وضع داكن
18-07-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة المنافقون - تفسير الآيات 1 - 6 مهمة المنافق أن يصدّ الناس عن سبيل الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

النفاق أن تُظهر شيئاً وأن تُخفي شيئاً آخر:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة المنافقون:

﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)﴾

[ سورة المنافقون ]

أيها الأخوة الكرام؛ النفاق أن تُظْهر شيئاً وأن تُخفي شيئاً آخر، أن تقول ما لا تعتقد، وأن تُعَبِّر عما لا تشعر، الازدواجية في الإنسان له شيء مُعلن، وشيء باطن، هذا منافق.
الحقيقة في بداية ظهور الإسلام لم يكن هناك منافقون، السبب أن الكفار يفعلون ما يشاؤون، ولا يخشون أحداً، يكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما مرّ على عمَّار بن ياسر وهو يُعذب قال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
 لم يستطع أن يفعل شيئاً، قالوا عنه: مجنون، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كذّاب، وقالوا عنه: شاعر، وقالوا عنه: كاهن، لك أن تقول عنه أي شيء وتنام مطمئناً في بيتك ولا شيء عليك، لذلك كان الذين آمنوا به قبل أن يهاجر إلى المدينة لهم عند الله شأنٌ كبير، هؤلاء آمنوا به صادقين، أما حينما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وصار للمسلمين كِيان؛ بإمكانهم أن يحاربوا، بإمكانهم أن يسالموا، بإمكانهم أن يعطوا، بإمكانهم أن يمنعوا، دخل أناسٌ كثيرٌ في الإسلام خوفاً أو طمعاً، هذا الإيمان الشكلي المعلن الذي يخفي وراءه كفراً، هذا الوضع هو النفاق بعينه.

الكافر والمنافق:


ولكن الإنسان قد يكون كافراً في الأصل، قد يكون كافراً ابتداءً، ولمصلحته الدنيوية فقط أظهر الإسلام، وانضوى تحت لواء المسلمين، وصلى كما يصلون، وحَدَّثَ كما يحدثون، هذا عند الله كافر، بل هو أشد كفراً من الكافر، لهذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾

[ سورة النساء ]

 هذا هو كافرٌ ابتداءً، ولا يقنع بالدين، ولم يؤمن بالله ولا برسوله، ولم يؤمن بهذا الكتاب، إنما وَجد من مصلحته أن يُعْلِن إسلامه، وأن ينضوي تحت لواء المسلمين تحقيقاً لمصالحه، هذا أشدّ عند الله من الكافر، لأن الكافر تعرفه كافراً فلا تقلِّدُهُ، أما هذا فإنه يصلي مع المسلمين، يحضر مع المسلمين، يفعل ما يفعله المسلمون، وهو من ألدِّ أعدائهم، هذا خطره أشد، لذلك قد يكون الإسلام ورقةً رابحةً في أيدي بعض الناس، إذا كان الإسلام عندك ورقةً رابحة تستخدمها كما تشاء فهذا نوعٌ من النفاق.
 

آية المنافق:


النفاق أيها الأخوة؛ 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. ))

[ متفق عليه ]

يُظهر ما لا يبطن، يقول ما لا يفعل، يتظاهر بما لا يعتقد، هذا النفاق خطرٌ على المسلمين، لأنهم معهم، لأن هؤلاء المنافقين مع المسلمين، في مساجدهم، في أسواقهم، وأذكياء جداً، تحسبهم مؤمنين وهم على خلاف ذلك، لذلك جاءت هذه السورة لتفضحهم، وخطورة المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أقل منها في عهودٍ بعده، لأن القرآن يفضحهم دائماً، مكشوفون، أما في عهودٍ بعدهم فقد تنطلي على إنسان حقيقة منافق ويظنه مؤمنًا، من هنا قال الله عزَّ وجل يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام: أن يا محمد إذا جاءك المنافقون، أولاً: لا يستطيع أحدٌ أن يَطَّلِع على قلب إنسان، هذا من ستر الله عزَّ وجل، لكن الله يُطْلِع، أما أن يطّلع الإنسان بذاته على سرّ إنسانٍ فهذا مستحيل، هذا من سِتْرِ الله، والإنسان ما دام يخشى الله هو في ستره، وفي حمايته، أما إذا أراد أن يؤذي المسلمين، وأن يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وأن يكشف عوراتهم أمام أعدائهم فعندئذٍ ربنا سبحانه وتعالى ينتقم منه أشد الانتقام، ويفضحه.
 

من أقرّ بحقيقة ولم يتخذ موقفاً بناءً على هذا الإقرار فهو لم يفعل شيئاً:


يقول الله عزَّ وجل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ والحقيقة هو رسول الله، ماذا فعلوا؟ شَهِدَ هؤلاء المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، والله جلَّ جلاله يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ أي أنت حينما تُقِّر بحقيقة، ولا تتخذ موقفاً بناءً على هذا الإقرار، أنت لم تفعل شيئاً، لو أن إنسانًا في أشد حالات العطش، وهو على وشك الموت، فإذا عرف أن هناك نبع ماء، ولم يتحرك إلى هذا النبع، ماذا نفعته هذه المعرفة؟ لم تنفعه شيئًا إطلاقاً، هذا سماه علماء المنطق: تحصيل حاصل، إذا قلت: الشمس ساطعة، وهي ساطعة، ماذا فعلت؟ إن قلت: ساطعة، هي ساطعة، وإن قلت: ليست بساطعة، هي ساطعة، ففي كلا الحالين إن جاءت كلمتك موافقةً للحقيقة لم تفعل شيئاً، وإن جاءت مخالفةً للحقيقة سقطت من أعين الناس، أما حينما تكون في أشدّ الحاجة إلى أشِعَّتها وتقول: هي ساطعة، وتُعَرِض جسمك لأشعتها فيشفى من بعض أمراضه الآن أخذت موقفاً، فالمنافقون قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ قالوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾
 

أنواع الصدق والكذب:


لابدَّ من وقفةً متأنِّية عند الكذب، أحياناً هناك واقع، إذا جاء الخبر عن هذا الواقع مطابقاً للواقع فأنت صادق، صادقٌ في أقوالك، وإذا جاء القول مخالفاً للواقع، جاء الخبر عن الواقع مخالفاً للواقع فهذا قولٌ كاذب، صادق وكاذب، توافق الخبر مع الواقع صدق، عدم موافقة الخبر للواقع كذب، الآن أنت قلت شيئاً، فإذا جاء عملك مطابقاً لقولك هذا صدق الأفعال، وإذا جاء مخالفاً لقولك هذا كذب الأفعال، صار هناك صدق الأقوال، وكذب الأقوال، وصدق الأفعال، وكذب الأفعال، بقي نوعان آخران؛ إذا قلت: إن هذا الإنسان هو رسول الله، كلامك هذا صحيح، مطابق للواقع، لكنك لا تعتقد أنه رسول الله، هذا كذب من نوع آخر، هذا كذب مع النفس، المنافق كاذبٌ مع نفسه، كل ما يقوله لا يعتقد به، كل ما يقوله لا يُصَدِّقُهُ، فإذا جاء خبرك مطابقاً للواقع فأنت صادق، إن لم يكن مطابقاً للواقع-لا سمح الله-فهو كاذب، إن جاء الفعل مطابقاً للقول كان هذا الفعل صادقاً، وإن جاء الفعل مخالفاً للقول كان الفعل كاذباً، لذلك الله عزَّ وجل يمدح الصادقين في القرآن الكريم بشيءٍ كثير، أي صدقٍ هذا؟ صدق الأفعال.

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

جاءت أعمالهم مطابقةً لأقوالهم، جاءت أفعالهم مُصَدِّقةً لأقوالهم، إذاً هم صادقون، لذلك أما الذين جاءت أفعالهم مكذبةً لأقوالهم فقد قالوا في معركة الأحزاب:

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أما هذه الآية فمن نوع ثالث، الذي قالوه حقّ، إنه رسول الله، كلمة حق، لكنهم لا يعتقدون بها، هم كذبوا على أنفسهم، كاذبون فيما بينهم وبين أنفسهم، لذلك أحياناً -لا سمح الله-قد تقول كلاماً غير صحيح لكنك تعتقده، نقول: فلانٌ صادقٌ مع نفسه، أما علاقة هذا القول مع الواقع فغير صحيحة، هذا القول في علاقته مع الواقع كذب، أما في علاقته مع القائل فصدق، هذا صادقٌ مع نفسه، وقد تقول كلاماً صحيحاً مطابقاً للواقع، لكنك لا تعتقده، نقول: هذا كاذبٌ مع نفسه، فهناك صدقٌ في الأقوال وكذبٌ في الأقوال، أي علاقة الخبر بالواقع، وهناك صدقٌ في الأفعال وكذبٌ في الأفعال، أي علاقة الواقع مع الخبر، وهناك صدقٌ مع النفس وكذبٌ مع النفس، قد تقول قولاً غير صحيح لا علاقة له بالواقع، لكنك تعتقد ذلك، أنت صادقٌ مع نفسك، وقد تقول حقاً وأنت لا تعتقد هذا الحق فأنت كاذبٌ مع نفسك، ستة أنواع للكذب والصدق.
 

الكذب ينقض الإيمان والإيمان ينقض الكذب:


الحقيقة لو جمعنا الآيات القرآنية التي ورد فيها الصدق والكذب لوجدناها كثيرةً جداً، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

(( عن عبد الله بن مسعود  إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ كَذّابًا. ))

[ صحيح مسلم ]

مطلقاً، إذا كنت صادقاً في أي شيء، صدقك يهديك إلى الصواب: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)) والمؤمن لا يكذب، لأن بين الكذب والإيمان تناقضاً، أي أن الكذب ينقض الإيمان، والإيمان ينقض الكذب، يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ.
لمجرد أن يكذب المؤمن ليس مؤمناً، انتهى، المؤمن قد يقع في تقصيرات كثيرة لكنه لا يكذب، الكذب يتناقض مع إيمانه، لذلك احترم إنساناً صادقاً مُقَصِّراً، ولا تحترم إنساناً كاذباً مُدَّعيّاً. 
 

المنافق كاذبٌ مع نفسه وكاذبٌ مع الخلق وكاذبٌ مع الله:


أيها الأخوة الكرام؛ أن يأتي خبرك مطابقًا للواقع قضية سهلة جداً، لو أن الحرارة خمس وثلاثون، لو قلت: خمس وثلاثون، هذا كلام صدق، جاء الخبر مطابقاً للواقع، لو أن الحرارة خمس وأربعون، وأنت قلت: ثمان وثلاثون، هذا كذب، جاء الخبر مخالفاً للواقع، أما حينما تقول: أنا مؤمن، أنا مستقيم، أنا ورع، فعند الإغراء لا تبدو ورعاً، وعندما يُعرض عليك مبلغٌ كبير تأخذه ولا تعبأ بطريقة كسبه، الآن بالعكس، جاء الفعل مخالفاً للإدعاء، هذا كذب أعمال، أما حينما تكون في أَمَسِّ الحاجة إلى المال، ويأتيك مبلغٌ فيه شبهة فتقول: معاذ الله، الله الغني، نقول: جاء فعلك مطابقاً لقولك، صدق أقوالٍ، وكذب أقوال، وصدق أفعال، وكذب أفعال، أما حينما تقول كلاماً غير صحيح لكنك تعتقده فنقول: هذا صادقٌ مع نفسه، وحينما تقول كلاماً صحيحاً ولا تعتقده نقول: فلان كاذبٌ مع نفسه، والمنافق كاذبٌ مع نفسه، وكاذبٌ مع الخلق، وكاذبٌ مع الله:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[ سورة النساء ]

يكذب على الله أو يكذب مع الله، حينما يحاول أن يخدع الله عزَّ وجل:

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾

[ سورة البقرة ]

 

اتخاذ المنافق الأيمان الكاذبة ليتِّقي بها العقاب:


﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ هؤلاء إذاً كاذبون مع أنفسهم، لأن كلامهم صحيح، منافق يقول للنبي: يا رسول الله، أشهد إنَّك رسول الله، على العين والرأس، كلام صحيح، لكنه لا يعتقد أنه رسول الله، يُرضيه بهذا، يُحَقِّق مصالحه، هو كاذبٌ مع نفسه:

﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)﴾

[ سورة المنافقون ]

يحلفون بالله أنهم صادقون، أنهم مؤمنون، أنهم أتقياء، أنهم ورعون، أنهم يحبون الله ورسوله، أنهم ما فعلوا هذا، ما قالوا هذا، يتخذون الأيمان درءًا لهم للعقوبة:

﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)﴾

[ سورة المنافقون ]

 تترسوا بها، الجُنّة التِّرْس، الإنسان أحياناً يستخدم الترس ليتقي الضربات، وهذا المنافق اتخذ الأيمان الكاذبة ليتِّقي بها العقاب، يرتكب كلاماً في حقيقته كفر.
 

الإخلاص للمبدأ والتناصح:


مرةً أحد المنافقين المحسوب على رسول الله أنه من أصحابه، جاءت معركة تبوك، والصحابة الكرم بذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وقدموا وأعدّوا، غلامٌ صغيرٌ مؤمنٌ كان هذا الرجل المنافق زوج أمه، فكل يوم يلقي الغلام على مسامع عمه ما فعله ابن عوفٍ، ما فعله سيدنا عثمان، ما فعله فلان من الصحابة في البذل والتضحية، وهذا لا يتحرك، ولا يقدم شيئاً، ولا يُجهز نفسه للغزو، فلما ضَيَّقَ عليه ابن زوجته، قال هذا الرجل المحسوب من المؤمنين: والله لو كان محمد صادقاً فيما يقول لكنا شرّاً من الحُمُر، إذاً هو لا يعتقد أنه صادق، هذا الطفل الصغير نزلت عليه هذه الكلمة كالصاعقة تماماً، قال: والله يا عَمَّاه ما من رجلٍ أحبّ إليّ بعد رسول الله منك، ولكنَّك قُلت الآن كلمة الكفر، وإني ذاهبٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتدبّرْ أمرك، قال للنبي ماذا قال عمه، استدعاه النبي: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ أقسم بالله العظيم إن هذا الغلام كاذب، وما قال هذا إطلاقاً، فنظر النبي إلى وجه الغلام فإذا هو محتقن، صار يبكي، سمعه بأذنه، ثم يكذِّبه أمام رسول الله؟! وما هي إلا لحظاتٌ حتى جاءه الوحي، فلما سُرِي عن النبي صلى الله عليه وسلم نزل قوله تعالى:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)﴾

[ سورة التوبة ]

فما كان من هذا الرجل المنافق إلا قال: لقد تبت يا رسول الله، لقد قلتها، وأنا أتوب إليك، وحَسُن إسلامه، وصار في عداد المؤمنين، أمسك النبي بأذن الغلام، وتبسَّم، وقال: يا غلام! صَدَّقَكَ ربك من فوق سبع سماوات، فكانوا في عهد النبي يفتضحون.
 

الله عزَّ وجل لا تخفى عليه خافية:


إنسان آخر كان كافراً، وهو عُمير، قال لصفوان بن أميَّة: والله لولا أطفالٌ أخشى عليهم العنت، وديون لا أطيق سدادها، لذهبت إلى محمدٍ وقتلته، وأرحتكم منه، فاتخذها صفوان مناسبةً، قال: أما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت، وأما أولادك فهم أولادي، فامضِ لما أردت، سقى سيفه سماً، وركِب ناقته، وتوجَّه إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، أما الغطاء الذي ذهب إلى المدينة من أجله فليفتدي أخاه، فلما رآه عمر في المدينة قال: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، قَيَّدَهُ بحَمَّاَلَة سيفه، وساقه إلى النبي، قال له النبي: دعه يا عمر، أطلقْه، أطلقَه، ابتعدْ عنه، ابتعدَ عنه، قال له: ادنُ مني يا عمير، دنا منه، اجلسْ، جلس، قال له: عِمْتَ صباحاً يا محمد، قال له: قل: السلام عليكم، قال: لست بعيد عهدٍ بسلام الجاهلية، هذا سلامنا، بغلظة، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال له: جئت أفدي ابني فلانًا، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: ألم تقل لصفوان: لولا ديون ركبتني لا أطيق سدادها، وأطفالٌ أخاف عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه؟ فهَبَّ واقفاً، وقال: أشهد إنك لرسول الله، لأن هذا الذي دار بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وأنت رسوله، وأسلم، أما صفوان فصار يقول لأهل مكة: انتظروا أخباراً سارة، وكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة لينتظر الرُّكْبَان تأتيه بالخبر السار، قتل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم جاء الخبر غير السار أن عُمَيْراً قد أسلم، وحسن إسلامه، أي الله عزَّ وجل لا تخفى عليه خافية.
 

الحَلْف الكثير يُلْقي الشك:


إخواننا الكرام؛ كلمة: الأمر كله بيد الله، ولا تخفى عليه خافية، فما جدوى الكذب؟ ما جدوى النفاق؟ الأمر كله بيد الله، ولا تخفى عليه خافية، الله جلَّ جلاله لا تستطيع أن تخدعه، ونفسك التي بين جنبيك لا تستطيع أن تخدعها:

﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنعام ]

لذلك: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ دائماً الحَلْف الكثير يُلْقي الشك، لمَ هذا الحلف؟ ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ هم يظنون، اكذب، اكذب، اكذبْ، إلى أن تُصَدَّق، هذا مع الله لا يصلح، ومع المؤمنين لا يصلح، اكذب، اكذب، اكذب، ولن تُصَدَّق، وسوف يفضحك الله عزَّ وجل.
 

مهمة المنافق أن يصدّ الناس عن سبيل الله:


﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ صدّوا: فعل ماض، فاعله واو الجماعة، أين المفعول به؟ عندنا قاعدة في اللغة أن الفعل إذا حُذِف مفعوله أُطلق، العلماء قالوا في هذه الآية: صدوا أنفسهم عن سبيل الله بنفاقهم، أو صدوا غيرهم عن سبيل الله، المنافق دائماً يُشَكِّك، يطعن، يُزَيِّن المعصية، يُكَرِّه الطاعة، يُخوّفك أن تطلب العلم، يُخوّفك أن تحضر مجلس علم، يُخوّفك أن تنفق مالك، يُخوّفك أن تلتزم، مهمة المنافق أن يصد الناس عن سبيل الله، لو كان مؤمناً لما صدهم عن سبيل الله، لأخذ بيدهم إلى الله ورسوله، لذلك الله عزَّ وجل قال: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ صدوا أنفسهم أي أبعدوها عن طريق سعادتها، صدوا أنفسهم، أو صدوا غيرهم، أو صدوا أنفسهم وغيرهم معاً، أي أبعدوها عن طريق الحق، وعن جادَّة الصواب، وعن سبيل الهُدى، وعن سبيل السلامة والسعادة: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ ترساً تترَّسوا بها، ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

الإنسان حينما يستخدم وسائل لصدِّ الناس عن سبيل الله لا يدري أن الله مع هذا الدين، وأن مخلوقاً كائناً من كان لا يستطيع أن يطفئ نور الله، وأن إطفاء نور الله كمن ينفخ على الشمس ليطفئها وهو على الأرض، ليقف إنسان، وليتأمَّل في الشمس، ولينفخ عليها هل تنطفئ؟ محاولات المنافقين لإطفاء نور الله كمحاولة إنسان أحمق أن يطفئ لهيب الشمس بنفخةٍ من فمه: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
 

المنافقون أناس أذكياء يعبِّرون عن إيمانهم وتقواهم فالإنسان يغترّ بهم:


هؤلاء المنافقون أذكياء، وأصِحَّاء، قال تعالى:

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾

[ سورة المنافقون ]

يعتنون بصحتهم، وبهندامهم، وبحركاتهم، وسكناتهم، قال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ مثقَّفون، يتفلسفون، يشققون المعاني، يأتون بالأدلة، يعلِّقون تعليقات لطيفة، يُعبِّرون عن إيمانهم، وعن تقواهم، وعن ورعهم، وعن عقيدتهم، الإنسان يغترّ بهم، قال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ لأنهم ما عقلوا الحقيقة، ولا التفتوا إلى الله، ولا استقاموا على أمره، معنى هذا أنهم لم يعقلوا شيئاً، كيف قلنا في الدرس الماضي: لو أن دابةً وضعت عليها كتاباً في الرياضيات، والكيمياء، والفيزياء، والفلسفة، ثم سألتها، لا تزيد على أن تنهق، هذا المنافق يبحث عن مصالحه، عن المغانم، عن المكاسب، همُّه الدرهم والدينار، همه المُتعة، همه النساء، لكنه رأى الإسلام ورقة رابحة بيده فاستخدمها، هناك أُناسٌ كثيرون يستخدمون الإسلام كورقةٍ رابحة في أيديهم، هذا صُنِّفَ في القرآن الكريم مع المنافقين.
 

المنافق حينما يخادع الناس يشعر بانهيار داخلي:


مثلاً أحياناً إنسان مصلحته أن يصاحب أناسًا مؤمنين، يقول لك: أربح، أؤمِّن زبائن، يأتي إلى المسجد لا بنية طلب العلم، ولا بنية إرضاء الله عزَّ وجل، ولكن بنيةٍ محدودةٍ، وهي أن يُكَوِّن له من يشتري من عنده الحاجات، فهذا قصده مادي، المنافقون قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ وصَفَهُمُ النبي في آخر الزمان بأن كلامهم أحلى من العسل، وأن فعلهم أمرُّ من الصبر، فعل سيئ جداً، تكالب على المال، عداوةٌ وبغضاء، إيقاعٌ بين الناس، أنانيةٌ ما بعدها أنانية، ومع ذلك إذا أصغيت إلى أقوالهم تُعجبك أقوالهم، قال: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ﴾ لا تعقل شيئاً، كما قال الله عزَّ وجل يصف المنافقين في مكانٍ آخر: 

﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾

[ سورة البقرة ]

هم حينما أظهروا شيئاً وأخفوا شيئاً اختلّ توازنهم، صار قلبهم فارغًا، قال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ لأنه مكشوف، ولأنه اختل توازنه الداخلي، وحينما نافق أظهر شيئاً، وأخفى شيئاً، شعر بفطرته أن الله غاضبٌ عليه، الإنسان حينما يُخادع الناس يشعر بانهيار داخلي، أو يشعر باختلال توازن، هذا الوضع الداخلي المضطرب القلق يجعله يظن كل صيحةٍ عليه، إذا كان هناك شخص مرتكباً جريمة مختفيًا وقاعدًا في البيت، لو طُرق الباب في الساعة الحادية عشرة مساءً ينخلع قلبه من الخوف، يقول لك: جاؤوا، قد يكون الجار يريد رغيفًا من الخبز، طرق الجار الباب، والثاني ظنّ في نفسه أنهم جاؤوا، فالمرتكب جريمة والمتخفي عن الأنظار كل حركةٍ، كل سكنةٍ، كل سؤالٍ، كل اتصالٍ هاتفي يظن أن هذا الاتصال جاؤوا ليأخذوه، أو طُرق الباب ليأخذوه، الله عزَّ وجل وصف حالتهم وصفاً دقيقاً قال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ طبعاً هنا يوجد وقف: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ لأن الإنسان يرتاح إلى المؤمن، يطمئن له، يبوح له بمكنوناته، يشكو له همومه، يكشف له عن بعض عيوبه وتقصيراته، أما المنافق فقَنَّاص، إذا شكوت له اتخذ هذه الشكوى حجةً عليك، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام من توجيه الله له قال: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ من اشتكى إلى مؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، من اشتكى إلى منافقٍ أو كافرٍ فكأنما اشتكى على الله، قال: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾

سوء الظن عصمة:


الحقيقة أن الإنسان لا يُعَدُّ كَيِّساً، فَطِناً، حَذِرَاً إلا إذا تجاوز الظاهر، الإنسان الذي يُؤخذ بالظاهر هذا يكون سطحي التفكير، سطحي الإدراك، سطحي الانفعال، كل إنسان يؤخذ بالظواهر سطحي في تفكيره، وفي إدراكه، وفي انفعاله، أما الإنسان العميق فهو الذي يتجاوز الظاهر إلى الباطن، والمؤمن -كما قيل-كيسٌ فطنٌ حذر، قال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)﴾

[ سورة النساء ]

أي مؤمن أموره مسيَّبة؟ ظنه حسن إلى درجة البلاهة؟ هناك ظنّ حسن يُعَبِّرُ أحياناً عن بلاهة الإنسان، كان عليه الصلاة والسلام يَحْذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي بشره عن أحد، كان يقول: احترس من الناس بسوء الظن، والحزم سوء الظن، وسوء الظن عصمة، ولكن سوء الظن يكون مع الدليل، أما بلا دليل.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾

[ سورة الحجرات ]

هناك ضابط، هناك كاشف، سوء الظن يُعَدّ إثماً إن لم يكن هناك دليلٌ عليه، ويُعد حِيطةً وحذراً وكَياسةً إذا كان هناك ما يدلُّ عليه، إنسان تناقضت أقواله، إنسان كذب، ما دام كذب وتناقضت أقواله إذاً سوء الظن به عصمة، ما دام هناك كذب، ومراوغة، واحتيال، وإظهار ما لا يُبطن، أنت كشفته ما دام هناك دليل على كذبه، واحتياله، ومراوغته، أنت الآن يجب أن تسيء الظن به، لأن سوء الظن عصمة، أما إذا لم يكن هناك دليل إطلاقاً وأسأت الظن به فهذا من الإثم، قال تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ .
 

المنافقون يرتكبون الكبائر ويصدون الناس عن سبيل الله عز وجل:


قال: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي هؤلاء المنافقون يرتكبون الكبائر، يصدون الناس عن سبيل الله، يفعلون عكس الدعاة، الداعية يُقرب هو يُبَعِّد، الداعية يُحَبِّب هو يُنَفِّر، الداعية يقنع بالطاعة هو يقنع بالمعصية، المنافق ينفِّر، ويُبَعِّد، ويقنع بالمعصية، أما المؤمن الداعية فيقرب، ويحبِّب، ويقنع بالطاعة، وشتانَ بينهما.

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)﴾

[ سورة المنافقون ]

أي هم لا يعبؤون لا برسول الله، ولا بمكانته عند الله، ولا بالنبوة، ولا بالرسالة، ولا بهذا الكتاب العظيم، يستخِّفون بالدين كله، بكل مظاهره، وكل أشكاله، وكل عناصره، وكل العاملين به، استخفافهم لا يخفونه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ .
 

المعصية معصيتان؛ معصية ضعف ومعصية استكبار:


لذلك الإنسان حينما تغلِبه نفسه، ويعصي الله، توبته سهلة، أما حينما يستكبر عن طاعة الله فتوبته صعبة جداً، المعصية معصيتان، معصية ضعف، ومعصية استكبار، وشتان بين المعصيتين، معصية الضعف صاحبها سريعاً ما يتوب، ويستغفر، ويؤوب، ويعود إلى الله، ويقبله الله، ويُنسي الملائكة والحفظة خطاياه وذنوبه، والصلحة بلمحة؛ أما الذي يعصي الله استكباراً فهذا بينه وبين التوبة مسافاتٌ شاسعة، والطريق إلى التوبة مغلق أو مسدود، لأنه عصى استكباراً، لأنه رَدَّ أمر الله عزَّ وجل، ولم تضعُف نفسه، ضعف النفس شيء، وردّ الأمر شيء، إبليس ردّ أمر الله، قال:

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾

[ سورة الأعراف ]

﴿ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)﴾

[ سورة الحجر ]

هذا معصية ردّ، معصية كِبر، استكبر أن يخضع لأمر الله، يقول الله عزَّ وجل هؤلاء المنافقون:

﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)﴾

[ سورة المنافقون ]

لماذا؟ قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ كلامٌ واضحٌ كالشمس، الإنسان الفاسق لا يؤمن، ولا يتوب، ولا يُقْبَل، ولا يُسْتَغْفَر له: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ هذه كلمةٌ من كلمات الله، قانون من قوانينه، سُنَّةُ من سُنَنِهِ مع خلقه.

﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)﴾

[ سورة غافر ]

 

من أصرّ على معصيةٍ فقد أغلق الباب الذي يمكن أن ينفذ منه إلى الله:


﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي إذا كان الإنسان مقيماً على معصية، ولا ينوي أن يتركها، وهي جزءٌ من حياته، وقانع بها، ولا يفكر في التوبة منها، ليعلم علم اليقين أن الطريق إلى الله مسدود، لأن الله لا يهدي القوم الفاسقين: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ الإنسان قد يخطئ، لكن لا ينوي أن يبقى على خطئه، قد يخطئ ولكن لا يُصرّ على خطئه، قد يُخطئ لكنه يستغفر، قد يُخطئ ولكنه يندم، قد يُخطئ ولكنه يتوب، قد يُخطئ ويُتْبِع الخطأ بحسنة لتَمْحُو هذا الخطأ، أما أن يصر على خطئه يقول: يا أخي هكذا نشأنا، هكذا نريد، هكذا العصر، هكذا الحياة، لابدَّ أن نفعل هذا، ماذا نفعل؟ إذا أصرّ الإنسان على معصيةٍ أغلق الباب الذي يمكن أن ينفذ منه إلى الله، لذلك:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».  ))

[ صحيح البخاري ]

فالذي يعصي الله أبى دخول الجنة، أبى رضوان الله، أبى هداية الله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ .

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور