الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والخمسين من دروس سورة آل عمران، ومع الآية الثالثة والثمانين بعد المائة، وهي قوله تعالى:
﴿ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٍ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٌ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (183)﴾
من صفات اليهود معاندة الأنبياء:
﴿الَّذِينَ﴾ أي أهل الكتاب ﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ أيْ الذين قالوا لأنبيائهم ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٍ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ﴾ .
تعليق اليهود الإيمان بالنبي أن يأتيهم بقربان تأكله النار:
لو رجعنا إلى كتب بني إسرائيل لوجدنا أن أنبياءهم أمروهم بالتقرب إلى الله.
والقُربان بضم القاف كل شيء تتقرب به إلى الله، فالصدقة قُربان، والصوم قربان، وإعانة الفقير قربا، وأيّ عمل صالح على الإطلاق تبتغي به وجه الله قربان، والأعمال الصالحة لا تعد ولا تحصى، الكلمة الطيبة صدقة، أن تُميطَ الأذى عن الطريق صدقة، أن تُرشِد الرجل الضّالّ صدقة، أن تطعم فقيراً، أن تعين أرملة، أن تعود مريضاً، أيّ عمل صالح على الإطلاق هو في حقيقته قُربة إلى الله، والله عز وجل حينما يقول:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوٓاْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِى سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)﴾
أي ابتغِ إلى مرضاته سبباً، لو أن الأمور كلها بيد مَلِك، ولا تستطيع أن تصل إليه ما نفعك منه؟ لا تستطيع أن تقابله، ولا أن تصل إليه، ولا أن تخط له رسالة، لكن الله سبحانه وتعالى وهو ملك الملوك لمجرد أن تسأله يعطيك، أن تدعوه يجيبك، وجعل لك إليه ألف طـريق وطريق، جعل إلـيه طرائق؛ يكفي أن تكون أباً كاملاً ، فهذا طريق إلى الله، يـكفي أن تكوني أماً كاملة فهذا طريق إلى الله، يكفي أن تكوني زوجة صالحة فهذا طريق إلى الله، يكفي أن تكون ابناً باراً طريق إلى الله، يكفي أن تكون مُبتلى صابراً، الصبر طريق إلى الله، يكفي أن تكون منفقاً والإنفاق طريق إلى الله، يكفي أن تكون ناصحاً النصح للمسلمين طريق إلى الله، يكفي أن تكون أميناً فهذا طريق إلى الله، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، وأيُّ عـملٍ صالح تبتغي به وجه الله فهو عند الله قربان، أن توزع اللحم على الفقراء قربان، أن تضحي يوم عيد الأضحى المبارك قربان، أن تغض البصر عن محارم الله قربان، فالمؤمن همه الأول التقرب إلى الله، أعطاك الله عز وجل ملايين الوسائل، وأنت في البيت لك إليه ألف طريق وطريق! وأنت في الطريق كلما غضضت بصرك عن امرأة لا تحل لك هي لك قربان، وأنت في مركبة عامة، لو وقفت لعاجز كبير السن فهذا قربان، لو أطعمت عصفوراً، لو سقيت كلباً، امرأةٌ بغِيّ غفر الله لها لأنها سقت كلباً.
حينما تعلم أنه إذا وصلت إلى الله وصلت إلى كل شيء، وإذا لم تصل إليه لم تصل إلى شيء، هذه حقيقة كبيرة، فلذلك المؤمن بعد أن آمن الإيمان الذي أراده الله، والإيمان الذي حمله على طاعة الله، ليس في حياته شيء أهم من أن يعمل صالحاً، لأن العمل الصالح العملة الرائجة في الآخرة.
هل تستطيع أن تسافر إلى بـلد بعيد دون أن تحمل من عملته؟ اذهب إلى بلاد بعيدة، وخذ معك العملة السورية، لا تُقبَل هناك تقبل هنا في بلادنا، أو بلاد مجاورة لنا تقبل، أما هناك فلا تُقبَل، العملة المتداولة في الآخرة العمل الصالح، وأكبر دليل على ذلك أن الإنسان إذا شارف الموت لا يندم إلا على عمل صالح فاته.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾
الإيمان مقرون بالعمل الصالح والتقرب إلى الله:
بالمناسبة أيها الإخوة، وأنا مضطر لذكر هذه الحقيقة، وهي مؤلمة، لكنها حافزة، أنت حينما آمنت بالله ماذا فعلت؟ أنا أقول لك: ما فعلت شيئاً! توضيح ذلك: الشمس في رَابِعة النهار، وأنت في أمس الحاجة إلى أشعتها، لو أن واحدًا معه مرض جلدي، دواؤه الوحيد التعرض لأشعة الشمس، فإذا جلس في غرفة قميئة مظلمة، والشمس خارج الغرفة ساطعة، ثم قال: أنا مؤمن أن الشمس ساطعة، إن شاء الله خير، لم تنتفع بها، يا لها من شمس ساطعة! إنها في كبد السماء! إنها في رابعة النهار! كل هذا الكلام فارغ ما لم تخرج من غرفتك لتتعرض إلى أشعة الشمس، فإيمانك بسطوع الشمس لا يقدم ولا يؤخر، أنت إذا آمنت فقط ما فعلت شيئاً، لأنك إن لم تؤمن اتُّهمت في عقلك، وإن آمنت ما أضفت شيئاً، لكن الله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا(110)﴾
﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19)﴾
هناك مائتا آية تقريباً ما ذكر الله الإيمان إلا وقرَنَ به العمل الصالح. إذاً: حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، وإذا كنت حَصيفاً ومُوفَّقاً تحاسب نفسك كل يوم، هذا اليوم مضى من عمري ماذا فعلت به؟ أكلت ونمت نوماً مريحاً، نمت ثماني ساعات متواصلة، استيقظت كأنني حصان، أكلت أكلة لم أتذوقها من شهر، هذه لك، اسأل ماذا قدمت للآخرة؟ يا رب أنا كنت صادقًا، صدقك أراحك، ورفع مكانتك بين الناس، أنت قبضت الثمن في الدنيا، يا رب أنا كنت أمينًا، الأمين موثوق، جاءتك خيرات كثيرة لأنك أمين، يا رب أنا غضضت بصري عن محارم الله، سعدت بزوجتك، لكن الله يقول لك: ماذا فعلت من أجلي؟
مثلاً للتقريب: ابن يعاتبه أبوه، يا أبتِ لم أنم حتى أنظف أسناني، قال: لك أسنانك، يا أبتِ كتبت وظائفي، لك شهادتك، يا أبتِ فعلت كذا لك، ماذا فعلت من أجلي؟ ماذا قدمت لله عز وجل؟ هل دللت إنساناً شارداً؟ هل أطعمت فقيراً؟ هل أخذت بيد صديق، أو زميل، أو جار، أو أخ إلى الله عز وجل؟ هل دعوت إلى الله؟ هل بذلت من مالك؟ دائماً اعتقِد أن الاستقامة تسلم بها، لكنها لا تسعدك، بينما العمل الصالح تسعد به، الاستقامة سلبية، ما اغتبت، ما أكلت مال حرام، ما كذبت، كلها "ما"، لكن ماذا فعلت؟ ماذا قدمت؟ هنا المشكلة الكبيرة، المسلمون يعانون ما يعانون، ماذا فعلت أنت من أجلهم؟ أحياناً تربي ابنك ليكون عنصراً نافعاً جيد، تربية ابنك هذا عمل جيد وإيجابي، حجّبت بناتك لئلا يغروا الشباب في الطريق، هذا عمل إيجابي.
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح:
كلما فعلت شيئاً تقرباً إلى الله عز وجل ارتقيت عند الله، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، لذلك ترى إنسان من ثلاثين سنة لا يغيب عن درس علم، لكن لم يقدم شيئاً للدين، إلى أين؟ إلى المسجد، من أين؟ من المسجد، أنت ماذا فعلت؟ دققوا في هذه الآية:
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ ۚ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)﴾
﴿ وَلِكُلٍّۢ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)﴾
عملك يرفعك عند الله، فهنا يقول الله عز وجل طبعاً هذا الاستطراد بسبب كلمة "القربان" هل قدمت قرباناً إلى الله عز وجل؟ هل مشيت مع أخ في حاجته؟
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، الصحابة الكرام فتحوا البلاد، وصلت رسالتهم إلى أطراف الدنيا، المسلم الآن ماذا فعل؟ محمول، ولم يحمل شيئاً، إذا تديّن يقال عنه: ما شاء الله، صاحب دين، شيخ، يُكرَّم، يُعظَّم، يُبجَّل، يُدعى إلى الولائم، ماذا قدمت أنت؟ ماذا قدمت؟ الصحابة حتى وصل هذا الدين إلينا بذلوا أرواحهم، ودماءهم، وأكلوا ورق الشجر.
السؤال الكبير: مـاذا قدمت للمسلمين؟ إنسـان يقدم مـاله، يملك المال، إنسان يقدم علمه، إنسان يقدم خبرته، إنسان يقدم مهارات يتقنها، أما ألّا تقدم شيئاً أبداً وأنت مؤمن، وتظن نفسك فوق الناس جميعاً؟ إن آمنت دون أن تعمل ما فعلت شيئاً.
هذه كلمة لعلها قاسية: إن آمنت دون أن تفعل شيئاً فما فعلت شيئاً، لأن الذي يرفعك عند الله عملك الصالح.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ ۚ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُوْلَٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)﴾
لابد من السعي لنفع الناس وإعانتهم:
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، تزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
وفَّقْت بين زوجين، أطعمت يتيماً، رعيت طالب علم، أنفقت من مالك، ساهمت بتأسيس مشفى، أو ميتم، معهد تحفيظ قرآن، معهد شرعي، ألفت كتابًا، وزعت شريطًا، عملت عملاً طيبًا، إنسان بلا عمل مُتصَحِّر القلب، الإنسان بالعمل يتألق.
هناك مثل أردده كثيراً: مجند التحق بلواء، وفي هذا اللواء مِن عريف حتى اللواء، هل يستطيع هذا المجند الغِرّ بحكم النظام العسكري أن يدخل على قائد اللواء؟ مستحيل، قبله عشرون أو ثلاثون رتبة، لكنه يستطيع بحالة واحدة؛ إنْ رأى ابن هذا اللواء يُشرِف على الغرق، فألقى بنفسه وأنقذه، في اليوم التالي يدخل على قائد اللواء من دون استئذان، قل له: فلان، قد يقف له، ويرحب به، ويجلسه على مكانِ تكرِمَةٍ، ويقدم له ضيافة، وهو جندي، لماذا؟ لأنه قدّم عملاً صالحاً، أنت حينما تنفق مالك في سبيل الله، حينما تمسح دمعة من خدٍّ بائسٍ، حينما تشبع جائعاً، حينما تلبي حاجة إنسان، شخص تعرفه جيداً، وصديق لك، وهناك مؤمن ضعيف له عنده قضية، حينما تذهب معه، وتعرِض له قضيته، وتشفع له، ترقى عند الله، لا أحب أن أبذل ماء وجهي لأحد، لأنه أناني، تعرف شخصًا مهمًا، هذا الشخص بإمكانه أن يحل مشكلة، ويرفع ظُلامة، لا تتنازل أن تذهب إليه: أنا لا أبذل ماء وجهي، ضننْتَ بهذا العمل، فيُضَنّ عليك يوم القيامة، هذا الذي أرجوه من إخوتي المؤمنين، هذا الكلام واللغو، الآية الفلانية، والحديث الفلاني، والقضية الخلافية هذا شغل المسلمين الشاغل، دعكم من هذا، واعملوا أعمالاً صالحة، الناس لا ينجذبون إلى الدين بفلسفتكم، ولا بتحليلاتكم، ولا بمحفوظاتكم، بل بأعمالكم الطيبة، إن أردت أن تكون داعية كبيراً فأحـسِن إلى الناس، الإحسان قبل البيان.
هذا الكلام سُقتُه من كلمة قـُربان، هل لك شيء تتقرب به إلى الله عز وجل؟ هل لك عمل طيب تعرضه على الله يوم القيامة؟
ألخص ما قلته: بعد أن تؤمن الإيمان الذي يحملك على طاعة الله فلا شيء في حياة المؤمن يفوق أن تعمل عملاً صالحاً تبتغي به وجه الله تعالى.
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، بحجم إنفاقك، بحجم دعوتك إلى الله، وبحجم خدمتك للناس، بحجم حل مشكلات الناس، في كل قضية ينسحب، ليس لك مصلحة، دَعكَ مرتاحًا، "امشِ في جنازة ولا تمشِ في زواج"، لا يقبل أن يسهم في زواج أبداً، يقول: أفضل لي، ولا يريد أن يساعد إنسانًا، ولا يقابل إنسانًا مهمًّا، يقول لك: لا يساعدون، الناس ليس فيهم خير، هو وحده الذي ليس فيه خير، هذا النمط من الإنسان الأناني يحب أن تُقدَّم له الخدمات دون أن يقدِّم خدمة لأحد، يحـب أن يأخذ جهد الآخرين، دون أن يبذل جهداً لأحد، هذا إنسان صغير عند الله جداً، ويوجد إنسان كبير يعيش همّ المسلمين، يدمى قلبه إن جاءت الأخبار على غير ما يريد، يدمى قلبه، لا يشمت أبداً، لا يقول: هؤلاء مقصرون فدمّرهم الله عز وجل، ليس هذا من أخلاق المؤمن أبداً، الأنبياء ابتُلوا.
فيا أيها الإخوة، هذا الكلام سِيقَ على كلمة قربان، بنوا إسرائيل ﴿قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٍ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ﴾ .
جاءكم قربان أكلته النار فلماذا كذبتم بالأنبياء؟
تروي كتبهم أنهم إذا قرّبوا قربانًا إلى الله عز وجل نزلت نار من السماء فأحرقته، هكذا تروي كتبهم، الذي جاءهم بهذا القربان وأكلته النار، لماذا عصيتموه؟ انظروا إلى هذه الحجة القوية.
وازن بين عمل المسلم الضعيف وعمل اليهود:
أحياناً يقول لك إنسان: أنا أحتكم إلى الشرع، جيد، لمَ لمْ يحتكم إلى القضاء؟ لأنه عنده إدراك عميق أنه لا تُحَلّ مشكلته بالقضاء، القوانين ليست في صالحه، يلجأ إلى الشيوخ، وفي موضوع ثان، يأتيه حكم العلماء، فلا يقبل به، لمَ قبلت حكم العلماء في قضية لا حل لها في القانون، وفي حكم آخر لم تقبله؟ فالقضية انتقائية، وهذا الذي ينتقي إنسانًا ليس مؤمناً الإيمان الكامل، فيه زَيغ، ومخاتلة، ومخادعة.
إن كنت صادقاً فتقبل الحكم الشرعي إن كان لصالحك أو لغير صالحك، قضية مبدأ.
الله رد عليهم: هذا النبي الكريم الذي جاءكم بقربان أكلته النار لماذا عصيتموه؟ الآن تدّعون أن الله عهد إليكم ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، سابقاً الذي جاءكم بقربان أكلته النار لمَ عصيتموه؟ القضية الانتقائية خطيرة جداً في الدين، يعجبه من الدين العمرة، يركب الطائرة، ينزل في فندق خمس نجوم، يُدعَى إلى ولائم، يطوف سبعة أشواط، تعجبه العمرة تماماً، لكن لا يعجبه غض البصر! تعجبه التجارة، ولا يعجبه تحريم الربا، يريد أن يستثمر أمواله، يعجبه أن يضعها عند الكفار، فإذا حدثت أزمة ما جُمّدت، سبعمائة مليار ضاعت على مسلمين وضعوها في بلاد الكفر! فهذا الذي يعجبه، ولا يعجبه ليس مؤمناً، هذا الذي ينتقي من العبادات ما يعجبه، ويرفض ما لا يعجبه، هذا الذي يأخذ من الدين ما يروق له، ويدع ما لا يروق له هذا انتقائي، ويعبد ذاته، يعجبه أن يقيم مولدًا، والله شيء جميل، مسبح مختلط، أقام فيه مولد، وجاء بالدعاة، وألقوا كلمات، وأثنوا عليه، أبو فلان بارك الله بك، أعجبه أن يقيم مولدًا في المسبح المختلط، لكن ما أعجبه أن يكون هذا محرماً عند الله عز وجل، هذا حال المسلمين، ولا يخفى عليكم، وبسبب هذه الأحوال التي لا ترضي الله، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله.
أرأيتم في تاريخ المسلمين حالاً من الضعف، والتمزق، وتفرق الكلمة، والخوف، والوجل، والخضوع كهذا الوقت؟ لأنهم هان أمر الله عليهم، فهانوا على الله، ولو أنهم اعتزوا بالله لأعزهم، ولو أنهم انتصروا لدينه لانتصر لهم، حينما لا يُقام لأمر الله قيمة، وحينما لا يُتبَع منهج الله عز وجل المصائب تترى.
حدثني أخ كان في بلد إسلامي في شمال إفريقيا يطبق هذا القانون، الزوجة إذا طلقها زوجها تستحق نصف أملاكه، أقسم لي بالله، وابنته هناك زارها لم يعد هناك زواج، فصار والد الفتاة يقدم سند أمانة بمبلغ فلكي لخاطب ابنته، فيما لو طالبناك بنصف ثروتك طالِبنا بهذا السند! من أجل أن يرضى أن يتزوج ابنته، قال تعالى:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (14)﴾
خالق الكون وضع نظام المَهر، لكن لم يجعل نظام نصف الأملاك، ومع الأسف الشديد نساء مسلمات، وبعضهنّ داعيات إذا طلقهنّ أزواجهنّ يحتكِمن إلى قاضٍ مدني، لا إلى قاضٍ مسلم، لتأخذ نصف مال زوجها هناك، فحينما يهون أمر الله على المسلمين يهونون على الله.
﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّامٍ لِّلۡعَبِيدِ (182) ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٍ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ قُلۡ قَدۡ جَآءَكُمۡ رُسُلٌ مِّن قَبۡلِي بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَبِٱلَّذِي قُلۡتُمۡ فَلِمَ قَتَلۡتُمُوهُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (183)﴾
هذا حوار منطقي.
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ (184)﴾
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
من السنن الجارية أن يكون للنبي والمسلم أعداء:
بربكم هل في الأرض كلها من آدم إلى يوم القيامة إنسانٌ أكملُ من النبي عليه الصلاة والسلام؟
خُلِقْتَ مُبَرَّءاً مِن كُلِّ عَيبٍ كأنّك قد خُلِقتَ كمَا تشاءُ
ومع ذلك ألم يكن له أعداء؟ ألم يكن له مبغِضون؟ لأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية. ثم يقول الله عز وجل:
﴿ كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ (185)﴾
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
حقيقة مهمة : كل مخلوق يموت مهما اعتنى بنفسه:
هل يستطيع كائن مَن كان أن يشكّ في هذه الحقيقة؟ الملوك ماتوا أم لم يموتوا؟ الأنبياء ماتوا أم لم يموتوا؟ الأغنياء ماتوا أم لم يموتوا؟ الذين اعتنوا بصحتهم إلى درجة خيالية في النهاية ماتوا، سمعت عن رجل من أهل الفن ما ركب طائرة في حياته خشية أن تقع، وما أكل مساءً إلا فاكهة طوال حياته، وما أكل إلا لحماً أبيض اللون، لأنه خفيف، ومارس الرياضة، وما ترك شيئاً يحمي له صحته إلا فعله، ثم مات.
﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ﴾ اعملوا ما شئتم، كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
واللّيـــلُ مهمـــــا طـــــــــالَ فلا بدّ من طُلــــوعِ الفجْـــــرِ
والعُمـــرُ مهمــــا طـَـــــــالَ فلا بدّ مـــن نُـــزولِ القَبـــــرِ
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمـــولُ
فـإذا حملتَ إلى القبـــــورِ جنــازةً فـاعلمْ بأنّك بعدَهــــــــا محمـولُ
يكون الإنسان ملء السمع والبصر، فإذا في طرفة عين يصبح خبراً على الجدران، المرحوم فلان، المهندس، الطبيب، عميد أسرتهم، الحاج، أو له منصب رفيع، هكذا يُكتب على ورقة النعي، لذلك سيدنا عمر يقول: "اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله. ))
[ المستدرك على الصحيحين ]
مرة وجدت شريطًا في بيتي، نسيت ما هذا الشريط، فإذا هو رسالات إجابة على الهاتف، استمعت إليه قبل اثني عشر عاماً، فوجئت أن خمسة عشر إنسانًا في هذا الشريط لاقَوا وجه ربهم، شريط اتصال هاتفي، هنا فلان؟ لا ليس هنا، سمعت هذه الأسماء خمسة عشر إنسانًا في هذا الشريط لقوا وجه ربهم، والآن هم تحت أطباق الثرى، ونحن كذلك، وهؤلاء الحاضرون، وأنا معكم بعد مائة عام هل يوجد أحد منا على سطح الأرض؟ هكذا كل مخلوق يموت، لذلك: ﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ﴾
العاقل اللبيب مَن يعدّ لهذه اللحظة عدَّتها:
من هو البطل؟ والله، ثم والله، ثم والله، ما وجدت إنسانًا أعقل ممن أعدّ لـهذه الساعة التي لا بد منها، الإنسان حين يُولَد كل من حوله يضحك، وهو يبكي وحده، حينما يغادر الدنيا حوله أولاد شباب، وأصهار، وبناته، كلهم شباب، أما هو فأصبح في جسمه خمسون علة، يريد أن يغادر الدنيا، كل من حوله يبكي، طبعاً إذا كان محسناً، أما إن لم يكن محسنًا فيهنؤون بعضهم
مرة إنسان بخيل جداً أصابه مرض فجاؤوا بطبيب، وقبل أن يموت قال لهم: حالة عرضية، فتألم أهله، ماذا تقصد؟ خيّب الطبيب ظنهم، أما إذا كان الأب مُحسِنًا فكل من حوله يتمنى بقاءه، فإذا مات كل من حوله يبكي، فإذا كان مع الله على استقامة، وعلى عمل طيب يضحك وحده، المشكلة أن تضحك آخراً لا أولاً.
هناك الملايين يضحكون الآن؛ الذين قصفوا، وقتلوا خمسمائة ألف بُرَآء، لا علاقة لهم بالأحداث إطلاقاً، وتغطرسوا، وخرجوا يتبجّحون، انتصرنا، مثل بطل ملاكمة، أمسك طفلاً عمره أربع سنوات فضربه ضربتين ساحقتين، وقال: أنا هكذا، هذا مجنون، انتصرت على من؟ على جهة ضعيفة جداً، فقيرة جداً، لا يوجد أي تناسق بين ما عندك وما عندها، هذا ليس نصراً، النصر يكون على عملاق من مستواك، هذا هو النصر. على كل، أنت حينما تُعِدّ لهذه الساعة التي لا بد منها تكون أعقل الناس.
سمعت البارحة عن إنسان لعله صالح، ولا أشك في صلاحه أبداً، اشترى بيتًا، وكساه في أربع سنوات، ثم ما دخله إلا جثة هـامدة، قبل أن يسكنه بيومين أُصيب بأزمة، أُخِذ إلى المشفى، بقي فيها عشرين يومًا، ثم توفاه الله عز وجل، ثم دخل إلى البيت ليُغسَّل!
احذروا مداخل عدوّكم إبليس:
هذه الدنيا لا تحتاج إلى هذا الاهتمام، لذلك بماذا يوسوس الشيطان؟ يبدأ بالكفر، فإن رأى العبد على إيمان ينتقل إلى الشرك، يُغريه أن يشرك، فإن رأى العبد على توحيد ينتقل إلى الكبائر، فإن رآه على طاعة يغريه بالصغائر، فإن رآه على ورَع ماذا بقي؟ لا بالكفر قبل، ولا بالشرك قبل، ولا بالبدع قبل، ولا بالكبائر قَبِل، ولا بالصغائر قَبِل، بقي مع الشيطان ورقتان رابحتان؛ يغريه بالتحريش بين المؤمنين، يشقّ صفوف المسلمين، أنت كيف تصلي؟ أنت كيف تحرك إصبعك؟ يقيم عليها مشكلة، المنبر كم درجة؟ يُقام عليها مشكلة، يُغرى بالتحريش بين المؤمنين، فإذا نجا من هذه بقي أمامه ورقة رابحة وحيدة، يغريه بالمباحات، يمضي عمره في تزيين حياته، وقد يأتي ملَك الموت قبل أن ينتهي من خططه ونجاحاته.
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فيا أيها الإخوة ﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ﴾ معنى ﴿تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ﴾ أي تأخذونها كاملة.
الدنيا لا تصلح جزاء وعطاء:
أما في الدنيا توجد دفعات على الحساب، قد يُكافَأ بعض المحسنين تشجيعاً لبقية المحسنين، وقد يُعاقَب بعض المسيئين ردعاً لبقية المسيئين، لكن الحساب الختامي، والترصيد وتوفية الجزاء يوم القيامة ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ﴾ ولو كنت من أصعب الناس حياة، حياة خشنة، فقر، وضيق، وانتهى بك المقام إلى الجنة، فأنت الرابح الأول.
للإمام علي كرم الله وجهه قول رائع يقول: "يا بني ما خير بعده النار بخير" قال تعالى:
﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)﴾
دعاء سيدنا إبراهيم قال:
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
قال الله له: ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ والله قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ ۗ قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾
لأنه محدود، وينتهي بالموت، لأن الإنسان مهما يكن غنياً ينتقل من كل شيء إلى لا شيء، القبر معروف أنه لا فيه رفاه إطلاقاً، والكفن أرخص أنواع الأقمشة، لا بدلة ممتازة للعروس فرضاً، بل كفن خام، أسمر لا جيب فيه، ولا دفتر شيكات، ولا شيء، من كل شيء إلى لا شيء فجأة، في ثانية واحدة.
قبل أيام الرجل صاحب هذا البيت مصدر أُنْس للأهل، فإذا فارق الحياة خاف أهله من الدخول إليها! يتشاءمون من غرفته، هذه المشكلة، كل ما تملك ما دام القلب ينبض، كل ميزات الحياة منوطة بضربات القلب، وباتساع الشريان التاجي، وبسيولة الدم فقط، فإذا تجلّط الدم في العروق مات الإنسان، وإذا وقفت حركات القلب انتهت حياة الإنسان، كل شيء يملكه يصبح لغيره.
سمعت عن واحد عاش ببلد نفطي كبير، جمّع خمسة أو ستة آلاف مليون، هو في رحلة إلى تركيا، وهو بالفندق جاءته أزمة قلبية أودت به، بثانية كل هذه الأموال انتقلت إلى غيره، هذه الدنيا: ﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ لكن:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(14)﴾
﴿قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ أُعطِي قارون المال، والله لا يحبه، أُعطِي فرعون المُلك، والله لا يحبه، أُعطِي الأنبياء العلم والحكمة، وهو يحبهم، فانظر عطاؤك من أي نوع؟ هناك من يملك الرقاب، وهناك من يملك القلوب، الأنبياء بكمالهم ملكوا القلوب، والأقوياء بقوتهم ملكوا الرقاب، والأنبياء لهم أتباع، والأقوياء لهم أتباع، أنت أتباع من؟ الأنبياء لهم أتباع، والأقوياء لهم أتباع، الأقوياء ملكوا رقاب الناس بقوتهم، والأنبياء ملكوا قلوب الناس بكمالهم.
أيها الإخوة الكرام، نتابع الآية الكريمة: ﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ﴾ .
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
هذا هو الفوز العظيم بميزان القرآن الكريم:
الآن: ما هو الفوز العظيم؟ أن تملك قوة كبيرة جداً؟ لا، أن تنتصر في حروب؟ لا، أن تعيش في حياة ناعمة؟ لا، أن تسكن في أجمل بيت؟ لا، أن تركب أجمل مركبة؟ لا، أن تملك ملايين مملينة؟ لا، أن تتزوج امرأة ساحرة؟ لا، قال: ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ﴾ هل أنتم مصدقون ربكم؟ ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ الفوز الحقيقي، والفلاح الحقيقي، التفوق، العقل، الذكاء، أن تُزحزَح عن النار وتدخل الجنة.
فإذا أكرمنا الله عز وجل، وأوصلنا إلى القبر في عافية من الذنوب فهذه نعمة كبرى أنعم الله بها علينا.
إخواننا الكرام، هذا المطمح الكبير، هذا شعار كل مسلم، لو كنت فقيراً، لو كنت مريضاً، لو كنت في أمة مقهورة لا مشكلة.
﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ﴾ هذا المقياس الحقيقي، هذا مقياس خالق الأكوان، هذا مقياس القرآن، الدنيا تغرّ، وتضرّ، وتمرّ.
قد تجد إنسانًا لا يملك ثمن دواء، وقد تجد إنسانًا صنبورٌ في بيته يعادل ثمن بيت، هكذا حدثني بعض الإخوة! صنبور في بيت يساوي ثمن بيت! قد تجد إنسانًا غارقًا في النعيم، لكن الله لا يحبه، وقد تجد إنسانًا فقيرًا، لكنه مستقيم على أمر الله.
العمل الصالح يرفعك عند الله، إخلاصك يرفعك، استقامتك ترفعك، فلذلك أيها الإخوة، شعار كل مسلم، والهدف الأكبر، الفلاح في مقياس القرآن، النجاح عند خالق الأكوان، أن تُزحزَح عن النار، وأن تدخل الجنة.
يبدو أن صديقًا له صديق غني مُترَف، وهو في الجنة، هذا الصديق الأول المؤمن تذكر صديقه، قال:
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ(52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ(53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)﴾
الغنى والفقر بعد العرض على الله، الدنيا لا قيمة لها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
أيها الإخوة، تكاد تكون هذه الآية أهم آية الآن نحن بحاجة إليها: ﴿فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ﴾ عندك مطعم خمس نجوم، دخلك اليومي فلكي، لكن تبيع فيه الخمر، ومطعم بطرف المدينة يقدم الحمص فقط، والفلافل، لكن الدخل يكفي مصروف صاحبه، وصاحبه فقير، صاحب هذا المطعم البسيط البَسيط الذي ليس له إلا القليل من الزبائن، والدخل يكاد يغطي الطعام والشراب أفضل مـن مطعم خمس نجوم فيه خمر، هناك حِرَف كثيرة، وأموال طائلة، أساساً أغنى أغنياء العالم تجار المخدرات، يقول: غسيل الأموال، ما معنى غسيل الأموال؟ هذه كلها أموال مخدرات، أكبر تجارة الأسلحة، كلها عقود إذعان بالعالم، أرقام الأسلحة فلكية، ثم الأدوية الزراعية، قتل الإنسان أربح شيء، وقتل الحيوان، وقتل النبات، هكذا.
على كلٍّ حينما تؤمن فلك مقياس، حينما تؤمن فعندك ميزان.
الإيمان بالآخرة يقلب الموازين:
والله أيها الإخوة، حينما نؤمن إيماناً حقيقياً بالدار الآخرة -دققوا فيما سأقول- يجب أن تنعكس موازيننا، ترى الفلاح في العطاء لا في الأخذ، ترى الفلاح في حياة خشنة، لكنها في طاعة الله، لا في حياة ناعمة، لكنها في سخط الله، لكن على أن تؤمن، إذا آمنت ترى الخشونة مع الطاعة هي السعادة، وترى النعومة مع المعصية هي الشقاء، لذلك في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
﴿كُلُّ نَفۡسٍ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ تغر وتضر وتمر.
كان عند رجل دُعابة؛ يكنس محله بسوق الحميدية، ويضع قمامته في علبة فخمة، ويلفها بورق هدايا، ويجعل لها شريطًا من خيط فخمٍ، ويضعها على الرصيف، فيأتي إنسان فضولي ليرى إن كان فيها قطعة ألماس، يحملها، ويعدو، يلحق به، بعد مائتي متر يفك الشريط، وبعد مائتي متر أخرى يفك الورق، وبعد مائتي متر ثالثة يجد قمامة المحل بالعلبة فيُصعَق، هكذا الدنيا والله، لكن عند الموت.
في بداية الحياة المال كل شيء، في المنتصف هو شيء، أما في النهاية فلا شيء، في البدايات المرأة كل شيء، في المنتصف هي شي، في النهاية لا شيء، فكلما ازددت قرباً من الله صغرت الدنيا في عينيك.
كل بطولتك أن تكون مطيعاً لله عز وجل، ولا تعبأ بهذه المقاييس المزيفة.
الملف مدقق