وضع داكن
08-05-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المنافقون - تفسير الآيات 9 -11 ذكر الله أنفس ما في الدنيا
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أنواع الصّدق:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني والأخير من سورة المنافقون، ومع الآية التاسعة، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)﴾

[ سورة المنافقون ]

بعد أن حدَّثنا ربنا جلَّ جلاله عن المنافقين الذين يشهدون أن محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله، والله سبحانه وتعالى يشهد إنهم لكاذبون بهذه الشهادة، وقد بيّنت لكم من قبل أن الإنسان يَصْدُقُ في مطابقة الخبر مع الواقع، ويصدق في أن يأتي الفعل مطابقاً للخبر، الأول صدق الأخبار، والثاني صدق الأفعال، والثالث الصدق مع النفس، قد يكون صادقاً مع نفسه غير مطابقٍ للواقع، فهو كاذبٌ مع الحقيقة لكنه صادقٌ مع نفسه، وقد يكون كاذباً مع نفسه، أما أن تأتي شهادته مطابقةً للواقع فهذا النوع من النوع السادس، يشهدون أن محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله، لكنهم كاذبون في هذه الشهادة مع أنفسهم، وإن جاءت هذه الشهادة مطابقةً للواقع. 
 

المنافقون نافقوا لأن أموالهم وأولادهم شغلتهم عن ذكر الله:


بعد أن حدَّثنا الله جلَّ جلاله عن أحوال المنافقين، وعن مكرهم، وعن خِداعِهم، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ ماذا نستنبط من ذلك؟ نستنبط من ذلك أن المنافقين نافقوا لأن أموالهم وأولادهم شغلتهم عن ذكر الله:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[ سورة النساء ]

فكأن خِتام هذه السورة جاء مُطابقاً لمقدِّمتها، إذ كانت علَّة النفاق أنهم شُغِلوا بأموالهم وأولادهم عن ذكر الله فكذبوا، ونافقوا، وائتمروا، وانحرفوا. 
 

الإنسان حينما يأتي إلى الدنيا له مهمَّةٌ كبيرة عليه ألا ينشغل عنها:


﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إن أردتم أن يرضى الله عنكم، إن أردتم أن تكونوا مؤمنين حقّاً، إن أردتم ألا تكونوا منافقين كهؤلاء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أولاً: لا تُلهكم أي لا تشغلكم، الإنسان حينما يأتي إلى الدنيا له مهمَّةٌ كبيرة، فإذا شُغِل عنها فقد التهى بها، في آياتٌ أخرى تأتي آياتٌ كنوع: 

﴿ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)﴾

[ سورة محمد ]

اللعب كما تعلمون أن تشتغِل بشيء وبعد حين تراه صغيراً، كيف أن الطفل الصغير يلهو بالدمى، فإذا كَبِر يحتقر نفسه كيف كان يبكي من أجل دمية، فالدنيا كلُّها لعبٌ، ومن خصائص اللعب أيضاً أنه كلَّما انتقلت من مرحلةٍ إلى أخرى صغُرت في عينك المرحلة السابقة، يعجب الإنسان كيف أنه كان مهتمًّاً بهذا الموضوع، فمن خصائص الدنيا أنها لعب، هذا خارج موضوع درسنا. 
 

اللهو من خصائص الدنيا:


لكن من خصائص الدنيا أنها لهوٌ، ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ اللهو أن تشتغل بالخسيس عن النفيس، أن تغوص في البحر لتخرج بالأصداف لا باللآلئ، أن تأتي إلى الدنيا، وأن تخرج منها دون أن تعرف سرَّ وجودك، وغاية وجودك، فلذلك ورد في بعض الآثار القدسية: "أن عبدي خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقّي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك" .
 

الكافر مشغولٌ بما ضُمِن له وغافل عما كُلِف به:


أكثر ما يوضِّح هذه الآية مثل أنتزعه من واقع الحياة المدرسية: لو أن هناك مدرسة داخلية فيها مطبخٌ كبير، وفيها مهجعٌ مريح، وفيها مكتبة عامرة، وفيها قاعة مطالعات، وأنّ لهذا الطالب نظاماً دقيقاً جداً، يُمضي ساعاتٍ في سماع المحاضرات، وساعة في راحته، وساعاتٍ في المطالعة، والطَّعام يُقدَّم له جاهزاً كاملاً دقيقاً في وقتٍ محدَّد، هو مكلَّفٌ أن يدرس، والكلُّ في خدمته، لو أن هذا الطالب ترك الدراسة، ودخل إلى المطبخ ليطمئنَّ عن صنع الطعام، وعن مراحل تهيئته، ماذا نقول عن هذا الطالب؟ إنه اشتغل عن مهمَّته الأساسية في هذه المدرسة الداخلية؛ في القراءة، والمذاكرة، والحفظ، وانتقل إلى ما لا يعنيه، وما ضُمِن له، دائماً الكافر أو الذي تاه عن الله عزَّ وجل مشغولٌ بما ضُمِن له، غافل عما كُلِف به، مثلاً ربنا عزَّ وجل يقول:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)﴾

[ سورة الذاريات ]

الله جلَّ جلاله ضَمِنَ الرزق، وأمرنا أن نعبده، أكثر الناس شُغِلوا بالرزق، وأهملوا عبادته، فبحقِّي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك. 
 

الله عز وجل ضمن للإنسان ما يريد مع السعي ومع أخذ الأسباب:


الله عزَّ وجل يقول:

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾

[ سورة الكهف ]

طالب أرسله أبوه إلى بلدٍ غربي ليدرس، طمأنه، الآية الكريمة:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)﴾

[ سورة الروم ]

فعل ماض، ﴿ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ لم يقل: يرزقكم، من أجل أن تطمئنّوا، لمجرَّد أن الله قد خلق الإنسان خلق له رزقه، وفي آيةٍ أخرى:

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾

[ سورة النجم ]

ليس لك إلا ما سعيت، فالسعي المطلوب يُشْغَل عنه الإنسان التائه بالبحث عن الرزق المضمون، ضُمِن لك الرزق، ليس معنى هذا أن تمدَّ يدك صبيحة كلِّ يوم تحت الوسادة لتأخذ المال، لا، ضُمن لك مع السعي، ومع أخذ الأسباب، أما أن تقلق، وأن تنسى ربَّك، وأن تنسى دينك، وأن تنسى آخرتك، وأن تقع في المعاصي والآثام من أجل الرزق فهذا الذي لا يُرضي الله عزَّ وجل. 
 

على الإنسان أن يسعى وعلى الله الباقي:


أيها الأخوة؛ كنت قد ضربتُ مثلاً يوضِّح هذه الآية: لو أنَّ بستاناً زُرِعَ فيه أشجار تفَّاح، بحسب النصوص الدينية هذه التفَّاحة التي على هذا الغُصن هي لفلان منذ أن خُلِقَت، إلا أنَّ فلاناً مخيّر في طريقة أخذها، إما أن يشتريها بماله، طريق، وإما أن يتسوّلها، وإما أن يسرقها، وإما أن تقدَّم له هديّةً، وإما أن تُقدَّم له ضيافةً، أما هي فله، وأنت عليك أن تختار الطريق الصحيح لأخذها:

(( إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي ، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها ، وتستوعِبَ رزقَها ، فاتَّقوا اللهَ ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ. ))

[ صحيح عن أبي أمامة الباهلي ]

فليس معنى ذلك أن الرزق مضمون، أي لا تسعَ، لا، اسع، إن الله كتب عليكم السعيّ فاسعوا، إلا أن سعيك وحده لا يخلِق الرزق، الرزق بتوفيق الله، الرزق بإكرام الله، أنت عليك أن تسعى، هناك حدٌّ أدنى ضُمِنَ لك. 
 

استخدام الله عز وجل الرزق كأداة تأديب:


الله سبحانه وتعالى يستخدم الرزق كأداةٍ لتربيتك- نقطة جديدة-يستخدم الرزق كأداةٍ للتربية، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن ثوبان: إنَّ العَبدَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يُصيبُه، ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يَزيدُ في العُمُرِ إلَّا البِرُّ. ))

[ خريج المسند لشعيب : حسن لغيره دون قوله: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه": أخرجه ابن ماجه  ]

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾

[ سورة طه ]

فالبيت الذي تؤدَّى فيه الصلوات، والأبُ الذي يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها هذا بيتٌ مرزوق:

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾  

[ سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)﴾

[ سورة المائدة ]

قِسْ على ذلك القرآن الكريم، لو أنهم أقاموا القرآن الكريم لأكلوا من فوقهم، ومن تحت أرجلهم. 
 

تقنين الله عز وجل تقنين تأديب لا تقنين عجز:


يجب أن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى حينما يُقَنِّنُ الأرزاق، لا يقنِّنها عجزاً، بل يقنِّنها تأديباً.

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾

[ سورة الحجر ]

أما الإنسان إذا قَنَّن فتقنينه تقنين عجز، فالله سبحانه وتعالى حينما ضمِن الرزق ضمِنه من جهة، وجعله أداةً تأديبيةً من جهةٍ أخرى، فالأمانة غِنى.
 

أسباب وفرة الرزق:


أحد أسباب وفرة الرزق أن تكون أميناً، وهناك مئات ألوف القصص عن أناسٍ تعفَّفوا عن الحرام فآتاهم الله من الحلال المال الوفير.

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)﴾

[ سورة نوح ]

فالاستغفار أحد أسباب وفرة الرزق، الأمانة أحد أسباب وفرة الرزق، الاستقامة على منهج الله أحد أسباب وفرة الرزق، صلة الرحم تزيد في الرزق، أن تَصِلَ رحِمَك، تتفقَّد أهلك، ترعى شؤونهم، توصلهم بمددٍ من عندك، تتفقَّد أحوالهم، تأخذ بيدهم إلى الله عزَّ وجل، هذا من أسباب وفرة الرزق، صلة الرحم، الأمانة، الاستغفار، أن تأمر أهلك بالصلاة، إتقان العمل، أحد أسباب وفرة الرزق.

(( عن عائشة: إن الله يحبُّ من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه. ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح ]

الآن الصدقة أحد أسباب وفرة الرزق، استمطروا الرزق بالصدقة. 
 

الله سبحانه وتعالى ضمن للإنسان الرزق وحَرَّكه:


الله سبحانه وتعالى ضَمِن الرزق وحَرَّكه، ضمِنه من جهة من أجل ألا تقلق، كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً، من أجل أن تطمئن حياتك ورزقك بيدِ الله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى لا يُعْقَلُ أن يأمرك أن تعبده وقد أوكل أمر حياتك ورزقك إلى أناسٍ آخرين، هذا شيء مستحيل، قال لك:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك.

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. ))

[ صحيح الترمذي ]

هذا قانون قنَّنه الله، وانتهى الأمر، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصُحُف، فالرزق مضمون من جهة، مِن أجل ماذا؟ ضمن من أجل ألا تعبد غير الله، من أجل ألا تُشرِك به، من أجل ألا تنافق، ألا تخنع، ألا تخضع، ألا تخاف، الرزق من عند الله، ليس من فلان أو علان، لو أن أهل الأرض لو خمسة آلاف مليون إنسان اجتمعوا على أن يقطعوا رزق إنسان فإنهم لن يستطيعوا، ولو أنَّ خمسة آلاف مليون أرادوا أن يجعلوك غنياً فإنهم لن يستطيعوا، الرزق بيدِ الله، ضمِنه لك من أجل ألا تعبد غيره، ضَمِنه لك من أجل ألا تُشرِك به شيئاً، ضمنه لك من أجل ألا تعصي الله من أجل الرزق، ضمنه لك من أجل ألا تنافِق، أن تظنَّ أن فلاناً يعطيك أو يمنعك، وحَرَّكَهُ من أجل أن يؤدِّبك، حَرَّكَهُ من أجل أن يكون حاثًاً لك على طاعة الله، مثلاً:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

المنافق ظنَّ أن المال هو كل شيء فأشرَك نفسه أو أشرك غيره مع الله في موضوع الرزق، فالتهى بماله أو التهى بأولاده عن ذكر الله.
 

من أدّى زكاة وقته ضَمِن الله له السلامة بقية وقته:


الشيء الدقيق هو أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا حينما يدفع زكاة ماله ماذا ضَمِن؟ ضمن سلامة بقية المال، حينما يدفع زكاة ماله ضَمِن سلامة بقية المال: ما تلفَ مالٌ في برٍ أو بحرٍ إلا بحبس الزكاة.
وحينما يؤدّي عبادة ربّه، حينما يؤدّي الصلوات الخمس في أوقاتها، وحينما يتقِن أداءها، وحينما يقتطع من وقته وقتاً لقراءة القرآن، وحينما يقتطع من وقته وقتاً لطلبِ العلم، وحينما يقتطع من وقته وقتاً للأعمال الصالحة، للدعوة إلى الله، للأخذ بيد الناس إلى الله ورسوله، هذا ماذا فعل؟ هذا أدَّى زكاة وقته، فإذا أدَّيت زكاة وقتك ضَمِن الله لك السلامة بقية وقتك، ليس هذا فحسب بل كما يقول العوام: طرح الله لك في وقتك البركة، ما معنى البركة؟ أنَّ الله سبحانه وتعالى يوفِّقك إلى إنجازٍ كبير في وقتٍ قليل، وهذه أخصُّ خصائص المؤمن، تعجب هؤلاء الذين طلبوا العلم، وعلَّموا الناس، كيف يتعاملون مع وقتهم؟ هناك علماء جمعوا مؤلَّفاتهم، وقسَّموها على أيام حياتهم فإذا هم يكتبون في اليوم الواحد تسعين صفحة، هل بإمكانك أن تقرأ كل يوم عشر صفحات؟ تسعون صفحة كتابة، وهم شُغِلوا بأعمالٍ كثيرة. 
 

أَخَصّ خصائص المؤمن أن الله سبحانه وتعالى يبارك له في وقته:


أَخَصُّ خصائص المؤمن أن الله سبحانه وتعالى يبارك له في وقته، أي يسمح له أن يفعل الشيء الكثير في الوقت القليل، بينما ربنا عزَّ وجل يمكن أن يتلِف للإنسان وقته، يمكن أن يكلِّفك بعملٍ شاق لا تنتفع منه إطلاقاً، يمكن أن يعمل التاجر سنةً بأكملها.
إنسان عنده مزارع تفَّاح في بعض المناطق في مدينة يبرود، ضَمانها في العام مليون ليرة، برياحٍ عاتيةٍ بساعاتٍ قليلة أُتلِف المحصول كلُّه، إنه لا يؤدّي زكاة ماله، ربنا عزَّ وجل من أساليبه التربوية أنك إذا ضننت بوقتك عن أن تبذله في ذكر الله، طبعاً ذكر الله عزَّ وجل العلماء قالوا: الصلاة، وقالوا: تلاوة القرآن، وقالوا: الحج، وقالوا: العبادات، وقالوا: الطاعات، أي كل شيءٍ يُسبب قربك من الله يجب أن تفعله ولا تبالي بالوقت لأنه: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وفي الأثر: "ابن آدم كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد" .

  بطولة الإنسان أن ينظم وقته:


العِبرة أيها الأخوة؛ أن تنظِّم وقتك، الوقت الذي لله دعه لله، الوقت الذي للأهل دعه للأهل، الوقت الذي للعمل دعه للعمل، أما أن تجعل عملك يطغى على دينك، وعلى طاعتك، وعلى صلواتك، وعلى طلبك للعلم، وعلى حضور مجالس العلم، فهذا ليس من الحكمة في شيء، من فعل هذا وقعت عليه هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ﴾ ، لا تنشغِلوا بــ: ﴿أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ عن صلواتكم، عن حجِّكم، عن صومكم، عن أداء زكاة أموالكم، عن طلبكم للعلم، أما أوسع معنى عن طاعة الله، أي إذا آثرت حظك من الدنيا على طاعة لله فقد انطبقت عليك هذه الآية: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(9)﴾

[ سورة المنافقون ]

 هم الخاسرون، الإنسان مثلاً لو أنه رأى ورقةً بيضاء فاستعملها لكتابة كلماتٍ لا معنى لها، ثم مزَّقها، وألقاها في سلَّة المهملات، ثم اكتشف أن هذه في الوجه الآخر شيك بألف مليون، كان من الممكن أن يقبضه، وكان من الممكن أن يشتري به بيتاً فخماً، ومركبةً فارهةً، وأن يعيش حياةً، هو غفل عن قيمتها، فاستعملها كورقة مسودَّة، ثم ألقاها في المهملات، هذه خسارة، جاء إلى الدنيا وغادرها من أجل عشر سنوات استمتع بها لكسب الأموال الطائلة بطريقٍ مشروعٍ أو غير مشروع، بالحلال أو الحرام، أكل، وشرِب، وسافر، وتنزَّه، ثم جاءه ملك الموت، وهو صفر اليدين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
 

من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً:


أيها الأخوة الكرام؛ عاهد ربَّك أنه حينما تسمع صوت الآذان دع كل شيء، وقُمْ إلى الصلاة، من أجل ألا تنطبق عليك هذه الآية:

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت  ]

من تجارتكم، ذكر الله أكبر، أي أنت حينما تؤثر ما عند الله عزَّ وجل يجب أن تعلم علم اليقين أن الله سيمنحك الدنيا والآخرة، من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً.
﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾ هذا وقت مجلس العلم لا تؤثر عليه لقاء مع صديق، هذا وقت مجلس العلم لا تؤثر عليه زيارةً تافهةً لإنسان، هذا وقت مجلس العلم: ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ .
 

من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً:


اليوم لأتفه الأسباب يَدَع مجلس العلم، لأتفه الأسباب يُقَصِّر في أداء الصلوات، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أحياناً من أجل أن يضمن لأولاده مستقبلاً رائعاً يعصي الله، من أجل أن يضمن لأولاده مستقبلاً رائعاً يوقِعُهُم في الحرام، أو يقع هو في الحرام، لمجرَّد أن تؤثر المال أو الولد على طاعة الله، على معرفته، على التقرُّب إليه، فقد انطبقت عليك هذه الآية، وسبب نِفاق المنافقين، وانحراف المنافقين، وأن الله غضب عن المنافقين، أنهم آثروا دنياهم على آخرتهم، هكذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾

[ سورة الإنسان ]

يوم ثقيل. 
 

الخسارة الكبرى أن يخسر الإنسان الآخرة:


الخسارة الحقيقية نحن في أذهاننا أن الإنسان إذا فَقَدَ ثروته فقدْ خسر، إذا فَقَد ماله فقدْ خسر، إذا فَقَدَ بيته فقدْ خسر، أحياناً يكون البيت غالياً جداً، يقع تحت استملاكٍ، يعطونه مبلغاً بسيطاً من المال لا يسمح له بشراء بيتٍ مقابلٍ له، أما الخسارة الحقيقية، الخسارة الكبرى فأن تخسر الآخرة، سيدنا عمر رضي الله عنه من أروع كلماته قال: " كان إذا أصابته مصيبةٌ قال: الحمد لله  -عجيب-الحمد لله إذ لم تكن في ديني - دينه سليم، المال يذهب ويأتي-الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلهِمت الصبر عليها" ، الحل، قال تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ﴾ ، قبل ذلك، الدنيا فيها أموال، وفيها أولاد، وفيها بيوت، وفيها مركبات، وفيها حدائق، وفيها بساتين، وفيها أماكن جميلة، وفيها متع، وفيها مباهج، والدنيا خضرةٌ نضرة، لكن لماذا أنت في الدنيا؟ الآية دقيقة، حينما يقول لك الله: ﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾ اللهو كما تعلمون أن تشتغل بالخسيس عن النفيس، حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ما النفيس في هذه الآية؟ ذكر الله، ما الخسيس؟ أن تلتهي بالمال والأولاد.
 

المال إن لم يشغل الإنسان عن طاعة الله لم يعد شيئاً خسيساً:


الآن عندنا معنى ثالث، لو أن مالك لم يشغلك عن طاعة الله أبداً فإن هذا ليس من الخسيس، المال قِوام الحياة، المال يمكن أن تتقرَّب به إلى الله، إذا كانت عباداتك وطلبك للعلم والواجبات الدينية تؤدّيها كاملةً، ولك أعمال جليلة تكسب بها المال، فحبَّذا المال، كما قال سيدنا أبو ذر: "حبذا المال أصون به عرضي وأتقرَّب به إلى ربّي" ، حبَّذا المال، معنى ذلك متى يكون المال شيئاً خسيساً؟ إذا شغلك عن طاعة الله، أما إذا لم يشغلك، من هنا قالوا: قد يكون المال في القلب، وقد يكون في اليدين، المؤمن ماله بين يديه، لكن قلبه مع الله، إذاً إن لم تلتهِ بالمال فاسع إليه فإنه قِوام الحياة، به ترقى إلى الله، به تتقرَّب إلى الله، به تنفقه في سبيل الله، ليس معنى ذلك أن المؤمن انزوى، وتقوقع، وانسحب من الحياة، وانهزم، وعاش في صومعة، وصار عبئاً على الناس، النبي الكريم سأل أحد أصحابه، أحد الشبَّان في المسجد يصلّي قال له: من يطعِمك؟ الوقت وقت عمل وليس وقت صلاة، من يطعِمك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك. 

(( أمسك بيد ابن مسعود وقال: إن هذه اليد يحبّها الله ورسوله. ))

معنى ذلك إن لم تلهُ عن ذكر الله، الصلوات تحافظ عليها، دروس العلم تحافظ عليها، تؤدّي كل واجباتك، امشِ في مناكب الأرض، كن إنساناً متفوّقاً، ليكن لك عمل؛ دراسة، مهنة، حرفة، تجارة، صناعة، زراعة، انفع المسلمين، أنت في الدنيا من أجل أن تنفعهم:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))

[  صحيح مسلم  ]

من القوة أن تكسب المال الحلال، لا تكن عبئاً على أحد، ليكن الناس عبئاً عليك، اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى.
إذاً المعنى الثالث: لو أننا لم نشغل عن ذكر الله بالمال فإن المال لم يعد شيئاً خسيساً، صار قِوام الحياة، لو أننا ربّينا أولادنا ليكونوا صالحين من بعدنا، فإنه لم يعد شيئاً خسيساً، صارت تربية الأولاد من طاعة الله، العبرة ألا تنشغل بالخسيس عن النفيس، النفيس ذكر الله، فإن لم تُشغَل عنه حبَّذا تربية الأولاد، وحبَّذا إنجاب الأولاد، والولد الصالح أفضل كسب الرجل، أفضل كسب الرجل ولده، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))

[  صحيح الجامع  ]

  

ذكر الله أنفس ما في الدنيا:


المعنى الأول أن أنفس ما في الدنيا ذكر الله.

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾

[ سورة طه  ]

لأن الصوم يسقُط بالمرض أو السفر، والحج يسقُط بالفقر، والشهادة تؤدَّى مرَّةً واحدة في العمر إذا أردت أن تكون كذلك، بقي ماذا؟ بقي الصلاة الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ العلماء قالوا: "أوسع معنى لهذه الآية طاعة الله، إذا انشغلت بولدٍ أو بمالٍ عن طاعة الله فقد وقعت تحت هذه الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)﴾

[ سورة المنافقون ]

من للتبعيض.
 

على الإنسان أن ينفق مما رزقه الله عز وجل:


﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ لا تعني المال وحده، أوتيت علماً أنفقه، أوتيت مالاً أنفقه، أوتيت خبرةً أنفقها، أوتيت جاهاً أنفقه.
يقول لك محامٍ: إذا كان هناك أخ مظلوم لا يتحمَّل نفقة الوكالة أنا أُدافع عنه، هذا ماذا فعل؟ هذا أنفق مما رزقه الله، مدرِّس رياضيات قال: أنا ممكن أن أدرِّس الطلاب الفقراء مجَّاناً لوجه الله، هذا أنفق مما رزقه الله، هذه قضية عامّة، لا يوجد إنسان ليس لديه ميّزة في الأرض أبداً، لا يوجد واحد من الأخوة الحضور ليس لديه ميّزة، هذا بعلمه، إنسان يتقن تبليط الأرض، يقول لك: أنا للمسجد جاهز، كثير من الإخوان قدَّموا خدمات أنا والله أشهد الله إنني أشكرهم عليها، قدَّموها لوجه الله، لبيت الله؛ هذا في الكهرباء، هذا في الطلاء، هذا في البلاط، ممكن، الحرف كلّها  داخلة في هذه الآية: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ آتاك جاهاً انصر الضعيف، آتاك علماً أنفقه، آتاك خبرة علِّم الآخرين، آتاك مالاً أنفقه، ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ كان عليه الصلاة والسلام يمشي مع أصحابه فرأوا قبراً، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة: رَكْعتانِ خَفيفتانِ بِما تَحقِرُونَ وتَنفِلُونَ يَزيدُهما هذا في عملِهِ أحَبُّ إليه من بقيَّةِ دُنياكُمْ. ))

[  أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) : صحيح الجامع :خلاصة حكم المحدث : صحيح  ]

ركعتان سريعتان صلاَّهم الإنسان لا فرض ولا سنّة، هكذا دخل إلى مسجد فصلى تحية مسجد، قال: ((صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفُّلكم أحبُّ إليه من كل دنياكم))  
 

الموت ينهي كل شيء:


ماذا يوجد في الدنيا؟ شركات أرباحها السنوية أكبر من ميزانيات دول، فيها قصور، فيها أماكن جميلة جداً، فيها نساء، فيها طعام طَيِّب، قال: ((هذا إلى ركعتين مما تحقرون من تنفُّلكم أحبُ إليه من كل دنياكم)) ، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ :

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾

[ سورة الزخرف  ]

الذي فيه يصعقون حينما تُكتشف الحقيقة، فهل يمكن للإنسان -للتقريب-أن يبيع بيته في المالكي، ومعمله، وسيارته، وكل ما يملك، ويشتري عملةً أجنبية ليعيش في بلدٍ غربي في بحبوحةٍ كبيرة؟ يعيش من فوائد هذا المبلغ؟ يقول لك: في الشهر خمسة ملايين فوائد المبلغ الذي أملكه، ثم يُفاجأ أن هذه العملة كلَّها مزوّرة، العملة التي باع بها بيته ومعمله ومركبته هذا خبر؟ يقول لك: جلطة، ومات فوراً، لم يتحمَّل الخبر، هذه في الدنيا، إذا خسِر الإنسان كلَّ ماله في الدنيا قد يموت فجأةً، لأنه لا يتحمَّل، فكيف إذا اكتشف أنه خسِر الآخرة؟ ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾
 

خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط:


أيها الأخوة؛ حقيقةٌ ذكرتها كثيراً، ولكنني والله مضطر أن أعيدها عليكم، القضية في الإيمان قضية وقت، كل الحقائق التي جاء بها الأنبياء سوف يعرفها كل الناس عند الموت، كل الحقائق التي جاء بها الأنبياء جميعاً سوف يعرفها الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم، تقيُّهم وفاجرهم، حتى ملحدهم عند الموت، فالقضية قضية وقت، من هذه الآية يُستنبط هذا المعنى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ عند الموت:

﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾

[ سورة ق ]

لو قال أستاذ: هناك امتحان آخر السنة، هناك طالب تشكك، أما حينما يأتي آخر العام، ويدخل الطلاب قاعة الدرس، وتُطرَح الأسئلة، ولا يُحسِن الإجابة، هذا الطالب آمن بأن هناك امتحاناً، لكنه لم ينجح، لكنَّه عرف ذلك بعد فوات الأوان، لم تنفعه هذه المعرفة:

﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾

[ سورة النساء ]

لذلك خيارنا مع الإيمان خيار وقت، إما أن نعرف الحقيقة في الوقت المناسب فننتفع منها، وإما أن نعرفها حقاً في وقتٍ غير مناسب فنندم على تفريطنا، أما المعرفة فحاصلة لا محالة، لكن البطولة أن تعرفها في الوقت المناسب، الطالب أحياناً يقرأ الكتاب يدخل الامتحان، يأتي السؤال يجيب، نجح، أما إذا لم ينجح فإنه يذهب إلى البيت، يفتح الكتاب، ويقرأ الجواب الصحيح، عرف الجواب الصحيح، ولكن متى عرفه؟ عرفه بعد انقضاء الامتحان، هل ينجِّح؟ مستحيل أن ينجِّح، يقدم اعتراضاً، ويقول: الآن عرفت الجواب، يقدِّم طلباً للوزارة أنه الآن عرف الجواب، بعدما جاء السؤال، ولم يعرف أن يكتب كلمة، رجع إلى البيت، وفتح الكتاب، ففهم الموضوع، فأرسل اعتراضاً أنه يجب أن تنجِّحوني، لأنني عرفت الجواب، ولكن بعد الامتحان، فهذا يوضع في مستشفى المجانين، فلابدَّ من أن نعرف الحق، إما الآن، أو بعد فوات الأوان. 
 

المعرفة التي جاء بها الأنبياء عرفها فرعون عند الموت:


الآن هناك منفعة، الآن هناك نجاة، الآن هناك سعادة، ما دام القلب ينبض، ما دام في العمر بقية، ما دام في العمر فسحة، الآن كل شيء يُحلّ، لكن المعرفة التي جاء بها الأنبياء من عرفها عند الموت؟ فرعون، فرعون نفسه الذي قال:

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾

[  سورة النازعات  ]

الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ عرف الحقيقة، فقيل له:

﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾

[ سورة يونس ]

ما قيمة هذه المعرفة؟ ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ قدَّم طلباً أنني أنا عرفت الجواب.

﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)﴾

[ سورة المنافقون ]

 أي يعرف حقيقة العمل، حجم العمل، إخلاص العمل، مؤدَّى العمل، غاية العمل، مقدار التضحية في العمل، كلُّه يعلمه الله عزَّ وجل.
 

ضرورة معرفة الآية التالية لأنها أساسية في حياة كل إنسان:


هذه الآية إخواننا الكرام ينبغي أن تُحفَظ، وأن تُقرَأ، لأنها أساسية في حياتنا.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)﴾

[ سورة المنافقون ]

أي أخِّرني.

﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)﴾

[ سورة المنافقون ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور