- أحاديث رمضان / ٠12رمضان 1426هـ - الاسماء والفوائد
- /
- 1- رمضان 1426 هـ - الفوائد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة، مع فائدة جديدة من فوائد ابن القيم رحمه الها تعالى.
يقول:
" مصالح النفوس في مكروهاتها، ومضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها "
الحب هو الميل، فلحكمة أرادها الله جعل حاجات الجسد محببة، وجعل منهجه العظيم متوافقًا مع فطرة النفس، فهناك حاجات للجسد، وهناك فطرة للنفس، ولحكمة بالغةٍ بالغة أراد الله أن تكون حاجات الجسد إلى حد ما متناقضة مع حاجات النفس،
الفرق بين حاجات الجسد وحاجات النفس ثمن الجنة:
وهذا التناقض بين حاجات الجسد وحاجات النفس هو ثمن الجنة، كيف ؟
طبْعُك يأمرك أن تنام، والجسم يحب النوم المديد، والنفس مكلفة أن تعبد الله، ومكلفة أن تستيقظ، وقد ينهض الإنسان من فراشه بصعوبة، والجسم يروق له أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والنفس حينما توافق هذا الجسم تحجب عن الله، لذلك حينما تغض البصر عن محاسن النساء ترتاح النفس، وترقى إلى الله، فإطلاق البصر وغض البصر متناقضان، أحدهما تابع للجسد، الثاني تابع للنفس.
النفس أُمِرت أن تنفق المال، وطبْع الإنسان يقتضي أن يأخذ المال، هذا تناقض آخر.
الإنسان يرغب في الخوض في فضائح الناس، والتكليف يأمره أن يكف لسانه عن مشكلات الناس.
الميل الحسي و الميل العقلي:
يبدو من هذه المقدمة أن هناك ميلاً حسياً، وأن هناك ميلاً عقلياً، هذا الشيء توضح لي مرةً، أن طبيبًا جراح قلب قدم له طعام نفيس جداً، لكن دهونه كثيرة، فأبى، ثم قال: أنا أحب هذا الطعام حباً جمًّا، ولكن عملي في جراحة القلب، فكم أجد من شرايين قد سُدت من قِبل هذا الطعام، فلذلك يكره هذا الطعام كراهية عقلية.
ثمن الجنة هو إتباع الميل العقلي:
الآن نحن كمسلمين المعاصي محببة، شئنا أم أبينا، لكن الذي ذاق طعم القرب من الله يؤثر طاعة الله على حاجات الجسد فيرقى، هذا ثمن الجنة، لذلك الإنسان البعيد عن الله يحب بحواسه، ويكره بحواسه، ينساق مع هوى نفسه، ولكن المؤمن يحب بعقله، ويكره بعقله، ويستجيب لنداء فطرته فيرقى، فالقضية في النهاية أن هناك حاجات للجسم، وهناك حاجات للنفس، الجسم فانٍ، والنفس خالدة إلى أبد الآبدين، كلما كان التعامل مع ميلك العقلي كنت أرقى، وعندما يكون التعامل مع ميلك الحسي اقترب الإنسان من مستوى البهيمة ، البهيمة تتحرك بحواسها فقط، بينما الإنسان يتحرك بقيمه، ويتحرك أيضاً بمبادئه، لذلك مصالح النفوس في مكروهاتها.
ثمن النجاح في الدنيا هو إتباع الميل العقلي:
دعك من الآخرة، تعال إلى الدنيا، هذا الذي ارتقى في سلم اجتماعي، ونال شهادة كبيرة جداً عالية ونادرة، وله دخلٌ فلكي، هل وصل إلى هذا الشيء مع راحة الجسم ؟ لا ، بل بذل جهدًا كبيرًا جداً، كم استيقظ في منتصف الليل ليقرأ، كم ألغى لقاءات ونزهاتٍ كثيرة جداً ليدرس، فهذه الثمرة اليانعة التي قطفها في الأربعين ثمنها دُفِع في العشرينات، وهذا الذي مال إلى النوم، وإلى تأجيل الإنجاز، وإلى الراحة، والاسترخاء، دفع الثمن باهظاً في عقود حياته القادمة، بلا عمل، بلا دخل، بلا وظيفة، بلا شهادة، بلا زواج.
أيها الإخوة الكرام، بطولتك أن تحب بعقلك، وأن تكره بعقلك، الآن أحياناً يأكل الإنسان أكلا مناسبًا، يتمتع بصحة، يتمتع بلياقة بدنية عالية جداً، يتمتع بشكل مقبول، يتمتع بأناقة في اللباس، هذا مقابل ترك الطعام الطيب، فإذا انساق مع هوى نفسه، وأكل ما يشتهي عانى من متاعب في قلبه، وفي ضغطه، وفي شرايينه، فهذه القضية واضحة جداً، فإما أن تحب بعقله، وإما أن تحب بحسك، وكلما تدنى مستوى الإنسان، واقترب من مستوى البهيمية يحب بحواسه، ويكره بحواسه، وكلما ارتقى الإنسان إلى مستوى إنسانيته التي أرادها الله له يحب بعقله، ويكره بعقله.
بالمناسبة أيها الإخوة، الواقعية في الموضوع ضرورية جداً، مرة ثانية: المعاصي محببة، من ذاق طعم القرب من الله ضحى بهذه اللذائذ الطارئة الآنية المحدودة من أجل قرب من الله مستمر، لذلك قيل: ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا عارية جائعة يوم القيامة، وبالعكس، ألا يا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رُبّ مهين لنفسه، وهو لها مكرم، ألا يا رُبَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين.
أعظم ما في الإنسان عقله، وعقله هو الذي كلِّف أن يختار بين البدائل، أنت مخير، وممد بقوة من الله عز وجل، وعندك بدائل، فحينما يهديك إلى الشيء الذي يرضي الله تكون أعقل العقلاء، وحينما يهديك عقلك إلى الشيء الممتع الحسي تكون أجهل الجهلاء، الدليل:
﴿ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
جهل ما عند الله من سعادة أبدية، وآثر لذة طارئة، وفي بعض الأقوال: ألا يا رُبّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
أناس كثيرون تزلّ أقدامهم إذا سافروا، يصابون بمرض الإيدز، هذا المرض يجر لأحدهم فضيحة في أسرته، وعند زوجته، وعند أولاده، ويجلب القلق، واليأس، والهم، إلى أن يموت، واللقاء الذي زلت به قدمه ساعة، ألا يا ربّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
أنا أعرف رجلا سافر الإنسان وفي هذه السفرة زلت قدمه، من أجل أن يخفي مرضه الناتج عن هذا الخطأ عن زوجته وأولاده بذل جهداً فلكياً، ثم كشف أمره، وسقط من عين الهه، وعين أولاده، ومن عين زوجته، ألا يا ربّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
فاجهد أيها المسلم أن تتعامل في الحب والكراهية تعاملا عقليًّا، واجهد أن تتوافق حركتك مع فطرتك.
الطبع و الفطرة و الصبغة:
الطبع:
عندنا طبع متعلق بالجسد، وعندنا فطرة، وعندنا صبغة
الفطرة:
الفطرة بين الطبع وبين الصبغة، الفطرة ليس معناها أنك خير، ولكنك تحب الخير، الفطرة ليس معناها أنك منصف، ولكن تحب الإنصاف، الفطرة ميل النفس إلى الكمال، وقد لا تكون كاملة، إلا أنها تميل إلى الكمال، الدليل: لو أن عصابة سرقت بيتاً كيف يقتسمون هذه السرقة، بالعدل، يقول له: اعدل، أنت كل عملك ما فيه عدل، يقول له: اعدل، لأن الإنسان ولو كان منحرفًا، ولو كان مجرمًا يميل إلى الكمال، هذا الميل الذي فطره الله عليه هو الذي يعذبه إذا أخطأ، لو أن الإنسان لم يفطر هذه الفطرة لم يعذب أبداً.
مثلاً أقرب من ذلك: أنت مفطور على حب الروائح الطيبة، وتكره كراهية لا حدود لها الروائح الخبيثة، بينما الخنزير يتلذذ بأكل الجيف، وكأنها أنفس طعام، معنى ذلك أن ثمة حقيقة خطيرة، أنت مبرمج على الكمال، مولّف ومفطور ومجبول عليه، فإذا أخطأت نفسك وحدها تعذبك، وهذه هي الكآبة، وأكبر مرض نفسي الآن في العالم هو الكآبة، لأنك شئت أم أبيت، علمت أم جهلت أنت مبرمج وفق منهج الله، فإذا خالفته وأنت تجهل منهج الله، لكن نفسك مجبولة عليه تصاب بالكآبة، التي هي عقاب ذاتي للإنسان.
إذاً الفطرة ليس معناها أنك كامل، لكنك تحب الكمال،
الصبغة:
أما حينما تنعقد الصلة مع الله عز وجل تدخل في الصبغة، فتصطبغ بالكمال لإلهي.
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾
فبين الطبع والفطرة والصبغة، للصبغة صفات أصيلة ثابتة عميقة لا يمكن أن تزول، فالكريم كريم، لكن الذي نراه في العالم أن الذكي أحياناً ببراعة فائقة يمثّل، ويبدو لك أنه أخلاقيّ، مادامت مصالحه متوافقة مع هذا السلوك الذكي فهو أخلاقي، أما إذا هددت مصالحه فلا بد من أن ينقلب إلى وحش كاسر، وهذا نراه رأي العين، واضحاً جلياً عقب أحداث أيلول، هذه الحضارة، وهذا الرقي، وحقوق الإنسان والديمقراطية، والعدالة، وتكافؤ الفرص، والعولمة، هذه القيم الرائعة التي طرحت من قِبل الغرب تنكر لها أيّما تنكر، وسقط كحضارة، وبقي كقوة غاشمة.
عندنا استثناء، يمكن للذكي أن يسلك سلوك الأخلاقي ما دامت مصالحه متوافقة مع هذا السلوك، أما إذا هددت مصالحه انقلب إلى وحش كاسر.
الطبع يقتضي النوم، ويقتضي الفردية، وأن تستمتع بالحياة وحدك، ولا تعبأ بأحد ، ويقتضي النظر إلى النساء، ويقتضي أن تخوض في فضائح الناس، ويقتضي أن تنام، أما التكليف فمعاكس للطبع:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
ثمن الجنة هو التناقض بين الطبع والتكليف:
ثمن الجنة هو التناقض بين الطبع والتكليف، التكليف ذو كلفة، متعب، هناك ممنوعات، ومحرمات، ومنهيات، ومكروهات، لكن الصبغة هي قمة الكمال البشري ، حينما تتصل بالله عز وجل تصطبغ النفس بكمال الله، هذا الكمال غير الكمال الناتج عن سلوك ذكي، هذا الكمال أصيل لا يتبدل، لا بتحقيق مصالحك، ولا بتعطل مصالحك، ولا بإقبال الدنيا، ولا بإدبارها، ولا بالغنى، ولا بالفقر، ولا بالشباب، ولا بالكهولة، لذلك قالوا: ـ دققوا في هذه الكلمة ـ من أبرز علامات الإخلاص ألا تتأثر لا بمديح الناس، ولا بذمهم عملك هُو هو، وما دام العمل يتأثر، ويتبدل، ويتغير عقب الذنب والنكران فأنت لست مخلصاً، ومادام العمل لا يتأثر إطلاقاً لا بمديح الناس ولا بذمهم، ولا بإقبال الدنيا ولا بإدبارها، فهذه من علامات الإخلاص.
العمل لا يزيد أمام الناس، ولا ينقص وحدك في خلوتك، هذه علامة ثانية من علامات الإخلاص، المخلص عمله هو هوَ، لا يزيد في جلوته، ولا ينقص في خلوته، والمؤمن الذي اتصل بالله عز وجل عمله هُو هو، لا يزيد بالمدح، ولا ينقص بالذم، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به.
أيها الإخوة، قضية أن تفكر قبل أن تتحرك قضية مهمة جداً، لأن ساعة الندم لمن عصى الله آتية، وآتية لا محالة.
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
الحقائق التي جاء بها الأنبياء تكسف لكل إنسان يلاقي ربه، مسلمًا كان أو غير مسلم، وثنيًا أو ملحدًا، عابد صنم أو بوذيًّا، سيخيًّا أو هندوسيًّا، أي إنسان حينما يأتيه الموت يرى الحقائق، ولكن بعد فوات الأوان، وعلى قمة هذه القصص فرعون، حينما أدركه الغرق قال:
﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
امتحن نفسك بماذا تُحب:
إذاً امتحن نفسك، هل تحب بعقلك، أم تحب بحواسك ؟ إن أحببت بحواسك فهذا مستوى متدَنٍ جداً يقترب من البهيمية، أما إن أحببت بعقلك فإذاً تحب الطاعات، تحب إقامة الصلوات، تحب إيتاء الزكاة، تحب الصيام، تحب غض البصر، تحب ضبط اللسان، تحب فعل الخير، تحب العطاء، أما إذا عطلت عقلك تحب الراحة، تحب أن تأكل وحدك، أن تستمتع بالحياة وحدك، وهذا دليل البعد عن الله.
جنة الدنيا القرب من الله:
أيها الإخوة الكرام، تعليق صغير: من ظفر بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة، في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضياً عن ربه، والرضا جنة الدنيا، أن ترضى عن الله هي جنة الدنيا، دائماً الكافر ساخط على الله، دائماً يشكو، بينما المؤمن تعظم عند النعمة مهما دقت.
فلذلك أيها الإخوة، جنة الدنيا في القرب من الله، والقرب من الله في الرضا عن الله، والرضا عن الله يتأتى من أنك تحب بعقلك، وتكره بعقلك.
الدعاء:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.