- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
شروط قصر الصلاة :
أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي في موضوع صلاة المسافر إلى أن قصر الصلاة لا يصح إلا إذا غادر المصلي تخوم المدينة، أي غادر أبنية قريته، فإن خرج من بيته وبقي في حدود مدينته، أو في حدود قريته، فلا يصح أن يقصر الصلاة، بل يجب أن يغادر أبنية القرية، ويجب أن يكون السفر ثلاثة أيام، أي ثمانون كيلو متراً في ثلاثة أيام، ويجب أن يكون مستقلاً بالحكم أي مسافراً أمره بيده لا جندياً مع أميره، ولا زوجةً مع زوجها، ولا عبداً مع سيده، الأمر للسيد والأمير والزوج، وأن يكون بالغاً، فمغادرة تخوم المدينة، واستمرار السفر ثلاثة أيام، وبعد هذا أن يكون مستقلاً بالحكم، وأن يكون بالغاً، هذه إذا توافرت كلها صحّ قصر الصلاة.
قصر الصلاة في المذهب الحنفي :
أما قصر الصلاة في المذهب الحنفي فهو عزيمة وليس رخصة، فأبو حنيفة رضي الله عنه رأى أن قصر الصلاة عزيمة فإذا أتمّ الصلاة فقد قام بعمل مكروه، فالقصر عزيمة، لكن إذا أتمّ الرباعية أي الظهر أربع ركعات صلى ركعتين وقعد وقام للثالثة قال: صحت صلاته مع الكراهة لماذا؟ لأن الركعتين الأوليين تعدان فرضاً وأما الركعتان الأخريان فتعدان نفلاً، فلا تصح إلا إذا نوى الإقامة لمن قام للثالثة، لكن لو فرضنا إنساناً وهو في الصلاة نوى الإقامة يقوم للثالثة فتصح عندئذ صلاته، ولا يزال يقصر حتى يدخل مصره- والمصر يعني بلده - وإنسان وصل إلى النبك يصلي قصراً، وصل إلى الشام يصلي تماماً.
القصر عند الإمام أبي حنيفة عزيمة، فإذا صلى الثنائية أربع ركعات عدت الركعتان الأوليان فرضاً، والأخريان نفلاً هذا من جهة، ومن جهة ثانية إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة عندئذ يقوم للركعة الثالثة على أنها من الفرض، ولا يزال يقصر حتى يدخل مصره أو ينوي إقامته نصف شهر، أي لا يوجد إقامة أقل من أسبوعين، و إذا أراد أن يقيم في بلد سافر إليه أكثر من أسبوعين يصلي صلاةً عادية وقصراً إذا نوى أقل منه، أو لم ينوِ وبقي سنين أي لم ينوِ الإقامة وبقي سنين يقصر في الصلاة، فإذا كان الجنود في أثناء الحرب مثلاً حاصر المسلمون أذربيجان ستة أشهر وهم يقصرون الصلاة طول هذه المدة لأنهم لم ينووا الإقامة.
فالقصر عزيمة، ومن أتمّ الصلاة في السفر فقد جاء بعمل مكروه، ولو صلى الثنائية أربع ركعات لعدت الركعتان الأوليان فرضاً والأخريان نفلاً، والقصر يستمر إلى ما شاء الله مادام المصلي لم ينوِ الإقامة فإذا نوى الإقامة أكثر من أسبوعين يصلي صلاةً تامةً كما لو كان مقيماً في بلده، ولا تصح نية الإقامة ببلدتين لم يعين المبيت بأحدهما، ولو فرضنا ذهب إلى بلد أجنبي مثلاً بين مدينتين يجب أن يعين أنه مقيم بإحداهما حتى يصح أن يقيم الصلاة، لو سافر شهراً وهو يتنقل من مكان إلى آخر يجب أن يعين أن هذه المدينة بلدة إقامتي عندئذٍ تصح الصلاة التامة، ولا يصح أن يقصر في مفازةٍ أي في الصحراء، ولا تصح نية الإقامة في مفازةٍ لغير أهل الأقبية، أي البدو فقط يصح أن يصلوا في الصحراء صلاةً تامةً، أما المسافر في الصحراء فيجب أن يقصر في صلاته، ولا في عسكر بدار الحرب، أيضاً الجنود إذا كانوا في حالة حرب مع العدو لا تصح منهم نية الإقامة، بل يبقى مسافراً ويبقى يصلي صلاة قصر، ولا بدار محاصرةٍ من قبل أهل البغي، أي إذا كان المسلمون محاصرين من قبل أهل البغي لا يصح أن ينووا الإقامة في هذه المواطن الثلاث فلا تصح نية الإقامة إلا إذا كان المقيم بدوياً وأساس إقامته في الصحراء.
يحق للمسافر أن يقتدي بمقيم إذا كانت صلاة الوقت :
والآن إذا الإنسان سافر ودخل إلى مسجد، واقتدى مسافر بمقيم صحّ منه ذلك، صحت صلاته ولو صلاها أربع ركعات، دخلت إلى مسجد بحلب تقام صلاة الظهر وأنت مسافر، تصلي خلف الإمام أربع ركعات لأنه لا يجوز لمصلٍّ أن يخرج من الصلاة من دون إمامه، هكذا النظام العام، ولو قلنا لمصلٍّ أنت صلِّ ركعتين وسلم فأنت مسافر صار فوضى في الصلاة، إذا كنت مسافراً ودخلت إلى المسجد وقت إقامة الصلاة فصلِّ مع الإمام أربع ركعات وهي مقبولة منك ولو أنها تامة.
لكن بعد صلاة الفرض لا يجوز لمسافر أن يقتدي بمقيم، أذن الظهر وصلى الناس صلاة الجماعة وانتهت الصلاة ودخلت بعد ربع ساعة وجدت أربعة يصلون ليس لك الحق أن تصلي معهم، كمسافر تصلي وحدك، أي يحق للمسافر أن يقتدي بمقيم إذا كانت صلاة الوقت، في الأموي دائماً يوجد صلاة جماعة، أما في صلاة وقت فواحدة تصلى من قبل الإمام الأساسي، وبعدها كلما اجتمع أربعة أو خمسة يصلون جماعة، والمسافر ليس له حق أن يصلي بإمام ثانٍ إلا مع الإمام الأول وهذه الصلاة صحيحة.
حكم المسافر الذي اتُّخذ إماماً :
والآن بالعكس أنت مسافر أقمت الصلاة وأردت أن تنوي فإذا خلفك جمع تقول لهم: إني مسافر، تعلمهم مسبقاً وتصلي ركعتين وتسلم، وتقول: أتموا صلاتكم فإني مسافر، والمصلون يقرؤون في الركعتين الأخريين الفاتحة فقط لأنهم قرؤوا مع إمامهم فاتحة وسورة.
مرة كنت مسافراً دخلت إلى المسجد وصليت وصلى ورائي أربعة، شعرت أن المصلين من عامة الناس، وأنا أثناء التحيات خفت أن أسلم وأقول لهم: إني مسافر، خفت ألا يفهموا علي فأتممت أربع ركعات وأنا في شك من أمري، هل يا ترى أنا اخترت هذا الموقف أن أصلي أربع ركعات هل هذا صحيح؟ عدت إلى أوسع كتاب في الفقه حاشية ابن عابدين وجدت هذا صحيحاً، إذا خشيت على المصلين خلفك ألا يفهموا مرادك وهم ليسوا فاهمين وضع صلاة السفر صلِّ أربع ركعات كما لو كنت مقيماً لأنك تخلق مشكلة، أما إذا بعصر العلم والناس كلهم متعلمون تقول: أتموا صلاتكم فإني مسافر.
كيفية قضاء الصلاة في الحضر لمن فاتته في السفر :
إذا فاتتك ركعتان في السفر كيف تقضيهما في الحضر؟ ركعات السفر تقضيها قصراً وإن فاتتك ركعات الإقامة تقضيها أربعاً تماماً بحسب الذي فاتك، والوطن الأصلي الذي تؤدى فيه الصلاة تامةً هو الوطن الذي ولد فيه الإنسان، ولد في الشام فإذا عاد إلى الشام يجب أن يصلي متماً، أو تزوج فيه، تزوج في حمص فحمص أصبحت بلد إقامته، أو لم يتزوج ولكن قصد التعيش فيه، له وظيفته بحمص صارت حمص بلد الإقامة، فإذا جاء إلى الشام له أن يقصر الصلاة، هو شامي من مواليد دمشق ولكن عمله الدائم في حمص جاء ليزور أهله خلال ثلاثة أيام فرضاً، فله أن يقصر الصلاة، فبلد الإقامة إما البلد الذي ولد فيه، أو البلد الذي تزوج فيه، أو البلد الذي يعمل فيه.
ووطن الإقامة هو أي بلد نويت أن تقيم فيه أكثر من أسبوعين فهذه حالة رابعة، هذا كل ما يتعلق بصلاة المسافر فإذا كنت حنفياً فالقصر في الصلاة على المذهب الحنفي عزيمةٌ وليس رخصةً، فما معنى رخصة؟ الرخصة أنت مخير أن تفعلها أو ألا تفعلها ولكن العزيمة أنت ملزم أن تفعلها.
* * *
الشرط الأخير من شروط الدعاء هو الأدب الباطن :
والآن إلى آخر شرط من شروط الدعاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رضي الله عنه وأرضاه.
الحقيقة تأثرت من هذا الشرح، في الدروس الماضية تحدثنا بفضل الله عز وجل عن تسعة شروط للدعاء المستجاب، ولكن الذي يجذب النظر أن الشرط العاشر يعدل كل هذه الشروط مجتمعةً، تحدثنا سابقاً أن شرط الدعاء الصحيح التضرع، والخشوع، واليقين بالإجابة، والإلحاح بالدعاء، والافتتاح بالذكر، وعدم تكلف السجع، وانخفاض الصوت، والأحوال الشريفة، واستقبال القبلة، والأوقات الشريفة.
فهذه الشروط كلها في كفة، وهذا الشرط الأخير في كفة أخرى، قال الإمام الغزالي الشرط العاشر: هو الأدب الباطن، وكل هذه الآداب ظاهرة في وقت شريف، وفي حالة شريفة، رفعت اليدين وخفضت الصوت، و تضرعت، وخشعت، شيء جميل، هذه كلها آداب ظاهرة، لكن الأدب الباطن في الدعاء يعدلها كلها، هو التوبة، ورد المظالم، والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة.
يروي التاريخ أن سيدنا صلاح الدين الأيوبي له شيخ نقشبندي فقبل أن يجمع على محاربة الصليبين جاء إلى شيخه وسأله الدعاء، فقال له شيخه: يا بني أزل المظالم، وأزل المنكرات، فقال له صلاح الدين: ليس معنا وقت لهذا العدو الذي على الأبواب وهذا يحتاج إلى وقت طويل-هكذا تروي القصة أن هذا الشيخ غضب من صلاح الدين ودفعه، وقال له: قم لا نصرك الله- يروي التاريخ أن سيدنا صلاح الدين أول عمل قام به أغلق أماكن المنكر، وردّ المظالم، بقدر الإمكان أزال المظالم والمنكرات ثم توجه بأهل الشام وحدهم ليحارب الصليبيين جميعاً، سبعة ملوك وسبعة جيوش، وقد أقاموا في فلسطين سبعين عاماً، وانتصر عليهم، فلما انتصر عليهم جمع قادته الكبار ودعا شيخه وقال لهم: لا تظنوا أنني انتصرت على العدو بفضلكم ولكن بفضل هذا التوجيه من شيخي.
وآخر شرط لا يمكن أن يستجاب لك دعاء وأنت مقيم على معصية، وأنت مغتصب شيئاً ليس لك، وأنت معتدٍ، وأنت باغٍ، تختار دعاء لرسول الله، وتعتني بالدعاء، وتغمض عيونك، وتعصر نفسك، وترفع يديك، وتدعوه بقيام الليل، وبالسحر، ويوم الجمعة، و بعد الصلاة، ولو طبقت كل هذه الشروط مجتمعةً فالدعاء لا يستجاب ما لم تكن تائباً ولست معتدياً، ومقيماً على الحق.
الأدب الباطن هو الأصل في الإجابة :
الشرط العاشر هو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة؛ التوبة ورد المظالم والإقبال على الله، حدثني أخ في بلد اسمها خان الشيح هناك مزرعة فيها محرك للماء، جاء بدوي معه غنم طلب أن يسقي الغنم، فصاحب المزرعة رده رداً قبيحاً، وهدده إذا دخل مرة ثانية يكسر رجله، له جار محسن فتحول إلى عند جاره، قال له: اشرب أنت ومن تريد، وإذا كان هناك رعيان أرسلهم ليشربوا، عنده محرك ماء ستة إنش، فرأى صاحب هذه المزرعة أن شرب الغنم صعب - الذي حدثني القصة هو الذي باعه- ويوجد في السوق مشارب للإبل، فدفع ستة عشر ألف ليرة ثمن مشارب من ماله الخاص ووضعها في مكان طويل، ودعا كل الرعيان ليشربوا غنمهم، فهذه المنطقة فيها أكثر من ثلاثين أو أربعين مزرعة، المحركات ليس فيها ولا نقطة ماء وإلى الآن عنده ستة إنش لم ينقصوا ولا سنتمتراً سبحان الله! لا أحد يعرف الله عز وجل، كل شيء بيده، بئر ماء، وهذا جاره الذي طرد الراعي غرز اثني عشر مكاناً في الأرض إلى العمق الأساسي و لم يخرج الماء، والذي دفع من ماله الخاص بقي الماء عنده، والذي كلمني القصة هو الذي باعه المشارب.
الله عز وجل كريم ويحب الكريم، إذا أنت ما دعوت، وما ظلمت أحداً، ولست مقيماً على معصية، وتائباً و لو لم تدعُ، عبدي كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، ولا تتكلم ولا كلمة أعرف كل حاجتك، وأعرف كل مطالبك، ورغباتك، وأعرف ما يسرك، وما يرضيك، كله أعرفه، وأنت كن لي كما أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد سلمتك وكفيتك ما تريد، وإذا لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.
التوبة وردّ المظالم والاتجاه إلى الله هو السبب القريب للإجابة :
الشيء الذي أرجوه أن يتعلق الإنسان بالله عز وجل، يقيم علاقة حميمة معه، بدءاً من الإخلاص إلى خدمة الخلق، وإلى الاتصال به، وإلى خدمة عباده، عامل ربك عز وجل، إذا قلت له: ليس لي إلا أنت، وبيدك الأمر كله، وأنا تبت إليك يا رب، والله يوجد كل دعاء يأخذ العقل من كثرة التنميق وتجد لا يوجد إجابة، الله موجود وسميع.
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثُمَّ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
ذلك هو السبب القريب للإجابة، التوبة، وردّ المظالم، والاتجاه إلى الله، هو السبب القريب للإجابة، فيروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناس قحط شديد في عهد موسى عليه وعلى نبينا أتم الصلاة والسلام، فخرج موسى ببني إسرائيل يستسقي بهم، فلم يُسقوا والذي دعا هو سيدنا موسى، وهو كليم الله، و لم تنزل قطرة مطر، أحياناً لا يوجد خطيب يقول: يا رب أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، مطر لا يوجد، والجو صاح وتشرين، والقضية ليست قضية دعاء الخطيب بل قضية توبة العباد، إذا تابوا ولم يدعوا فالأمطار تأتيهم من فوقهم ومن تحتهم، فسيدنا موسى دعا ربه واستسقى ولا من مجيب، فقال يا موسى إن فيكم رجلاً عاصياً - وهذه القصة فيها موعظة - فقال موسى عليه الصلاة والسلام: "من كان عاصياً لله فليغادرنا" ثم إن السماء أمطرت، فقال: يا ربي أمطرتنا ولم يغادرنا هذا العاصي فمن هو قال: عجبت لك يا موسى لقد تاب أأستره وهو عاصٍ وأفضحه وهو تائب؟
فأنا أقول: إذا أحدكم له معصية لا يقولها لأحد، خلاف ما تقوله بعض الأديان، إذا اعترفت أمام الخوري بكل شيء ذهبت المعصية عنك، لا، إن الله ستير، إذا الإنسان له جاهلية فلا يقلها لأحد لأن الله عز وجل أسبل ستره عليه، فهل يفضح نفسه؟ فالإنسان عندما يتوب بينه وبين الله، الله عز وجل يقبله ويعفو عنه ويغير معاملته له.
وفي رواية أخرى: " فلم يسقوا حتى خرج ثلاث مرات ولم يسقوا فأوحى الله عز وجل إلى موسى أني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام، فقال موسى: يا رب و من هو حتى نخرجه من بيننا؟ فأوحى الله عز جل يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فقال موسى لبني إسرائيل: توبوا إلى ربكم بأجمعكم عن النميمة، فتابوا، فأرسل الله تعالى عليهم الغيث.
الله عز وجل لن يغير قوانين الأرض من أجلك فادعه و أنت تائب مطيع عادل :
وقال مالك بن دينار: "أصاب الناس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مراراً، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إليّ بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أكفاً سفكت بها الدماء، وملأتم بطونكم بالحرام، والآن قد اشتد غضبي عليكم ولم تزدادوا مني إلا بعداً".
فالمسلمون اليوم يأكلون أموال بعضهم، وينتهكون حرمات الله، ويفعلون كل المنكرات، وإذا جلس بمجلس يا رب ارحمنا فإنك بنا راحم، مهما عملت دعاء منمقاً لا يوجد إجابة، بل يوجد حقائق، الله عز وجل لن يغير قوانين الأرض من أجلك، اعمل قوانين إذا كنت تائباً، مطيعاً، عادلاً، منصفاً، وإذا دعوته يستجيب لك وإلا فلا.
وقال أبو الصديق الناجي: "خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة ملقاة على ظهرها رافعةً قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، ولا غنى عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب غيرنا، فقال سليمان: ارجعوا قد سقيتم بدعوة غيركم"، وكان يسمع النمل إذ علمه الله لغة الحيوان، قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
وقال الأوزاعي: "خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا قد سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل، وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟ اللهم اغفر لنا، وارحمنا، واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا".
قيل لمالك بن دينار: "ادع لنا ربك، فقال: إنكم تستبطئون المطر وأنا استبطئ الحجارة عليكم"، و معنى ذلك إذا وجدت معاصٍ شديدة فالإنسان ينتظر العقاب.
وروي أن عيسى صلوات الله عليه خرج يستسقي فلما ضجروا قال لهم عيسى عليه السلام: "من أصاب منكم ذنباً فليرجع فرجعوا كلهم ولم يبقَ معه في المفازة إلا واحد، فقال له: أمالك من ذنب؟ فقال: والله ما علمت من شيء غير أني كنت ذات يوم أصلي فمرت بي امرأة فنظرت إليها بعيني هذه، فلما جاوزتني أدخلت أصبعي فانتزعتها، وأتبعت المرأة بها" - هذه القصة قد تكون رمزية - ولكن إذا عصى الإنسان الله عز وجل بعينه وقلعها وكان في قلعها تكفير لذنبه فهو الرابح، أما الذي يملأ عينيه من الحرام، يملأهما الله عز وجل من جمر جهنم، أنا سمعت كثيراً عن العارفين بالله، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت.
وقال يحيى الغساني: "أصاب الناس قحط على عهد داود عليه السلام فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتى يستسقوا بهم، فقال أحدهم: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعفو عمن ظلمنا، اللهم إنا قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا، وقال الثاني: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا، اللهم إنا أرقاؤك فاعتقنا، وقال الثالث: اللهم إنك أنزلت في توراتك ألا نرد المساكين إذا وقفوا بأبوابنا، اللهم إنا مساكينك وقفنا ببابك فلا ترد دعاءنا فسقوا".
وهذا مغزاها؛ إذا الإنسان له ذنب، وتاب منه كأنه ليس له ذنب، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، يا ربي أنا أخطأت وأستغفرك من هذا الذنب ولن أعود إليه، ادعُ الله عز وجل، أنا أقول: من يقيم على الذنب ويصر عليه هذا لن يستجاب له، ولو فرضنا إنساناً تاب من ذنبه لتوه، وأخلص في توبته، وندم عليه، فأغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنه ويستجيب له.
وقال عطاء السلمي: "منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون في المقابر فنظر إلينا فقال: يا عطاء أهذا يوم النشور أم بعثر ما في القبور؟ قال: لا ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقي، فقال يا عطاء: بقلوب أرضيةٍ أم بقلوب سماوية؟ لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير - البهرجة إظهار المحاسن وإخفاء المعايب –".
سلعة الله غالية :
قال له: يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق، وأخلص النية فإن الناقد بصير، وخفف الأثقال فإن في الطريق عقبةً كؤوداً لا يجتازها إلا المخفون، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، حياة أبدية لا يكفيها ركعتان تصليهما ولا ليرة تتصدق بها.
إذا أردت سجادة إيرانية يدوية تدفع ثمنها ثمانية وسبعين ألف ليرة وتقول: تساوي، تريد جنة عرضها السموات والأرض بليرة سورية فقط أو بركعتين؟ ألا إن سلعة الله غالية:
فما حبنا سهل وكل من ادعـى سهولته قلنا له قد جهلتنــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
***
ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله غالية، حتى يقال لفلان دكتور يجب أن يدرس خمس سنوات أو سبع سنوات لا ينام الليل، بين تأليف أطروحة، وحضور مناقشتها، وأخذ التوجيهات من أستاذه المشرف، ويقول له: اقرأ هذا الكتاب، ويكون أربعمئة صفحة، يعطيه قائمة مصادر ثلاثمئة مصدر، وهذه اقرأها في المكتبة، ولخص عشرة منها وتعال إلى عندي، ولا يأخذ الدكتوراه حتى تخرج عيونه، تريد جنة عرضها السموات والأرض لذلك قال تعالى:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
الشيء الغالي عليك، وقتك فابذله ومكانتك، ولك شخص فلان صاحبك، تذهب معي إليه؟ نعم على عيني، وأنت بمفردك لا تعمل عندك عزة لكن لله تعملها، فالإنسان يجب أن يبذل ماله، زهوة ماله، وزهوة وقته، وزهوة صحته وشبابه لله عز وجل حتى يستحق عطاءه.
قال له: "يا أبا ذر جدد السفينة فإن البحر عميق، وأخلص النية فإن الناقد بصير وخفف الأثقال فإن في الطريقة عقبةً كؤوداً لا يجتازها إلا المخفون- أول الحديث: شمروا فإن الأمر جد.
قال لي شخص: بني إلى جانب بيتنا بناء، حفروا الأساسات، وما وضعوا جداراً استنادياً، شعر أنه يوجد تنسيمات في الجدران فأحضر مهندساً فقال له: إخلاء فوري للبناء، لقد رتب في بيته غرفة ضيوف، وغرفة جلوس، قال له: إخلاء فوري فإن الأمر جد، هذا الذي يقال في مجالس العلم جد مصيري خطير، إذا رجل سمعه ومشى وقال: والله الدرس ممتع، هذا ما أخذه مأخذ الجد، أخذه مأخذ الهزل، أخذه كمتعة، ما أخذه كفكرة خطيرة جداً يتعلق بها مصيره، قال: "أيها الناس شمروا" فكيف إذا إنسان مُقدِم على عمل كبير؟ تجده شمر ورفع سرواله، وبدأ الإنسان المؤمن في حالة نفسية، حالة التشمير يجب أن يشمر، أما من بعيد إلى بعيد إذا أراد إنسان أن ينظف بيته فهل من المعقول أن يلبس ثيابه الفخمة؟ يلبس لباساً قديماً ويشمر ويبدأ: "أيها الناس شمروا فإن الأمر جد وتأهبوا فإن السفر قريب".
على الإنسان ألا يكون مقيماً على معصية وأن يكون تائباً منيباً ليستجاب له :
والإنسان رجل بين عشية وضحاها يصبح من أهل القبور، ولا يعرف متى، فقال: "قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير، ثم رمق السماء بطرفه وقال: إلهي وسيدي ومولاي لا تهلك بلادك بذنوب عبادك، ولكن بالسر المكنون في أسمائك، وما وارت الحجب من آلائك إلا سقيتنا ماءً غدقاً فراتاً، تحيي به العباد، وتروي به البلاد، يا من هو على كل شيء قدير، قال عطاء: فما أتم كلامه حتى أرعدت السماء، وأبرقت، وجاءت بمطر كأفواه القرب"، إذن استجيب له.
هذه لنا كلنا، تريد استجابة اعمل دفتراً أحص أخطاءك و المظالم و المخالفات في البيت ثم أصلحها واحدة واحدة وعندما تنتهي قل: يا رب، يقول لك: لبيك يا عبدي.
هذا هو الأدب الأخير في الدعاء ألا تكون مقيماً على معصية، وألا تكون مغتصباً حقاً، وأن تكون تائباً منيباً، وعندئذٍ ادعً كيف شئت فالله سبحانه وتعالى سيستجيب لك، و هذا الشرط الأخير في كفة وكل هذه الشروط السابقة في كفة ثانية.
المصائب تأديب الله لعباده :
الله عز و جل يريدك أنت لا يريد مالك، ولا فصاحتك، ولا منظرك، ولا مكانتك، ويريد أن تلتفت إليه، ولن تستطيع أن تلتفت إليه إلا إذا استقمت على أمره، وأخلصت له، وخدمت خلقه، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، هذا المراد.
قال ابن المبارك: "قدمنا المدينة في عام القحط، فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم إذا أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد اتزر بإحداهما، وألقى الأخرى على عاتقه، فجلس إلى جنبي وسمعته يقول: إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب، ومساوئ الأعمال، وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بهذا"، هذا الفقه، وهذا ملخص العلم، كل مصيبة حبس مطر، ومرض، وفقر، و ذل، و هم، وحزن، ونقص في الأموال، ونقص في الثمرات، ومتاعب، وأحزان مقلقات، كل هذه المصائب يؤدب الله بها عباده، طبعاً الله عز وجل قال:
﴿ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ*أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ*وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ*فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ*قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ*فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ*قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ*عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾
هذا ليس بستاننا، الطريق نفسه، كذلك العذاب، أي يا عبادي كيف أن إتلاف هذه المحاصيل كلها نتج عنه توبةٌ لهؤلاء، وعودة إلى الله، كذلك عذابي كله، والآية دقيقة جداً، كيف هؤلاء رجعوا إلي بعد مصيبة قاهرة، إتلاف محاصيلهم، كذلك العذاب، وإذا ما عادوا إلي بهذا العذاب، يقول تعالى:
﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
و يقول:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
هذا عذاب أدنى، قال سيدنا علي لابنه الحسن: "يا بني ما خير بعده النار بخير- لو جاءتك الدنيا كلها، لو ملكنا أطراف الدنيا كلها، لو كان دخلك في اليوم عشرة ملايين دولار- فما خير بعده النار بخير وما شر بعده الجنة بشر- فقر مع مرض مع مـوت زوجة مع أولاد عاقين، ومنزل فيه إخلاء، وعمل واقف، و محل احترق، كله معاً والمصير إلى الجنة هذا خير-".
"ما خير بعده النار بخير وما شر بعده بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية"، وهكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا الإنسان مرّ على بستان فخم في وسطه مزرعة، ومسبح، وفيلا حجر، سقف قرميد، وأشجار مثمرة، وأزهار رياحين، وممرات مداخل فخمة، فماذا يقول؟ "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، هذه مؤقتة.
الإسلام يمتن العلاقات الاجتماعية ولا يفتتها :
إياكم وفلول النظر فإنه يبذر في النفس الهوى، وإذا تأملت كثيراً بهذه الحاجات تحبها، وبعد هذا أعرض عنها، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، أنت تسكن في بيت مستوراً، وعندك مدفأة، وتلبس كنزة، وعندك طعام في البيت، وعندك أولاد وزوجة، طبعاً إذا دخل أحد على الأغنياء غير المؤمنين خرج من عندهم وهو على الله ساخط. قال:
((عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ ))
فإذا رجل عنده جوارب وثقبت فأتلفها فوراً فهذا إسراف:
((... وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ ))
والمقصود بالأغنياء في هذا الحديث الأغنياء غير المؤمنين، لأن الأغنياء المؤمنين على العين والرأس، ويزيدك الاتصال بهم حباً لله، لسماحتهم، وتواضعهم، وإكرامهم، وقد حدثني أخ هنا في الجامع ليس معنا الآن كان طفلاً صغيراً أرسلته والدته وكان يتيماً إلى معمل ليعمل، مدير العمال ومشرف العمال شاهده ولداً صغيراً، يوجد عنده حراق فيه شحار قال له: ادخل إلى الداخل ونظفه، جاء مدير المعمل وجد خربشة في هذا الحراق، فسأل ما هذا؟ وجد طفلاً ألبسته أمه لباساً أبيض ونظيفاً وفرحت بعمله، فقير ويتيم، أخرجه فوجده أسود اللون، فأرسل إلى مدير العمال وبخه وقال له: افرضه أخاك، أو ابنك، فأهله أرسلوه إلينا، ثم قال لي: خذوه إلى الحمام، ونظفه، ورتبه، وله في المعمل عم، فقال هذا المدير لعمه: خذه إلى الحمام، وخذ له طقم ملابس جديداً كاملاً، ومعهم بذلة جديدة إنكليزية من إنتاج المعمل، وهذه أجرة خياطتها، فهذا الطفل عندما عاد مساءً إلى البيت، فهذه الملابس غير الملابس التي ذهب بها، ومعه بذلة، ومعه أجرة خياطة، ففرح الأهل كثيراً، ما هذا الإكرام؟ قال لي الأخ وهو نفسه الطفل: في اليوم الثاني أحضرت معي طعاماً، فقال لي المدير: يا فلان ما معك من طعام اليوم؟ فقال: بطاطا مسلوقة، والمدير معه طعام ما لذ وطاب، المدير أكل من طعام الطفل حتى يشجعه أن يأكل من طعامه، فصار يأكل كل يوم معه.
فكان يشعر العامل أن رب العمل مثل الأب، وهناك تواضع ورحمة، سمعت عن معمل أول النهار يجري وجبة غذاء للعمال على حسابه، والظهر يوجد غذاء، وفي الظهر تتوقف الآلات والكل يصلي، أذن العصر صلوا، أخذ من العامل خمسة آلاف وضعها في الشركة استثماراً، وأخذ أرض عمرها بيوتاً للعمال، ورأيت العمال عنده كيف يحبون صاحب المعمل أكثر من أبيهم، فهذا العامل مثل ابنك، يجب أن تزوجه، وتشتري له بيتاً، هكذا الإسلام، فالإسلام جعل العلاقات متينة جداً، فالغني المؤمن على العين والرأس لتواضعه وسخائه، والمال ليس له قيمة عند الله، ولماذا المال؟ ليتقرب به إلى الله عز وجل، فالآن تجد الوضع اختلف كلما ازداد غنى الإنسان ازداد بخلاً، واستعلاء، وكبراً، إنه يحاسب على القرش، وينفق بالملايين على شهواته المنحرفة، وهذا العامل يحل مشكلته بخمسة آلاف، أما هو فيقول لك: ذهبت إلى أوربا وصرفت ثلاثمئة ألف، وأعطى العامل خمسة آلاف وحل له مشكلته.
فيوجد أخوان مؤمنون عندنا هنا من فضل الله، وعندهم عمال، والله سمعت عدداً من القصص عنهم مشرفة، بتواضعهم وبإكرامهم العمال، وهكذا الإسلام يمتن العلاقات الاجتماعية ولا يفتتها.
((... وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ ))
"إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب ومساوئ الأعمال، وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك فأسألك يا حليم، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل، أن تسقيهم الساعة الساعة، فلم يزل يقول السـاعة الساعة حتى اكتفت السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل جانب، فجئت إلى الفضيل فقال لي: "مالي أراك كئيباً، فقلت: أمراً سبقنا إليه غيرنا وتولاه عنا، فقصصت عليه القصة فصاح الفضيل وخر مغشياً عليه".
المشكلات من نعم الله عز وجل لأنها سبب التوجه إليه :
آخر قصة يروى أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس رضي الله عنه، فلما فرغ عمر من دعائه قال العباس: "اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب - مثل القوانين - ولم يكشف إلا بتوبة، قد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليك وسلم، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، وأنت الراعي لا تهمل الضال، ولا تدع الكثير بدار المضيعة، فقد ضرع الصغير، ورق الكبير، وارتفعت الأصوات بالشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغيثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون، قال: فما أتمّ كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال".
ها نحن أولاء، وليس القصد القصص بل القصد نحن، لا يوجد واحد منا ليس له مشكلة مع الله عز وجل، إما بصحته، أو بماله، أو ببيته، أو بأولاده، أو بابنه المريض، أو بزوجته، لا يوجد إنسان، وهذه المشكلات من نعم الله عز وجل، وهذه المشكلات سبب التوجه إلى الله عز وجل، إن الله يحب أن يسمع تضرع عبده، إن الله يحب أن يسمع صوت عبده اللهفان، وبدون مشكلة تقول: يا رب من قلبك، وتدعو دعاء بارداً، وحتى يكون الدعاء ساخناً يكون وراءه مشكلة، إذا خاف أما أنت فلست بخائف يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، ولكن إذا وجد خوف حقيقي فمن أعماقك تدعو، والله يريد دعاء من الأعماق، ويريد دعاء حميماً، ودعاء فيه إخلاص، وترج، وإلحاح، وطلب، وثقة، وتوكل، و يقين، فهذا الدرس لنا وهذه القصص مضت قال تعالى:
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾
* * *
رحمة النبي صلى الله عليه و سلم :
وآخر فقرة قصيرة في الدرس سيدنا النبي صلى الله عليه:
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ... ))
أنت مؤمن فيجب أن يكون عندك عطف على الأولاد منقطع النظير، مثلاً رسول الله في المهاجرين، وإبراهيم مسترضع في الميدان، في عوالي المدينة في الطرف الآخر.
((... فَـكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّـهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ ... ))
تصور إنساناً خرج من المهاجرين ومشى إلى الميدان وقرع الباب أين إبراهيم؟ أخذه وقبله وعاد، هكذا كان صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا عمر عين والياً وأعطاه كتاب التعيين، وكان عمر يحب ابنه ويقبله، فهذا الوالي نظر إلى هذا الموقف نظر المستنكف، فقال له: ما بك؟ قال: والله إني لا أُقبّل أحداً من أولادي، فقال له: هات الكتاب فأخذه ومزقه، وقال له: كيف ترحم الناس إن لم ترحم أولادك فأنت لست أهلاً.
أنا أقول: إذا الإنسان كان معلماً فيجب أن يحب الأولاد، وأحياناً ترى المعلم له ضرب مبرح فأين رحمتك؟ إن لم تكن تحب هؤلاء الطلاب فكيف تعلمهم؟ اترك التعليم، فالتعليم يحتاج إلى رحمة، تعامله مثل ابنك، يمسكه من سوالفه ويرفعه فيخرج الشعر بيديه، لو أن معلماً فعل هذا مع ابنك فماذا تفعل معه؟ هذا له أب أيضاً.
ومن رحمته روى الشيخان:
((عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))
يظهر أن امرأة تصلي خلف الصفوف، و لها ابن يبكي، والنبي الكريم في الصباح كان يقرأ السور الطويلة، فقرأ في الفجر قل أعوذ برب الناس، لأنه سمع طفلاً يبكي وقلبه رقيق ما تحمل فاختصر الصلاة.
امرأة في المستشفى على وشك الولادة ولا يوجد ولا قابلة في المستشفى فقالت الطبيبة: سوف أتوضأ وأصلي العصر وأحضر إليكم و يكون الأمر قد انتهى ولا يوجد فقه.
رحمة النبي بالصبيان :
وكان من رحمته بالصبيان أنه كان يمسح رؤوسهم ويقبلهم كما جاء في الصحيحين، قالت عائشة رضي الله عنها: قبّل النبي عليه الصلاة والسلام الحسن والحسين ابني علي.
((وحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ ))
وفي الصحيحين عن عائشة:
((عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ))
أي أنت لا يوجد فيك رحمة، ومن رحمته بالصبيان وحبه إدخال السرور عليهم، كان عليه الصلاة والسلام إذا أوتي بأول ما يدرك من الفاكهة يعطيه لمن يكون في المجلس من الصبيان كما روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
(( كان إذا أوتي بباكورة الثمرة - أي أولها - وضعها على عينيه ثم على شفتيه وقال: اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره ثم يعطيه من يكون من الصبيان ))
قدموا له أول تمرة وضعها على عينيه ثم على شفتيه ثم أعطاها الطفل في المجلس، ومعنى هذا أن الطفل يشتهي الفاكهة أكثر من الكبير، وأحياناً الأب يتجاهل طلب الطفل، ويكون معه ولا يحب الأب الفاكهة والابن يحبها مثلاً.
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))
البكاء رحمة أما رفع الصوت بالبكاء فمن الشيطان.
((... فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ))
اللطم و ضرب النفس عذاب أما البكاء فرحمة :
و:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ فَقَالَ أَقَدْ قَضَى قَالُوا لا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا فَقَالَ أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ ))
فإذا صرخ الإنسان، ولطم، وضرب نفسه فبهذا يعذب، أما البكاء فرحمة، والنبي الكريم صلى الله عليه قبّل عثمان بن مظعون وهو ميت، له صاحب توفي فجاءه و قبّله وهو ميت وهو يبكي:
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ ))
وعند ابن الجوزي في كتاب الوفاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: " لما مات عثمان بن مظعون كف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبّل ما بين عينيه، ثم بكى طويلاً، فلما رفع عن السرير قال: طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها، كان فقيراً جداً".
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويقول: "اللهم أحشرني مسكيناً - أي متواضعاً لله عز وجل- مؤمناً، لا متكبراً ولا مستعلياً" .
((لا يدْخُلُ الجنةَ مَنّ كان في قلبه مثقالُ حبَّة من كِبْر ))