- ندوات تلفزيونية / ٠03برنامج دٌرر - قناة مكة
- /
- ٠1درر 1 - الأخلاق
مقدمة :
الأستاذ بلال :
أفادتني القناعة كلَّ عــــــــــزٍّ وهل عزّ أعز من القناعــــــــــــــة
فصيِّرها لنفسك رأسَ مـــــالٍ وصيِّرْ بعدها التقوى بضاعـــــــــة
تحُز ربحًا وتغنى عن بخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعة
***
العزة درة من درر أخلاق الإسلام الراقية ، تعالوا بنا نتعلم العزة ، وهل هناك عزة إلا في رضا الرحمن ، وهل هناك عزة إلا في اتباع سيد الأنام عليه الصلاة والسلام ، عزة المؤمن موضوع حلقتنا في درر ، فهلموا بنا إلى درر الشريعة .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أعزائي المشاهدين أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بالخير واليمن والبركات والطاعات، ومعكم في حلقة جديدة ، ولقاء جديد ، ومع درة جديدة من درر الشريعة الغراء ، نستضيف فيها كعادتنا فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، حياكم الله سيدي .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ونفع بكم .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم درة اليوم هي العزة ، والعزة مطلب أساسي عند جميع البشر ، أولاً هل العزة حاجة عند الإنسان ؟
توافق الدين مع الفطرة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد ، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين .
الحقيقة الدقيقة أن الإنسان كائن متحرك ، ما الذي يدفعه إلى الحركة ؟ حاجته إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقائه كفرد ، وما الذي يدفعه إلى الحركة حفاظاً على بقاء النوع؟ الزواج ، وما الذي يدفعه إلى الحركة حفاظاً على بقاء الذكر ؟ التفوق ، فالحاجة الثالثة حاجة كل إنسان ، أن يكون متميزاً ، يحتاج إلى أن يكون متفوقاً ، يحتاج إلى أن يشار إليه بالبنان ، يحتاج إلى أن يقال هو المهندس الأول ، الطبيب الأول ، هذه الحاجة مهمة جداً ، الحاجة إلى التفوق هذه الحاجة الحقيقة تلبى في الدين ، والأصح من ذلك أن حاجات الإنسان كلها حيادية يمكن أن يسلك بها طريقاً إسلامياً صحيحاً يتألق به ، أو أن يسلك طريقاً آخر ، مثلاً الشهوات التي أودعت فينا
هذه الشهوات ما أودعت فينا إلا لنرقى بها إلى رب الأرض والسموات ، فالحاجة إلى المرأة لها قناة نظيفة طاهرة هي الزواج ، والحاجة إلى تأكيد الذات هي التفوق ، إن تفوقت في اختصاصك ، في دراستك ، في عملك ، في فهمك ، في حركتك ، هذا التفوق يشار إليه بالبنان ، فكل الحاجات الفطرية التي أودعت فينا لها منهج في كتاب الله ، لذلك الإنسان حينما يؤمن حقق حاجته إلى السلامة ، وحينما يعمل صالحاً حقق حاجته إلى السعادة ، وحينما يربي أولاده حقق حاجته إلى الاستمرار ، فالسلامة والسعادة والاستمرار حاجات أساسية ، هذا الإسلام دين الفطرة ، توافق الإسلام مع فطرة الإنسان مئة بالمئة :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
فالفطرة أن تحب الخير وأنت فطرت على ذلك ، فالإنسان لماذا يرتاح إذا تاب إلى الله ؟ لأنه اصطلح مع فطرته ، لماذا يحبه الناس إذا تاب على الله ؟ اصطلح مع مجتمعه ، لماذا هو في أعماقه أسعد إنسان ؟ لأنه اصطلح مع ذاته ، فلذلك توافق قضية الدين مع الفطرة شيء مذهل في هذا الدين العظيم ، بل إن بعض العلماء يقول : هو دين الفطرة .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم فطر الإنسان على محبة العزة أن يكون عزيزاً .
الصبغة و الفطرة :
الدكتور راتب :
نقطة دقيقة أن تحب العزة شيء وأن تكون عزيزاً شيء آخر ، أن تكون عزيزاً هي الصبغة ، وأن تحب العزة هي الفطرة .
الأستاذ بلال :
وما الطريق الشرعي السليم لنقل الإنسان إلى العزة ؟
الطريق الشرعي السليم لنقل الإنسان إلى العزة
:
الدكتور راتب :
والله حينما نطبق منهج الله ، نحن أعقد كائن في الكون الإنسان تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز ، لهذا الكائن المعقد إعجازاً صانع ، لهذا الصانع تعليمات هي القرآن والسنة أو الكتب السماوية سابقاً
هذا الإنسان حينما يتحرك وفق منهج الله يسلم ويسعد ، يسلم ويسعد ويتفوق ، فطريق الدين طريق السعادة ، طريق التفوق طريق الأمن ، قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
بل إني أقول : يوجد بنفس المؤمن من الأمن ما إن
وزع على أهل بلد لكفاهم ، فالعزة تأتي من التفوق ، والتفوق حاجة إنسانية ، وهذا الدين في تفوق عندما تزداد علماً ، تزداد طاعة ، تزداد ورعاً ، تزداد تطبيقاً لكتاب الله ، تشعر أنك قريب من الله ، هذا يكسبك سعادة لا توصف ، لذلك إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال ، للكثيرين من خَلقه ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، هذه السكينة عطاء إلهي ، والحقيقة شيء يحار به الإنسان ، هي سعادة ، هي قرار سليم ، هي رؤية ، هي موقف شجاع ، هي قبول لوجوده ولخصائصه ولما أعطاه الله إياه ، مهما تحدثنا عن السكينة لا ننتهي ، هي العطاء الإلهي الأكبر .الأستاذ بلال :
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ، لو انتقلنا إلى محور آخر ، ربنا جل جلاله من أسمائه العزيز والعزة لله ، وكما تفضلتم نصل للعزة عن طريق تطبيق منهج العزيز ، والعزيز اسم من أسماء الله الحسنى ارتبط باسم الحكيم ، نجد كثيراً من الآيات العزيز الحكيم ، ما سرّ الترابط بين العزة والحكمة عنده جل جلاله ؟
سرّ الترابط بين العزة والحكمة عند الله جلّ جلاله :
الدكتور راتب :
والله أحياناً يأتي هذا الورود عزيز حكيم قد يكون الثاني سبباً للأول ، أنت عزيز لأنك حكيم ، عندما تعطي كل شيء حقه ، تعطي الأشياء حقها الطبيعي ، تعامل الوالد معاملة كما أراد الله ، تعام الوالدة كما أراد الله ، تعامل الزوجة كما أراد الله ، تعامل أولادك كما أراد الله، تعامل من حولك ، جيرانك ، من هم على شاكلتك كالمؤمنين ، والطرف الآخر له معاملة خاصة وفق منهج الله ، أنت حينما تأتي الحركة مطابقة لمنهج الله تشعر بهذه العزة ، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ما اتخذ الله ولياً غير عزيز ، لأنك عبد لله فأنت عزيز .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم الله تعالى عزيز ومعز جل جلاله ، في الآية الكريمة :
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
فالعزة من الله والذلة من الله جل جلاله .
العزة و الذّلة من الله جلّ جلاله :
الدكتور راتب :
لكن الملمح الدقيق فيما تفضلت به من هذه الآية ، أن الله عز وجل قال :
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
لكن ما قال : بيدك الخير والشر ، قال : بيدك الخير ، ماذا يستنبط ؟ أن إيتاء الملك خير وأن سحب الملك خير ، وأن الإعزاز خير والإذلال خير ، لذلك الله عز وجل يذل ليعز ، ويخفض ليرفع ، ويمنع ليعطي ، والإنسان حينما يرى حكمة الله في المنع ينقلب المنع عين العطاء ، إذا كشف لك الحكمة فيما منعك ينقلب المنع عين العطاء .
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم ورد في قوله تعالى :
﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
بعض الناس يعكسون هذه الآية فتجده ذليلاً أمام المتفلتين والفاسقين والمنحرفين وعزيزاً أمام المؤمنين ، كيف يتعامل المؤمن مع أخوته ضمن مفهوم العزة ؟
تعامل المؤمن مع أخوته ضمن مفهوم العزة :
الدكتور راتب :
والله أنا لا أرى أن هناك علاقة أرقى وأمتن من علاقة المؤمنين بعضهم ببعض ذلك أن المؤمن أخو المؤمن ، ما الذي يؤكد هذا التواصل ؟
أن كل إنسان له سمات وصفات ، إن صح التعبير نسمي هذه السمات والصفات خارطة لهذا الإنسان ، وهناك روائد في علم النفس كثيرة يسأل حوالي مئة سؤال من خلال الأجوبة ترسم له خارطة ، السمة أوسع من الصفة ، قد نقول : سمة الضبط فالمواعيد مضبوطة ، والحسابات مضبوطة ، والكلام مضبوط ، هناك سمات وهناك صفات ، الآن لو رسمنا خارطة إنسان وفق سماته وصفاته ، بطريقة مشروحة في علم النفس ، وجئنا بخارطة لإنسان آخر ووضعنا الخارطتين على شكل عامودين ثم درسنا صفة صفة ، فكلما تطابقت الصفة الأولى مع الثانية وضعنا خطاً عرضياً ، ما هو قانون الحب ؟ قد يكون بين الزوجين ، وبين الأخوين ، وبين الشريكين ، وبين الجارين ، وبين المؤمنين ، كثرة هذه الخطوط العرضية ، أي كثرة التقاطعات ، كثرة التوافقات ، هذا هو قانون الحب ، لذلك المؤمن لماذا يحب المؤمن ؟ المؤمن صادق والمؤمن الآخر صادق ، المؤمن الأول كريم والثاني كريم ، شجاع شجاع ، معتدل معتدل ، متواضع متواضع ، هذا التوافق بين شخصيتين هو بالأعم الأغلب السبب الأول للحب بينهما .
الأستاذ بلال : هذا تفسير علمي للمحبة .
الدكتور راتب :
نعم ، هناك سمات وهناك صفات والسمة قد تنطوي على عدة صفات .
الأستاذ بلال :
جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم ، أستاذنا الكريم لو انتقلنا إلى المحور الأخير في لقاء اليوم ، ويحضرني حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
((...شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس ))
كيف نربط العزة بالاستغناء عما في أيدي الناس ؟
كيفية ربط العزة بالاستغناء عما في أيدي الناس :
الدكتور راتب :
الحقيقة سئل أحد كبار التابعين الحسن البصري بما نلت هذا المقام ؟ فقال : بحاجة الناس إلى علمي واستغنائي عن دنيا الناس . أنا أتألم أشد الألم حينما يكون الواقع العكس ، لو أن الناس استغنوا عن علم العالم ، والعالم بحاجة إلى دنياهم ضعف مركزه ، لذلك أنا أرى أن العالم يجب أن يكون له عمل يستغني به عن الناس ، لأنه قيل : " من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ".
الأستاذ بلال :
أستاذنا الكريم وحتى عموم الناس تجد أحياناً بعض الناس يمدون أعينهم إلى ما متع الله به غيرهم ، وبذلك يصبح ذليلاً أمام شهوته .
الدكتور راتب :
الحقيقة الصفة الأولى للمؤمن أنه عزيز ، وأحد أكبر أسباب عزته استغناؤه عن دنيا الناس ، وإذا كان هذا المؤمن عالماً و الناس بحاجة إلى علمه ، فهذا يعطي الإنسان عزة .
الأستاذ بلال :
وهل حسن الصلة بالله تعالى جل جلاله تكسب الإنسان عزة ؟
حسن الصلة بالله تعالى تكسب الإنسان عزة :
الدكتور راتب :
والله أنا أرى القضية دقيقة جداً أن الإنسان حينما يعقد صلة حقيقية مع الله مبنية على معرفة الله ، وعلى طاعته ، وعلى استقامته وطاعته في الأعمال الصالحة ،
فحينما يبني الإنسان شخصيته على معرفة الله وطاعته ، يكسبه الله هذه العزة ، لأن الله عزيز يشتق منه العزة ، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً ، شيء دقيق جداً الله عزيز ، الله كريم ، كلما أقبلت على الله اشتققت من كمالاته كمالاً تعلو عند الله به، لذلك :
﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
قال بعض العلماء : أنت حينما تتقرب إلى الله بكمال مشتق من كماله عند الاتصال به تكون قد جمعت بين خيري الدنيا والآخرة .
خاتمة و توديع :
الأستاذ بلال :
جزاكم الله خيراً أستاذنا الكريم ، وأحسن إليكم ، أسأل الله عز وجل أن يكون عزة المسلمين دينهم ، وسيدنا عمر رضي الله عنه يقول : " أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله " .
جزاكم الله خيراً ، وأحسن إليكم ، وأنتم أخوتي المشاهدين لم يبق لي في ختام هذه الحلقة الطيبة المباركة من برنامجكم درر إلا أن أشكر لكم حسن متابعتكم ، راجياً الله لكم دوام الصحة والعافية ، وحتى نلتقيكم في لقاء آخر أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .