- ندوات تلفزيونية / ٠03برنامج دٌرر - قناة مكة
- /
- ٠1درر 1 - الأخلاق
مقدمة :
الأستاذ بلال :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً فكم تحتها قوم هــــــم منـــــك أرفع ؟
فإن كنت في عز وخير ومنــعــــــة فكم مات من قوم هم منك أوضع ؟
***
التواضع هو درة اليوم ، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله تعالى ، ومن تواضع لله زاده الله عزاً ، فإذا أردنا عز الله عز وجل ونصره وفتحه فلنكن متواضعين لعباد الله تعالى ، هلموا بنا إلى درة اليوم نستجلي معانيها ، ونستشف مراميها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسيرة سلفنا الصالح .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أخوتي المشاهدين أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بالخير واليمن والبركات والطاعات ، وإلى لقاء جديد مع درة جديدة من درر الشريعة السمحاء ، واسمحوا لي بداية أن أرحب بفضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، مرحباً بكم سيدي .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ونفع بكم .
الأستاذ بلال :
سيدي درة اليوم من الدرر التي نتناولها في هذه الحلقات الطيبات مع فضيلتكم هي درة التواضع ، وعندما نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نلحظ تواضعه ملاحظة واضحة في كل شؤون حياته ، بدءاً مما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان ، إلى ملاطفته لأخ أنس بن مالك يا عمير ما فعل النغير ؟ إلى قول عائشة رضي الله عنها : "كان في مهنة أهله ، كان يخيط ثوبه ، ويخسف نعله " هذه الأخلاق الحميدة من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أين نجدها من كتاب الله تعالى ؟ وكيف اكتسب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخلاق الفاضلة ؟
كيفية اكتساب النبي الكريم الأخلاق الفاضلة و الآية الدالة على ذلك :
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد ، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألوِيَتِه ، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين .
الحقيقة الدقيقة أن هذا التواضع أصله في قوله تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
هذه الباء في بما باء السبب عند علماء النحو ، أي يا محمد بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا كنت ليناً لهم ، هذه الرحمة التي في القلب انعكست ليناً في تعاملك مع أصحابك ، فلما كنت ليناً معهم التفوا من حولك ، وهذه الآية يحتاجها الأب والأم والمعلم والأستاذ وأي منصب قيادي من أقل منصب إلى أعلى منصب ، هؤلاء الذين حولك إذا كنت متصلاً بالله يمتلئ قلبك رحمة ، تنعكس هذه الرحمة ليناً في التعامل ، هذا اللين يجعل الناس يلتفون حولك ، لا سمح الله ولا قدر لو كان الإنسان منقطعاً عن الله يمتلئ القلب قسوة ، وهذه القسوة تنعكس غلظةً وفظاظة ، وعندئذ ينفض الناس من حولك وكأن هذه الآية تشف عن قانون
هذا القانون ، قانون الالتفاف والانفضاض ، ما من أب إلا ويتمنى أن يلتف أولاده حوله وما من أم ، ولا أستاذ ، ولا مدرس ، ولا معلم ، ولا رئيس دائرة ، ولا قائد ، أي منصب قيادي في الأرض يسعد هذا المنصب أن يلتف أتباعه حوله ، هذا الالتفاف هو قانون ، الاتصال بالله يمتلئ القلب رحمة ، هذه الرحمة التي استقرت في قلب الإنسان من خلال الاتصال بالله تنعكس ليناً ، هذا اللين يدعو من حولك أن يلتفوا حولك ، فهذه الآية أصل في الموضوع وهي آية أساسية ومركزية ، ويحتاجها أي إنسان يتولى على عشرة ، أي منصب قيادي في الأرض يحتاج إلى هذه الآية ، فما من إنسان يدير مؤسسة أو وزارة أو مجموعة من الموظفين يسعده أن يكونوا معه ملتفين حوله ، يقدرونه ، يتعاونون فيما بينهم .
فائدة فريق العمل :
والحقيقة هناك شيء يسمى فريق العمل
فريق العمل أنا أتصور أن قوة الغرب عن طريقه ، فريق العمل توزع المهام بين فريق من الموظفين ، وكل موظف يأخذ حظه من إتقان هذا الاختصاص ، بمجموعهم يشكلون تفوقاً ، لذلك في الدول النامية المقاييس إنتمائية ، في الدول المتقدمة القوة مادية ، المقاييس موضوعية، الفرق كبير بين أن نعتمد مقياساً انتمائياً أو مقياساً موضوعياً ، وأنا أرى أن أية أمة لا ترقى ولا تقوى إلا بالمقياس الموضوعي فإذا حلّ المقياس الانتمائي محل المقياس الموضوعي تخلفت هذه الأمة ، و صار بأسها بينها .
والشيء المؤلم جداً أن الذين ابتعدوا عن الدين بذكائهم ، وبعقلهم الراجح ، وجدوا أن مصلحتهم في التعاون ، وفي أن يكون لكل إنسان مهمة محددة ، ويتناغمون جميعاً في تحقيق هذا الهدف الكبير ، أما إذا ابتعدوا عن الحقيقة وعن الدين يصير هناك تنافس ، فالتنافس حلّ محل التعاون ، فلذلك التعاون فضيلة ، والتعاون طاعة ، والتعاون حضارة ، والتعاون قوة ، والرحمة هي الأصل ، ما دام قلب هذا الإنسان الذي يحتل منصباً قيادياً ممتلئاً برحمة اشتقها من الله من خلال اتصاله بالله عندئذ تنعكس هذه الرحمة ليناً في تعامله مع من حوله ، هؤلاء يتعاونون معه ، يتنافسون في خدمة الهدف الكبير لهذه المصلحة ، أنا أرى لا يمكن أن تتقدم أمة إلا بهذه الطريقة ، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة فيها أوس وثنيون ، وخزرج وثنيون ، فيها أوس مسلمون ، وخزرج مسلمون ، فيها موالي وأعراب ، فيها يهود ، فيها نصارى ، فقال : أهل يثرب أمة واحدة . حلّ المقياس الجماعي محل المقياس الفردي ، الفردية علامة تخلف والجماعية علامة تقدم .
الأستاذ بلال :
نستطيع أن نفهم منكم أستاذنا الفاضل أن أساس التواضع ومنطلقه حسن الصلة بالله تعالى ، يمتلئ القلب بهذه الرحمة ، تنعكس ليناً ، يجتمع الناس ، وكل منصب قيادي يحتاج إلى أن يكون متواضعاً لمن حوله والتواضع فضيلة كبيرة .
ارتباط صلاح المجتمعات بتطبيق منهج الله عز وجل :
الدكتور راتب :
فقط ملمح دقيق حينما قال الله عز وجل :
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
الإنسان إذا ذكر الله أدى واجب العبودية له ، لكن الله إذا ذكره منحه الحكمة ، منحه فضيلة التعاون ، منحه فضيلة فريق العمل ، منحه فضيلة إنكار الذات ، أنا أرى أنه لا تصلح هذه المجتمعات إلا إذا طبقوا منهج ربهم ، وأرى أيضاً أنه ما من مشكلة على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا بسبب خروج عن منهج الله ، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل ، الجهل أعدى أعداء الإنسان ، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به .
الأستاذ بلال :
بارك الله بكم أستاذنا الفاضل لو انتقلنا إلى موضوع متعلق بالتواضع أيضاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
((طوبى لمن تواضع في غير منقصة ))
((وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله))
فهنا نقول سيدي : التواضع هو سمة الأنبياء ، وسمة العلماء ، وسمة القادة الناجحين ، لو قلنا نريد طريقاً نترسمه لهذا التواضع ، طريقاً يجعل الإنسان متواضعاً لله حقاً فماذا يمكن أن نقول ؟
الطريقة التي تجعل الإنسان متواضعاً لله حقاً :
الدكتور راتب :
والله أنا أرى ما دام الإنسان في طريقه لله ، ما دام يستحضر عظمة الله دائماً هو لا شيء أمام الذات الإلهية ، الإنسان إذا ابتعد عن الله يكبر ، أما كلما اقتربت من الله فتصغر، لكن هذا الوضع الصغير من أجل أن تكبر ، أنا لي كلمة دقيقة : الإنسان إذا سافر يصغر لكن يصغر ليكبر ، إذا إنسان تقوقع حول ذاته وعاش بأوهام غير صحيحة هو صغير يتوهم نفسه كبيراً لكن هو صغير ، فالإنسان حينما يلتقي مع أطراف أخرى ، مع أطياف أخرى ، مع شرائح أخرى يتحجم ، لكن يتحجم كي يتفوق.إذاً نحن بحاجة إلى أن نختلط ، إلى أن نطلع ، لذلك يقول الإمام الشافعي : " من لم يعهد منه سفر لم يعهد منه علم " بالسفر يرى علماء آخرين ، يرى مؤسسات دينية أخرى، يرى نشاطاً كبيراً ، يرى دعاة كباراً ، وهذا ما يسمى بتبادل الخبرات ، ومجتمع المؤمنين مجتمع متعاون ومتماسك ، فلذلك كلما اتسعت دائرة الإنسان تواضع ، ويقول الإمام الشافعي : " كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي ".
الأستاذ بلال :
بارك الله بكم أستاذنا ؛ لو انتقلنا إلى محورنا الأخير في هذا اللقاء الطيب وكنت قد قرأت لابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى مفهوماً جديداً للتواضع أقرؤه لأول مرة يقول : " أول درجات التواضع أن يتواضع الإنسان لشرع الله فلا يعارض منقولاً بمعقول" . وهذا مفهوم جديد كيف نفهم تواضع الإنسان للشرع و الخضوع للمنهج ؟
من التواضع خضوع الإنسان لمنهج الله عز وجل :
الدكتور راتب :
طبعاً لا بد من فهم مهمة العقل ، المشكلة الكبيرة حينما يعتمد العقل مرجعاً وحيداً نقع في الاعتزال ، نقع في خطأ كبير ، العقل مهمته التأكد من صحة النقل ثم فهم النقل ولن يكون العقل حكماً على النقل ، النقل وحي السماء ، العقل مقياس
أرضي
نحن الآن لو أيقظنا إنساناً من قبره مات قبل خمسين عاماً ، أعطيناه قرصاً ، أنا عندي قرص فيه خمسة عشر ألف عنوان ، عنوان غير كتاب ، قد يكون تفسير الرازي أربعين جزءاً ، عنوان واحد فيه خمسة عشر ألف عنوان في قرص صغير ، الذي عاش قبل خمسين عاماً لا يصدق ، لأن عقله مرتبط بالواقع ، فنحن طبعاً شيء طبيعي جداً أن يتوافق النقل مع العقل ، العقل مقياس أودعه الله فينا والنقل وحي السماء ، لكن أحياناً لو افترضنا تعارضاً بينهما أنا مع النقل ، لأن النقل وحي السماء ، العقل مرتبط بالواقع ، فالذي أيقظناه من قبره أعطيناه قرصاً مدمجاً لا يصدق فيه خمسة عشر ألف عنوان ، لا يصدق لأن عقله كان في عصر لا يوجد به جهاز كومبيوتر ، وبالمناسبة هذا الحاسوب رفع الدقة من واحد لمليون ، نزل الجهد من مليون لواحد ، تصور من دراجة لروزرايز ، نزل سعره من روزرايز لدراجة ، فأنا أرى الآن الإنسان إذا لم يتقن هذا الجهاز يصنف مع الأمية الحديثة .
الأستاذ بلال :
إذاً التواضع من المنهج ، جزء من التواضع أن يخضع الإنسان لمنهج الله ، لو توهم الإنسان أن هناك تعارضاً بين العقل والنقل فأين مرجعه ؟
مرجع الإنسان النقل لأنه وحي السماء :
الدكتور راتب :
أنا مع النقل لأنه وحي السماء ، لأن خبرة الله مطلقة ، الحقيقة لا يعقل أن يعطينا ربنا جهازاً يتناقض مع وحيه ، المصدر واحد ، بالمناسبة بالرياضيات الحدان اللذان يساويان حداً واحداً هما متساويان ، فذلك العقل مقياس أودعه الله فينا ، والنقل وحيه ، والمصدر إله واحد .
الأستاذ بلال :
ولكننا نحتكم إلى النقل بارك الله بكم أمر أخير في موضوع التواضع قوله النبي صلى الله عليه وسلم :
(( ومن تواضع لله رفعه الله ...))
وكأن التواضع علامة معرفة بالله تعالى ؟
التواضع علامة معرفة الله تعالى :
الدكتور راتب :
نعم ، هو الحقيقة ، النتيجة الطبيعية لمعرفة الله هي التواضع ، لذلك أشد الناس علماً أشدهم تواضعاً
ولا يتكبر إلا الجاهل ، بالمناسبة لو أن إنساناً عنده كمية من اللبن وجاءه ضيوف كثر ، ممكن أن يضيف الماء إليها تصير شراباً رائعاً جداً ، لكن هذه الكمية من اللبن لا تحتمل قطرة بترول واحدة ، فلذلك الكبر يفسد كل شيء :
(( لا يَدْخُل الجَنَّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))
كيف أن قطرة بترول واحدة تضاف للبن ينتهي ، وممكن أن تضيف له خمسة أمثال ماء فيصير شراباً طيباً ، فلذلك التكبر يفسد كل شيء .
الأستاذ بلال :
وهؤلاء الطغاة سيدي والمتكبرون والذين كما ورد في الحديث :
((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ....))
يطغون ويفسدون في الأرض وهم في قبضة الله عز وجل .
التكبر حمق و غباء :
الدكتور راتب :
والله الذي لا إله إلا هو بنظرة علمية صارمة لا أرى أغبى من الطغاة ، لماذا ؟ لأنهم ما أدخلوا الله في حساباتهم ، الله كبير ، أقول : كبير ولا أرتوي من هذه الكلمة ، فالإنسان عندما لا يدخل عظمة الله في حساباته وفي معاييره يكون أحمق وغبياً ، فلذلك الغباء أن تتفرد بقرار دون أن تنتبه إلى عظمة الله عز وجل ولوعيده ووعده .الأستاذ بلال :
سيدي الله عز وجل يقول :
﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
فهؤلاء مهما تكبروا ومهما توهموا أنهم في عظمتهم وجبروتهم فهم في قبضة الله عز وجل .
كل إنسان بقبضة الله عز وجل :
الدكتور راتب :
المتانة مقاومة قوى الشد ، فالفولاذ أمتن عنصر ، والقساوة مقاومة قوى الضغط ، فالألماس أقسى عنصر ، فالله قال :
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
أي هذا الذي يتوهم أنه حر ، طليق ، وقوي ، ويفعل ما يريد ، من غبائه توهم أنه طليق وهو في قبضة الله ، كن فيكون ، زل فيزول .
خاتمة و توديع :
الأستاذ بلال :
بارك الله بكم ، وشكر الله لكم ، ونفعنا بما سمعنا ، وأنتم أخوتي المشاهدين أشكر لكم المتابعة ، نلتقيكم في لقاء آخر أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتم أعمالكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .