟ أغلب الظن هو مسافر مثلي، لكني غير متأكد، فهذا مشكوك السفر، إن اقتدى بمقيم أو مسافر يتم الصلاة أو بمشكوك الصلاة في السفر، فيجب على المسافر أن يتم الصلاة ليحقق متابعة الإمام، فهو شرط في الاقتداء.
لكن الأحناف ما أجازوا أن تصلي خلف الإمام إلا صلاة الوقت، أي عندما يؤذن الظهر تقام الصلاة، وهذه الصلاة التي تُصلى بعد أذان الظهر والإقامة اسمها صلاة الوقت، فالمسافر يجوز أن يقتدي بمقيم في صلاة الوقت فقط، فإذا صلى الإمام صلاة الوقت أصبح المسافر في ذمته ركعتان فقط، عندئذٍ لا ينبغي له أن يقتدي بإمام ثانٍ، دخلت المسجد فوجدت فيه إمامًا يصلي صلاة الظهر، لكن بعد أن صلى الإمام الراتب صلاة الظهر في وقتها أنت لا ينبغي لك أن تصلي خلفه، بل ينبغي أن تصلي وحدك صلاة المسافر قصراً، حتى لو أدركت الإمام وهو في القعود الأخير في الركعة الرابعة يجب أن تصلي الظهر أربعًا، لأنك لو صليتها ركعتين وقعت في مخالفة الاتباع، حتى لو أدركت الإمام في التشهد الأخير يجب أن تتم الصلاة أربع ركعات، لأنك اقتديت بإمام مقيم، أو إمام يتم الصلاة في السفر، أو بمشكوك السفر.
فموضوع النية دقيق جداً، ويرى بعضهم أن على المصلي الذي يقصر الصلاة في السفر أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة، فالأصل أن تتمها، فما دام هناك استثناء فلابد من النية معه، وبعضهم قال: لا يكفي أن تنوي القصر في أول صلاة السفر، والصلوات كلها بعد ذلك تتابعها كذلك.
الأحناف قالوا: إنّ نية السفر وحدها تجزئ عن نية قصر الصلاة في السفر، والشرط الثاني البلوغ، وهو شرط عند الحنفية، فالصبي لا يقصر الصلاة لأنه لم يفقه القصر، فلابد من البلوغ لإيقاع هذا الحكم، وهذا ملخص لآراء العلماء في شروط السفر.
من خاف ألا يفهم الناس عليه ما معنى قصر الصلاة فينبغي أن يصلِّي الصلاة تامة :
عند الأحناف يقصر الصلاة من نوى السفر، وقصد موضعاً معيناً، ومتى جاوز بيوت محل لإقامته، وكان المكان محدداً جاز أن يقصر الصلاة، أما في هذه الحالة، لو أن أحدكم سافر إلى بلد ما، ودخل المسجد، ونوى أن يصلِّي صلاة السفر قصراً، وفجأة رأى خلفه ثلاثين شخصاً! فهناك مساجد أساسية في البلدة، وفي مركز المدينة يدخلها الناس دائماً، فدخل أحدهم ووجد إمامًا يصلِّي أول ركعة، وخلفه ثلاثون أو أربعون، وأكثرهم قد يكونون أمييّن يجهلون أحكام السفر، فعليه أنة يصلّى ركعتين ثم يقول بعد سلامه: أتموا صلاتكم فإني مسافر! قد أضعتهم بهذا، وجدت حكماً شرعياً، إنك إذا خفت ألا يفهم الناس عليك ما معنى قصر الصلاة فينبغي أن تصلِّي الصلاة تامة دفعاً للفتنة ولتشويش المصلين، فإذا صلى أحدكم في مسجد قصراً، ثم شعر أن وراءه أشخاصًا عديدين اقتدوا به، وغلب على ظنه أنه لو سلم على رأس الركعة الثانية وقال: أتموا صلاتكم فإني مسافر، وخاف ألاّ يفهموا عليه فيقع في الاضطراب، فالأَوْلى أن يتم الصلاة، أما إذا جاء ليصلي في البيت وصاحب البيت معه قال: أنا مسافر سأصلي ركعتين، الأولى أن يبلّغه قبل البدء في الصلاة، فإذا صلى ركعتين، وتشهد، وقعد القعود الأخير، وسلم يقول: أتم صلاتك فإني مسافر، وإذا قالها الإنسان قبل الصلاة أجزأه ذلك.
ما يلغي السفر :
فما الذي يلغي القصر؟ أن تزيد مدة إقامتك عن خمسة عشر يوماً عند الأحناف، أو عن أربعة أيام عند الحنابلة والمالكية والشافعية.
وما الذي يلغي القصر أيضاً؟ أن تدخل بلدتك، فكثيراً من الأخوان أخبروني وهم يجهلون هذه الحقيقة أنه مسافر منهَك القوى دخل بيته، وأكمل قصر الصلاة، فهذا لا يجوز أبداً، صلّ في النبك العشاء قصرًا فلا مانع، أما إذا وصلت إلى المدينة ودخلت بيتك فأتمَّ، ولكن لو أن صلاة فاتتك وأنت مسافر قضيتَها قصراً، ولو فاتتك الصلاة وأنت مقيم وأنت الآن مسافر قضيتها تامة.
وفي حالات نادرة لو أن إنسانًا بلدُ إقامته دمشقُ، فذهب إلى حمص، وعُيِّن مدرسًا ونقل معه زوجته وأولاده، فأين يقصر في دمشق أم في حمص؟ ما دام عمله وزوجته في حمص، ومكان إقامته الدائم في حمص، فهذا لو جاء إلى بلدته بنية الزيارة يومين أو ثلاثة فإنه يقصر في دمشق.
ولو أنّ شخصًا عنده زوجتان؛ الأولى في حمص، والثانية في الشام، فهل يقصر كلما سافر من زوجة لأخرى؟ لا، بل عليه تحديد البلد المقيم فيه مع الزوجة الأولى مثلاً، والزوجة الثانية بلد السفر، وإذا كان للإنسان أكثر من بلد؛ كبلد ولد فيه، وبلد يعمل فيه، وبلد له فيه زوجة، فأصبح التداخل واضحاً، ولا بد من بلد أَصْليٍّ باختياره.
اختلاف العلماء في موضوع صلاة السنن في السفر :
اختلف العلماء في موضوع صلاة السنن في السفر، النوافل الراتبة تركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه، ودليلهم الصلاة التي تقصر في السفر الظهر والعصر، فالسنن أيضاً تلغى لكن هذا الموضوع فيه خلاف.
وإن شاء الله سوف نذكره بشكل مفصل في درس قادم، وننتقل فيه إنْ شاء الله إلى موضوع الجمع بين الصلاتين، فلدينا صلاة الظهر مع العصر جمع تقديم أو جمع تأخير، وهذا موضوع خلافي بين المذاهب، فالأحناف لا يجيزون جمع التقديم أو التأخير إلا في مزدلفة وعرفات، لكن بقية المذاهب يجيزون الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم أو تأخير، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم وجمع تأخير، وإلى درس قادم إن شاء الله تعالى.
خاتمة :
أيها الأخوة، في الدرس الماضي أجبنا عن بعض الأسئلة، والحقيقة شعرت أن أخواننا تفاعلوا كثيراً مع هذا النوع من الدروس، سنستمر فيه إن شاء الله تعالى، فالأحد الأول من كل شهر نفتح هذا الصندوق، ونقرأ الأسئلة، ولكن الأفضل أن تكون الأسئلة كلها مكتوبة، فالسؤال المكتوب تكون الإجابة عنه متأنية ودقيقة وواضحة، ولا أرغب في السؤال الارتجالي غير المعد في الدرس، فنحن إن شاء الله تعالى نتابع الإجابة عن الأسئلة في الدروس القادمة، وربما كانت الدروس كلها بين درسي المناقشة إجابة عن أسئلة دقيقة وردت إلى الصندوق، لأن السؤال مهم جداً، كصلاة السفر، فكل الناس تسافر، فيختلف بهذا الحكم المصلون، يجوز أم لا؟ هل هو مباح؟ نصلِّي أم لا؟ فهذا كله ينبغي توضيحه في أذهان الأخوة الأكارم، وحينما تنتهي هذه الموضوعات نعود للموضوعات الأساسية، فدرس الأحد مخصص للسنة النبوية، إما شرح أحاديث، أو أحكام، ودرس الجمعة لكتاب الله عز وجل، ودرس الاثنين للإسلام مطبق، هذه دروس عامة، أما الدروس الخاصة كدرس يوم السبت فدرس دعاء، وعلوم قرآن، وأصول فقه... وتاريخ التشريع والأديان، وعلم الأصول والفرائض، واللغة العربية، والخطابة، و أخواننا الحمد لله يتعلمون في هذه الدورات ويعينون خطباء، ولهم دعوة طيبة، فالدروس العامة شيء، والخاصة شيء آخر، الخاصة لتعدك أن تكون خطيباً وداعيةً، والدروس العامة تعدك لتكون مؤمناً متفوقاً.