- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حكم الشرع في السنة :
أيها الأخوة المؤمنون، الحديث اليوم عن سنن الصلاة، ومن أحسن أحكام السنة أن تركها ولو عمداً لا يفسد الصلاة، ولا يوجب سجود السهو، غير أنه يكون مسيئاً إذا تركها عمداً، والإساءة أقل من الكراهة، ويثاب على فعلها ويلام على تركها، هذا حكم الشرع في السنة.
فلو أن إنساناً سها عن إحدى سنن الصلاة لا يوجب هذا السهو سجود السهو، أما إذا سها عن بعض واجباتها، أو عن واجب من واجباتها، فهذا يوجب سجود السهو، أما إذا سها عن أحد أركانها فصلاته باطلة، فالفرض إذا ترك تبطل الصلاة، والواجب إذا ترك يوجب سجود السهو، وأما السنة فيثاب من فعلها ويلام من تركها.
رفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين هذا من السنة، أما المرأة فحذاء المنكبين، فهم النبي عليه الصلاة والسلام رفيع المستوى لو رفعت المرأة يديها هكذا ربما ظهر ذراعها فيكتفي من المرأة برفع اليدين إلى حذاء المنكبين، و على هذا تنسحب أحكام عدة: فمثلاً المرأة ليس عليها أن تهرول بين الصفا والمروة، و بين الميلين الأخضرين، فإذا هرولت ربما اهتز صدرها فأثارت الفتنة، وكذلك المرأة إذا ماتت هناك كفن خاص لصدرها، لئلا يثير منظرها الرجال إذا حملوها، وهناك أشياء كثيرة حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا وجه امرأة من قريباته إلى التستر ذكر كلمات لا تثير أي شعور، لا تلبسي هذه الثوب فإنه يصف حجم عظامك، كلمة عظام لا تثير الشهوة إطلاقاً، و أي كلمة أخرى ربما أثارت، وهذا تعليم النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا هذه الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة مفعمة بألفاظ العورات والأفعال كما هي وهذا مما يثير الحرج والخجل؟ قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾
﴿ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ﴾
فمن ابتغى وراء ذلك، دخل في هذه الآية كل أنواع الانحراف لكن بشكل لا يخدش حياء المستمع، قال تعالى:
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
سنن الصلاة :
1 ـ رفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين وحذاء المنكبين للمرأة :
يوجد كلمات قرآنية كنايات رفيعة المستوى، والإنسان المفروض به أن يتأدب بأدب القرآن، لا يذكر بموضوع الفقه العورات بأسمائها والأفعال بصفاتها، هذا مما يوجب الحرج، ويسبب الخجل والحياء من المستمع.
فرفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين، وحذاء المنكبين للمرأة لئلا يظهر ذراعها، ونشر الأصابع، النشر حالة بين الضم وبين الانفراج، ومقابلة إحرام المقتدي لإحرام إمامه، لا ينبغي أن يتأخر المقتدي عن الإمام ولابد من التلازم والمتابعة، ومتابعة المقتدي لإمامه شيء أساسي في الصلاة، ووضع الرجل يده اليمنى على اليسرى تحت سرته، صفة الوضع أن يجعل باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى محلقاً بالخنصر والإبهام على الرسغ، ووضع المرأة يديها على صدرها من غير تحليق، أي تحت صدرها تماماً لئلا يظهر صدرها أيضاً وهذا هو الأدب، والثناء أي دعاء الثناء: "سبحانك اللهم وبحمدك، و تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، والتعوذ أي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن أكثر العلماء على أن التعوذ يكون سراً، والتسمية أول كل ركعة بسم الله الرحمن الرحيم، بعضهم يقرؤها سراً وبعضهم يقرؤها جهراً.
2 ـ التأمين :
والتأمين، كلمة التأمين أي يا رب استجب لنا هذا الدعاء، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين هذا دعاء، فكلمة آمين أي استجب يا رب، لكن رفع الصوت بها ليس من أدب الصلاة، وأحياناً في صلاة الجماعة يرتفع الصوت حتى يصبح ضخماً إلى درجة غير مقبولة، لا إنكم لا تخاطبون أصماً، والذي تخاطبه يعلم سرك ونجواك، الذي تخاطبه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، و يعلم السر وأخفى، أي ما يخفى عنك فلا داعي لرفع الصوت بكلمة آمين، قال عليه الصلاة والسلام:
((إِذَا قَالَ الإِمَامُ[ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ] فَقُولُوا: آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
لقنني جبريل عليه السلام عند فراغي من الفاتحة آمين وقال: إنها كالختم على الكتاب، وهي ليست من القرآن ولكن في أثناء التلقين قال: آمين أي استجب يا رب، التأمين أيضاً من سنن الصلاة، لكن التأمين لمن؟ للإمام والمأموم معاً، الإمام يجب أن يقول: آمين بلسانه بصوت منخفض ومنفرد، حتى إن بعضهم قال: وقارئ الفاتحة خارج الصلاة عليه أن يقول آمين.
3 ـ التحميد :
والتحميد، التحميد أن يقول المصلي بعد أن يرفع من الركوع: ربنا لك الحمد والشكر حمداً طيباً كثيراً مباركاً عدد خلقك، ويسن هذا للإمام والمأموم معاً وقيل الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، وبعدها يقول المأموم والإمام: ربنا لك الحمد والشكر، هذا هو التحميد والإقرار بها يعني التحميد ليس جهراً ولكن سراً، يسن التحميد والإقرار بكلمة التحميد ربنا ولك الحمد.
4 ـ الاعتدال عند التحريمة :
ويسن الاعتدال عند التحريمة، أي عند تكبيرة الإحرام يجب أن يكون مستوياً قائماً معتدلاً، فلو كان أقرب إلى الركوع فقد خالف واجباً من واجبات الصلاة، ويسن أن يكون معتدلاً تماماً، فانحناء خفيف مقبول.
5 ـ جهر الإمام بالتكبير والتسميع وتفريج القدمين بالقيام قدر أربعة أصابع :
ويسن جهر الإمام بالتكبير والتسميع، أي إذا كان لا يوجد أجهزة صوت فيجب أن يكبر الإمام وأن يسمع من يصلي خلفه، و لو لم يسمع من يصلي خلفه لركع أو سجد والذين خلفه واقفون، يسن الجهر بالتكبير والتسميع، وتفريج القدمين بالقيام قدر أربعة أصابع، أي بين القدمين يوجد أربعة أصابع، وإبعاد القدمين عن بعضهما مخالف للسنة ولصقهما ببعضهما مخالف للسنة، فإبعاد القدمين عن بعضهما مقدار أربعة أصابع.
6 ـ إطالة القراءة في الركعة الأولى عن الركعة الثانية :
وإطالة القراءة في الركعة الأولى عن الركعة الثانية بمقدار ثلثين إلى ثلث، يسن إطالة القراءة في صلاة الفجر والظهر، وأن تكون الصلاة معتدلةً في صلاة العصر والعشاء، وقصيرةً في صلاة المغرب، فالإمام جزاه الله عنا كل خير قرأ سورتين قصيرتين وهذا من السنة، أما في حال الضرورة فاقرأ أي سورة شئت، وإن كنت مسافراً فاقرأ الإخلاص في صلاة الظهر لا مانع، وتكبيرة الركوع والتسبيح ثلاثاً وأخذ الركبتين باليدين وتفريج الأصابع، والمرأة لا تفرج أصابعها تبقيها هكذا، ونصب الساقين، وبسط الظهر، وتسويته مع الرأس والعجز على استقامة واحدة، والرأس والظهر والعجز على استقامة واحدة، والساقان مشدودان، والرفع من الركوع والقيام بعده مطمئناً، وهناك من يرفع ويتابع، والرفع من الركوع والاعتدال بعده ثم العودة إلى السجود، أما في السجود فوضع الركبتين أولاً ثم اليدين ثانياً ثم الوجه ثالثاً، وفي النهوض ترفع عكس هذا الترتيب.
7 ـ مجافاة الرجل بطنه عن فخذيه و مرفقيه عن جنبيه و ذراعيه عن الأرض :
ومجافاة الرجل بطنه عن فخذيه و مرفقيه عن جنبيه و ذراعيه عن الأرض، ترفع الذراعين عن الأرض و تباعد العضدين عن الجانبين، و تباعد البطن عن الفخذين هذا للرجل، أما المرأة فعكس ذلك تتطامن، و الرجل يفرش رجله اليسرى و ينصب اليمنى هكذا.
8 ـ الصلاة على النبي في الجلوس الأخير و الدعاء :
و الإشارة بالمسبحة هذه الإصبع اسمها المسبحة و اسمها السبابة عند الشهادة برفعها أشهد أن لا إله إلا الله ووضعها عند الإثبات، و قراءة الفاتحة فيما بعد الركعتين الأوليين، و الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير، و الدعاء بما يشبه ألفاظ القرآن و السنة لا بما يشبه كلام الناس أي إذا قلت في نهاية الصلاة:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
مقبول أو:
﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾
مقبول، كما قال سيدنا الصديق: إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت مقبول، أما إذا دعوت بكلام الناس فإن الصلاة تصبح مكروهة، يا ربي زوجني فلانة بنت فلان أي شيء من كلام الناس لا يصح دعاؤه في الصلاة، والالتفات يميناً في التسليمتين ثم يساراً، هذه سنن الصلاة ولا ينبغي للمسلم أن يتركها إلا سهواً فإذا سها فليس عليه لتركها سجود السهو والله أعلم.
* * *
التخلي عن موانع الفهم من آداب قراءة القرآن الباطنة و موانع الفهم هي :
1 ـ الحجب التي أسدلها الشيطان على قلب الإنسان :
والآن إلى فصل مختار من إحياء علوم الدين، هذا الفصل هو التخلي عن موانع الفهم، من آداب قراءة القرآن الباطنة، تحدثنا قبل درسين عن آداب تلاوة القرآن الظاهرة وها نحن أولاء نتابع آداب قراءة القرآن الباطنة، فمن آداب قراءة القرآن الباطنة التخلي عن موانع الفهم، وهناك موانع تقف بين الإنسان وبين فهمه لكتاب الله، وهذا أهم آداب تلاوة القرآن أن تفهم كلام الله، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب القرآن، قال صلى الله عليه وسلم:
((هَذِهِ الشَّيَاطِينُ يَحُومُونَ عَلَى أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ أَنْ لا يَتَفَكَّرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَوْلا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ ))
وفهم معاني كتاب الله نوع من معرفة الملكوت، أول هذه الحجب أن يكون الهم- الآن الإمام الغزالي لا ينتقد الذين يتقنون قراءة القرآن هؤلاء على العين والرأس، وهؤلاء ينفذون أمر الله سبحانه وتعالى، يتلونه حق تلاوته، ورتله ترتيلاً، ولكن الموضوع دقيق جداً- أن يكون الهم كله منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل، ولا يوجد عنده همّ إطلاقاً إلا أن يتابع وينتقد القراء الذين أمامه، الباء لم يقلقلها، الجيم لم تكن معطشة، الضاد لم تكن بالصفة الفلانية، وهذا الذي لا يعرف من كتاب الله إطلاقاً إلا إتقان مخارج الحروف وأماكن الوقوف صار علم التجويد الذي هو مستحب وعلم علينا أن نأخذ به، وفرع من فروع العلوم الدينية صار هذا العلم حجاباً بينه وبين فهم القرآن، ولذلك نعوذ بالله أن يحجبنا علم فرعي عن أصول الدين، ويوجد عندنا أصول وعندنا فروع، أن يحجب الإنسان بالفرع عن الأصل هذا شيء كبير.
الله تعالى ينظر إلى القلب و العمل :
قال: ما يزال الشيطان يحملهم على ترديد الحرف ويخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه فهذا يكون تأمله مقصوراً على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني، وأعظم ضحكة يضحكها الشيطان على قارئ القرآن أن يصرفه عن معاني كتاب الله، وأن يعلقه بمخارج الحروف فقط من غير أن يفهم، من هذا أننا لسنا مطالبين بتعلم علم التجويد وإتقان مخارج الحروف ومعرفة أماكن الوقوف؟ هذا من تلاوة كتاب الله، لكن الفكرة أن يقتصر على هذا، حتى إذا أتقن التجويد إتقاناً جيداً نشأ في نفسه نوع من الكبر يحول بينه وبين فهم كتاب الله، فكلما استمع إلى إنسان يقرأ كتاب الله صب عليه جام غضبه، وانتقده نقداً لاذعاً مهيناً، وقال له: أخطأت، وقد يكون الذي ينتقد قارئ القرآن هو الغافل، والذي يقرأ بخطأ هو الصاحي، طبعاً لا ندعو إلى إهمال علم التجويد إطلاقاً، ولكن نحذر من أن يكتفي الإنسان بعلم التجويد من علوم الآخرة التي هي أصل سعادة الإنسان، سيدنا موسى، قال تعالى:
﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي*يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾
لو أن الأمر بالفصاحة، والطلاقة، والبلاغة، لكان النبي هارون، ولكن سيدنا موسى هو النبي المرسل، فالقضية بالقلب، وقد يكون الإنسان فصيحاً، متكلماً، طليقاً، خطيباً متفوقاً، وله صوت مجلجل، له صوت يصم الآذان، ونبرة نحاسية عالية المستوى، وقلبه غافل، وقد يكون هذا العيُ المتلعثم، الذي لا يحسن النطق ذا قلب حي، وكما قلنا لكم سابقاً العبرة: إن الله ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة؟ ما منظر الرب سبحانه وتعالى؟ هو القلب.
2 ـ أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه :
والآن المانع الثاني من موانع الفهم أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، وثبت في نفسه، وتعصب له، لمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا الشخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر في باله غير معتقده، فهذا شيء خطر جداً.
قالوا له: إن هذه الآية معناها مثلاً الآية الكريمة التي تقول:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
سمع تفسير الآية أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يولي هذه الوجهة، معنى هذا أن الإنسان غير مخير بل مسير، أسمعوه مرة أن: الله خلقكم وما تعملون، عمل الإنسان من خلق الله، فهذا الزاني قدر الله عليه الزنا، وهذا السارق قدر الله عليه السرقة ولا صلة له بها، ولا مشيئة، ولا اختيار، هكذا سمع، فإذا قلد إنسان مذهباً واعتقد به، وتعصب له من غير فهم، ولا تبصر، ومن غير مرونة، و تأمل، ومن غير تحقيق، و تدقيق، هكذا سمع، هذا الذي سمعه وجمد عليه وتعصب له وعمي عما سواه هذا المذهب الذي يقلده مانع كبير من موانع الفهم.
الاعتقاد بشيء منقول والتعصب له والجمود عليه أكبر مانع من موانع الفهم :
و يوجد كثير من الآيات بحسب الظاهر، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
الله لا يريد أن يهدي الناس كلهم، هكذا قال المفسرون، لا، لها توجيه آخر، القرآن حمال أوجه، و القرآن ذو وجوه، وهذا المعنى لا يليق بالله عز وجل، الله خلقنا ليسعدنا، وخلقنا لنهتدي إليه، أما أن يمنع عنا الهدى فهذا شيء مستحيل، يقول لك: هكذا قال السادة المفسرون، فمن أنت؟ الاعتقاد بشيء منقول، والتعصب له، والجمود عليه، وعدم التدقيق به، وعدم تمحيصه، وعدم التأمل فيه، والإصرار عليه، هذا أكبر مانع من موانع الفهم، فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق عن بعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه - أي تخالفه - حمل عليه شيطان التقليد، فعندنا شيطان القراء، وشيطان التقليد، حمل عليه شيطان التقليد حملةً وقال: كيف يخطر هذا في بالك وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن هذا غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله، ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب، العلم أحياناً يكون حجاباً، أي من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾
فإذا الإنسان ضاقت به الحياة، وضاقت به السبل، والطرق كلها مسدودة، ضيق بذات اليد، ومرض في البدن، وأمور معسرة، وعمل لا يوجد، ومطالب كبيرة، فإذا حصل للإنسان هذا قال بعض المفسرين: يشنق نفسه هذا الحاضر، أخي هكذا جاء في الجلالين فهل أنت أفهم منه؟ لا ليس أفهم منه ابق على هذا المعتقد واذهب واشنق نفسك.
هكذا جاء في بعض التفاسير، يوجد تفسير أرقى من هذا فليمدد بسبب إلى السماء، أي يعمل عملاً صالحاً بنية التفريج عنه، وليقطع كل منكر، ويستقيم استقامة تامة، ولينظر بعد ذلك كيف يذهب غيظ قلبه، ويفرج الله عنه، ويرفع عنه هذا الضيق، وهذا الكابوس، وهذا التعسير، فهذا معنى يتناسب مع عظمة الإله، ومع كرمه، و حنانه، و عطفه، و كماله، و رحمته، وحلمه، أما اذهب واشنق نفسك وهذا هو الحاضر، هذا لا يتناسب مع المعنى، فإذا قرأ إنسان الآية وقرأ تفسيرها وانتهى، أخي هكذا التفسير، أنا عندي الجلالين في البيت، أخي هذه ليست معقولة.
الابتعاد عن الإسرائيليات التي تفتري على كلام الله عز وجل :
يوجد أخ أعارني كتاباً قصصياً عن قصص القرآن الكريم، وطلب مني أن أقرأ فيه، فقرأت بعض القصص فيه، فيه شيء عجيب، سيدنا داود هذا النبي العظيم، ما معنى نبي أساساً؟ أي مصطفى، اصطفاه الله على علم على العالمين، وهو من خيرة الخلق، وسفراء وحي الله عز وجل، قال: هو جالس في غرفته فوجد طيراً من ذهب وأجنحته من فضة، وعليها أحجار كريمة، فظنه جماداً، فاقترب منه يريد أن يمسكه فطار، تبعه إلى أن وصل إلى مكان مطل على بيت فيه امرأة تستحم، وصف جمالها وصفاً يأخذ بالألباب، فهام بها حباً، فلما علمت أنه ينظر إليها نثرت شعرها عليها فزاد حبه لها، سأل عنها فإذا هي زوجة أحد قواده الكبار، ومن العادات العسكرية وقتها أن هناك تابوت في أثناء المعركة فإذا تقدم أحد أمام التابوت وجب أن ينتصر أو يموت، فأعطى أمراً أن يقدموا هذا القائد أمام التابوت فلعله يموت ويأخذ زوجته هذه، ويكتب هذا عن نبي؟ فقدموه فانتصر و لم يمت، فوقع هذا النصر في قلبه مؤلماً لماذا انتصر؟ لماذا لم يمت؟ فقال: قدموه مرةً ثانية فقتل، وعندئذٍ تزوج هذه المرأة.
وصلت إلى قصة يوسف عند قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾
وجدت أنه همّ بها، أي شارف على الزنا بآخر مراحله، أول مرة، والثانية، والثالثة، والرابعة، وكل مرة يخرج له والده ويقول له: إياك ويتغافل ويبدأ، إذا كان سيدنا يوسف هذا النبي العظيم وصل إلى معنى هم بها أي كأنه أقدم على هذا الفعل الذي يخالف أمر الله عز وجل، فماذا بقي على من ليس نبياً؟ هذا الشخص يقول لك: هكذا ورد، هذه كلها إسرائيليات، وهذه كلها افتراءات على كلام الله عز وجل.
قرأت عن سيدنا سليمان أيضاً أشياء، منها ضاع الخاتم منه ففقد نبوته، وما أحد عرفه، لكن الله عز وجل حفظ نساءه من أن يقترن بهن الشيطان، لأن الشيطان هو الذي أخذ الخاتم وصار مكانه نبياً، كأن هذه النبوة كلها بهذا الخاتم، وبعد هذا فالشيطان رمى الخاتم في البحر، وسمكة من السمكات حملته وهو صار إنساناً عادياً جداً يبحث عن قوت يومه، ويهيم على وجهه في البراري، ووصل إلى شاطئ البحر فاشترى سمكة ففتحها فوجد الخاتم فوضعه فرجع سيدنا سليمان نبياً.
فإذا أراد إنسان أن يقرأ هذه القصص يجد أن هؤلاء الأنبياء، نخبة البشر، بل عباد مكرمون، قال تعالى:
﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾
فإن العلم حجاب، فإذا قرأ إنسان هذه التفاسير وجمد عليها وقال: هكذا الأنبياء، فقد بصيرته.
3 ـ أن يكون مصراً على ذنب أو متصف بكبر :
والآن مانع ثالث من موانع الفهم: أن يكون مصراً على ذنب أو متصف بكبر، لأن الإنسان قد ينسى بعض العلم بالمعصية، لا تعصه بالنهار يوقظك بالليل.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نــــور ونور الله لا يهدى لعاصــي
***
ألقينا على كرسيه جسداً أي على علمه، الإنسان عندما يرتكب مخالفة يقع بالحجاب، فإنسان مصر على معصية، ومقيم عليها، فهذا لا يمكن أن يسمح الله له بفهم كتابه، فمحبة الدنيا سبب ظلمة القلب، وهو كالخبث على المرآة، إذا مرآة عليها طبقة غبار كثيفة، فهذه لا تعكس الصور عكساً صحيحاً، فإذا صقلتها عكست لك ما هو أمامها، وكلما كانت الشهوات أشد تراكماً كانت معاني الكلام أشد احتجاباً، وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلي المعنى فيه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى أمام المرآة، أنت مرآة والشهوات صدأ، والمعاني الشيء الذي أمام المرآة، فإذا جلوت الصدأ أصبحت المرآة صقيلةً لامعة فعكست ما أمامها، وإذا تراكم عليها الصدأ والخبث حجبت ما أمامها، وهذا هو الشأن في القرآن قال عليه الصلاة والسلام:
((إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي ))
ما هي بركة الوحي؟ فهم معاني كلام الله، قال الفضيل: "أي حرموا فهم القرآن"، والقرآن يجوز أن تسمعه بالسيارة فلا أحد يفهم شيئاً لأن لهم معاص، ولهم خواطر ثانية، وقد شرط الله سبحانه وتعالى الإنابة في الفهم والتذكير، قال تعالى:
﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾
﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾
4 ـ اعتقاد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناولته بعض التفاسير: :
الآن المانع الرابع من موانع الفهم: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فإذا قرأ تفسيراً ظاهراً وقرأ أن هذه الآية هكذا قال عنها ابن عباس رضي الله عنه، أو قال عنها مجاهد، هكذا وانتهى الأمر، وليس عنده إمكان أن يفهم شيئاً آخر، ولا يتوسع، القرآن ذو وجوه، القرآن حمال أوجه، قال تعالى:
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾
هذه الآية لها معنى دقيق، فلو أن البحر كله مداد، أي حبر لكلمات الله، أي لتفسير كلمات الله، لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً، أي لو أن البحر مداد لشرح كلمات الله لنفذ البحر قبل أن ينفذ الشرح، هذا هو المعنى.
وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، وهذا الحديث صحيح لكن لا يقصد النبي عليه الصلاة والسلام أنه من توسع في فهم كلام الله، من جر الآية جراً لتغطية شهواته، و هذا هو التفسير بالرأي.
من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار :
أحياناً تقرأ كتاباً علمياً يقول لك: الموضوع الفلاني العلمي يوجد آية تؤيده، ترى التأييد غير طبيعي؟ مفتعل؟ كأنك تجر الآية جراً حتى تغطي هذه النظرية العلمية الحديثة، قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾
فهذه النظرية الحديثة إن الأرض مع الشمس كانت كتلة واحدة ثم انفصلوا، لا يا أخي، هذه الآية غير مرئية، وهذه سابقاً يريد أن يجر الآية جراً إلى هذه النظرية الحديثة أن الأرض والشمس والكواكب كانت كتلة واحدة وانفصلت بحكم القوة النابذة، لا هذا جر، وأحياناً الإنسان يجر آية لتغطية شهواته، مثلاً قوله تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
يقول الجاهل: يا أخي الله ما نهانا عن الربا، بل نهانا عن النسب العالية في الربا: وهذه الآية قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾
معنى هذا أن كل شيء فوق رأس المال حرام، هذه الآية تكمل الآية، أحياناً الإنسان يجر الآية جراً حتى يغطي شهواته، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾
ما تمكنا إذاً لا نصلي، هذا افتعال للتفسير، قال تعالى:
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
فإذا أتاك اليقين انتهت العبادة!! وهذا شيء باطل، هذا هو التفسير بالرأي، من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، لأنه يجر الآيات إلى شهواته، لكن من توسع في فهم كلام الله فهذا هو التدبر.
وهو من الحجب العظيمة، و سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن".
هذه أربعة موانع تمنع صاحبها عن فهم كتاب الله، التعلق فقط، وقصر الهمة كلها على مخارج الحروف، والاستعلاء على الناس بهذا، وهناك شيطان موكل بالقراء، وأن يكون له مذهب معين، مذهب الجبر مثلاً، مذهب معتزلي، أي الإنسان خالق أفعاله، يأتي بآيات قرآنية تؤيد مذهبه، هذا من الصعب أن يفهم كلام الله، مادام مذهبه على خلاف أهل السنة والجماعة، ومعنى هذا أنه يفتعل الآيات افتعالاً ويجرها جراً حتى يؤيد مذهبه فيها وهذا مانع ثان.
المانع الثالث أن يكون له ذنب مصر عليه.
المانع الرابع أن يكون قد قرأ تفسيراً ولا يوجد عنده استعداد أن يجازوه إلى معنى آخر، أو معنى أوسع، أو معنى أحدث.
* * *
قصة العباس صاحب شرطة المأمون مع الرجل الدمشقي :
والآن إلى قصة من القصص التي نحاول أن نستنبط منها موعظة، هذه القصة على صفة رفيعة في الإنسان، وهي الوفاء، كنت قد قرأتها لكم في أحد أيام الأعياد، وكان الحاضرون قلة، و أردت أن أعيدها الآن لما فيها من الفائدة.
قال صاحب شرطة المأمون: دخلت يوماً مجلس أمير المؤمنين ببغداد، وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فلما رآني قال لي: يا عباس، قلت: لبيك أمير المؤمنين، قال: خذه إليك واحتفظ به، وبكر به إلي في الغد، فدعوت جماعةً فحملوه - ويبدو أنه لا يقوى على السير ولم يقدر أن يتحرك - فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به يجب أن يكون معي في بيتي احتياط، فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري، قلت لهم: انصرفوا، ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو؟ فقال: أنا من دمشق، فقلت: جزى الله دمشق وأهلها خيراً- العباس صاحب شرطة المأمون- فمن أنت من أهلها؟ قال: وعمن تسأل أنت؟ قلت: أتعرف فلاناً؟ قال: ومن أين تعرف ذلك الرجل أنت؟ قلت: وقعت لي معه قضية، فقال: والله ما كنت بالذي أعرف خبره حتى تعرفني قضيتك معه.
قال العباس: كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها، وخرجوا علينا، وهربت أنا وأصحابي وهربت في جملة القوم، فبينما أنا هارب في بعض الدروب إذ بجماعة يعدون خلفي فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم، فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك، وهو جالس على باب داره فقلت: أغثني أغاثك الله، قال هذا الرجل: لا بأس عليك ادخل الدار، فدخلت وأدخلني مقصورةً في صدر البيت، ووقف الرجل على باب الدار، وما شعرت إلا وقد دخل والرجال معه يقولون: هو والله عندك، فقال: بينكم الدار ففتشوها، ففتشوها حتى لم يبقَ سوى تلك المقصورة، فقال: هاهنا امرأتي فتراجع القوم، وانصرفوا، وخرج الرجل، وجلس على باب داره ساعةً، وأنا قائم أرجف خوفاً ما تحملني رجلاي من شدة الخوف، فقال لي بعد ساعة: اجلس لا بأس عليك، فجلست، فقال لي مرةً ثانية: لقد صرف الله عنك هؤلاء وصرت إلى الأمن والدعة اجلس، فقلت: جزاك الله خيراً ثم مازال يكرمني ويعاشرني أحسن معاشرة وأجملها، وأفرد لي مكاناً في داره، ولم يفتر عن تفقد أحوالي، فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش، وأهنئه، إلى أن سكنت الفتنة، وهدأت وزال أثرها، فقلت له: أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي أقف منهم على خبر؟ فأخذ علي المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت فطلبت غلماني فلم أرَ لهم أثراً فرجعت إليه، وأعلمته الخبر، وهو مع هذا كله لا يعرفني، ولا يسألني، ولا يعرف اسمي، ولا يخاطبني إلا بالكنية، لا من أنت، و لا ما عملك، ولا من هذا القبيل.
ثم قال: علامَ تعزم؟ فقلت: عزمت على التوجه إلى بغداد، فقال: القافلة بعد ثلاثة أيام، وها أنا ذا قد أعلمتك، فقلت له: إنك تفضلت علي هذه المدة، ولك علي عهد ألا أنسى لك هذا الفضل، ولأكافئنك ما استطعت، ثم دعا غلاماً له، وقال له: أسرج الفرس ثم جهز آلة السفر، فقلت في نفسي: ما أظن إلا أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة، أو ناحيةً من النواحي فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب - أي يهيئون آلة السفر والعدة والطعام والفراش والرواحل - ولما حان يوم خروج القافلة جاءني السحر، وقال لي: قم فإن القافلة تخرج الساعة، وأكره أن تنفرد عنها، فقلت في نفسي: كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أشتري به مركوباً؟ ثم قمت فإذا هو يحمل أفخر الملابس، وخفين جديدين، وآلة السفر، ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي، ثم قدم لي بغلاً حمل عليه صندوقين وفوقهما فرش، وقدم لي فرساً، وقال لي: اركب وهذا الغلام يخدمك طوال الطريق، ويسوس مركبك، غلام، وفرس، وطعام، وزاد، وفراش، وكل شيء.
وأقبل يعتذر إلي من التقصير في أمري- و أيضاً اعتذر منه إذا قصر معه في هذه المدة - وركب معي يشيعني، وانصرفت إلى بغداد، وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته، ومكافأته، واشتغلت مع أمير المؤمنين فلم أتفرغ أن أرسل إليه من يكشف خبره، فلذلك أسأل عنه هل تعرفه؟ هذا من الشام؟ قال: فلما سمع الرجل الحديث، قال: قد أمكنك الله من الوفاء له، ومكافأته على فعله، ومجازاته على صنيعه بلا كلفة عليك، ولا مؤونة تلزمك، قال: وكيف ذلك؟ أين هو؟ فقال: أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أصابني غير عليك حالي، وما كنت تعرفني فيه، أنا الذي استقبلتك في البيت، وأكرمتك، وفعلت ما فعلت، فقال العباس: فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له: فما الذي أصابك حتى أصبحت على ما أرى؟ قال: هاجت بدمشق فتنةٌ ثانية، وكنت بريئاً منها، ثم ألصقت بي هذه التهمة، فبعث أمير المؤمنين بجيوش، وأصلحوا البلد، وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت، وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين، وأمري عنده عظيم، وخطبي لديه جسيم، وهو قاتلي لا محالة، وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية، وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري، وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تجعل من مكافئتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد، فإن أنت فعلت هذا فقد جاوزت حد المكافأة، وقمت لي بوفاء عهدك، قلت: يصنع الله خيراً، قال: ثم أحضر العباس حداداً في الليل فك قيوده، وأزال ما كان فيه من الأنكال، وأدخله حمام داره، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه، ثم سير من أحضر إليه غلامه، فلما رآه جعل يبكي ويوصيه، فاستدعى العباس نائبه وقال: علي بالأفراس والهدايا ثم أمره أن يشيعه إلى حد الأنبار، قال له: اذهب إلى الشام، أعطاه أفراساً وهدايا وبضاعة وطعاماً وشراباً وقال له، رافقه إلى آخر مشارف بغداد.
فقال له: إن ذنبي عظيم، وخطبي جسيم، وإن أنت احتججت بأني هربت بعث في طلبي حتى أرد إليه وأقتل، فقال العباس: انجُ بنفسك ودعني أدبر أمري، فقال: والله لا أبرح بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت، فقال العباس: إن كان الأمر على ما تقول فلتكن في موضع كذا، فإن أنا سلمت في غداة غدٍ أعلمتك، وإن أنا قتلت فقد وقيتك بنفسي كما وقيتني.
ثم تفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً، فلما فرغ من صلاة الصبح جاءت رسل المأمون إليه وهم يقولون: هات الرجل معك وقم، فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين، فإذا هو جالس ينتظر فقال: أين الرجل؟ فسكت، قال: ويحك أين الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين اسمع مني، قال: لله علي عهد لأن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك مكانه، فقلت: لا والله ما هرب، ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري، قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت، وقصصت عليه القصة جميعها، وعرفته أني أريد أن أفي له، و أكافئه على فعله معي، وقلت: أنا سيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين، إما أن يصفح عني فأكون قد وفيت وكافأت، وإما فيقتلني فأقيه بنفسي، وقد تحنطت، وهاهو ذا كفني معي يا أمير المؤمنين.
قال: فلما سمع المأمون الحديث قال: ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفةٍ وتكافئه بعد المعرفة بهذا، فهلا عرفتني خبره، فكنا نحن نكافئه عنك، ولا نقصر في وفائه لك، اعتبر المأمون هذه المكافأة دون الحد المطلوب، قال له: إنه ها هنا في بغداد وقد حلف أنه لن يبرح حتى يعرف سلامتي، فإن احتجت إليه حضر، فقال المأمون: فهذه منة أعظم من الأولى، اذهب إليه الآن فطيب نفسه، وسكن روعه، وائتني به حتى أتولى أنا مكافأته.
قال: فأتيت إليه وقلت له: ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كذا وكذا، فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ثم قام وركب، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه من مجلسه، وحدثه حتى حضر الغداء، فأكل معه، وخلع عليه، وعرض عليه ولاية دمشق، فاستعفف، فأمر له بصلة، وكتب إلى عامله بدمشق يوصيه به.
الإيمان كله قيم أخلاقية و مكارم أخلاق :
الحياة كلها وفاء، الذي عنده وفاء لزوجته، ووفاء لأخيه، و لشريكه، ولأهل بلده، و لأمته، و لوطنه، و للإنسانية و لنبيه الكريم صلى الله عليه، فالوفاء هو كل شيء، فهذا الرجل عمل معروفاً لوجه الله تعالى، وما درى أنه وقع عند الذي فعل معه هذا المعروف، وهذا الذي فعل معه المعروف بذل نفسه رخيصةً من أجل الوفاء بعهده، هو طلب منه أن يطلب غلامه حتى يلقنه وصيته فقط، وتكون جاوزت المكافأة، فلم يرضَ إلا أن يضع روحه دونه.
و هكذا الأمة العربية كانت سابقاً، وهكذا السلف الصالح كان، و الإنسان كان، و الإيمان كله قيم أخلاقية، و مكارم أخلاق، وأحدهم يأخذ امرأة كاملة مكملة تمرض فيريد أن يطلقها أهكذا الوفاء؟ أخذتها شابة.
قالت: يا رسول الله تزوجني شابة ذات أهل ومال وجمال، فلما كبرت سني، ونثر بطني، وتفرق أهلي، وذهب مالي، قال: أنتِ علي كظهر أمي، فالآن بعدما كبرت، وذهب أهلي، ومات والدي، و سافر أخوتي، وكان معي مال أخذه مني، قال لي: أنت علي كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام.
فالذي ليس عنده وفاء لا إيمان له، والذي لا وفاء له للذي أحسن إليه لا إيمان له.
ومن أسلم على يديه رجل وجبت له الجنة، ومن أسلم على يده رجل فله ولاؤه طوال حياته، وهذا معروف بسيط أكرمه شهرين أو ثلاثة، فوجد المناسب أن يضحي بحياته من أجله، فكيف بالذي هداك إلى الله عز وجل؟ فإذا كان لك أخ هداك إلى الله، فدعاك إلى مجلس علم، واعتنى بك، وأكرمك، أتنسى فضله؟ فهذا هو الوفاء.
والنبي عليه الصلاة والسلام سيد الأوفياء حينما فتح مكة ركز رواء النصر عند قبر خديجة، هذه التي آمنت به يوم كذبه الناس، وأنفقت عليه مالها.
* * *
الحج عرفة :
قال عليه الصلاة والسلام:
((الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ))
الحاج إنسان رفيع الشأن وفد الله. والحجاج والعمار وفد الله تعالى يعطيهم ما سألوا، ويستجيب لهم ما دعوا، ويخلف عليهم ما أنفقوا، ومهما ارتفعت التكاليف يخلف عليهم ما أنفقوا، الدرهم ألف ألف.
الحج سبيل الله، أي الطريق إلى الحج طريق إلى الله عز وجل، هذه سياحة روحية، وهذا ذهاب إلى الله تعالى، والله سبحانه وتعالى جعل الكعبة البيت الحرام بيته فمن زارها فكأنما زاره، والحج المبرور:
((الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ ))
المبرور لا لغو، و لا رفث، ولا فسوق، ولا جدال، بل نية خالصة، و مال حلال، وتوبة صادقة، هذا هو الحج المبرور يرجع المرء منه كيوم ولدته أمه.
(( الحج عرفة ))
هذا حديث من الأحاديث ذات البلاغة العالية، الحج عرفة بمعنى أن الإنسان إن لم يقف بعرفة فلا حج له، في وقت محدد إن لم يكن في هذا المكان في عرفة فلا حج له، والمعنى الأوسع أن الحج معرفة الله سبحانه وتعالى، أنت ذاهب إلى الله من أجل أن تعرفه، فإذا عدت من الحج وقد عرفته، وقد أقلعت عن كل الذنوب لأنك عرفته، وقد عزمت عزماً صادقاً أكيداً على متابعة طاعته حتى الموت، وقد انقطعت أمامك الحقائق، وظهرت الحقائق، و صغرت الدنيا في عينيك، وعظمت الآخرة، ورأيت الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء، ولا شيء سواه، ولا شيء قبله، ولا شيء بعده، هو الظاهر والباطن، فإذا رأيت هذه الرؤية فقد حججت، أما إذا عدت كما أتيت، وأنت كما أنت مقيم على بعض المخالفات ومتساهل في بعض الطاعات فهذا الحج لا يقدم ولا يؤخر.
((الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ ))
فالسفر فيه مشقة، وفيه ازدحام، و مشقة بالعودة، و بالحجز، وبالحر، و بتأمين الحاجات، وبالسكن، فهذا جهاد الضعيف.
الحجر يمين الله في الأرض يصافح به عباده :
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((الحجر يمين الله فمن مسح يده على الحجر فقد بايع الله ))
إذا دخلت إلى الحرم المكي يجب أن تشعر أن هذا الحرم ليس له علاقة بالبلاد المحيطة به، هذا بيت الله، وهذه الكعبة كعبته، وهذا الحجر يمينه في الأرض، فمن فاوض الحجر فكأنما فاوض كف الرحمن، وإنك إذا تعلقت بأستار الكعبة فهذا قرب من الله شديد وإنك إذا قبّلت الحجر فقد قبلت يمين الله في أرضه.
هذه المناسك يجب أن يرافقها حالات نفسية، وإلا لا قيمة لها، و تصبح طقوساً، وما الفرق بين الطقس والعبادة؟ الطقس حركات لا معنى لها، لكن العبادة يرافقها مشاعر سامية جداً:
((الحجر يمين الله فمن مسح يده على الحجر فقد بايع الله ))
وإذا صافح إنسان الحجر الأسود، أو استلمه، أو قبله، أو مسحه بيمينه، أو قبله بشفتيه، وعاد إلى بلده يجب كلما حدثته نفسه بمخالفة أن يذكر تلك البيعة، لقد بايع الله عز وجل على الطاعة، لقد عاهده على الطاعة حينما قبل يمينه في الأرض، والحجر يمين الله في الأرض يصافح به عباده.
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَم ))
الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة وإنما سودته خطايا البشر، يبعث يوم القيامة مثل أحد يشهد لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا.
هذا حديث صحيح، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا عبادتنا، وأن يتقبل منا حجنا لمن حج، وأن يرزقنا حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً.