- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (027)سورة النمل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق المبعوث رحمة للعالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني عشر من سورة النمل.
هناك مجموعة آياتٍ تأتي تباعاً إنها من فعل الإله العظيم:
وصلنا قبل درسين إلى قوله تعالى:
﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)﴾
كأن الله سبحانه وتعالى فيما سيأتي من آيات يبيِّنُ أنه لا إله إلا الله، وأن مقام الألوهية يقتضي خلق السماوات والأرض، يقتضي تسيير الكون، يقتضي إسالة الأنهار، يقتضي خلق الجبال، هناك مجموعة آياتٍ تأتي تباعاً إنها من فعل الإله العظيم، فهل يستطيع أحدٌ من دون الله أن يدَّعي أنه خلق السماوات والأرض؟ هل تستطيع جهةٌ ما أن تدّعي أن بإمكانها أن تنزل من السماء ماءً؟ هل في الكون جهةٌ تدّعي أنها تنبت النبات؟ إنبات النبات آيةٌ عظيمة تدل على عظمة الله عزَّ وجل، هل من جهةٍ تستطيع أن تجعل هذه الأرض قراراً؟ كيف أنها بحجمٍ مناسب، وبسرعةٍ مناسبة، وذات تربة مناسبة، وذات استواء مناسب، وذات جاذبية مناسبة، وفيها من الماء والهواء والنبات، وفيها كل شيءٍ يدعو إلى استقرار الحياة فيها، هذا تم شرحه في درسٍ سابق.
﴿
الحقيقة هناك نقطة دقيقة جداً، هو أن الذي لا يعرف الله تدعوه ليعرفه من خلال الكون، أما الذي يعرف الله عزَّ وجل تدعوه ليأخذ ما أمر الله، وينتهي عما نهى عنه، فأنت تدعو غير المؤمن إلى الإيمان بالله، وتدعو المؤمن إلى أن يطبق أمر الله عزَّ وجل، فلذلك لا يكون التلقَّي من الله قبل أن تؤمن به، فمن أجل أن تبني إيمانك بناءً متيناً أساسه الحقيقة الثابتة، والحقيقة كما تعلمون علاقةٌ ثابتة مقطوعٌ بصحَّتها يؤكِّدها الواقع، عليها دليل، يجب أن ننخل كل شيءٍ نتصوره ونبقي على هذه الحقائق الصرفة، لأن الحقيقة هي وحدها التي تنقذ الإنسان من شقاء الدنيا والآخرة.
من أراد معرفة عظمة الله عزَّ وجل فحسبه هذا الكون:
ربنا سبحانه وتعالى يقول:
أهل الدنيا مع الصنعة، ولكن أهل الإيمان مع الصانع، أهل الدنيا مع النعمة، ولكن أهل الإيمان مع المُنعم، أهل الدنيا مع الخَلق، أما أهل الإيمان مع الخالق، أهل الدنيا مع النظام، أما أهل الإيمان مع المُنَظِّم، فمن هو المؤمن؟ الكافر يرى ما يراه المؤمن، يتنعم بما يتنعم به المؤمن، يأكل، ويشرب، ويلهو، كل النعم التي خلقها الله عزَّ وجل الكافر يستمتع بها، ويعرفها تماماً، يعرف أبعادها، ولكن المؤمن ينتقل منها إلى المُنعم، ينتقل من الخلق إلى الخالق، من النظام إلى المُنَظِّم، من الكون إلى المُكَوِّن، من النعمة إلى المُنعم، هذه النقلة هي جوهر الإيمان.
أما أي إنسان في أي مكانٍ وزمان، إنه يعرف الأرض، الأرض كرة تدور حول نفسها، تدور حول الشمس، يعرف الهواء، يعرف الماء، يعرف النبات، يعرف الطعام والشراب، يعرف الأزهار، كل هذه النعم التي خلقها الله عزَّ وجل غير المؤمن يعرفها، ولكن المؤمن انتقل منها إلى صاحبها، انتقل منها إلى موجِدها، انتقل منها إلى من كان هو السبب في وجودها، التفصيلات أحياناً لها وظيفةٌ محدودة، فلا بدَّ من العودة دائماً إلى الكُلِّيات، فما حجم التفكر في خلق السماوات والأرض؟ أنت يجب أن تعرف أن لك إلهاً عظيماً، الإيمان بالله شيءٌ تدعو إليه الفطرة، الفطرة تدعو إلى الإيمان بالله، والعقل يدعو إلى الإيمان بالله، فإذا أردت أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل فحسبك هذا الكون، وقد قيل: حسبكم الكون معجزة.
الله سبحانه وتعالى في آياتٍ كثيرةٍ حضنا على أن نعرفه من خلال الكون:
إذا أردت أن تعبد الله عزَّ وجل دونك التشريع، لكن ليس معنى هذا أن التشريع فقط من أجل أن تطبقه، لو تأمَّلت في التشريع الإلهي تعرف منه أيضاً عظمة الله عزَّ وجل، في كل شيءٍ له آية، الكون آية، والتشريع آية، والحوادث آية، والفطرة آية، والعقل آية، إذاً حينما يسرد الله علينا بعض الآيات الكونية، كأن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفكر فيها، يريدنا أن نقف عندها، يريدنا أن نتبصرها، يريدنا أن نعرف حجمها الحقيقي، يريدنا أن نخرج منها إلى المُنعم، إلى مَن خلقها، إلى من أوجدها، إلى من أحكمها، إلى من جعلها بهذا الإعجاز.
فحينما تقرأ في القرآن الكريم آياتٍ تشير إلى عظمة الكون، معنى ذلك أن هذه الآيات ينبغي أن تكون موضوعاً من موضوعات التأمُّل التي حضَّنا الله عليه، الله سبحانه وتعالى في آياتٍ كثيرةٍ حضنا على أن نعرفه من خلال الكون.
﴿
وقال:
﴿ فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)﴾
وقال:
﴿ فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)﴾
التعامل بين الماء وبين الهواء آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته:
إذاً قبل درسين تحدثنا كيف أن الله سبحانه وتعالى جعل الأرض قراراً، لم يجعلها مُسَنَّنَة جعلها مستوية، ولم يجعلها مائلة جعلها أفقية، ولم يجعل قوامها هُلاماً، ولا غازاً، ولا ماءاً، ولا صلباً، بل جعلها تربةً بالإمكان أن نتعامل معها، جعل فيها جاذبية، الأشياء تنجذب إليها، جعل الأرض تسير على مسارٍ دقيق لا تحيدُ عنه، ربط بها الهواء الذي فوقها، والماء الذي فوقها، هذا من معاني:
الآن يضيف الله عزَّ وجل على هذه الآية:
لا يوجد في الكون جهةٌ يرجى خيرها ويتقى عذابها إلا الله عزَّ وجل:
هذه أوروبا بعضها يعاني من العطش، هذه إفريقيا عانت من العطش ما عانت، ونحن لولا أن الله سبحانه وتعالى تداركنا بلطفه لكانت هذه السنة عجفاء، مياه الأنهار جفَّت، وإذا جفت مياه الأنهار توقف النبات ومات الحيوان وتبعه الإنسان، الله سبحانه وتعالى يشعرنا من حين لآخر أن مصيرنا بيده، وأن حياتنا بيده، وأن الإنسان مهما علا في الأرض ومهما ادّعى لنفسه العظمة هو عاجزٌ عن أن ينزل قطرة ماء، فكلمة:
﴿
إلى أين أنتم ذاهبون؟ تعبدون من؟ أفغير الله تتقون؟ هل في الكون جهةٌ تُتقى غير الله؟ هل في الكون جهةٌ يُرجى خيرها ويُتقى عذابها إلا الله عزَّ وجل، هذا الذي يعبده الإنسان من دون الله سواء أعترف بهذا صراحةً أم لم يعترف، على كلٍ ما العبادة؟ غاية الإخلاص، غاية الحب، غاية الطاعة، غاية الشوق، غاية المحبة، غاية الانصياع، غاية التأمُّل، هل من جهةٍ تستحق أن تعبدها إلا الله عزَّ وجل؟ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾
الشيء اللافت للنظر أنه كلما ذكر الله الأنهار في القرآن ذكر معها الجبال:
شيءٌ آخر:
التلازم في ذكر الجبال والأنهار يعني أن الله تعالى جعل الجبال مستودعاتٍ للمياه:
شيء آخر الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
يبدو أن توزع الجبال في الأرض توزعاً محكماً يجعل دورانها مستقراً، فإذا كان هناك توزُّع غير محكم الدوران يضطرب، فمن أجل أن تدور الأرض من دون اهتزاز، من دون اضطراب جعل الله هذه الجبال في هذه الأماكن المتباينة في الأرض، إذاً تارةً يشير الله عزَّ وجل إلى أن هذه الجبال جعلها أوتاداً، لأن الجبل الذي ترونه بأعينكم ثلثه ظاهر وثلثاه تحت الأرض، كالسن تماماً، السن له قسم ظاهر وقسم تحت النيرة، فالجبل الذي يبدو لنا منه لا يزيد عن الثلث، والباقي مغروسٌ تحت الأرض ليربط هذه الطبقات بعضها ببعض، والهدف الآخر أن الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ من أجل هذا الدوران المستقر، شيءٌ رائع أن الأرض تدور ومع دورانها هي مستقرة، نعمة الاستقرار لا يعرفها إلا من أصاب بلاده زلزال، ماذا يفعل الزلزال؟ في ثوانٍ يجعل عاليها سافلها، هذه الأبنية الشاهقة تصبح في الأرض، لأن هناك اضطراباً طرأ على القشرة الظاهرة، هذه الأرض أيضاً ما دامت مستقرة فهذه نعمة من نعم الله الكبرى.
شيءٌ آخر، بما أن الماء يسيل من أعلى إلى أدنى، فشاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يجعل الجبال مستودعاتٍ للمياه، لذلك حيثما وردت كلمة الجبال ترد معها كلمة الأنهار، هذا التلازم في ذكر الجبال والأنهار في القرآن الكريم في الأعم الأغلب، هذا التلازم يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل الجبال مستودعاتٍ للمياه، لذلك المياه تسيل من هذه الجبال وتتجه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لأن مستودعاتها عالية.
آية الماء وصفاته وخواصه ونزوله من السماء من آيات الله الدالة على عظمته:
شيء آخر هذه الجزر التي بثَّها الله في البحار، كل جزيرةٍ لها عين ماء، ولها نبعٌ عذبٌ، هذا النبع العذب يعني أن هناك تمديداتٍ تحت سطح البحر متصلة إلى جبالٍ ساحلية، ليس هناك إلا هذا التفسير بحسب مبدأ الأواني المستطرقة، ما دامت جزيرة في البحر مستوية وفيها نبع ماء لا بدَّ من مستودعٍ في مكانٍ مرتفع، وكم من آلاف الكيلو مترات تسيل هذه المياه من الجبال إلى الجزر، والجُزُر مهما كثرت لا بدَّ لكل جزيرةٍ من نبع ماءٍ في مستوى حجمها، هذا أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته، وقد نجد في رؤوس الجبال بعض الينابيع، وهذه الينابيع في رؤوس الجبال ليس لها إلا تفسيرٌ واحد، هو أن مستودعات هذه الينابيع في جبالٍ أخرى بعيدة.
إذاً آية الماء، ظاهرة الماء، صفات الماء، خواص الماء، نزول الماء من السماء، المالح أو العذب، هذه الدورة التي أشار الله إليها من آيات الله الدالة على عظمته.
الله جعل حاجزاً بين مياه البحر والأنهار إما بسبب فرق الارتفاع أو بسبب الطبقات الكتيمة:
هذه الآية:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)﴾
حتى البحرين المالحين
البحرين المالحين بينهما برزخ لكن البحرين المالح والعذب بينهما برزخٌ وحجرٌ محجور:
قال تعالى:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)﴾
شيءٌ آخر، هو أن البحرين المالحين بينهما برزخ، لكن البحرين المالح والعذب بينهما برزخٌ وبينهما حِجرٌ محجور، فالبرزخ من شأنه أن يمنع طغيان مياه كل بحرٍ على الآخر، والحِجْر المحجور من شأنه أن يمنع انتقال الأسماك من المياه العذبة إلى المياه المالحة.
عدم اختلاط الأمواج مع بعضها سواءٌ أكانت مالحةٌ أم عذبة من آيات الله الدالة على عظمته:
قال تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
عدم اختلاط الأمواه بعضها ببعض سواءٌ أكانت مالحةٌ أم عذبة، وعدم طغيان بعضها على الآخر واحتفاظ كل ماءٍ بمكوناته، وملوحته، وكثافته، وما فيه من مواد هذا من آيات الله الدالة على عظمته، والعلم أمامه متسع كبير لكشف مزيدٍ من هذه الظواهر التي وردت في القرآن الكريم إذاً:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾
الله سبحانه وتعالى أثبت لهم العلم، وفي الآية التي تسبقها مباشرةً قال:
﴿ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
الله سبحانه وتعالى نفى عنهم العلم وأثبت لهم العلم، ليس في هذا تناقض.
ربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم وعنى به أن يعرف الإنسان ربه:
قال تعالى:
ربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم وعنى به أن يعرف الإنسان ربه
خَلَقَ الله الإنسان ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره:
شيء آخر، الآن انتقلنا إلى موضوع جديد متعلّق بالنفس الإنسانية:
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62)﴾
هؤلاء الذين ركبوا في الطائرة وماجت بهم واضطربت، وتوقَّعوا أن تسقط، على اختلاف مشاربهم، وعلى اختلاف نوازعهم، وعلى اختلاف معتقداتهم، وعلى اختلاف مبادئهم، وعلى اختلاف منابتهم، لا يلجؤون إلا إلى الله، لو أن هذا الإنسان أنكر وجود الله في الأرض وركب في البحر أو في الطائرة، وشعر أنها على وشك أن تسقط، أو أن هذه الباخرة على وشك أن تغرق،
﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ
إذاً هل هناك جهةٌ أخرى غير الله عزَّ وجل تدعوها عند الشدة، هذه فكرة أولى، الإنسان ضعيف، خَلَقَهُ الله ضعيفاً لمصلحته، لأنه لو كان قوياً لاستغنى بقوته، فشقي باستغنائه، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره:
﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
أقرب شيء إليك هو الله عزَّ وجل إن دعوته بلسانك سمعك وإن دعوته بقلبك سمعك:
ربنا سبحانه وتعالى فضلاً عن ذلك أعاننا على أنفسنا، الإنسان حينما يقع في مشكلة، حينما تَحُلُّ به مشكلة، كأن الله
سبحانه وتعالى يدفعه إلى بابه، إذاً الإنسان ضعيف، وضعفه لمصلحته، فإذا وقع في ورطة قال: يا رب، بعد هذا الدعاء كُشِفَ عنه السوء، شعر عندها أن الله عزَّ وجل سمعه واستجاب له، وأن الله بيده كل شيء، فالله سبحانه وتعالى ليزيد معرفتك به قد يجعلك في وضعٍ حرج، ويطلب منك أن تدعوه.
﴿
المسلمون يدعون الله ليلاً ونهاراً، ومعظم شعائرهم فيها دعاء، ومع ذلك قد يدعون الله سبحانه وتعالى ولا يستجيب، أليس الدعاء صحيحاً؟ هذا يجب أن يدفعنا إلى معرفة شروط الدعاء، الله عزَّ وجل في كتابه الكريم قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ
إن دعوته بلسانك سمعك، وإن دعوته بقلبك سمعك:
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا(3)﴾
خواطرك معلومةٌ عنده، سِرُّكَ مكشوفٌ لديه، نوازعك، صراعاتك، طموحاتك، إذا كنت ساكتاً وتحدِّث نفسك بحديثٍ طويل الله سبحانه وتعالى يعلمه.
شروط استجابة الدعاء:
بل إن الله عزَّ وجل يعلم ما يخفى عنك أيضاً، إذاً:
إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك:
موضوع الدعاء النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( الدعاء مخ العبادة ))
ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء، والدعاء سلاح المؤمن، فإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، إذاً الدعاء شيء خطير جداَ، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، إذاً:
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))
هذا شيء مهم جداً أن تعرف شروط الدعاء ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ هل أنت عند الأمر والنهي؟ هل يراك حيث أمرك؟ هل يفتقدك حيث نهاك؟ إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله، فانظر ما لله عندك؟ هل أنت حريصٌ على تنفيذ أمره؟ على أن تبتعد عما عنه نهاك؟
إذا عَظَّمت الله عزَّ وجل تُعظِّم أمره فإذا استجبت له استجاب لك وهذه أول قاعدة:
قال تعالى:
في الآية التالية ليس هناك وسيط بين العبد وبين ربه:
قال تعالى:
﴿
هذه الصياغة في كتاب الله وردت مَرَّاتٍ عديدة تفوق عشر المرات:
﴿
وقال:
إياك أن تطمع أن يستجيب الله عزَّ وجل لك إذا كنت معتدياً لأنه لا يحب المعتدين:
بعضهم ناجى ربه فقال: يا رب إذا كانت رحمتك بمن قال: أنا ربكم الأعلى هكذا:
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾
يا رب إذا كانت رحمتك بمن قال: أنا ربكم الأعلى هكذا، فكيف رحمتك بمن قال: سبحان ربي الأعلى؟ إذا كانت رحمتك بمن قال: ما أرى لكم من إلهٍ غيري، فكيف رحمتك بمن قال: لا إله إلا الله؟ الإنسان إذا عاش حياته بعيداً عن معرفة الله، وعن الاتصال به، وعن التعامل معه وَفْقَ منهجه، فقد ضيَّع كل شيء، يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ الآية الثانية:
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)﴾
إياك أن تطمع أن يستجيب لك الله عزَّ وجل إذا كنت معتدياً، الله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، ولأنه لا يحبهم لا يستجيب لهم، فحينما جاء قوله تعالى:
الوقوف على باب الله من علامات العبوديَّة فإما أن تقف طواعيةً وإما أن يدفعك إلى ذلك:
قال تعالى:
(( اللهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ . ))
غاصت قدما فرسه في الرمل، ووقع من عليها مرات عدة.
وإذا العناية لاحظتك عيونُها لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها نم فالمخاوف كلّهنَّ أمان
الله سبحانه وتعالى قد يمتحن المؤمن ولكن كل شيءٍ في النهاية لمصلحة المؤمن:
هناك شعور لا يعرفه إلا من ذاقه، هذا الشعور أن المؤمن يشعر أن الله سبحانه وتعالى يحبُّه، فبعض علماء العقيدة نهوا عن أن تقول إذا سُئِلت: هل أنت مؤمن؟ تقول: إن شاء الله، لا:
﴿
الإيمان على وجه الجزم، فالمؤمن يشعر أن الله يحبه، والإمام الشافعي ماذا استنبط من قوله تعالى:
﴿
الإمام الشافعي استنبط أن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحبابه، بمعنى أن المؤمن يسعدُ إذا شعر أنه على منهج الله، والله سبحانه وتعالى قد يمتحنه، لكن كل شيءٍ في النهاية لمصلحة المؤمن:
﴿
إذاً هذا الاضطرار الذي نوَّه به الله سبحانه وتعالى:
المشرك يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله وهذا هو الفرق:
قال تعالى:
(( لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. ))
إذا كنت ذكياً، إذا أخذت لكل شيءٍ عُدَّتَهُ، إذا أردت أن تأخذ بكل الأسباب وأن تعتمد عليها، إذا جعلت الأسباب إلهاً وعبدتها من دون الله، إذا اتكأت عليها وظننت أنها تمنعك من دون الله فأنت في حالة شرك خفي، لذلك يُؤتَى الحذِر من مأمنه، ولا ينفع ذا الجَد منه الجّد، كما قال عليه الصلاة والسلام في دعائه الشريف:
لأن الحذر كأنك تعاند قدرة الله عزَّ وجل، يأتيك من مأمنك، أيُّ إنسانٍ أخذ بالأسباب واعتمد عليها فهو مشرك شرك خفي، أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله، هذا هو الخط الرفيع بين الإيمان والشرك، المشرك يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها، أما المؤمن يأخذ بها ويعتمد على الله هذا هو الفرق، الذي يعتمد على الأسباب قد يُؤتَى من مأمنه، قد يُؤتى من اختصاصه، قد يُؤتى من الشيء الذي هو فيه خبير، هذا الطبيب مثلاً اختصاصي في هذا المرض، يأخذ كل الاحتياطات ومع ذلك قد يصاب بهذا المرض، لأنه وقع في شركٍ خفي.
قال تعالى:
الإنسان إذا عرف أنه خليفة من سبقه وسيأتي بعده من يخلفه عرف أن الدنيا زائلة:
قال تعالى:
﴿
من قوله تعالى:
هذه الآيات لها محور واحد هو أن تُوَحِّدَ الله عزَّ وجل وكأن الدين كله توحيدٌ لله عزَّ وجل:
هذه الآيات؛
إذاً كأن هذه الآيات لها محور واحد، هو أن توحِّد الله عزَّ وجل، وكأن الدين كله توحيدٌ لله عزَّ وجل، توحيدٌ في ألوهيته، توحيدٌ في ربوبيته، توحيدٌ في تصرُّفاته، توحيدٌ في أسمائه وفي صفاته، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
الدعاء مخ العبادة:
لا إله إلا الله نهاية العلم، ختاماً لهذا الموضوع تعقيبٌ سريع على الآية الأخيرة:
﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216)﴾
أحياناً هذه المشكلة التي جعلتك مضطراً أن تدعو الله عزَّ وجل، ربما عمَّقت معرفتك بالله، تدعوه، سمع دعاءك واستجاب لك، أورثك معرفةً جديدة وحباً جديداً، فربما كانت بعض المشكلات من هذا القبيل، فالمؤمن يتلقَّى ما يصيبه بصبرٍ جميل، ويدعو الله عزَّ وجل، فإذا دعاه واستجاب له، تعمَّقت معرفته بالله، وزادت محبته له، وكم من مؤمنٍ عرف الله على أثر مشكلة، كم من رجلٍ رفعه الله عزَّ وجل مكاناً عليّاً على أثر مشكلة، كم من مؤمنٍ كان ذا انضباطٍ أشد على أثر مشكلة، لذلك الله سبحانه وتعالى يريدنا إذا ألمَّت بنا مُلِمَّة أن نلجأ إلى بابه، أن نقف على بابه، أن ندعوه تضرعاً، أن ندعوه رجاءً، أن ندعوه خوفاً، فـ
الدعاء اتصال حميم بين العبد و ربه فجوهر الدين الاتصال بالله:
في الحقيقة الدعاء مطلوبٌ لغيره، تعبير دقيق، ما الشيء الذي طُلب من أجله الدعاء؟ الاتصال بالله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبده اللهفان، فقد تأتي مشكلة تدعوك إلى أن تدعوه، فإذا دعوته وذقت طعم القرب وحلاوة المناجاة نسيت المشكلة، فالمطلوب حصل، وهو هذا الاتصال العميق، الإنسان عندما يكون بالبحبوحة قد يتصل بالله، ولكن اتصال من نوع آخر، أحياناً تأتي هذه المشكلات تدفعنا إلى باب الله، وهذا ما أراده الله من هذه الآية:
﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)﴾
كأن هاتين الكلمتين فيهما تلخيصٌ لجوهر الدين، اتصالٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق، هذا هو الدين، أي عقيدة وعمل، اتصال وإحسان، الشيء الآخر هو أن الناس رجلان؛ متصل منضبط محسن، منقطع متفلِّت مسيء، ولا ثالث لهما، متصل منضبط بأمر الله ونهيه محسن، منقطع عن الله متفلت مسيء، اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين عرفوك واستقاموا على أمرك وأحسنوا لك.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.