- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠3الصلاة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أحقُّ الناس بالصلاة على الميت :
أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في موضوع صلاة الجنازة إلى فصل " مَن أحقُّ بالصلاة على الميت؟ " فالسلطان أحق بالصلاة على الميت، ثم نائبه، ثم القاضي، ثم إمام الحي، ثم ولي الميت، هذا هو التسلسل، ولمن له حق التقدم أن يأذن لغيره، ومن له حق التقدم في صلاة الجنازة إماماً أن يأذن لغيره، فإن صلى غيرُه من دون إذنه فلصاحب الحق في التقدم إماماً أن يعيد الصلاة، فلو أن ميتاً أوصى أن يصلي عليه فلان، و بحسب الشرع، السلطان، ثم نائبه، ثم القاضي، ثم إمام الحي، ثم الولي، تقدم قواعد الشرع على وصية الميت في صلاة الجنازة، ولو أن ميتاً دفن من غير صلاة جاز أن تصلى صلاة الجنازة على قبره وهو مدفون، أمّا إذا اجتمعت الجنائز فالإفراد بالصلاة لكل منها، أي الأَولى أن يصلى على كل جنازة على حدة، و أما في الترتيب الزمني فيقدم الأفضل فالأفضل، وإن اجتمعت جاز أن يصلى عليها جميعاً مرة واحدة، بشرط أن تُصَفَّ النعوش على شكل رتل أحادي باتجاه المحراب، أي الرؤوس مع الرؤوس، الأول فالثاني فالثالث وهكذا، وجُعلت صفاً طويلاً مما يلي القبلة، حيث يكون صدر كلٍ قدام الإمام، ويقف الإمام تجاه صدر الأول، ووراء الأول صدر الثاني، و هكذا، و يراعى الترتيب؛ فيجعل الرجال مما يلي الإمام، ثم الصبيان، ثم النساء، ولو دفنوا في قبر واحد لحاجة ماسة عُكِس الترتيب، فيُبدأ بالنساء، فالصبيان، فالرجال باتجاه القبلة، أي الرجل مما يلي القبلة، ثم الصبي، ثم المرأة، أما في المسجد فمما يلي الإمام بعكس القبلة، وهذا هو الترتيب، ولو فرضنا أنّ رجلاً دخل مسجدًا يُصلى فيه على ميت فلا يجوز أن يقتدي بين تكبيرتين، بل ينتظر حتى يكبر الإمام فيدخل معه في أثناء التكبيرة، وبعد أن يصلي يتابع الذي يصلي متأخراً خلف الإمام، أما من كبَّر مع التكبيرة الرابعة التي بعدها سلام فقد فاتته صلاة الجنازة، أي إذا دخل مع التكبيرة الرابعة فقد فاتته صلاة الجنازة، ومن استهل سُمَّيَ و ُغسل و صلي عليه، فأيّ طفل ولد حديثاً، وبمجرد أن ولد مات، فإذا استهل أي إذا رفع صوته بالبكاء سمِّي وغسل وصلي عليه وورث، فصوت البكاء هذا خلال ثانية غيَّر نظام الإرث كله، يروون حسب القواعد أن السلطان ثم نائبه ثم القاضي ثم إمام الحي ثم الولي هم أحق الناس على الترتيب بصلاة الجنازة إماماً، ويروى أن أحد القضاة وكان سيئاً جداً من حيث الأخلاق، تولى منصب القضاء، وبحكم هذه الأحكام فهو الذي يجب أن يصلي على الجنازة، فكان يسير خلفها في أثناء التشييع، ثم أعطى أمراً أن توضع على الأرض فوضعت، وأعطى أمراً أن يفتح النعش ففتح، فتقدم إلى أُذُن الميت وهمس في أذنه بعض الكلمات، ولشدة قسوته وجبروته وظلمه لم يجرؤ أحد أن يسأله، يا سيدي القاضي ماذا قلت للميت؟ قيل: بعد أيام وكان في انبساط سأله أحد المقربين إليه: يا سيدي ماذا قلت لهذا الميت؟ قال له: قلت له: لو أنك سئلت في الآخرة عن أحوال أهل الدنيا فقل لهم كلمة واحدة، قل لهم: إن فلاناً قد صار قاضياً وانتهى الأمر، أي هذه كلمة موجزة تنبئك عن شيء كثير، إن قيل لك: كيف أحوال أهل الدنيا؟ فقل لهم: إنّ فلاناً قد صار قاضياً، ذكرني هذا أن التسلسل السلطان، ثم نائبه، ثم القاضي، ثم إمام الحي، ثم ولي الميت.
أما إذا ولد ميتاً غسل في رأي أكثر الأئمة وأدرج في خرقة ودفن من دون أن يصلى عليه، ولا يصلى على باغ، أي على إنسان تجاوز الحدود، ولا على قاطع طريق قُتِل حال المحاربة، أي قتل في أثناء قطع الطريق، ولا على قاتل غيلة، ولا على مقتول عصبية، هؤلاء جميعاً لا يصلى عليهم، لأنهم خرجوا عن قواعد الدين، وفي درس آخر إن شاء الله تعالى نتابع موضوع الجنازة.
* * *
الإحسان في البيع والشراء :
والآن إلى بعض الفصول المختارة من إحياء علوم الدين، وما زلنا في موضوع الإحسان في البيع والشراء، وصلنا في الدرس الماضي إلى استيفاء الثمن وسائر الديون والإحسان فيه مرةً بالمسامحة وحق بعضهم، ومرةً بالإمهال والتأخير، ومرةً بالتساهل في طلب جودة النقد:
((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى ))
وقال عليه الصلاة والسلام:
((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ))
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ خُذْ حَقَّكَ فِي عَفَافٍ وَافٍ أَوْ غَيْرِ وَافٍ ))
هذا ذكرناه في الدرس الماضي.
البند الرابع في الإحسان في البيع والشراء أن نمشي إلى صاحب الحق :
الآن البند الرابع في الإحسان في البيع والشراء، وفي توفية الدين؛ ومن الإحسان فيه حسن القضاء وذلك بأن نمشي إلى صاحب الحق ولا نكلفه أن يمشي إلينا، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
ومن معانيها انتهاء الغائب، فيجب أن يؤدى الدين إلى بيت صاحب الدين، أو إلى محله التجاري، أو إلى المكان الذي أخذ منه، أما أن يقول من عليه الدين: تعال خذ، فهذا ليس من السنة، فإذا كان مسافراً فبعت بيعة لمدينة وأخبرته فقال لك: تعال وخذ بعض الثمن، وأنت حينما اشتريت البضاعة خرجت من مدينتك وسافرت إلى هذه المدينة، أما إذا جاء وقت وقال: دفع الثمن تعال وخذ فهذا ليس من السنة، وأداء إليه، فالأجرة تؤدى إلى صاحب الدين، وإذا استعرت حاجةً، كأنْ يقول رجل لجاره: أعرنا السلم، فقال له جاره: والله ظهري يؤلمني، قال له: ما علاقة ظهرك بالسلم؟ فقال له: من أجل أن أعيده، قال: أنا الذي سوف أعيده، وأداء إليه بإحسان، ودخل في هذا الإعارة، فإذا استعرت شيئاً فأرْجِعْه إلى مكان أخْذِه بإحسان، فالكتاب يجلد، والسلم إذا كان فيه كسر يصلح، وكل شيء استعرته إن كنت مؤمناً حقاً، أو كنت مسلماً تعيده بحالة أجود مما أخذته، وهذا هو الأداء الحسن.
إذاً وذلك أن نمشي إلى صاحب الحق، ولا نكلفه أن يمشي إلينا:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ فَأَغْلَظَ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ قَالَ أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ فَقَالَ أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً ))
ومهما قدر على قضاء الدين فالمبادر إليه ولو قبل وقته، وليسلم أفضل مما شرط عليه وأحسن فإن عجز فلينوِ قضاءه مهما قدر، لأنّ هذا الدين إحسان، وعليك أن ترد الإحسان بإحسان مثله، وهذا هو خلق المسلم، ولذلك لم يكن النبي الكريم يصلي على من عليه دَيْن:
((عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا لَا فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَقَالَ هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ ))
وفي الحديث:
((من أدان دينا ينوي قضاءه كان معه عون من الله تعالى على ذلك))
الإعانة للمشتري لأن البائع راغب عن السلعة والمشتري محتاج إليها :
لذلك:
((من تزوج امرأة على صداق وهو ينوي ألا يؤديه إليها جاء يوم القيامة زانياً، ومن أخذ مالاً من أخيه وهو ينوي ألا يؤديه إليه جاء يوم القيامة سارقاً ))
ومهما كلمه صاحب الحق بكلام خشن فليحتمله، هكذا الأدب؛ دعه فإنّ لصاحب الحق مقالاً، وليقابله باللطف اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما دار الكلام بين المستقرض والمقرض فالإحسان أن يكون الميل الأكثر إلى من عليه الدين، فإن المقرض يقرض عن غنىً، والمستقرض يستقرض عن حاجة، وكذلك ينبغي أن تكون الإعانة للمشتري أكثر، لأن البائع راغب عن السلعة، ويبتغي ترويجها، والمشتري محتاج إليها، فعندنا المستقرض والمقرض، والمشتري والبائع، المشتري أضعف، والمستقرض أضعف، فينبغي أن يميل الوسطاء مع الأضعف، إلا أن يتعدى من عليه الدين حدَّه، أو حصل عدوان؛ بأن ماطل أو أنكر وجحد، فعندئذ ينبغي أن تعين صاحب الحق على أخذ حقه.
((عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ ))
لو فرضنا إنسانًا عليه دين مستحق وماطل، فمضت سنة وسنتان وثلاث، وبلغك أن فلاناً الذي أخذ منك المال منذ سنوات له ذمة عند فلان، فإذا ذهبت إلى فلان ورجوته أن تمهل في أداء ما عليه لفلان لعله يحننه عليك، هذا الذي عليه أن يعطي إذا تريث له أجر، لأنه أعان على إيصال الحق إلى صاحبه.
الأدب الخامس أن يقيل من يستقيله :
والأدب الخامس أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متندم مستنصر بالبيع، كأنْ يشتري إنسان حاجة وندم عليها، فقال لك: هل يمكن أن تلغي لي الصفقة؟ فإذا لم تُلغِها فهذا هو العدل، وإذا ألغيتها فهذا إحسان، وأنت مأمور بالعدل والإحسان معاً.
سمعت من رجل عنده محل يبيع مفروشات أنّ امرأة جاءته واشترت طقمًا دفعت ثمنه، ولكن لفت نظره الدفع خمسات وعشرات، بعد ساعتين أو ثلاث جاءته باكيةً ترجوه أن يرجع الطقم إلى محله، لماذا؟ لأن ثمن هذا الطقم كانت قد وفرته من مصروف البيت، وكان زوجها سكيراً، فلما علم أن معها هذا المبلغ قال: أحضريه وإلا طلّقتكِ، فذهبت إلى الذي باعها الطقم ورجته أن يقيلها - أي أن يرجع لها الطقم - قال لي هذا الذي باعها الطقم: أرسلت سيارةً على حسابي وأحضرت الطقم إلى محلي، وأعدت لها المبلغ بشكل أجود وقال: والله الذي لا إله إلا هو وهو على الرصيف بعته وبزيادة ولم يدخل المحل.
(( مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَه))
أحيانًا يريد الإنسان أن يقبض بالعقد عربونًا، والعربون غير شرعي، فلزم هذا البيع، ولا يوجد حالة ثانية، فإما أن ينفذ هذا البيع، وإما أن يقيلك من دون عربون، أما إذا قلت له: العربون عشرة آلاف، وفي العقد بيت بخمسمئة ألف، عربونه عشرة آلاف، إذا نكث أحد الفريقين ضيَّع عليه العربون، ولو فرضنا صاحب البيت جاءه زبون بستمئة ألف، والعربون حسب العقد، وأنا قلبت، وبحسب نص العقد أنا ليس لي مصلحة أن أبيعك، أخذ تسعين عوضًا عنها، لا، أكتب دفعة أولى من ثمن البيت، فالبيع لا يوجد له حل وسط، هو بيع شرعي لوجود إيجاب وقبول، فأنت مع أحد حالين؛ إما أن تقيله، وإما أن ينفذ البيع، أما أنْ نضع لكل عقد عربونًا، فإذا قبِل الشاري خسر العربون، فهذا المبلغ ثمن ماذا؟ لا ثمن له، ولا مقابل، فهذا المبلغ حرام، ففي عقود البيع اكتبوا دفعةً أولى، فالبائع بالخيار، إما أن يلزم المشتري باستلام المبيع وقبض الثمن، وهذا من حقه، وإذا امتنع رفع الأمر للقاضي لإنفاذ البيع، وإما أن يقيله وله عند الله أجٌر كبيرٌ، وليس كل الربح مالاً، فقد تربح أجراً عند الله تعالى، وقد تربح رضا الله عز وجل، وهو أكثر ربحًا من المال، وأثمن من المال بكثير، ولا ينبغي له أن يرضى لنفسه أن يكون سبباً في ضرر أخيه:
(( مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَه))
الأدب السادس أن يقصد في معاملته جماعة من الفقراء بالنسيئة :
والأدب السادس: أن يقصد في معاملته جماعةً من الفقراء بالنسيئة، وهذا الأدب رائع جداً، فالبائع المسلم لو شعر أن هذا المشتري فقير، وأن هذا المبلغ لا يكفيه، فإذا أمهله في قبض الثمن إن كان المشتري مؤمنًا وصادقًا موثوقًا فيه، وماله لا يكفيه، ويلزمه براد، ويملك خمسمئة، وثمن البراد ألف وخمسمئة، قال له: هاتها وأحضر لي كل شهر مئتين، فبالعقلية التجارية هذه خسارة، فلو قبض ثمنه نقدًا كان أفضل، لكن بعقلية المؤمن هذا ربح كبير، إنك عملت معه عملاً صالحاً لا يعلم غير الله كم يثيبك عليه، ولذلك من الإحسان في البيع والشراء أن يقصد إلى جماعة من الفقراء المؤمنين فيبيعهم بالنسيئة؛ أي إلى أجل بالتقسيط، ولكن بالتقسيط الشرعي الذي لا يوجد فيه زيادة عن الثمن النقدي، وهو في هذا الحال عازم على ألا يطالبهم إلا أن تظهر ميسرتهم.
طرق تجارات السلف مع الله عز وجل :
فقد كان أحد الصالحين من السلف له دفتران للحساب، يأتي إليه أخ طيب، صادق، مخلص، رقيق الحال، فيشتري منه حاجة، ومعه ربع ثمنها، من أجل مكانته يوجد عنده دفتر خاص للإحسان في البيع والشراء، فيسجل عليه الذمة أمامه، ويقول له: حينما يتيسر لك دفعها ادفعها لي، وهو تركها من باله، ولكن أمام الزبون قيَّدها عليه، إن جاءه أو لم يأتِ حُسبت له عند الله صدقةً أو زكاةً، أو ما شابه ذلك.
فكان صالحو السلف لهم دفتران للحساب، أحدهما فيه أسماء من لا يعرفه من الضعفاء والفقراء، والدفتر الثاني لإنسان اضطر أن يستدين دينًا شرعيًا فيطالبه في وقته المناسب، أما الفقير فيسجله عليه ولا يطالبه، وإذا لم يدفعه فهذا محسوب من الزكاة أو من الصدقة، وهو ما أراد أن يعطيه على شكل عطاء لئلا يتحرج هذا الفقير، بل على شكل دين، وحينما يتيسر له المبلغ يدفعه له، فما دام فقيرًا ولم يتيسّر المبلغ لم يطالبه به، فكانوا يتفننون بإرضاء الله عز وجل بخدمة الناس.
كان الطبيب إن رأى المريض رقيق الحال يوقِّع توقيعًا خاصًّاً على الوصفة الطبية، ويقول له: خذ هذه الوصفة من الصيدلية الفلانية، وهو على اتفاق مع هذا الصيدلي، إن وجدت هذا التوقيع الفلاني تعطيه دواء من دون ثمن، وأنا أدفع ثمنه، كيف يرضي الله عز وجل؟ يحتاج إلى عمل صالح، أما الآن فيكاد المريض يموت ادفع أوّلاً إلى الموظف، ثم ادخل عليّ، هذا إذا لم يكلِّفه بتحليل ليس له لزوم، متفقًّاً مع المحلل، فهذا عمل آخر، أو إذا لم يكلِّفه بعملية ليس لها لزوم، إذْ معه سرطان ليس له حل، يفتح البطن وينتزع كتلة لحمية ويقول له: كلَّفتك ثمانية آلاف، وهو يعرف أنه لا يوجد أمل، هكذا صار الأمر ونعوذ بالله، إنه طبيب يقترح على مريض إجراء عملية لا لزوم لها ليقبض الثمن، أو طبيب يعطي مريضًا إبرة ماء مقطر ثمنها عشرة قروش، ويقول له: هذه فيتامينات، فيقول المريض: والله انتعشتُ يا أخي بعد أن أخذتها شعرت بنشاط، ولقد كان الطبيب رحيمًا وحكيمًا وناصحًا.
يقول له الطبيب الصالح المؤمن: خذ ما تريد، فإن تيسر لك فاقضِ، وإلا فأنت في حل منه، فاطمأن، فهذه طرق تجارات السلف، وقد اندثرت اليوم، ولم يعد لها مثيل، والقائم بها قليل، وبالجملة التجارة محك الرجال، وبها يمتحن دين الرجل وورعه، وقد قيل: "لا يغرنك من المرء قميص فيه رقعة، أو إزار فوق كعب الساق منه رفعه، أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه، ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه".
من أثنى عليه جيرانه و أصحابه و معاملوه فعلى الإنسان ألا يشك في صلاحه :
قيل " إذا أثنى على الرجل جيرانُه في الحضر، وأصحابه في السفر، ومعاملوه في السوق فلا تشكُّوا في صلاحه"، إذا هؤلاء جميعاً أثنوا عليه فلا تشكّوا في صلاحه.
وشهد عند عمر رضي الله عنه شاهد فقال: "ائتني بمن يعرفك، فأتاه برجل فأثنى عليه خيراً، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فعاملته بالدرهم والدينار حتى يستبين ورعه؟ قال: لا، قال: أظنك رأيته في المسجد يصلي ويقرأ القرآن، قال: نعم، قال: أنت لا تعرفه، يا رجل ائتني بمن يعرفك، هذا لا يعرفك، لا جاورك، ولا سافر معك، ولا عاملك بالدرهم والدينار، ولكن لعله رآك في المسجد تصلي وتقرأ القرآن".
وإنسان أحبّ أن يذهب إلى الحج، ومعه مبلغ من المال، وهو خائف عليه، فدخل إلى المسجد وتفرس في المصلين، فوجد رجلاً وجهه خاشع، وأعجبته صلاته، وبعد أن انتهى قال له: أنا أحببت صلاتك، ومعي مبلغ من المال أريد أن أضعه عندك وديعة حتى أعود من الحج، فقال له: أنا أيضاً صائم، فقال له: صيامك ما أعجبني، وفي رواية أخرى قال له: فإنك لا تعرفني؟ يا هذا لا يضرك أنه لا يعرفك، وقد تكون صالحًا، فانظر إلى الدقة.
شفقة التاجر على دينه :
والآن مع فصل جديد في شفقة التاجر على دينه فيما يخصه، فيكون عمره ضائعاً، وصفقته خاسرة، وما يفوته من الربح بالآخرة لا يفي به ما ينال من الدنيا، البارحة قلنا في درس السبت بعد العشاء: إنه إذا كان عند إنسان فندق خمس نجوم، بثمانين طابقًا، وكل طابق فيه خمسون غرفة، وكل غرفة ثمن حجزها ثمانمئة فرنك فرنسي، أو مارك ألماني، أو دولار، وهو محجوز سنتين بكامله، قال عليه الصلاة والسلام:
((القرآن غنىً لا فقر بعده ولا غنىً دونه))
فالذي فهم القرآن أغنى من هذا، وقال عليه الصلاة والسلام:
((من أعطاه اللّه كتابه فظن أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد غلط، وفي رواية صغر أعظم النعم))
لأنه باقٍ، والدنيا زائلة.
لا تركنن إلى القصور الفاخرة و انظر عظامك حين تمسي ناخرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب إن العيش عيــش الآخرة
***
الإنسان مهما حصّل من ربح الدنيا وفاته ربح الآخرة فهو خاسر :
مهما حصّل الإنسان من ربح الدنيا، وفاته ربح الآخرة فهو خاسر، فيكون ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، بل يجب على العاقل أن يشفق على نفسه، وشفقته على نفسه بحفظ رأسماله، وحفظ رأسماله دينه، وقال بعض السلف: "أولى الأشياء بالعاقل أحوجه إليها في العاجل، وأحوج شيء إليه في العاجل أحمده عاقبةً في الآجل"، لأنّ أحوج ما تحتاجه في الدنيا إيمانٌ، أما الآن فأهم شيء البيت والزوجة والمحل، والآخرة عليها السلام، أما أحوج شيء إليك فإيمان بالله تسعد به في الآخرة، واليوم ذكرت لأخ معنى قوله تعالى:
﴿ َولاَ َتْنَسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾
قلت له: ربنا عز وجل قال في قصة قارون:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
فهذا سمع الآية، وهو رجل منعم، قلت له: معنى الآية كأن يذهب طالب في بعثة حكومية إلى بلدةٍ أجنبية؛ إلى باريس مثلاً، حيث فيها الملاهي، والأحياء الساقطة، والمتاحف، والمسارح، والمتنزهات، والأشياء الجميلة الفاتنة، ودور سينما، والسهرات مع الأصدقاء، وفيها جامعة السوربون، فهذا الطالب الذي أوفد في بعثة رسمية ماذا يعنيه من باريس بالذات؟ الدراسة وهذه الجامعة، نقول لهذا الطالب: ولا تنسَ نصيبك في هذه البعثة، فأنت جئت إلى هنا للدراسة، فإذا درست تعود إلى بلدك معززاً، مكرماً، تحتل منصباً مرموقاً، وتنال دخلاً كبيراً، و تسكن بيتاً فخماً، وكل نعيم الدنيا ينتظرك في بلدك، فإذا حصلت الشهادة العليا في هذا البلد فنصيبك من هذه المدينة أن تحصّل الدكتوراه، فإذا حصلتها سعدت بها في بلدك فربنا عز وجل قال:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
على الإنسان أن يبتغي الدار الآخرة بما آتاه الله عز وجل :
رجل آتاه الله المال يجب أن يبتغي به الدار الآخرة، ورجل آتاه الله العلم فيجب أن يبتغي به الدار الآخرة، ورجل آتاه الله جاهًا، ورجل آتاه الله قوة، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
فإياك أن تأتي إلى الدنيا، وترحل عنها، وتنسى المهمة التي جئت من أجلها:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
خلقت لمعرفته، وخَلقتُ لك ما في السموات والأرض، وخلقتك من أجلي، وخلقتُ لك ما في السموات والأرض فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك ألاّ تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
نصيب الإنسان من الآخرة يناله من نصيبه في الدنيا :
قال لي أخ كريم: أنا أفهم الآية التالية غير هذا، قلت له: كيف؟ قال: أنْ يتمتع بالحياة، ويأخذ حظه، ويأكل ويشرب ويلبس ويذهب للنزهات، فأنت فهمتها بشكل آخر، وأنت قلبت المعنى، قلت له: السياق العام يقصد هذا المعنى
﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ﴾
قال عز وجل:
﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
فحدثتْ مناقشة بيني وبينه، فأنا أصر على أن النصيب هو معرفة الله سبحانه و تعالى، أي أنت في الدنيا علاقتك أن تعرف الله، والباقي كله زائف، فإذا عرفته سعدت بقربه، أنت في باريس أيها الطالب لك مهمة واحدة؛ أن تحرز هذه الشهادة، وما سوى ذلك لا قيمة له، وتسعد بهذه الشهادة في بلدك، وأنا أصر، وهو يصر:
﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا َ﴾
ثم قلت له: وأنا أوجه هذه الآية، فالنصيب هو الحظ، وقلت له: صحيح أنّ ما عند الله في الآخرة من سعادة لا يدرك إلا في الدنيا، وما عند الله في الآخرة من عطاء كبير وسعادة أبدية لا تدرك إلا في الدنيا، فكأن الله سبحانه وتعالى وصف المهمة التي هي سبيل سعادتك بما سيكون، والعرب تقول كذلك؛ تقول: رعينا الغيث، أي رعينا كلأً سببه الغيث، فإذا كان الحظ هو العطاء والنصيب، فنصيبك من السعادة في الآخرة لا يتحقق إلا في الدنيا، لقد أمضيتُ وقتاً طويلاً في صبيحة هذا اليوم وأنا أناقش هذا الأخ الكريم في معنى هذه الآية، واليوم قبل أن آتي إليكم؛ سبحان الله عثرت عند الإمام الغزالي على توجيه مشابه تماماً لهذا التوجيه، فأنا تفاجأت، يقول الإمام الغزالي: وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته: إنه لا بد لك من نصيبك في الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخذه، فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتأخذه، أي نصيبك من الآخرة تناله من نصيبك في الدنيا، فما عند الله في الآخرة تأخذه من نصيبك في الدنيا، ونصيبك في الدنيا الاختيار، فإذا كنت مختاراً، و عرفت الله مختاراً، وعبدته مختاراً، واستقمت على أمره مختاراً، وعملت الصالحات لأجله مختاراً، فأنت قد حققت الهدف قال تعالى:
﴿ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا ﴾
أي لا تنس في الدنيا نصيبك منها للآخرة- وهذا شرح الإمام الغزالي بالضبط- فإنها مزرعة الآخرة، وفيها تكتسب الحسنات.
شفقة التاجر على دينه تتم بمراعاة سبعة أمور :
وإنما تتم شفقة التاجر على دينه بمراعاة سبعة أمور، هذا شيء مهم جداً، لأنّ معظم الناس عملهم في التجارة، ومعظم الموظفين عملهم في التجارة، فقد قرأت مرة كتاباً لأديب مصري اسمه المويلحي، يقول في هذا الكتاب: "يا ليت آباءنا التفتوا إلى تعليمنا في المدارس فكنا استغنينا عن ممارسة التجارة، وذل البيع و الشراء، و ترويج السلعة بالأقسام والأيمان، فما العيش إلا عيش الموظفين"، أي قبل خمسين عامًا كانت الوظيفة هي أرقى شيء في الحياة، والموظف مستغنٍ، ودخله يزيد عن مصروفه عشرة أمثال، وهو عزيز، ودارت الأيام فصار التاجر دخله يغطي الحاجات، لكن دخل الموظف قد لا يغطي حاجاته، فلذلك هذه أشياء سبع مهمة جداً، أرجو أن تكون في أذهانكم وفي قلوبكم، قال: لا تتم شفقة التاجر على دينه إلا بمراعاة سبعة أمور:
أولها: حسن النية في ابتداء التجارة، أي تكون نيته منها طيبة، فينوي بها الاستعفاف عن السؤال، هذه أول نية، و كف الطمع عن الناس استغناءً بالحلال عنهم، فإذا كان للرجل دخل كاف لا يشتهي من أحد شيئًا، ولا يشتهي أن يقدم له أحد شيئًا، ولا يشتهي مال الآخرين، و لا عطاءهم، ولا هداياهم، فقد كفاه الله، فأول نية الاستعفاف بها عن السؤال، و النية الثانية الكف عن الطمع بما في أيدي الناس بالحلال، واستعانته بما يكسبه على الدين، هذه الثالثة، فيستطيع أن يحضر مجلس علم، ويستطيع أن يعين الفقراء، ويساهم في بناء مسجد، ويتمكن أن يدعوَ أخًا إلى بيته، وإذا كان مسافرًا يضيفه، فأول هدف الاستعفاف عن السؤال، والهدف الثاني الكف عما في أيدي الناس، والثالث الاستعانة بالتجارة على الدين، والرابع قيامه بكفاية العيال، أي رجل عنده زوجة، وأولاد، وله والدة، وأب، وأخ، وأخت ليست متزوجة، ينفق عليهم طعامًا وشرابًا ولباسًا، وهذا هدف كبير، ليكون من جملة المجاهدين به، فهذه النيات؛ الاستعفاف عن السؤال، والكف عما في أيدي الناس، والاستعانة بالمال على الدين، وإغناء العيال عما في أيدي الناس، هذه الأهداف لخصها سيدنا أبو ذر الغفاري فقال: "حبذا المال أصون به عرضي و أتقرب به إلى ربي"، و لينوي اتباع طريق العدل و الإحسان في معاملته، و لينوي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في كل ما يراه في السوق، فإذا أضمر هذه النيات كان عاملاً في طريق الآخرة، فإذا استفاد مالاً فهو مزيد، و إن خسر في الدنيا ربح في الآخرة، والاستعفاف عن السؤال، والكف عما في أيدي الناس، والاستعانة بالمال على الدين، وإغناء العيال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السوق، واتباع طريق العدل والإحسان، وإذا أضمر هذه النيات و لم يربح شيئاً فقد ربح الآخرة، و إذا ربح شيئاً فوقها فقد ربح الدنيا و الآخرة، فهذا التاجر الصدوق مع النبيين و الصديقين يوم القيامة.
اختلاف المصالح رحمة :
الآن سنختار الصنعة - المصلحة - البضاعة، أيْ أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات و التجارات لو تركت لهلك أكثر الخلق، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، و تكفل كل فريق بعمله، و لو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت باقي الصناعات، و هلكوا، وعلى هذا حمل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم:
(( اختلاف أمتي رحمة ))
أي لها فهم عميق جداً، وليس اختلافها في الفكر أو في العقائد، كلاّ، أي هذا يحب أن يعمل في القماش، وهذا بالألبسة الجاهزة، وهذا بالمنجور، وهذا بالحديد، وهذا بتصليح السيارات، وذاك بالكهرباء، والآخر بالألمنيوم، وإنسان بالسجاد، أو بالتنظيف، أو بالكي، أو بالتدريس، وهذا بالتطبيب، وهذا بالمحاماة، فـ:
(( اختلاف أمتي رحمة ))
لو عملوا جميعهم في مصلحة واحدة ستموت من الجوع، ومن الصناعات ما هي مهمة، ومنها ما يستغنى عنها، لرجوعها إلى طلب التنعم والتزين، فثمة مصالح مهمة جداً كتأمين أقوات الناس، وتأمين ملبسهم، وتأمين مسكنهم، وحاجاتهم الأساسية، وهناك مصالح إذا جاع الناس استغنوا عنها، عنده عصفور سعره ثلاثة وعشرون ألف ليرة، جميل جداً، والله إذا لم يجد رجل طعاماً فلا حاجة له بهذا العصفور، وهناك مصالح أساسية، وأخرى ثانوية، فإذا أكرم الله رجلاً بمصلحة أساسية بأن يكون عمله حلالاً فنعمَّا هي.
ذكر لبعض المصالح من باب الحسن و الأحسن :
والمشكلة الآن أريد أن أقرأ نصوصاً لا أريد أن يتحرج أحدٌ، لأن فيها ذكرًا لمصالح عديدة، فهنا حسن، وهناك أحسن، وليس من باب الحرام، هذا الكلام من باب الحسن والأحسن، مثلاً يشتغل بصناعة مهمة ليكون في قيامه بها كافياً للمسلمين في حاجاتهم، فصناعة النقش وتزيين السقف بالجبس مصلحة رابحة، ولكنها ليست أساسية، وكذا الصياغة و جميع ما تزخرف به الدنيا، أي إذا كان عمله بالزخرفة، فكل ذلك كرهه أهل العلم، أما إذا عمل في الملاهي والآلات فهذا حرام، أو يبيع أشرطة تسجيل فيديو، هذه قضية محرمة لأن فيها إفسادًا للأخلاق، وهناك أشياء كل شيء فيها التعامل به محرم، فأما عمل الملاهي و الآلات التي يحرم استعمالها فاجتناب ذلك من قبيل ترك الظلم، ومثلاً صياغة الصائغ لخواتيم الذهب للرجال فهذه محرمة لأن استعمال الذهب للرجال حرام، والأجرة المأخوذة عليه حرام، ولذلك فكل إنسان يتعامل بحلي الرجال فعليه زكاة على الذهب، أما حلي المرأة فهناك اختلاف، وأرجح الأقوال أنه ليس على حلي المرأة زكاة، وبيع الأكفان مكروه، والآن الناس ارتاحوا منه، فهناك دائرة حكومية لبيع الأكفان، لأن الرجل يسترزق بموت الناس، فإذا خف الموت تضايق، لا أحد يموت، وهذه مكروهة أيضاً، لأنه يجب انتظار موت الناس، وهناك بعض الأعمال متعلقة بإزالة النجاسات، وهذه أيضاً مكروهة، لأنه أصبح جميع عمله مع النجاسات، قال ابن سيرين يكره كسب الدلال، فالدلال كسبه حلال وحرام بآن واحد، لماذا؟، وكره قتادة أجر الدلال، ولعل السبب فيه قلة استغناء الدلال فيه عن الكذب، أي يلزمه أن يكذب كثيراً حتى يسير عمله، دخل دلالٌ بيتًا شماليًا، ويظهر أن المشتري مستعجل، وأعجبه البيت، فقال له: إن شاء الله قبلي؟ قال له: طبعاً، وأحضر سجادة صلاة ليصلي، فصلى باتجاه الشمال، وباع البيت فيلزمه أن يكذب طبعاً، والإفراط في الثناء على السلعة بترويجها، مثلاً دلال أقمشة يقول: هذا قماش لا يوجد منه، و لن يأتي منه إطلاقاً، ويكون هو دون الوسط، وإذا كان الدلال صادقًا فأجره حلال.
القضية في بعض المصالح ليست قضية تحريم وإنما قضية توجيه من وضع إلى وضع:
أيها الأخوة؛ لا أحد يتوسوس من نفسه، أما إذا بدأ يكذب، ويُلبِس لفة هذا لهذا، و لفة هذا لهذا فلا، مرة قال لي شخص يريد أن يبيع سيارته - والقصة قديمة- قال له: هذه ثلاثون ألفًا، وغاب اليوم الثاني، فقال له: أريد سيارة بهذه الماركة، قال له: هذه سعرها ثمانون ألفًا، يريد أن يبيعها بثلاثين، ويريد أن يشتريها بثمانين، فعندما يكذب الإنسان يصير دخله حراماً، وإن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، و إذا ائتمنوا لم يخونوا، و إذا باعوا لم يطروا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، و إذا كان لهم لم يعسروا، فهذا شيء دقيق، و لعل السبب في ذلك قلةُ استغناء الدلال عن الكذب، والإفراطُ في الثناء على السلعة بترويجها، ولأن العمل فيه لا يقدر بقدر معين، باع بيتًا بمليونين، وله خمسة وثلاثون ألفًا أخذهم في ساعتين، يقول لك: و الله كثير، مثلاً هذه النسبة عندما كان سعر البيت عشرة آلاف، أو خمسة عشر، فبالمئة اثنان هذا معقول، أما الآن فقد أصبح البيت بمليونين تظل بالمئة اثنان، وقد يكثروا ولا ينظر في مقدار الأجرة إلى عمله بل إلى قدر قيمة الثوب، حتى دلال الأقمشة يقول لك: عندك على البيعة ثمانمئة بالمئة، فتجد أحياناً أن الأجرة تندفع بشعور بالضيق، وكلها عملية ساعتين أو ثلاث، أعطى هذه المسطرة لفلان، وأحضر لك إياها، واتفقتم، يقول لك: اسمح لنا بالأجرة، ليس على قدر الجهد، وإنما على ثمن الصفقة، ومن هنا جاءت كراهية الأجر، فينبغي أن ينظر إلى قدر التعب، وهنا يوجد توجيه دقيق، إذا أمكنك أن تقيِّم قيمة الدلال بقدر التعب فأجره حلال، ونحن لا نحرم ما أحله الله، الدلال إذا لم يكذب، وإذا أخذ أجره على قدر تعبه فهذا حلال، فمثل هذا البيت حتى باعه الدلال أوصل له أكثر من مئة زبون، وقد تعب كثيراً، ثم بيع، فإذا أعطيته أجرة على قدر المحاولات غير الناجحة في بيع البيت صار الأجر حلالاً مئة بالمئة، فالقضية ليست قضية تحريم، وإنما قضية توجيه من وضع إلى وضع، وكرهوا الصرف، الذي هو حديث الناس اليوم، لأن الاحتراز فيه عن دقائق الربا عسير، وقلّما يتم للصيرفي ربح إلا باعتماد جهالة معاملته بدقائق النقد، وفي هذا الموضوع يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الصياغة، وأنا أكره الكسر "، الكسر يعني به الصرف، واستحبوا تجارة البز أي الأقمشة قال سعيد بن المسيب: "ما من تجارة أحب إلي من البز ما لم يكن فيها أيمان كاذبة"، و قد روي:
(( خير تجارتكم البز))
و في حديث آخر:
((لو أذن الله تعالى في التجارة لأهل الجنة لاتجروا في البز والعطر))
الناس في مصالح بعضها :
هذا زرع المزرعة قدم لك خياراً أكلته، وذاك نجر لك الباب فحجب عنك البرد، وآخر عمل لك نافذة من الألمنيوم فوقاك من الرياح، وغيره حاك لك هذا الثوب، وهذا خاطه، فالناس في مصالح بعضها، أما هذا الذي يجلس من أجل البيع و الشراء بالعملات الأجنبية حتى رفع السعر لدرجة عالية، ووقع قلقٌ شديدٌ، هذا ماذا قدم للناس؟ لم يقدم شيئاً، الذي زرع الأرض قدم الطعام و الشراب، والذي صنع صناعة فقد أغنانا بها عن الاستيراد إذْ قدم شيئاً ثميناً، والذي قدم لك خدمة فطببك، أو عالجك، أو درسك، أو دافع عنك أمام القضاء، فكل هذه الأعمال طيبة وتقدم خدمات، أما مَن جلس لبيع و شراء حتى ربح أرباحاً طائلة، فلم يقدم شيئًا للمسلمين إطلاقاً، وإنما بهذه المضاربات حدث هناك أزمات، وهذا شيء قديم وليس حديثًا، و السلف الصالح كان يكره هذه المصلحة، سأل الإمام أحمد بن حنبل رجلاً: ما صنعتك؟ قال: الوراقة، فقال: كسب جيد.
المصالح التي فيها مخالطة للنساء مصالح مكروهة :
كذلك المصالح التي فيها مخالطة النساء فمكروهة، لأنها مظنة فساد وفتنة، عندك صانعون؛ ثلاثة شباب غير متزوجين، والزبائن يدخلون ويخرجون، أشكال و ألوان مائلات مميلات، تلعنهن لأنهن ملعونات، فكل شيء متعلق بالنساء وأغلب الظن أنّ الزبائن رجال فهو مكروه، أمّا أنْ تدخل امرأة فهذا وضع طبيعي، إذا كان العمل قائمًا على النساء مئة في المئة.
كراهية أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات وفروض الكفايات :
و كره السلف الصالح أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات وفروض الكفايات؛ كغسل الموتى، و دفنهم، والأذان، والصلاة، وتعليم القرآن، وتعليم الفقه فإن هذه الأعمال حقها أن يتجر فيها صاحبها للآخرة، وأخذ الأجرة عليها في الدنيا استبدال الدنيا بالآخرة، وهذا لا يستحب، وسوف نتابع هذا الموضوع في درس قادم إن شاء الله، نحن قلنا: إنّ ثمّة سبعة أشياء مهمة جداً في شفقة التاجر على دينه، والكتاب ألّف في عصر قديم، فأنا لا أريد أن يكون هناك حرج على الحاضرين، لكن مثل مخالطة النساء ثابتة، والاشتغال بأمور تزيينية فيها رفاهية شديدة للناس، فهذه أيضاً إذا استطاع الرجل أن يدخل في أشياء أساسية لمصالح الناس فهذا أولى، والأشياء المتعلقة أيضاً بالنجاسات يجب على المسلم أن يترفع عنها، و الصرف كما قلنا لم يقدم للمجتمع شيئاً، وأيُّ إنسان قد يقدم شيئاً، أمّا هذا فما قدم شيئاً، إنما ساهم في تعسير الأمور على الناس بهذه المضاربات.