الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
فرز الناس يوم القيامة إلى ثلاث زمر:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني من سورة الواقعة ومع الآية الواحدة والأربعين وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)﴾
تحدثنا في الدرس الماضي عن أن الناس جميعاً يوم القيامة يفرزون إلى زمر ثلاثة: إلى سابقين، وإلى أصحاب اليمين، وإلى أصحاب الشمال:
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)﴾
هؤلاء الذين باعوا أنفسهم في سبيل الله، وقتهم، وعلمهم، ومالهم، وطاقاتهم، وإمكاناتهم كلها موظفة في سبيل الخير.
وأما أصحاب الشمال فهم المكذبون الضالون، هؤلاء لهم مصير أسود يوم القيامة، إنما أصحاب اليمين هم المقتصدون الذين طبقوا منهج الله عز وجل، واستحقوا الجنة ولكن بمرتبة أقل من السابقين السابقين.
صورة من صور عذاب أصحاب الشمال يوم القيامة:
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)﴾
أي رياح شديدة تصل إلى مسام جلودهم، وهذه الرياح حارة جداً تشوي جلودهم، قوة وحرارة: ﴿فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ﴾ طبعاً الهواء الساخن يلفح الوجوه، والماء يغلي الأمعاء، والظل هو دخان النار، لونه أسود، وهو ظلّ، لكنه:
﴿ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)﴾
حار يلفح الوجوه أيضاً، فصورة مرعبة، رياح سموم تصل إلى مسام الجلد لشدتها، ورياح حارة تلفح الوجوه لحرارتها، والماء يغلي، والظل دخان النار الكثيف الأسود.
الظل يوم القيامة بالنسبة للكافر هو دخان النار الكثيف:
﴿ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)﴾
هذا الظل لا يضفي على من استغله برداً، وسلاماً، وسكينة، ولا يشعر بنشاط وهو تحت الظل، الإنسان إذا شعر بالحر الشديد ضاقت نفسه، فإذا جلس في ظلّ شجرة روحت نفسه وتنشطت، فهذا الظل: ﴿لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾ أي حتى الظل من دخان أسود: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ﴾ .
العذاب الشديد لمن انغمس بالملذات وابتعد عن منهج الله:
أيها الإخوة؛ هذا كلام الله:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
هذا كلام الله ووعيده محقق، وكل إنسان شرد عن الله شرود البعير، وانحرف في منهجه، هذا مصيره.
﴿إِنَّهُمْ﴾ هؤلاء الذين في سموم وحميم، وظلّ من يحموم، لا بارد ولا كريم:
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)﴾
المترف هو الذي ينغمس في الملذات إلى قمة رأسه، ينفق المال بغير حساب، همه شهوته، همه متعته، همه بطنه، همه فرجه، همه أن يستمتع بالدنيا إلى أقصى درجة، قال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ طبعاً المترفون في القرآن الكريم قرنوا دائماً مع الكفار.
أشدّ أنواع الذنوب الشرك بالله:
﴿ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)﴾
الحنث هنا هو الذنب، والذنب العظيم هو الشرك، الإنسان أحياناً يكون ضالاً فتلفت نظره يقول لك: جزاك الله خيراً، أما الإنسان المعاند الذي يُصِرّ على ذنبه، وعلى خطئه، وعلى شكه، هذا له في الآخرة عذاب أليم: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ الحنث العظيم هو الذنب العظيم، وأشدّ أنواع الذنوب هو الشرك بالله:
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)﴾
المؤمن يوظف حظوظه في طاعة الله:
يوجد إصرار، إذا وصل الإنسان إلى الإصرار هلك، المؤمن لا يُصِر على شيء، يرضى بقضاء الله وقدره.
(( عن صهيب: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))
لو أن الله سبحانه وتعالى منعه شيئاً أو حرمه شيئاً أو زوى عنه شيئاً يرضى، وفي الدعاء الشريف:
(( عن عبد الله بن يزيد الخطمي: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ. ))
[ الترمذي: حديث حسن غريب ]
أي أنت بين حالين: إما أن شيئاً تريده وصلت إليه، وإما أن شيئاً زوي عنك، فإن كان الذي وصلت إليه فينبغي أن يوظف في الخير، وفي خدمة الخلق، والخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، المؤمن أيها الإخوة -وأذكر هذا كثيراً-الحظوظ التي نالها من الله يوظفها في طاعته، يوظفها في الخير، يوظفها في الحق، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾
الكافر يوظف حظوظه في مصالحه الشخصية:
المؤمن الصادق يوظف اختصاصه، أو علمه، أو خبرته، أو ماله، أو جاهه في خدمة الناس، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، أما غير المؤمن فهذه الحظوظ إما أن يوظفها لمصالحه الشخصية أو للعدوان على الآخرين، إذاً: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ والحنث العظيم هو الذنب العظيم الذي هو الشرك، وأذكر هذا كثيراً أن الله سبحانه وتعالى ما ألح في القرآن الكريم على أن الله هو الخالق، ألح على أن الله هو المسير، الأمر كله بيده:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
إنك إن أيقنت أن الأمر كله بيده أخلصت الوجهة إليه، أخلصت العبادة إليه، أقبلت عليه، خدمت عباده تقرباً إليه، والمؤمن الموحد أمره عجيب لا يرجو ثواباً، ولا مديحاً، ولا ثناء، لا قليلاً ولا كثيراً، لا قريباً ولا بعيداً:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾
المؤمن الصادق من يرضى بقضاء الله وقدره:
النبي عودنا أنك إذا أردت شيئاً عليك أن تستخير الله عز وجل، تصلي ركعتين وتدعو الله في الركعتين أن يا رب إن كنت تعلم أن في هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كنت تعلم أن في هذا الأمر شراً في ديني ودنياي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث شئت، فإذا الأمور تيسرت معنى ذلك أن الله يريد ذلك، وإذا تعسرت فتعسير الأمور هو اختيار الله لك، تيسيرها اختيار الله لك وتعسيرها اختيار الله لك، فلذلك المؤمن لا يصر، يقول: الحمد لله رب العالمين.
ذكرت لكم من قبل أن إنساناً يطوف حول الكعبة قال: يا رب هل أنت راضٍ عني؟ كان وراءه الإمام الشافعي، قال: يا هذا هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن إدريس، قال: كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه؟ قال: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
رضا المؤمن بما قسمه الله له سبب كل خير يأتيه:
الإنسان لا يُصِر على شيء، اختار لك دخلاً محدوداً، هو عليم حكيم، توجد آية قرآنية إذا قرأها الإنسان بتمعن وبعمق يقشعر جلده:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾
الله اختار لك شكلاً معيناً، قواماً معيناً، إمكانات معينة، جعلك من والدين فقيرين، هذا اختيار الله لك، اختار لك ذكوراً فقط، إناثاً فقط، إناثاً وذكوراً، جعلك عقيماً، اختار لك دخلاً غير محدود أو دخلاً محدوداً، اختار لك مهنة يدوية أو فكرية، لأن الإنسان لا يعلم، لكن الله يعلم، أنت مكلف فيما أنت مخير به، أما الذي فُرِض عليك وسُيرت فيه فأنت لست فيه مخيراً ولا مكلفاً، لكنه محض خير لك متعلق بالحكمة المطلقة، هذه فكرة أساسية، لذلك المؤمن دوماً راضٍ عن الله من أعماق أعماقه، وهذا الرضا سبب لكل خير يأتيه.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ الترف إخواننا الكرام؛ الإنسان يسرف أو يبذر، قال العلماء: التبذير في المعاصي والإسراف في المباحات، فمن أكل فوق ما ينبغي فقد أسرف، من لبس فوق ما ينبغي فقد أسرف، من استمتع بالحياة فوق ما ينبغي فقد أسرف، أما من ارتكب المعاصي وأسرف فيها فقد بذّر، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)﴾
﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)﴾
أي هؤلاء أسقطوا من حساباتهم اليوم الآخر، رأوا أن الدنيا هي كل شيء، في الحقيقة الدنيا هي سبب للآخرة، مزرعة الآخرة، أما إذا جعلتها كل شيء تقع بإشكال كبير، إذا جعلتها كل شيء يقفز أمامك ألف سؤال وسؤال، في الدنيا قوي وضعيف، فقير وغني، وسيم ودميم، ذكي وغبي، يتيم وغير يتيم، إنسان يولد من أبوين فقيرين يذوق ألوان الفقر، إنسان يولد من أبوين غنيين ينغمس في ألوان النعيم.
عدل الله يتحقق كلياً يوم القيامة:
إذا كانت الدنيا كل شيء، والموت نهاية كل شيء، هناك ألف سؤال وسؤال يقفز إلى الذاكرة: يا رب لماذا متعت هذا متعة لا حدود لها وهذا حرمته كل شيء؟ إن لم يكن هناك يوم آخر تُسوى فيه الحسابات، ويُعوَّض فيه على المقصر ما فاته، الله عز وجل أسماؤه الحسنى كلها محققة في الدنيا إلا أن اسم العدل هذا الاسم يتحقق كلياً في الآخرة، هناك مواقف كثيرة جداً تبدو فيها عدالة الله عز وجل، لكن الحساب الدقيق والحساب الرصيد:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)﴾
تصور الإنسان خُلِق من لا شيء، خُلِق من حوين صغير، هذا الحوين صار إنساناً سوياً، أليس الذي خلق هذا الحوين إنساناً سوياً قادراً أن يعيد خلقه مرة ثانية؟
﴿ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)﴾
أي كل بني آدم من آدم إلى يوم القيامة سوف يجمعون إلى حساب دقيق.
على الإنسان أن يغتنم أبواب الخير قبل انقطاع العمل:
أنت الآن في يوم مشهود وقد مضى اليوم المفقود، وسوف تواجه اليوم الموعود، وهناك يوم مورود، وهناك يوم ممدود، بين يوم مفقود –الماضي-، ويوم مشهود، ويوم موعود، ويوم مورود، ويوم ممدود، أخطر هذه الأيام هو اليوم المشهود، اليوم المشهود الذي تشهده، لأن اليوم المفقود لا جدوى من الحديث عنه، وأن اليوم الموعود والمورود والممدود متعلق باليوم المشهود، فلذلك الإنسان حينما يُسمح له أن يعيش يوماً جديداً ما دام قلبه ينبض، مادام في الروح بقية فأبواب الخير كلها مفتحة أمامه، أبواب العمل الصالح، أبواب الصدقات، أبواب العبادات، أبواب الخير، أبواب معاونة الأيتام، تفقد الأرامل، خدمة الخلق، إتقان العمل، النصح للناس، هذا كله مُفتحة أبوابه في الدنيا، أما إذا جاء الأجل انقطع العمل، عليه الصلاة والسلام فيما أذكر مرّ على قبر فقال:
(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم. ))
[ رواه ابن المبارك عن أبي هريرة ]
الدين اتصال بالخالق وإحسان للخلق:
في الدنيا أموال وشركات، دخول كبيرة، بيوت فخمة، مركبات فخمة، دنياكم كلها عند هذا الميت لا قيمة لها، ولكن ركعتين نافلتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم، فالإنسان بعد أن يموت تختلف المقاييس والموازين.
الآن المال له قيمة أما عند الموت لا المال ولا البيوت ولا يوجد لشيء قيمة، القيمة مقدار ما نفعت الناس بالدنيا، طبعاً كما قلت في الدرس السابق: هنالك مقاييس كثيرة يقيس الناس بعضهم بعضاً، يُقاس الإنسان بحجمه المالي أحياناً، يُقاس بمدى ما يتمتع به من قوة، قد تكون عضلية، يُقاس أحياناً بمدى نَسَبِه، يًقاس بوسامته، بذكائه، بمن حوله، هذه المقاييس مقاييس البشر، لكن مقياس خالق البشر معرفة الله ومقدار ما نفعت الخلق.
لذلك السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام حينما قال الله على لسانه:
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾
هذا الدين كله اتصال بالخالق وإحسان للخلق، هذا هو الدين.
العبرة من سماع الحق تطبيقه:
﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)﴾
هو ضال فإذا جاءه الهدى كذبه، قلت لكم قبل قليل: إن الإنسان قد يضل ولكن يُلقي الأذن صاغية إلى الحق، بالمناسبة تقول الآية الكريمة:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾
كذلك السماع إن لم ينتج عنه تطبيق السماع غير مقبول، الله عز وجل ذكر في بعض السور أنهم يستمعون إليك وهم لا يسمعون، يسمع ولا يسمع، فكأن الله أراد من السماع التطبيق، مثلاً إنسان يعاني من مرض معين، وهذا المرض عضال، وقلت له بوضوح ما بعده وضوح: هذا الدواء يشفيك من مرضك، الدواء ناجح، والقائل طبيب، فحينما لا يستخدم هذا الدواء معنى ذلك أنه ما استمع إلى الطبيب، العبرة من السماع التطبيق، فإن لم يأخذ هذا الدواء معنى ذلك أنه ما استمع من الطبيب.
الضال والمكذب لا يرتاح لقبول الحق بل لرفضه:
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ ضال وإذا جاءه الحق كذبه، الحقيقة الآية الدقيقة:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
لا يوجد تكذيب حقيقي، ولكن يوجد تكذيب تبريري، الإنسان حينما يُصر أن يكون مع شهوته والحق دائماً يتناقض مع الشهوات، الحق فيه انضباط، الحق كله ضبط للأمور، النزوات والغرائز هذه يضبطها الحق، إذا الإنسان التزم الحق يُحاسب عن كل شيء يفعله، على نطقه، على سمعه، على بصره، على كسب ماله، على إنفاق ماله، فلذلك الذي يُصر على شهوته لا يرتاح لقبول الحق، يرتاح لرفض الحق، هؤلاء كانوا ضالين والأنكى من ذلك أنهم كانوا مكذبين، ضالون ومكذبون.
جوع الكافر الشديد يوم القيامة يحمله على أكل شجر الزقوم:
هؤلاء يوم القيامة من شدة الجوع الذي يعتريهم قال:
﴿ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)﴾
هذه غيبيات ذكرها الله لنا، ولا نستطيع أن نضيف عليها شيئاً، يوجد بجهنم شجرة هي شجرة الزقوم، لكن نحن مرّ معنا من قبل أنه هناك طلح منضود، هناك سدر مخضود نُزِع شوكه، وطلح هو الموز، منضود أي مصفف، هذه الشجرة ينبغي أن تكون على عكس هذا الطعام شائكة، تزعج من يمسكها، فكيف من يبتلعها؟ الحقيقة البلعوم حساس جداً، أحياناً شوكة صبارة قد لا ترى بالعين تحتاج إلى مجهر لو ثبتت في اللسان يعاني الإنسان منها الشيء الكثير، فالشوك في الحلق لا يحتمل، لذلك هذه الشجرة شائكة، ومُرة المذاق، وكثيرة الشوك، وهي تؤذي من يمسكها فكيف بمن يأكلها؟! لكن الجوع الشديد الذي أكل أمعاءهم يحملهم على أن يأكلوا منها:
﴿ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)﴾
كلام الله حق وعلى الإنسان أن ينخلع قلبه خوفاً منه:
إخواننا الكرام؛ هذا كلام خالق الكون، كلام الله، كلام خالق السماوات والأرض، فإذا لم يخف الإنسان حينها يكون بحاجة لطبيب نفسي، يكون إدراكه سيئاً جداً، من لوازم هذه الآيات أن ينخلع القلب خوفاً، فالإنسان قبل أن يكذب، قبل أن يؤذي الناس، قبل أن يعتدي عليهم، قبل أن يأخذ ما ليس له، قبل أن يعتدي على أعراضهم، قبل أن يغشهم في البيع والشراء، قبل أن يحتال عليهم، قبل أن يعصي ربه، قبل أن يدع الصلاة، عليه أن يعد للملايين قبل أن يعصي، لأن هذا مصير العصاة، إذاً: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ .
شدة عطش الكافر يوم القيامة تدعوه إلى شرب الماء المغلي:
أما إذا عطشوا وما أشدّ عطشهم في هذا الحر الشديد ليس إلا ماء يغلي يسلق البطون:
﴿ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)﴾
أحياناً تكون كأس الشاي أحر مما ينبغي، تلدع اللسان، الإنسان يتألم أشدّ الألم، أحياناً الطعام يكون حاراً جداً، من القدر إلى الطبق مباشرة، فإذا أكل ملعقة واحدة، غير منتبه إلى أن هذا الطعام حار جداً، واحترق لسانه، يبقى يومين أو ثلاثة متألماً، فكيف إذا كان ينبغي أن يأكل من شجر الزقوم وأن يشرب ماء حاراً يغلي؟!
مرض الاستسقاء من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان والحيوان:
﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(55)﴾ فالهيم قال: هي الإبل التي أصابها مرض الاستسقاء، هذا مرض خطير، في الإنسان مركز يسمى مركز توازن السوائل،
هذا المركز يُنظم أخذ السوائل وطرحها، الإنسان يأخذ خمسة لتر في أيام الشتاء، أحياناً بالصيف عشرة لتر، أما كلما شرب ماء أكثر كان هذا الشرب صوناً لكليتيه بالمناسبة، فكرة عرضية، الكليتان صونهما بكثرة شرب الماء، كل كلية فيها عشرة أضعاف حاجة الإنسان إلى التصفية، فالكليتين يوجد فيهما عشرون احتياطاً، أي يكتفي الإنسان بعشر كلية واحدة للحياة، هاتان الكليتان صونهما بشرب الماء الكثير، وقد لا ينتبه الناس لهذه الحقيقة.
لذلك تشكل البحص في الكلية أحد أسبابها قلة شرب الماء،
وفي رمضان ولاسيما المتقدمين في السن ينبغي أن يشربوا ماء كثيراً في السحور، فوق حاجتهم، الإنسان عادة يشرب حاجته أما ينبغي في رمضان أن يشرب الإنسان فوق حاجته ليكون زاداً له طوال النهار، ومع أن الماء يغلي
﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ والهيم هي الإبل التي أصابها مرض الاستسقاء، ومرض الاستسقاء هو مرض يصيب جهاز توازن السوائل، الغدة النخامية وزنها نصف غرام، تفرز عشرة هرمونات، أحد هذه الهرمونات ينظم السوائل
فلو اختلت هذه الغدة وقد لا تصدقون ينبغي على الإنسان أن يجلس إلى جانب الصنبور والمرحاض لأنه سيشرب عشرات بل مئات الأمتار من الماء وسيطرحها كلياً، فالإبل التي أصيبت بمرض الاستسقاء تشرب ماء غير معقول:
﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ .
الجنة ثمن من أطاع الله واتبع أمره:
﴿ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)﴾
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وجنتهم من طراز رفيع، وأصحاب اليمين نجوا ودخلوا الجنة، ولهم جنة تساوي مقامهم عند الله عز وجل، لكن جنتهم أقل درجة من جنة السابقين السابقين.
مشهد الإنسان العاصي يوم القيامة:
أما الضالون المكذبون، العصاة، الشاردون، المنحرفون، الذين يعتدون على الناس، قال: هؤلاء هم أصحاب الشمال وهذا نصيبهم يوم القيامة:
﴿ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) ﴾
مشهد من مشاهد يوم القيامة، مشهد ينخلع القلب له، من الذي يرويه؟ خالق السماوات والأرض.
العاقل من يعيش لمستقبله ويتكيف معه:
الإنسان قبل أن يعصي، قبل أن يؤذي أخاه الإنسان، قبل أن يعتدي عليه، عليه أن يحسب لهذا اليوم حساباً، الحقيقة العاقل دائماً هو الذي لا يندم لأنه عاش المستقبل فتكيف معه منذ الآن، أما الإنسان إذا نسي المستقبل، وغفل عنه، وعاش لحظته، واستمتع بالدنيا من دون استقامة على أمر الله، سيأتيه يوم يندم أشدّ الندم، لذلك ورد أن الإنسان العاصي إذا جاءه الأجل يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، يقول: لم أرَ خيراً قط، وأن المؤمن إذا رأى مقامه في الجنة من شدة الفرح يقول: لم أرَ شراً قط، ينسى كل المصائب التي ساقها الله له في الدنيا.
السلامة والسعادة لا تكون إلا بعد معرفة الله:
الآن دعوة إلى الإيمان، الآن يوجد مقدمة مهمة جداً ذكرتها قبل يومين في درس الفجر هي أن كل إنسان على وجه الأرض كائناً من كان، خمسة آلاف مليون إنسان الآن في الأرض، أنا مُصر على أنهم جميعاً من دون استثناء لهم مطلبان ثابتان؛ خمسة آلاف مليون، كل شعوب الأرض، في القارات الخمس، لهم مطلبان ثابتان: السلامة والسعادة، مَنْ مِنَ البشر يتمنى مرضاً عضالاً؟ مَنْ مِنَ البشر يتمنى ألماً لا يحتمل؟ مَنْ مِنَ البشر يتمنى فقراً مدقعاً؟ أو مرضاً مفسداً؟ هذا الشيء مرفوض عند كل الناس، مَنْ مِنَا لا يتمنى أن يكون في بحبوحة؟ أن يكون صحيح الجسم، بهي الطلعة، وسيم القامة، له أولاد وأهل في أعلى مستوى؟ هذا شيء طبيعي، هذا شيء فطري، ما من إنسان على وجه الأرض إلا ويتمنى السلامة والسعادة، ولكن السلامة والسعادة لا تكون إلا بعد معرفة الله، ومعرفة منهجه أبداً، لأنه الصانع، الخالق، آلة صغيرة لا تعبأ بها لا يمكن أن تعمل بانتظام وأن تعطي أعلى مردود إلا إذا طبقت تعليمات الصانع، فأنت أعقد آلة في الكون ولك خالق، وهذا القرآن تعليماته.
معرفة الآمر قبل الأمر تؤدي إلى طاعته:
لكي تطيعه لابد من أن تعرفه، السبب هو أن الإنسان إذا عرف الأمر ولم يعرف الآمر تفنن في التفلت من هذا الأمر.
الناس في العالم كله بكل الأديان الزنا معصية، السرقة معصية، إذاً لماذا يسرقون ويزنون؟ الأمر معروف على مستوى العالم الإسلامي، هل هناك مسلم على وجه الأرض لا يجهل أن الزنا معصية؟ وأن الخمر معصية؟ وأن السرقة معصية؟ ومعصية كبيرة، إذاً لماذا يسرقون؟ لماذا يزنون؟ لماذا يشربون الخمر؟ الإنسان إذا عرف الأمر ولم يعرف الآمر يتفنن من التفلت من الأمر، لأن قيمة الأمر من قيمة الآمر، كلما ارتفع مستوى الآمر بادر المأمور إلى طاعته، أما إذا عرفت الآمر قبل الأمر تفانيت في طاعته، لذلك السلامة والسعادة لابد لها من طاعة الله عز وجل، وطاعة الله لا تكون إلا بمعرفته، والله سبحانه وتعالى يستحيل عليك أن تدركه بحواسك، لا تدركه الأبصار، يستحيل أن تعرف الله بحواسك الخمس، لا تعرفه إلا بعقلك ومن خلال خلقه.
السلامة والسعادة مطلب ثابت لكل مخلوق:
لذلك الآيات الكونية التي بثها الله في الكون جعلها وسائل لمعرفته، وسائل إيضاح، سماها آيات، أي علامات تدل عليه، تدل على وجوده، وعلى كماله، وعلى وحدانيته.
فالآن دققوا أية آية في كتاب الله تتحدث عن خلق السماوات والأرض، عن خلق الإنسان، عن خلق الحيوان، عن خلق النبات، عن الماء، عن الهواء، عن الجبال، عن الصحارى، عن البحار، عن الأسماك، عن الأطيار، هذه الآيات من أجل أن نفكر فيها، ومن أجل أن نعرف الله من خلالها، عن طريق عقولنا، فإذا عرفنا الله بحثنا عن منهجه، فإذا عرفنا منهجه أطعناه، فإذا أطعناه ضمنّا السلامة والسعادة التي هي مطلب ثابت لكل مخلوق، فلذلك يقول الله عز وجل:
﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)﴾
الله هو الخالق:
﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)﴾
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)﴾
هذا المني الذي أودعه الله في الإنسان، إذا خرج يخرج منه خمسمئة مليون حوين، في كل مرة يخرج تقريباً من ثلاثمئة مليون إلى خمسمئة مليون حوين، والحوين وحده لا يُرى إلا بالمجهر، هذا الحوين هو خلية، لكن هذه الخلية فيها نوية، وفيها هيولى، وفيها غشاء، وفيها رأس مدبب، وفيها عنق، وفيها ذيل،
وتمشي، على النوية مورثات، مجموع هذه المورثات –واستعدوا لتلقي الرقم-خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة موضعة على نواة هذا الحوين، الآن يقول لك: أكبر علم الآن هو علم الوراثة، أو الهندسة الوراثية، خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة في زمن دقيق جداً، هذا الحوين من مثله خمسمئة مليون حوين في اللقاء الزوجي الواحد، إذا خرج هذا الماء من الإنسان يخرج منه خمسمئة مليون حوين، الحوين له رأس مدبب، على هذا الرأس غشاء سريع التمزق، تحت هذا الغشاء مادة نبيلة تذيب جدار البويضة،
بعد هذا الرأس المدبب عنق، وبعد العنق ذيل، والذيل مهمته يتحرك فيمشي هذا الحوين، يمشي بسرعة عشرة سنتمتر في الساعة، لأنه سينتقل إلى الرحم بداخل جسم المرأة، من يدفعه إلى هذا المكان؟ حركته الذاتية.
وهناك صور ميكروسكوبية تنظيرية شيء لا يصدق جيش يزحف ويتسابق، والبويضة تحتاج إلى حوين واحد، تنتقي أقوى هذه الحوينات، أيها الأقوى؟ هو الذي يصل مبكراً، فإذا وقف على جدار البويضة تمزق غشاؤه الخارجي فظهرت المادة وأذابت جدار البويضة، يدخل هذا الحوين ويُغلق الباب، وانتهى! والبقية لم يبق لها محلات.
فإذا دخل هذا الحوين إلى تلك البويضة الآن البويضة الملقحة سوف تتجه عبر القناة التي بين المبيض والرحم، سوف تتجه وتمشي، في أثناء سيرها تنقسم البويضة إلى عشرة آلاف قسم، لكن هذا الانقسام المعجز لا يزيد من حجمها،
فلو زاد من حجمها وقفت في الطريق، لأن الأنبوب ضيق جداً، لو أنها انقسمت وزاد حجمها وقفت، الانقسام من دون أن يزيد من حجمها، تصل إلى الرحم، تأكل بعض جداره هذه الخلية، إذا أكلته ظهر الدم غزيراً هي بحاجة إلى دم.
الآن هذه البويضة الملقحة يبدأ تشكل المخ، الأعضاء، صار الآن هناك نسيج يشكل الأعصاب، نسيج يشكل العضلات، نسيج للجلد، نسيج للعظم، ما الإنسان؟ الإنسان مجموعة أنسجة، الجلد نسيج، والعضلات نسيج، الشحم نسيج، الأعصاب نسيج، الأوعية نسيج، الدماغ نسيج، الحواس نسيج، كل عضو أو حاسة أو منطقة في الجسم نسيج وحده، نسيج له صفات وخصائص، فلو كانت القضية قضية نمو عشوائي،
هذه البويضة الملقحة إن لم يكن لها خالق تنمو نمواً متجانساً، كانت خلية ملقحة فأصبحت قطعة لحم، عظم أو لحم أو جلد، أما هذا التنوع: 140 مليار خلية في الدماغ، و14 مليار خلية قشرية في الدماغ، والعصب البصري 900 ألف عصب، وفي العين 130 مليون عصية ومخروط، وفي الرأس 300 ألف شعرة لكل شعرة وريد وشريان وعصب وعضلة وغدة دهنية وغدة صبغية، بالمعدة 35 مليون عصارة هاضمة، الغدة النخامية نصف غرام، تفرز عشرة هرمونات، وهناك الغدة الدرقية، الكظر، الكليتان، في كل كلية طريق طوله 100 كيلو متر يقطعه الدم في اليوم خمس مرات، في كل كلية مليون نفرون مجموع هذه النفرونات تساوي 100 كيلو متر،
الدم يدور في الكليتين في اليوم 5 مرات، أي أن دمك يقطع مسافة 500 كيلو متر في اليوم وأنت لا تدري، كلية بلا صوت، بلا ضجيج، بلا حجم، لا يعرف الإنسان قيمة الكلية إلا إذا اضطر الإنسان لا سمح الله إلى أن ينقي دمه في كلية صناعية، حجم، ووزن، وطول، وعرض، وصوت، وأجهزة، وتقطيع شرايين، ووصل شرايين، من أجل أن يُصفى الدم في الأسبوع مرتين وإلا يموت الإنسان.
آيات الله الدالة على عظمته:
كليتان ورئتان ومعدة وأمعاء دقيقة وأمعاء غليظة، من يصدق أن الأمعاء الدقيقة تتجدد تلقائيا كل 48 ساعة؟ إن أسرع خلية على الإطلاق في بناء ذاتها هي خلية الأمعاء الدقيقة، تموت في 48 ساعة، أي أقصر عمر خلية في الجسم 48 ساعة،
وأطول عمر خمس سنوات، أنت كل خمس سنوات إنسان آخر، جلدك، عظامك، عضلاتك، عينك، شعرك، سمعك، بصرك، عدا القلب والدماغ، لو كان الدماغ كل خمس سنوات والله كان معي دكتوراه الآن لم يعد معي شي، لأن كل هذه المعلومات مخزنة في الدماغ، فالدماغ لا يتبدل،
أما كل شيء في الجسم –كلام قطعي-يتبدل كل خمس سنوات، شيء مبرمج، انظر إلى الطفل الصغير، فيه معلومة خشونة الصوت، ما إن يصل لسن الرابعة عشرة حتى يخشن صوته، كان صوته كالبنات فلما كَبُر خَشُن صوته، هذه معلومة مبرمجة، أي 5000 معلومة مبرمجة مودعة على نوية الحوين المنوي الذي لا يُرى بالعين، هذا شيء معجز:
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ .
صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه:
ماذا فعل الأب؟ الأب وضع هذا الماء وانتهى الأمر، الأم ماذا فعلت؟ لم تفعل شيئاً، من طور هذا الحوين وتلك البويضة؟ وهذا الانقسام؟ وهذا التشكل؟ أيوجد أحد ليس عنده أولاد؟ هذا ابنك أمامك، كان نقطة ماء، رأس، دماغ، تلافيف، بصلة سيسائية، عمود فقري، فقرات، غضاريف، أوعية، الشريان لوحده قلب، الشريان مرن، عندما يضغط القلب يتوسع الشريان لمرونته، عندما يتوسع ما معنى مرن؟ سيعود إلى ما كان عليه، فإذا عاد إلى حجمه الطبيعي دفع الدم نحو الأمام، فالشريان قلب آخر،
القلب ينبض والشرايين تنبض وتضخ الدم بدورها إلى أطراف الجسم، ولحكمة أرادها الله عز وجل جعل الشرايين عميقة، والأوردة سطحية، لو الآية معكوسة وأصاب الإنسان سكيناً جرحت يده ينزف دمه كله في دقائق ويموت، أما الشرايين عميقة وكل شيء تحت الجلد أوردة، دم راجع بطيء.
ذكر لي طبيب قبل يومين قال: هناك في الأنف طبقة شرايين كثيفة جداً، إلا أن الذي يلفت النظر فيها أن أغشيتها بالغة الرقة، وضعيفة جداً، فلمجرد أن يرتفع ضغط الدم هذه الجدر الرقيقة الهشة تتمزق فوراً فيكون الرعاف، ما هو الرعاف؟ الرعاف إشارة إلى أن الضغط قد ارتفع، إشارة وعلاج ذاتي، فإذا رعف الإنسان وتخلى عن بعض دمه عاد الضغط طبيعياً.
إذا آلة غالية كثيراً يوضع لها فيوز، وصلة سلك ضعيف جداً، فإذا ارتفع التيار إلى المئتين والثلاثين يذوب السلك فيحترق الفيوز، ثمنه ليرتان، لكن الآلة بالملايين، فإذا الإنسان ارتفع ضغطه هيأ الله منطقة في الأنف شرايين ذات جدر رقيقة جداً هشة تكاد تكون شفافة على أدنى ضغط تتمزق فينزل الدم،
معنى هذا ارتفع الضغط انتبه لنفسك، افحص ضغطك، نزول الدم بالأنف بعض الأحيان دليل ارتفاع في الضغط.
الفرق الكبير بين من يصنع شيئاً وبين من يستخدمه:
قال:
﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)﴾
هذه الحوينات المنوية تقريباً بدرجة 38 تموت، لذلك مكانها في الخصية، والخصية خارج الجسم، هناك درجتان بين الجسم والخصية، فلو أن الحوينات مكانها داخل الجسم تموت كلها، هذه حقيقة، وهذه الخصية لها وظيفة كبيرة،
الحوين الذي يخرج لتوه مضى على تصنيعه 18 يوم، معمل الحوينات المنوية يمضي عليها 18 يوماً، فلذلك قال تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ(59)﴾ أحيانا الإنسان -بلا تشبيه- يستطيع تشغيل جهاز معقد جداً وقيمته بالملايين وذلك بكبسة زر، الذي شغله غير الذي صنعه، التشغيل سهل، ممكن تركب أحدث مركبة وأنت تجهل كل ما فيها إلا القيادة، ممكن تستخدم حاسوباً من أعلى مستوى وتجهل ما فيه، ممكن تستخدم مكيفاً معقداً جداً وبكبسة زر يشتغل، فشتان بين من يستخدمه وبين من صنعه.
﴿ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)﴾
طبعاً الموت مصير كل حي.
أيها الإخوة؛ نحن دخلنا في آيات كونية، وكما قدمت لكم قبل قليل لن تطيعه إلا إذا عرفته، ولن تعرفه إلا بعقلك، ومن خلال الكون، فالآيات الكونية هي طريق وحيد إلى معرفة الله عز وجل:
﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)﴾
الملف مدقق